الرد على شبهة تعارض القرآن والسنة
#مركز_سلف_للبحوث_والدراسات
#إصدارات_مركز_سلف
من مسلّمات المسلمين الراسخة وأصولهم الثابتة: أن السنة بأقسامها الثلاثة: القولية والفعلية والتقريرية وحي من عند الله، كما أن القرآن الكريم وحي من عند الله، قال الله تعالى: ]وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)[ [النجم]. وقال ﷺ: «أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ»([1]).
وتتجلى أهمية السنة النبوية في أمرين:
- أنها بَيَّنَتْ أحكاما في القرآن الكريم وشرحتها وفصّلتها.
- أنها استقلّت ببيان أحكام أخرى لم تذكر في القرآن الكريم، وجاء ذكرها في السنة المطهرة، قال سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].
ورغم هذه المكانة للسنة النبوية واتفاق المسلمين على ذلك، فقد ظهر من يشكك في الصحيح الثابت منها، ويلقي الشبهة تلو الشبهة، ومن هؤلاء المغرضين مَن يسمون بالقرآنيين([2]) الذين ينكرون السنة جملة، ومنهم من يطعن علنا في الصحابة ورواة الحديث الثقات([3])، ومنهم من يزهّد في أصل من أصول كتب الحديث أو يتنقص منه([4]).
والسنة -ولله الحمد- محفوظة بحفظ الله تعالى لها، ومن صور حفظها أن هيأ الله لها رجالا مصطفَيْنَ عدولا يميزون الثابت من الأحاديث عن غيره، بقواعدَ علميةٍ دقيقة وفق منهج رصين.
وهذه الشبه المثارة حول السنة غالبها قديم تثيرها من جديد بعض الأقلام المسمومة أو المستأجَرة، لكن سرعان ما تتبدد بحجج حرّاس الشريعة من جهابذة العلماء ونقّاد الحديث، فلا تبقى لشبههم باقية، ولا تلتبس إلا على من أضله الله تعالى وصرفه عن الحق.
ومن هذه الشبه التي يثيرونها: زعمهم أن كثيرا من الأحاديث التي حكم عليها المحدثون بالصحة تعارض القرآن الكريم، وبما أنه لا يمكن الجمع بين المتعارضين، ولا يمكن رد الآية القرآنية، فيجب الحكم بضعف هذه الأحاديث أو بوضعها وكذبها، ومن ثَم ردها([5])؛ وذكروا أمثلة ذلك:
- أولا: ردهم لأحاديث تحريم الربا على المقترض.
كما قال أحدهم([6])، بعد أن ذكر آيات الربا، وزعم أنها تدل على تحريمه على الآكل دون الموكل…: وأما زعم أن النبي ﷺ قال: «لعن الله آكل الربا وموكله» فافتراء عليه ﷺ لا يصح له إسناد، ولا تقوم له قائمة.
قلنا: الحديث صحيح ورد عن جماعة من الصحابة، فرواه البخاري من حديث أَبِـي جُحَيْفَةَ السُّوَائِيِّ رضي الله عنه قال: «لَعَنَ النَّبِيُّ ﷺ الوَاشِمَةَ وَالمُسْتَوْشِمَةَ، وَآكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ…»([7]). الحديث. ورواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ. وَقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ»([8]). فالحديث ثابت لا كما زعم وافترى.
وسبب شبهتهم في ذلك: أن عقوبة الموكل لم ترد في القرآن، وأنه لا ذنب لهذا الموكل، وعليه فالحديث لا يصح!
وهذا هو الفهم العليل للآيات والأحاديث بعيدا عن المنهج العلمي الرصين في تفسير الآيات وشرح الأحاديث، وإلا فمن أين أتى بهذا التعارض؟! ومن قال به من العلماء قبله؟! أم هو التشهي والهوى؟! ومن المعلوم أن الربا يحصل بين اثنين: مُقرض بالربا ومقترض به، فالمقرض ليست له ضرورة تلجئه لفعله هذا، والمقترض إما أن يكون غيرَ مضطر لأخذ هذا القرض الربوي، فبأخذه ارتكب كبيرة عرّضته للوعيد الشديد، وإما أن يكون مضطرا لذلك فلا يلحقه الوعيد، مثله مثل آكل الميتة؛ وقد قال تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) [الأنعام] والضرورات تبيح المحظورات.
- ثانيا: رد بعضهم لحديث «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله…». قائلا: إن أربعين طريقا من طرقه مدارها على الزهري، وأربعا وعشرين طريقا مدارها على الأعمش، وعشرين طريقا على حميد الطويل… ثم قال: وكل هؤلاء مدلس، ولم يصرح هنا بسماعه، فالمدارات كلها مظلمة؛ فباطلة؛ فلا اعتبار بها.
ويتضح الافتراء في قوله بأمرين:
الأول: أن علماء الحديث ونقاده لم يضعفوا أي حديث في الصحيح بعلة عدم تصريح الزهري بالتحديث، بل قبلوا عنعنته([9])، ثم إن التدليس عند المتقدمين بمعناه العام يقصد به في كثير من إطلاقاته الإرسال لا التدليس المصطلح عليه عند المتأخرين([10]). يتبين هذا الأمر جليا بما نقله العلائي عن أحمد بن أبي شريح أنه قال: سمعت الشافعي يقول: يقولون: نُحَابِي، ولو حَابَيْنَا أحدا لحابينا الزهري، وإرسال الزهري ليس بشيء([11]).
الأمر الثاني: أن الزهري صرح بالتحديث في رواية الشيخين البخاري ومسلم. فما ذكروه من عنعنة الزهري وتدليسه هنا كذب مكشوف واستغفال للقارئ!!
وإليك -أيها القارئ الكريم- الحديث بإسناده من صحيحي البخاري ومسلم، وسأكتفي بذكر إسناد واحد من كل واحد منهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقط، مع أنهما رَوَياه أيضا من حديث ابن عمر وأنس رض، وليس القصد حصر الروايات ولكن ليتضح جليا ما يهدف إليه هؤلاء من إسقاط رواة الأحاديث ورجال الأسانيد الثقات؛ كي يسهل عليهم بعدها إسقاط كل مروياتهم، وبالتالي لا يسلم لهم كثير من الأحاديث، وما يبقى منها يردونه بحجة مخالفة القرآن حسب فهمهم العليل دون أي دليل:
قال البخاري -رحمه الله تعالى-: حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، حدثنا عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود، أن أبا هريرة رضي الله عنه، قال: لما توفي رسول الله ﷺ وكان أبو بكر رضي الله عنه، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله ﷺ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ».
وقال مسلم -رحمه الله تعالى-: وحدثنا أبو الطاهر، وحرملة بن يحيى، وأحمد بن عيسى – قال أحمد: حدثنا، وقال الآخران – أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة رضي الله عنه، أخبره أن رسول الله ﷺ، قال: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ …» الحديث.
ففي كل من الإسنادين تصريح الزهري بالتحديث، والإسناد إليه كالشمس في ضحاها، مع أن الزهري لا نحتاج في تصحيح حديثه إلى تصريح؛ لأن الأئمة قبلوا عنعنته كما تقدم، وهذا لا يخفى على أهل الحديث، لكن من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب.
ثم الحديث مع ثبوت صحته لا يخالف القرآن الكريم في شيء، ولا بد قبل الحكم في مسألة من المسائل أن نجمع أطرافها، وألا نبتسر الاستدلال فيها بآية واحدة أو بحديث واحد، وإلا سنكون كمن حكم على المصلين بالويل مستدلا بقوله تعالى: ]فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ[ [الماعون: 4]. فالقتال في الإسلام ليس مقصودا لذاته، وإنما هو وسيلة لنشر الدين وإظهاره في الأرض، وإزالة ما يمنع ويعيق وصول الحق للناس وإسماعه لهم واتباعه اختيارا دون إكراه، ولهذا جعل الإسلام للقتال آدابا عظيمة وضوابط سامية تهذبه وترقى به عن الظلم والعسف، يشهد بذلك كل منصف من غير المسلمين -بله المسلمين- اطلع على الآيات والأحاديث وآثار الصحابة رضي الله عنهم في ذلك.
وفيما أوردنا إشارات تغني عن كثير من العبارات، وأن الشبه المثارة حول السنة النبوية داحضة لا محالة، وأن الله حافظ دينه إلى قيام الساعة، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إعداد هيئة التحرير بمركز سلف للدراسات والبحوث [تحت التأسيس]
([1]) رواه أبو داود ( 4606)، والترمذي ( 2664)، وابن ماجه ( 12)، وغيرهم، من حديث المقدام بن مَعْدِي كَرِب رضي الله عنه. وإسناده صحيح.
([2]) القرآنيون: جماعة تسمى أهل الذكر والقرآن تزعم أن القرآن هو المصدر الوحيد لأحكام الشريعة أسسها عبدالله جكرالوي في باكستان وألف في ذلك كتبًا كثيرة. انظر “شبهات القرآنيين” لعثمان بن معلم محمود (ص 4).
([3]) منهم محمود أبو رية صاحب كتاب “أضواءٌ على السنّةِ المُحمّديّةِ”. وسلفه من الرافضة والمستشرقين.
([4]) كصاحب كتاب “تجريد البخاري ومسلم من الأحاديث التي لا تلزم”.
([5]) يقول أحدهم: إن ما أهمنا هو اتفاق أو عدم اتفاق حديث ما مع القرآن الكريم، فما اتفق جاز أن ينسب إلى الرسول، وما اختلف فإننا لا نراه ملزما، لأن التزامنا به يعني عدم الالتزام بالقرآن، وهذا لا يقبله أي مسلم. “تجريد البخاري ومسلم من الأحاديث التي لا تُلزم”، ص: 11.
([6]) كتب أحدهم مقالا بعنوان: “حرمة الربا على الآكل دون الموكل.. وعلى المقرض دون المقترض…”، نشر في جريدة اليوم السابع.
([9]) انظر “جامع التحصيل في أحكام المراسيل” للعلائي، ص 109.
([10]) ينظر “بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام”، لابن القطان 5/493.