خطَر الفلسَفات الروحيَّة على العقيدة -الطاقة ووحدة الوجود نموذجًا-
الروحُ من أمرِ الله سبحانه وتعالى، وما يُصلِحها هو كذلك، فلا سعادةَ لها إلا بقدر ما يمدُّها به الله سبحانه من المعارف ويصلحها به من العلوم، وهي في ذلك لا تزال غامضةً عن الإنسانِ، لا يدرك كنهها، ولا يعرف علاقتها بالكون، خصوصًا في مرحلة ما بعد غيابِ الوعي بنوم أو موتٍ، فهي في كلِّ ذلك وقبلَه محكومةٌ بقوانين لا يستطيع الإنسان لها دفعًا، ولا يرى لها ضابطًا مادِّيًّا؛ إلا أنه أودعت فيه غريزة حبِّ التطلُّع، ولأجلها يروم علمَ ما حُظِر عنه عِلمُه، ولا يقنع فهمه بغير ذلك، ومن ثم أقام الإنسانُ عدَّةَ فلسفاتٍ نسبَها إلى الروح، وهي فلسفات تعتني بجانب الروح وتحاول تفسير الكون من خلاله، وتهتمُّ بما وراء الطبيعةِ، وتحاول تفسيرَ الكون من خلال معتقداتها ونظرتها للوجود وعلاقته بما وراء الطبيعة، وللوثنيَّات القديمة مساهماتٌ كبيرة في صنع هذه الفلسفاتِ، كما أنَّ بعضَها نتجَ عن ردَّة فعلٍ على المادِّية المفرطة في بعض العصور وإن كان لم يخرج عنها في تفسيره لكثير من مسائل الغَيب، وقليل هم مَن تناولوا هذه الفلسفاتِ بالردود.
وقدِ اطَّلعتُ على مقالات متفرِقة وبحوثٍ أُخَرَ حولَ الموضوع لبعض الباحثين ممن يرومون الردَّ عليها، وبعضُها كُتُب تعليميَّة، وأهمُّ هذه البحوث بحثٌ بعنوان: “المذاهب الفلسفية الإلحادية الروحيّة وتطبيقاتها المعاصرة”، للدكتورة فوز بنت عبد اللطيف كردي، وهو بحث مفيدٌ، غير أنّه -كما يتَّضح من عنوانه- يعتني بالتطبيقات المعاصرةِ للفكرة. وبحوث أخر تعرِّف بالظاهرة ولا تردُّ عليها، وإنما تدرِّسها من جانبٍ تعريفيٍّ بحت، وهذه لا تعنينا لأننا في معرض النقد والردّ.
ولا بأس أن نعرِّج قليلا على المفاهيم التي نحن بصدَد الكلام عليها.
فلسفة وحدة الوجود والطاقة:
تشترك الفلسفتان في أصولهما الوثنيَّة الهندوسية، وتختلفان في مجال الاستخدام؛ فوحدة الوجود هي فلسفةٌ هندوسيَّة بوذيَّة، والفلسفة الهندوسية قائمةٌ على اعتقادِ أنَّ الله يحلُّ في مخلوقاته، وما نراه من المخلوقات ما هو إلا تجلِّيات للإله، فالوجود عندهم صورةٌ ذهنية وخيالٌ، وهذا يشبِه إلى حدٍّ كبير الفلسفةَ الأفلاطونيةَ حول الروح([1])، بينما تقوم الفلسفة البوذيَّة على أسسٍ إلحاديَّة، حيث ترى اتِّحاد المخلوق بالخالق، فالمخلوق هو الذي يخلَق، والعالم المادّي هو المطلق الأوحد، والإله في هذه الفلسفات هو الزَّلَّةُ والخطيئة؛ لأنها في كل إنسان([2])، وقد تفرع عن هذه الفلسفة القول بنسبيَّة الحقائق، فجميع الأديان يمكن أن تكونَ على الحقِّ؛ لأن الإله حالٌّ في كلّ شيء ومتَّحد به.
الطَّاقَةُ:
أما الطَّاقَةُ -وهي (البرانا) على حدِّ اصطلاحهم- فأصحابها يعتقِدون أنها أصل نشأةِ الكونِ، ومنها ظهرتِ الموجودات إلى الوجودِ، وهذه الطاقةُ لها وعيٌ وذكاءٌ يمكن للإنسان من خلاله معرفةُ الحقائق الكونيَّة ومعالجة كلِّ مرض عضويٍّ، ويمكن التوصُّل إلى هذا الوعيِ عبر التنفُّس العميقِ، فتنكشِف للإنسانِ المعارفُ الكونيَّةُ والمسائل الغيبيَّة([3]).
خطَأ هذه الفلسفات وخطرها:
وخطَأ هذه الفلسفات وخطرُها يظهر أولَ ما يظهر في تصوُّر الإله أوَّلا، والانطباع عن الكون والحياة، ومن هنا تُفارق الإسلامَ مفارقةً كلِّيَّةً، لا تجتمع معه في أصلٍ ولا فرع، ومع خطرها وخطورتها فإنَّ لها نماذجَ في اعتقاد بعضِ المسلمين من المتأثِّرين بهذه الفلسفات من غلاة الصوفيَّة وبعض ممتهني التَّدريب والبرمجة العصبيّة، وكلٌّ يدَّعي التهذيبَ لهذه الأفكار والتنقيَة لها، لكن سُرعانَ ما يستميله الطريقُ المعوجُّ، فيهوي في وادي الضلالِ السحيقِ.
فوحدةُ الوجودِ اعتقادٌ إلحاديّ ينطلق من نفي وجود إلهٍ بائنٍ منَ الكون منفصلٍ عن المخلوق، وهذا مخالفٌ لنصِّ القرآن، فهذا الكونُ لم ينتج بنفسِه، ولا صدَر عن الله بمقتضى الفيض أو الانبثاق، بل هو صادر عن الله بمقتضى الخلق والمشيئة، قال سبحانه: {ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل} [الأنعام: 102]، وقال سبحانه: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّار} [الرعد: 16]، وقال سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُون} [غافر: 62].
واللهُ سبحانه لا تحويه مخلوقاته، ولا يحلُّ فيها؛ لأنه الكبير المتعال، ولأنه العظيمُ الذي لا يحيط به شيءٌ سبحانه وتعالى، فلا يتَّصف بصفات المخلوقين، وقدِ اتفق العقلاء على أنَّ جُحر الضَّبِّ لا يَصلُح لأن يدخل فيه الجمَل كما لا يصلح موضع بروكِ الجمل للجبَل، وهي مخلوقات ضعيفَة مخلوقةٌ لله، فكيف يُتصوَّر حلول الإله العظيم في المخلوقات الصغيرة المتناهية؟!
وقد تكلَّم العلماء في خطر هذه العقيدة بعدَد رؤوسهم، وبيَّنوا كُفر أصحابها وضلالهم، فلا تكاد تجد فرقةً من المسلمين إلا ولها إنكارٌ على هذه العقيدةِ وتضليلٌ لأربابها، وقد أفاض تلميذ ابن حجر البقاعي في الردِّ على أصحابها، وذكر أقوالَ العلماء المكفِّرين لأربابها المبطلين لها([4]). وقد أحسن الملا قاري رحمه الله في ردِّ مذهبهم في أوجز عبارة حين طلب منهم الجمعَ بين قولهم وبين التكليف، فقال: “وَلَقَد جرى بيني وَبَين كثير من عُلَمَائهمْ بحثٌ أفْضى إِلَى أَن قلتُ: اجْمَعُوا بَين قَوْلكُم وَبَين التَّكْلِيف وَأَنا أكون أولَ تَابع لكم”([5]). وهذا المذهب يؤول إلى القول بوحدة الأديان وإبطال الرسالاتِ وإنكار وجودِ الخالق؛ لأنه لا يُعقَل أن يخلُقَ الخلقُ نفسَه، ولا أن يخلُق الخالقُ شيئًا هو محتاج إليه وغير مستغنٍ عنه ولا منفصلٍ عنه.
أمَّا الطاقة فهي اعتقادٌ خبيثٌ، فيه ادِّعاءٌ لعلم الغيب، وخرافة ودجل، فحقائق الكون المغيَّبة لا تنكشف للإنسان بطول النفَس، ولا بحبْسِه، ولا بالرياضة، وكل هذا وهمٌ وخيال، وإنما تنكشف بأحد أمرين: أحدهما يقيني، والثاني ظني.
أما الأول وهو اليقيني: فهو الخبر الصادق من الرسل بالغيب وتعيينه تعيينًا يتميز به في ذهن السامع، كما قال الله سبحانه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 27]. قال القرطبي: “فإنه يُظهِره على ما يشاء من غيبه؛ لأن الرسل مؤيَّدون بالمعجزات، ومنها الإخبار عن بعض الغائبات، وفي التنزيل: {وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: 49] أي: لا يظهر على غيبه إلا من ارتضى أي: اصطفى للنبوة، فإنه يُطلعه على ما يشاء من غيبه؛ ليكون ذلك دالًّا على نبوته. الثانية: قال العلماء -رحمة الله عليهم-: لما تمدَّح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه، كان فيه دليلٌ على أنه لا يعلَم الغيبَ أحد سواه، ثم استَثنى منِ ارتضاه من الرسل، فأودَعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله مُعجزة لهم ودلالة صادقةً على نبوتهم. وليس المنجِّم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى وينظر في الكتب ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه، بل هو كافر بالله، مفترٍ عليه بحَدسِه وتخمينه وكذبه”([6]).
وأما الثاني وهو الظني: فهي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح، أو تُرى له، وتكون بشارة أو نذارة([7]).
أما الطاقةُ وغيرها فهي معتقداتٌ لها حمولةٌ ثقافية إلحاديّة، لا تنطلق من وجود خالقٍ عالم مدبّر، وإنما من تأليهِ الطاقَة وجعلها أصلًا للكون، ومحاولة استمداد المعارف منها، وهذا كفرٌ بالله عز وجل، وإلغاء للحقائق الإيمانية المبيِّنة للكون وحقيقة وجودِه وعلاقة الأشياء بعضها ببعض، وتأليهٌ للطبيعة باعتبار أنَّ أصل الكون واحدٌ هو الطاقة، وأن كلَّ موجود إنما هو انطباع لذلك الكلي وتجلٍّ له([8]).
فعلى أهل الإسلام أن يبتعدوا عن هذه العقيدة وثنيةِ النشأةِ كفريةِ المآل إلحاديةِ الممارسة والتصوُّر، خصوصًا في ثوبها المعاصِر الذي يظهَر في شكلِ تدريبٍ وتكوينٍ بريء، بينما تمارَس فيه رياضاتٌ وأفعال عقديَّة ذات حمولة ثقافية ثقيلة ومخالفة لتعاليم الدين الحنيفِ، ففي عصرنا هذا قد قام كثيرٌ من المعاصرين بإعادةِ تدوير عقيدةِ وحدة الوجود في أثوابٍ معاصرة وحللٍ جديدة؛ ليتمَّ ترويجها بين الناس، وقبولهم لها، وتم مزجها بالطاقة الكونيَّة وتقديمها للناس على أنها مفاتيحُ سحريةٌ للحياة وللنجاح، وما هي إلا عقائدُ وثنيةٌ معقَّدة، معتنقُها يخسر الدنيا والآخرة.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: البحث في العلوم السياسية المبحث الثاني المذهب الروحي (ص: 153).
([2]) ينظر: الإلحادي الروحي (ص: 7).
([3]) ينظر: أسرار الطاقة (ص: 157)، الشفاء بالطاقة الحيوية (ص: 18)، طاقة الكون بين يديك (ص: 16).
([4]) ينظر: مصرع التصوف (ص: 140).
([5]) الرد على القائلين بوحدة الوجود (ص: 34).
([7]) هذا رابط مقال فصلنا فيه مسألة الرؤيا وأحكامها وما يتعلق بها: