مقاصدُ الصِّيام الشرعية -حتى يكون صومنا وفق مراد الله-
المقدمة:
يقول ابن تيمية رحمه الله: “خاصة الفقه في الدين… معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها ومحاسنها”([1])، وعبادة الصَّوم عند المسلمين ليست قاصرة على مجرد الامتناع عن المفطِّرات الحسية، بل هي عبادة عظيمة في مضامينها، فهي استنهاض بالأمَّة كلها على الصعيد الروحي والعقلي والصحي والاجتماعي، ومن هنا كانَ أمر الصيام في الدين الإسلامي عظيمًا، فهو أحد أركان الإسلام كما في حديث ابن عمر رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان»([2]).
ورتَّبت الشريعة على صيامه وقيامه أجورًا عظيمة، كما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدَّم من ذنبه»([3])، وقوله عليه الصلاة والسلام: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه»([4])، كما خصَّ الله شهر رمضان بخصائص لا توجد في غيرها، كاختصاصه بلية القدر، وبالعشر الأواخر التي هي أفضل ليالي العام، إلى غير ذلك من الفضائل والمزايا.
وكل هذه النصوص والخصائص تنبئك عن القدر الكبير للصيام في الشريعة الإسلامية.
وشهر رمضان -بفريضته العظمى: الصيام- له مقاصد كبيرة، تتنوع في مسالكها وظهورها وشمولها، ومن المهم جدًّا للمسلم أن يعرف مقاصد العبادات، ويبثها بين الناس، وينميها في وعيهم؛ ذلك أن من فَقِه المقاصد الشرعية من عبادةٍ ما حرص على أداء العبادة بالطريقة التي تحقق تلك المقاصد، فيخرج المسلم عن مجرَّد الأداء إلى استشعار ما يؤدِّيه، كما أنَّ تلك المقاصد تنمِّي الشُّعور بالطمأنينة واليقين والإخلاص في تلك العبادة التي يؤديها.
وللصوم مقاصد سامقة، ومعانٍ عظيمة، من أجلها شرع الشارع هذه العبادة، يقول ابن القيم رحمه الله: “والمقصود أنَّ مصالح الصوم لَمَّا كانت مشهودة بالعقول السليمة والفطر المستقيمة؛ شرعه الله لعباده رحمةً بهم، وإحسانًا إليهم، وحمية لهم وجُنَّة”([5]).
ولهذا يأتي هذا المقال ليكشف عن بعض المقاصد الشرعية في الصيام، فمن تلك المقاصد:
1- تقوى الله تعالى:
المقصد الأوضح والذي نصَّ الله عليه في كتابه هو التقوى؛ يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، والعبد يزداد من التَّقوى بكل عبادة، إلا أنَّ الله سبحانه وتعالى قد خصَّ الصوم بأنه قد شرعه لنكون من المتقين؛ لأنَّه اجتمعت في الصيام معانٍ عديدة من أنواع العبادات، فهي عبادة واحدة تتضمن أنواعًا من العبادات، والتي من شأنها أن ترفع التقوى عند المسلم.
ولا شكَّ أننا في الصيام نرى كثيرًا من مظاهر التقوى، فالتقوى لجام النفوس، تكبحها عن ارتكاب المحرمات، فتجد الصائم يمتنع عن الطعام والشراب والمفطرات الأخرى لله تعالى، كما يمنعه صومه من اقتراف المعاصي واقتحام المنكرات، يقول الشوكاني: “وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} بالمحافظة عليها، وقيل: تتقون المعاصي بسبب هذه العبادة؛ لأنها تكسر الشهوة وتضعف دواعي المعاصي”([6])، ويشير ابن القيم رحمه الله إلى هذا المعنى فيقول عن الصيام: “فهو لجامُ المتقين، وجُنَّة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين”([7]).
ويعضد هذا الأمرَ الواقعُ المشاهد، فإنَّنا نرى أنَّ الحالة العامة في المجتمعات المسلمة في رمضان هي الخير والصَّلاح والبعد عن المنكرات والآثام، ويساعد على ذلك إقبال الناس كلهم إلى الله سبحانه وتعالى، فليس المقصود أنَّ الإنسان لا يتعبد الله ولا يمتنع عن المنكرات إلا في رمضان، وإنما المقصود أن الصيام بطبيعته يكسر شهوة النفس للمحرمات، فهو في تذكُّر دائم بأنَّه متلبس بعبادة من الفجر إلى غروب الشمس، فيحافظ على صيامه بابتعاده عن كل المنكرات، واقترابه من كل الفضائل، يقول السعدي: “{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}؛ فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى؛ لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه. فممَّا اشتمل عليه من التقوى: أنَّ الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها التي تميل إليها نفسه؛ متقربًا بذلك إلى الله، راجيًا بتركها ثوابه، فهذا من التقوى، ومنها: أنَّ الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى، فيترك ما تهوى نفسه مع قدرته عليه؛ لعلمه باطِّلاع الله عليه، ومنها: أنَّ الصيام يضيق مجاري الشيطان، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فبالصيام يضعف نفوذه، وتقلُّ منه المعاصي، ومنها: أنَّ الصائم في الغالب تكثر طاعته، والطاعات من خصال التقوى”([8]).
وليس عيبًا أن الإنسان يزداد تقوى في رمضان، وقد يلبِّس الشيطان على بعض الناس المقصرين قبل رمضان فيقول له: إن تقواك في رمضان يشوبه الرياء والنفاق لتقصيرك الدائم!
وليس هذا بصحيح، فإنَّ الله جعل للناس مواسم الخيرات ليتذكر الإنسان دائمًا أن له ربًّا يغدق عليه بهذه المواسم ليتوب إلى خالقه، ويرجع إلى فطرته، فليست التقوى هي العارضة، وإنما الذنوب والمعاصي هي العارضة، وقد زالت برجوعه إلى التقوى، وإنَّما العيب هو عقد النية على أن لا يعمل الإنسان الخير إلا في رمضان!
فالإنسان يجعل رمضان محطَّة انطلاق جديدة نحو التَّقوى، ومن يقدر على مجانبة المنكرات في رمضان، والتزود من الخيرات، فإنَّه قادر على أن يفعل ذلك طوال العام، فينطلق الإنسان من رمضان ليرتقي مسالك العبودية، ومدارج التقوى، ويستحضر مراقبة الله دائمًا كما استحضر ذلك أثناء تلبسه بعبادة الصيام.
2- كمال الاستسلام لله:
الصِّيام يغرس في الإنسان تمام الخضوع والاستسلام لله سبحانه وتعالى، ويُظهر تمام الانقياد له، واستشعار مراقبته له، ويظهر ذلك في كون الصوم أمرًا خفيًّا لا يطلع عليه أحد إلا الله، فالإنسان قد يمتنع عن المفطرات أمام الناس، لكن يمكنه أن يفطر في خاصة نفسه، ولا يعرف أحد عن السبب الحقيقي لتركه طعامه وشرابه وشهوته إلا الله، فهو عمل خاص بين الله وبين عبده، يذعن فيه هذا العبد لخالقه، ويفوِّض أمره إليه، ويرجو منه وحده الثواب، يقول ابن القيم رحمه الله مظهرًا هذا المعنى: “فإنَّ الصائم لا يفعل شيئًا، وإنَّما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذُّذاتها إيثارًا لمحبة الله ومرضاته، وهو سرٌّ بين العبد وربه، لا يطلع عليه سواه، والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأمَّا كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده، فهو أمر لا يطلع عليه بشر، وذلك حقيقة الصوم”([9]).
ومن مظاهر هذا الاستسلام: أنَّ العبد وإن لم يدرك كثيرًا من العلل فإنَّه ينقاد لأوامر ربه، ولا شك أنَّ الصوم يكتنفه كثير من الأمور التعبدية، وإن وصل الناس إلى علل هذه الأمور وحِكَمها فإنها تبقى اجتهادية ظنية، ومن ذلك أنَّه يمسك بمجرد دخول الفجر الصَّادق كما أخبره الله سبحانه بقوله: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ} [البقرة: 187]، ثمَّ يمتنع سائر اليوم عن الصيام إلى أن يأتي الوقت الذي بيَّنه الله بقوله: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلى الَّيْلِ} [البقرة: 187]، وهكذا يتربَّى الإنسان على كمال العبودية لله، والاستسلام له، والترفع عن اتباع الشهوات والأمزجة والأذواق، وضبط ذلك كله بمراد الله سبحانه وتعالى وأوامره.
3- تزكية النفس وتطهيرها:
من أجلِّ مقاصد الصِّيام أنَّ الإنسان ينقي نفسه ويزكيها، ويرفعها من أوحال المادية البحتة، ويخلصها من معتركات الشهوات والشبهات إلى صفاء الإخلاص والحبِّ لله سبحانه وتعالى.
ومن أهمِّ مظاهر تزكية النفس: الإخلاص لله سبحانه وتعالى، وجعل الصوم سرًّا بين الله وعبده كما قال الله في الحديث القدسي: «إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به»([10])، وذلك لمعنى الإخلاص الموجود في الصيام، يقول ابن حجر رحمه الله في بيان سبب نسبة الصوم إلى الله: “أنَّه خالص لله، وليس للعبد فيه حظ. قاله الخطابي. هكذا نقله عياض وغيره، فإن أراد بالحظ ما يحصل من الثناء عليه لأجل العبادة رجع إلى المعنى الأول، وقد أفصح بذلك ابن الجوزي فقال: المعنى: ليس لنفس الصائم فيه حظ، بخلاف غيره، فإن له فيه حظًّا لثناء الناس عليه لعبادته”([11])، ويقول النووي رحمه الله في بيان سبب ذلك أيضًا: “وقيل: لأنَّ الصَّوم بعيد من الرياء لخفائه، بخلاف الصلاة والحج والغزو والصدقة وغيرها من العبادات الظاهرة، وقيل: لأنَّه ليس للصائم ونفسه فيه حظ”([12]).
ومن مظاهر تزكية النفس: رفعها عن مزالق الأقدام عند ورود الشهوات، فيحافظ الإنسان على نفسه، ويلجمها عن ارتكاب الآثام، يقول الكمال ابن الهمام وهو يبين مقاصد الصِّيام: “سكون النفس الأمارة، وكسر سورتها في الفضول المتعلِّقة بجميع الجوارح من العين واللسان والأذن والفرج”([13])؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الصيام جُنَّة»([14])، يقول القرطبي في بيان معنى كون الصيام جُنَّة: “أي: سترة، يعني بحسب مشروعيته، فينبغي للصائم أن يصونه مما يفسده وينقص ثوابه”([15]).
والشَّاهد أنَّ الإنسان ينبغي أن يكون بكُلِّيته صائمًا عما حرم الله، من المفطرات الحسية كالأكل والشرب، وكذلك المنكرات والمعاصي، يقول ابن رجب رحمه الله في عبارةٍ لطيفة: “قال بعضُ السَّلف: أهون الصيام ترك الشراب والطعام، وقال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء”([16]).
4- مقام الصابرين:
من مقاصد الصِّيام تعويد النفس المسلمة على الصَّبر في ذات الله سبحانه وتعالى، فإن بلوغ الدرجات العليا يحتاج إلى تطويع النفس وتعويدها على الصبر، فإنَّ «سلعة الله غالية»([17])، والصوم من أعظم المدارس التربوية التي تربي الإنسان على فضيلة الصبر والمصابرة.
فهو صبرٌ على طاعة الله، بالتحلي بكل قربة تقرب إلى الله، وإمساك اليوم كاملًا طلبًا للأجر من الله.
وهو صبرٌ عن معصية الله، إذ يمتنع عن كل ما منعه الله أثناء صومه من المفطرات.
وهو صبٌر على أقدار الله، فهو يصبر على ما يلقاه من تعبٍ وعطشٍ وجوع، فيوطِّن نفسه على الصبر طلبًا لمرضاة الله سبحانه وتعالى.
فالصوم إذن ممَّا يساعد الإنسان على أن يوطِّن نفسه على الصَّبر، ويقوي فيه عزيمة ترك محبوبات النفس تقديمًا لمحبوبات الله سبحانه وتعالى.
وأخيرا: هذه دعوةٌ لتفعيل فقه المقاصد في العبادات، لإصلاح النفوس، وشحذ الهمم، وبناء المجتمع على أسس شرعية ربانية؛ لنعرف أن الله سبحانه وتعالى حين شرع الشرائع أراد منا أشياء نؤديها كما أرادها بمعرفتنا للمقاصد.
يقول ابن القيم رحمه الله مختصرًا مقاصد الصيام: “كان المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوَّتها الشهوانية، لتستعدَّ لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به ممَّا فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشَّراب، وتحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها، ويسكن كل عضو منها وكل قوة عن جماحه وتلجم بلجامه.
فهو لجام المتَّقين، وجُنّة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإنَّ الصائم لا يفعل شيئًا، وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذُّذاتها إيثارًا لمحبة الله ومرضاته.
وهو سرٌّ بين العبد وربه لا يطلع عليه سواه، والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأمَّا كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده، فهو أمرٌ لا يطلع عليه بشر، وذلك حقيقة الصَّوم”([18]).
وصلى الله وسلم على سيدنا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) مجموع الفتاوى (11/ 354).
([3]) أخرجه البخاري (38)، ومسلم (760).
([4]) أخرجه البخاري (37)، ومسلم (759).
([5]) زاد المعاد في هدي خير العباد (2/ 28).
([7]) زاد المعاد في هدي خير العباد (2/ 27).
([9]) زاد المعاد في هدي خير العباد (2/ 27).
([10]) أخرجه البخاري (5927)، ومسلم (1151).
([14]) أخرجه البخاري (1894)، ومسلم (1151).
([15]) ينظر: فتح الباري لابن حجر (4/ 104).
([16]) لطائف المعارف (ص: 155).