الثلاثاء - 21 رجب 1446 هـ - 21 يناير 2025 م

أبعدت النُجعة يا شيخ رائد صلاح   (الكلمات الموجزة في الرد على كتاب (المسائل الخلافية بين الحنابلة والسلفية المعاصرة)

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

 وقع في يدي كتابان من تأليف الشيخ أشرف نزار حسن -عضو المجلس الإسلامي للإفتاء في بيت المقدس- وهو أشعري المعتقد؛ الكتاب الأول: (المسائل الخلافية بين الحنابلة والسلفية المعاصرة)، والثاني: (قضايا محورية في ميزان الكتاب والسنة).

والذي دعاني لأكتبَ هذا المقال كونُ الشيخِ رائد صلاح هو من قدَّم لهما، ولم أكن أتوقَّع يومًا أن يتدخَّل الشيخ رائد صلاح في هذه المسائل كونَه شخصيةً اعتبارية معروفة في الدفاع عن المسجد الأقصى، ويعمَل على توحيد الجهود من جميع الاتجاهات الإسلاميّة والعلمانية للدفاع عن المسجد الأقصى المبارك، ولا سيما إذا علمنا أنَّ الكتابين فيهما طعنٌ بالدعوة السلفية المباركة والعلماء السلفيين! فأين توحيد الجهود وتجميع الأمة؟! وأين شعار: نجتمع فيما اتَّفقنا فيه، ويعذُر بعضُنا بعضًا فيما اختَلفنا فيه؟!

كنت أنتظر من الشيخ رائد -حفظه الله- أن يقدِّم لكتبٍ أخرى وعناوينَ أفضلَ تتناول الشأنَ الفلسطيني وقضية القدس؛ ليتسق مع دعوته ودفاعه عن المسجد الأقصى؛ ولكن خاب ظني عندما قرأتُ الكتابين! فكيف للشيخ رائد أن يروّج لشبهات ضدَّ الدعوة السلفية عفا عليها الزمن، والردود عليها معروفة ومشهورة؟!

أما عند الحديث عن محتوى الكتابين فمحتوى الكتابين لا يستحقُّ عناء الردِّ عليه؛ لاحتوائهما على شبهات ضعيفةٍ لا تدلُّ على فقه الكاتب ولا اطِّلاعه، وعجبي يزيد حينما يطلق الشيخ رائد صلاح -غفر الله له- على المؤلف لقب (فقيه السّجون)! حيث كان الأجدر به أن يؤلِّف كتابًا عن أحكام السجناء والمعتقلين.

فضل الدعوةَ السلفية:

بداية لا بد أن يُعرف أن الدعوةَ السلفية المباركة لها الدور العظيم في إعادة المسلمين إلى دينهم وعقيدتهم الصحيحة، كما كان لعلمائها الدور البارز في تصحيح عقائد كثير من المسلمين وتصحيح عباداتهم، ولا ينكر هذا الأثر إلا أعمى، ويكفي السلفيين شرفا انتسابهم إلى الصحابة رضوان الله عليهم عقيدةً وعملا، ومن جاء بعدهم من التابعين والأئمة الأربعة الذين أجمعت الأمة على إمامتهم.

كما أوجّه ندائي إلى الشيخ رائد صلاح -غفر الله- له أن ينأَى بنفسِه عن الدخول في هذه الأمور، وأن يبقَى على ثغره ورباطه في الدفاع عن المسجد الأقصى المبارك، رزقنا الله الصلاة فيه.

أهم النقاط التي سنناقشها:

  • السلفية هم على مذهب الظاهرية ومخالفتهم للإمام أحمد.
  • السلفيون يبدعون غيرهم عند المخالفة.
  • السلفيون ليس عندهم فقه الأولويات.
  • السلفيون لا يناصرون قضية فلسطين.
  • السلفيون لم يضحّوا ولم يسجنوا.
  • السلفية حزب نخبوي.
  • مضامين مصطلح السلفية بدعي.
  • إنكاره على السلفيين مهاجمة الصوفية.
  • خلاف علماء السلفية مع علماء الحنابلة في الفقه.
  • السلفية هم على مذهب الظاهرية ومخالفتهم للإمام أحمد:

يقول المؤلف -هداه الله-: (إن السلفية المعاصرة الدعوية أو الظاهرية الجدد ليسوا في الحقيقة حنابلة أو ينتسبون إلى الإمام أحمد بن حنبل، ودليلي على ادعائي هو عدم تطابق آرائهم مع مذهب الحنابلة).

وهذا يدل على عدم معرفته بالدعوة السلفية كمنهج للتلقي، حيث إنه يؤكّد على أن السلفيين لا تتطابق آراؤهم مع مذهب الحنابلة، وهذا حقّ، مع إدراكهم أن التعلم على المذاهب من المسالك العلمية التي يَنصُح بها أهل العلم السلفيّون، وما من عالم فيهم إلا ودرس على مذهب من المذاهب الأربعة، فعلماء الحجاز حنابلة، والعلماء السلفيين في الهند أحناف، وفي المغرب العربي مالكية، وفي مصر وغيرها من البلاد شافعية.

كما أن هناك حنابلة خالفوا اعتقادَ السلف الصالح، وهناك شافعية وأحناف ومالكية على مذهب السلف الصالح، وهذا دليل بأن السلفية ليست مذهبًا ولا حزبًا كما يدَّعي خصومها، وإنما هي طريقة لفهم الدين، وهي طريق الصحابة رضوان الله عليهم ومن تبعهم من أئمة الإسلام، فهل يا شيخ رائد صلاح تؤيِّد هذا الكلام؟!

  • السلفيون يبدِّعون غيرهم عند المخالفة:

يقول المؤلف: (إن سلف الأمة اختلفوا فيما بينهم في الفقه، وفي كيفية التعامل مع الواقع، ووسِعَهم الخلاف، ولم يتَّهم بعضهم بعضًا بالبدعة أو الفسق).

لا بدَّ بدايةً من توضيحِ مفهوم الخلاف، وأنه ليس كلّ خلاف معتبرًا، فخِلاف التَّضاد منه ما هو سائغٌ، ومنه ما هو غير سائغ، فالخلاف مع من يبيح ربا الفضل ومخالفةَ اعتقاد السلف الصالح ومصادمةَ الأدلة الصحيحة، يختلف عن الخلاف بين من يرى وجوب بعض أفعال الصلاة ومن يرى استحبابها.

والسلفيون -بحمد الله تعالى- سائرون على هذا النهج، فمتى بدّع السلفيون غيرهم بسبب الآراء الفقهية وكيفية التعامل مع الواقع؟! وكيف يكون هذا الادِّعاء صحيحًا والسلفيون مختلفون فيما بينهم في المسائل الفقهية، ويرد بعضهم على بعض؟! ولا يخدش هذا في سلفيتهم، فيسعهم ما وسع الأئمة قبلهم، وعلماء الدعوة السلفية ينطلقون من منطلقات شرعية وليست حزبية، ولو أردتُ أن أسوق أدلةً على صحة كلامي لطال المقام، ولكن أضرب لذلك ببعض الأمثلة لعلها تقنع الكاتب بخطَأ دعواه، فقد اختلف أهل العلم السلفيون في حكم دخول البرلمانات، واختلفوا في حكم الاستعانة بالقوات الأجنبية وغيرها من النوازل.

  • السلفيون ليس عندهم فقه الأولويات:

يقول المؤلف: (إن اختلاف فقه الأولويات هو أظهر سمات السلفية).

لا بد أن يُعلم أنَّ أولويات الدعوة السلفية وأصولها هي التوحيد والاتباع والتزكية، وهذه الأصولُ هي التي دعا إليها الرسلُ -صلوات والله وسلامه عليهم أجمعين-، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، والذي يشمل كذلك الدعوة إلى تحكيم شرع الله وإعادة الأمة إلى دينها.

وعن أهمية الاتباع وأنه أصل من أصول الشريعة قوله تعــالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7]، وقوله تعالى: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]، وحذرنا من الابتداع في الدين فقال في حديث جابر بن عبد الله: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة»([1]).

ودليل مقام التزكية في الشريعة في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة: 2]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إن في الجسد مضغة؛ إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»([2]).

فهذه الأصول لا تتغيَّر بتغير الزمان والمكان؛ لكونها أصولَ الشريعة وغيرُها تبعٌ لها، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤكِّد عليها في السلم والحرب والعسر واليسر في السفر والحضر.

فما الأولويات عند الكاتب؟ أهي الثورات العربية والكلام في الحكام والمؤامرات الغربية التي لا يجهلها أحد وتهييج عواطف الناس دون ترسيخ العقيدة في نفوسهم؟! وهل من الأولويات اللقاءات والتعاون ومدّ الأيدي مع الذين يسبّون الصحابة لتحرير فلسطين، أم الأولويات دخول البرلمانات ومناكفة السلطات؟! وكما قالوا من ثمارهم تعرفونهم.

  • السلفيون لا يناصرون قضية فلسطين:

ثم يدّعي المؤلف زورًا أنه لم يجِد من السلفية المعاصرة أنها قدّمت شيئا يذكر ولو الدعم النفسي أو المادي لقضية فلسطين.

ونقول: ستكتب شهادتكم وتسألون! وإنني أعرف يقينا ما قدَّمه السلفيون من دعم لفلسطين ماديّا ومعنويّا على كافة الأصعدة، منذ عشرات السنين، ولكننا لسنا بحاجة إلى شهادتك لنثبت صحَّة كلامنا، وأموال السلفيين وصلت -بحمد الله تعالى- إلى كل المسلمين في العالم، وليس إلى فلسطين فحَسب، ولا ينكر هذا إلا أعمى أو حاقد، وبلاد الإسلام تشهد بهذا ولله الحمد، فهل -يا شيخ رائد صلاح- توافقه على هذا الكلام، وأنت تعلم أهل القدس ومن هي الجهات الداعمة للمقدسيّين هناك؟!

  • السلفيون لم يضحّوا ولم يسجنوا:

ثم يقول: (إن السلفيين لم يضحّوا يومًا بحياتهم من أجل الذّود عن حقّ المسلمين في فلسطين، كما إنهم لم يدخلوا السجن يوما).

أما موقفنا في قضية فلسطين فإننا نعتقد أنها من المسلَّمات والمؤكّدات والمقرَّرات. ومما ينبغي أن يذكر بهذا الصدد أن السلفيين ينظرون للأمور جميعها -بما فيها قضية فلسطين- بمنظار شرعي، ويؤمنون بالعمل دون القول، فمتى يسّر الله عز وجل لهم الجهاد هبّوا وما قعدوا، والجهاد عندهم له أسس وقواعد، وهم في ذلك كله وراء العلماء الربانيين لا أمامهم. هذه من الثوابت في أفهامهم في قضية فلسطين.

ومما ينبغي أن يذكر بهذا الصدد أنَّ السلفيين ما قصَّروا أبدا في البيان والكلام، وما سكتوا ولن يسكُتوا، فإن مخالفة أهل الكتاب -اليهود والنصارى- مركوز في حسّ كل سلفي في جميع أمور حياته وتصوراته وسلوكياته.

وأيضا متى كانت السجون هي مقياس الحق والباطل؟! فليس كونك سُجِنت دليلا على صحَّة معتقدك ومنهجك؛ فالذين سجنوا من الشيوعيين والاشتراكيين والقوميين -ممن دافعوا عن فلسطين وغيرها- أكثر ممن سجن من جماعتك، وليس معنى كلامي التقليل من عظم تضحيات المعتقلين -فرّج الله عنهم-، ولكن الحديث عن كون ميزان الحق لا يعرف بالسجون، وإنما بالاستقامة على الطريق المستقيم، ومع ذلك فقد سجن الإمام أحمد بن حنبل، فهل أنت على معتقد الإمام أحمد بن حنبل؟! وسجن شيخ الإسلام ابن تيمية سبع مرات، فهل أنت على معتقده؟! وفي العصر الحديث إمام المجاهدين وعلى رأس هؤلاء المعاصرين المجاهد المعروف: محمد عز الدين القسام -رحمه الله تعالى-، الذي كان منبرا للدعوة السلفية في فلسطين، وقبل ذلك في سوريا قبل أن يلتحق بكتائب المجاهدين في فلسطين؛ والدليل على ذلك أنه ألَّفَ سنة ألف وتسعمائة وخمس وعشرين كتابا مطبوعا بعنوان: (النقد والبيان في دفع أوهام خزيران)، رد في هذا الكتاب على صوفي عكي مخرف ناصر للبدعة، ومما ذكر فيه أنه قال: (وكنا نود أن نرشد الأستاذ الجزار وتلميذه -أي: خزيران- وكلاهما صوفي، إلى الاستفادة من كتاب الاعتصام للشاطبي الذي لا ندّ له في بابه، ولكننا خشينا أن يرمينا هؤلاء بالنزعة الوهابية)([3]). كما سجن الإمام الألباني رحمه الله في نفس السجن الذي سجن فيه شيخ الإسلام، وغيرهم كثير.

  • السلفية حزب نخبوي:

يصرّ المؤلف على جعل السلفيين حزبا نخبويا كما يدعي وينطبق عليه وصف الحزبية.

فأقول إن السلفية -دعوة ومنهجا- هي دعوة معصومة؛ لأن مصادرها معصومة، وأما أتباعها فهم بين سابق بالخيرات ومقتصد وظالم لنفسه -كغيرهم من المسلمين-، فلا تتحمل الدعوة السلفية أخطاء بعض منتسبيها، كما أن السلفيين يؤمنون بالعمل الجماعي والمؤسسي، وأنه وسيلة للقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمن الضوابط الشرعية، وهذا ما أكد عليه العلماء قديما وحديثا، كشيخ الإسلام ابن تيمية وهيئة كبار العلماء والإمام الألباني، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزَّب -أي: تصير حزبا- فإن كانوا مجتمعين على أمر الله ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق الباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق والباطل، فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى ونهيا عن الإثم والعدوان”([4]).

والسلفيون ليسوا كغيرهم ممن لا يدخل معهم إلا من أدّى البيعة وانضم إلى أسرة تنظيمية وأصبح فردا منتسبا منتظما، ولكن الدعوة السلفية تنظر إلى عامة المسلمين أنهم السواد الأعظم من أهل السنة والجماعة، فتجد منهم البسطاء والفقراء والعلماء والمجاهدين والتجار؛ هدفهم تبليغ دين الله عز وجل، ونشر العقيدة الصحيحة، وإصلاح المجتمع، وتحكيم شرع الله عز وجل، فأين النخبوية التي تدّعيها؟! ولكن كما قيل: “رمتني بدائها وانسلت”.

  • مضامين مصطلح السلفية بدعي:

والعجيب في كلام المؤلف أنه يقول: (إن اختراع هذا المصطلح بمضامينه الجديدة التي أشرنا إليها، بدعة طارئة في الدين، لم يعرفها السلف الصالح، ولا الخلف الملتزم بنهجه) نقلا عن كتاب السلفية مرحلة زمنية.

أقول للمؤلف: أليس مصطلح الأشاعرة طارئا على الأمة لم يعرفه السلف الصالح لا مصطلحا ولا عقيدة؟! ولماذا لا ينطبق مصطلح البدعة على باقي الجماعات الإسلامية كذلك؟! مع أن مصطلح السلفية بمضامينه هو عينه منهج الصحابة رضوان الله عليهم، منهجنا كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله:

العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولو العرفان

ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول بين قول فقيه

وأود أن أذكر للمؤلف -ردًّا على ادعائه أن السلفية حركة ليس لها تاريخ وأن لها نحوا من مائة عام- قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “لا عيب على مَن أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزى إليه، بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق؛ فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقـًّا؛ فإن كان موافقـًا له باطنـًا وظاهرًا فهو بمنزلة المؤمن الذي هو على الحق باطنـًا وظاهرًا، وإن كان موافقـًا له في الظاهر فقط دون الباطن فهو بمنزلة المنافق؛ فتُقبَل منه عَلانِيَتُه، وتُوكَل سَرِيرَتُه إلى الله؛ فإنَّا لم نـُؤمَر أن ننقُبَ عن قلوب الناس ولا نشقَّ بطونَهم”([5]).

ويقول الإمام الذهبي رحمه الله: “السَّلَفي -بفتحتين- وهو من كان على مذهب السلف”([6])، وقال في ترجمة ابن الصلاح رحمه الله: “وكان سلفيًّا حسن الاعتقاد، كافًّا عن تأويل المتكلمين”([7]).

ثم بدأ المؤلف بضرب الأمثلة على اختلاف السلفية مع الحنابلة، وذكر مبحث العقيدة وأن آيات الصفات من المتشابه عند الحنابلة خلافا للسلفية، وأحيل هنا لمزيد من البحث في هذا الموضوع إلى رد مركز سلف للبحوث والدراسات بعنوان: (براءة الإمام أحمد من التفويض وكشف دعوة الحنابلة الجدد)([8]) ففيه الكفاية.

  • إنكاره على السلفيين مهاجمة الصوفية:

ومن عجائبه إنكاره على السلفيين مهاجمة التصوف، ويدعي أن هناك من علماء السلف من يمدح بعض المتصوفة.

فلم يفرق المؤلف بين الثناء على أشخاص معينين ممن اتَّصفوا بالتصوف وكانوا على منهج أهل السنة في العموم، وبين الثناء على التصوف من حيث العقيدة والمنهج والسلوك، ولا يخفى على باحث وجود كثير من الآثار من أئمة الإسلام فيها ذمهم للتصوف الذي يبنى على البدع والشركيات والخزعبلات، قال القاضي عياض رحمه الله: “قال المسيبي: كنا عند مالك وأصحابه حوله، فقال رجل من أهل نصيبين: يا أبا عبد الله، عندنا قوم يقال لهم الصوفية، يأكلون كثيرًا، ثم يأخذون في القصائد، ثم يقومون فيرقصون. فقال مالك: الصبيان هم؟ قال: لا. قال: أمجانين؟ قال: لا، قوم مشايخ. قال مالك: ما سمعت أن أحدًا من أهل الإسلام يفعل هذا”([9]).

أما الإمام الشافعي فقال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: “لو أن رجلا تصوف أول النهار لم يأت عليه الظهر إلا وجدته أحمق”([10])، وقال أيضا: “مَا لزم أحد الصوفية أربعين يوما فعاد عقله إليه أبدا”([11])، وقال أيضا: “صَحِبْتُ الصُّوفِيَّةَ، فَمَا انْتَفَعْتُ مِنْهُمْ إِلَّا بِكَلِمَتَيْنِ: سَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ: الْوَقْتُ سَيْفٌ فَإِنْ قَطَعْتَهُ وَإِلَّا قَطَعَكَ، وَنَفْسُكَ إِنْ لَمْ تَشْغَلْهَا بِالْحَقِّ وَإِلَّا شَغَلَتْكَ بِالْبَاطِلِ”([12]). فهل أنت موافق على كلام المؤلف يا شيخ رائد صلاح؟!

  • خلاف علماء السلفية مع علماء الحنابلة في الفقه:

ثم تكلم المؤلف عن الخلاف بين العلماء السلفيين وبين الحنابلة في المسائل الفقهية، فينقل رأي بعض أهل العلم ويقارنه بأقوال البهوتي رحمه الله، ولا أدري كيف لطالب علم أن يجعل قولا من أقوال بعض أهل العلم السلفيين هو المعتمد عند السلفيين في المسائل الفقهية؟! ومن له أدنى عناية بالعلم يعلم يقينا كيف يختلف السلفيون فيما بينهم في المسائل الفقهية.

وسأضرب لذلك مثالا واحدا يغني عن الرد على باقي المسائل، فيقول المؤلف: “السلفيون يزعمون أن صوت المرأة عورة، ودليله قول الشيخ ابن جبرين: (صوت المرأة عورة) ويدلل على قول الحنابلة بكلام الإمام البهوتي: (وصوتها -أي: الأجنبية- ليس بعورة)، مع العلم أن الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين يقولون بأن صوت المرأة ليس بعورة، خلافا لما نقله عن الشيخ ابن جبرين، مع أن نقله لكلام الشيخ ابن جبرين ليس دقيقا.

هذا ما تيسر تقييده، مع مراعاة الاختصار، والحمد لله رب العالمين.

ـــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) أخرجه مسلم (867).

([2]) أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).

([3]) النقد والبيان في دفع أوهام خزيران (ص: 25). وانظر: السلفيون وقضية فلسطين، من إصدارات مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية.

([4]) مجموع الفتاوى (11/ 92).

([5]) مجموع الفتاوى (4/ 149).

([6]) سير أعلام النبلاء (21/ 6).

([7]) تذكرة الحفاظ (4/ 1431).

([8]) وهذا رابطه: https://salafcenter.org/2715/.

([9]) ترتيب المدارك (2/ 53).

([10]) رواه البيهقي في مناقب الشافعي (2/ 207) بإسناد صحيح.

([11]) ينظر: تلبيس إبليس (ص: 327).

([12]) ينظر: مدارج السالكين (3/ 124).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

الحالة السلفية في فكر الإمام أبي المعالي الجويني إمام الحرمين -أصول ومعالم-

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: من الأمور المحقَّقة عند الباحثين صحةُ حصول مراجعات فكرية حقيقية عند كبار المتكلمين المنسوبين إلى الأشعرية وغيرها، وقد وثِّقت تلك المراجعات في كتب التراجم والتاريخ، ونُقِلت عنهم في ذلك عبارات صريحة، بل قامت شواهد الواقع على ذلك عند ملاحظة ما ألَّفوه من مصنفات ومقارنتها، وتحقيق المتأخر منها والمتقدم، […]

أحوال السلف في شهر رجب

 مقدمة: إن الله تعالى خَلَقَ الخلق، واصطفى من خلقه ما يشاء، ففضّله على غيره، قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُ ‌وَيَخۡتَارُ﴾ [القصص: 68]. والمقصود بالاختيار: الاصطفاء بعد الخلق، فالخلق عامّ، والاصطفاء خاصّ[1]. ومن هذا تفضيله تعالى بعض الأزمان على بعض، كالأشهر الحرم، ورمضان، ويوم الجمعة، والعشر الأواخر من رمضان، وعشر ذي الحجة، وغير ذلك مما […]

هل يُمكِن الاستغناءُ عن النُّبوات ببدائلَ أُخرى كالعقل والضمير؟

مقدمة: هذه شبهة من الشبهات المثارة على النبوّات، وهي مَبنيَّة على سوء فَهمٍ لطبيعة النُّبوة، ولوظيفتها الأساسية، وكشف هذه الشُّبهة يحتاج إلى تَجْلية أوجه الاحتياج إلى النُّبوة والوحي. وحاصل هذه الشبهة: أنَّ البَشَر ليسوا في حاجة إلى النُّبوة في إصلاح حالهم وعَلاقتهم مع الله، ويُمكِن تحقيقُ أعلى مراتب الصلاح والاستقامة من غير أنْ يَنزِل إليهم […]

الصوفية وعجز الإفصاح ..الغموض والكتمان نموذجا

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  توطئة: تتجلى ظاهرة الغموض والكتمان في الفكر الصوفي من خلال مفهوم الظاهر والباطن، ويرى الصوفية أن علم الباطن هو أرقى مراتب المعرفة، إذ يستند إلى تأويلات عميقة -فيما يزعمون- للنصوص الدينية، مما يتيح لهم تفسير القرآن والحديث بطرق تتناغم مع معتقداتهم الفاسدة، حيث يدّعون أن الأئمة والأولياء هم الوحيدون […]

القيادة والتنمية عند أتباع السلف الصالح الأمير عبد الله بن طاهر أمير خراسان وما وراء النهر أنموذجا (182-230ه/ 798-845م)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  المقدمة: كنتُ أقرأ قصةَ الإمام إسحاق بن راهويه -رحمه الله- عندما عرض كتاب (التاريخ الكبير) للإمام البخاري -رحمه الله- على الأمير عبد الله بن طاهر، وقال له: (ألا أريك سحرًا؟!)، وكنت أتساءل: لماذا يعرض كتابًا متخصِّصًا في علم الرجال على الأمير؟ وهل عند الأمير من الوقت للاطّلاع على الكتب، […]

دعوى غلو النجديين وخروجهم عن سنن العلماء

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: تكثر الدعاوى حول الدعوة النجدية، وتكثر الأوهام حول طريقتهم سواء من المخالفين أو حتى من بعض الموافقين الذين دخلت عليهم بعض شُبه الخصوم، وزاد الطين بلة انتسابُ كثير من الجهال والغلاة إلى طريقة الدعوة النجدية، ووظفوا بعض عباراتهم -والتي لا يحفظون غيرها- فشطوا في التكفير بغير حق، وأساؤوا […]

التحقيق في موقف ابن الزَّمْلَكَاني من ابن تيّمِيَّة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: يُعتَبَر ابن الزَّمْلَكَاني الذي ولد سنة 667هـ مُتقاربًا في السنِّ مع شيخ الإسلام الذي ولد سنة 661هـ، ويكبره شيخ الإسلام بنحو ست سنوات فقط، وكلاهما نشأ في مدينة دمشق في العصر المملوكي، فمعرفة كلٍّ منهما بالآخر قديمة جِدًّا من فترة شبابهما، وكلاهما من كبار علماء مذهبِه وعلماء المسلمين. […]

الشَّبَهُ بين شرك أهل الأوثان وشرك أهل القبور

مقدمة: نزل القرآنُ بلسان عربيٍّ مبين، وكان لبيان الشرك من هذا البيان حظٌّ عظيم، فقد بيَّن القرآن الشرك، وقطع حجّةَ أهله، وأنذر فاعلَه، وبين عقوبته وخطرَه عليه. وقد جرت سنة العلماء على اعتبار عموم الألفاظ، واتباع الاشتقاق للأوصاف في الأفعال، فمن فعل الشرك فقد استوجب هذا الاسمَ، لا يرفعه عنه شرعًا إلا فقدانُ شرط أو […]

هل مُجرد الإقرار بالربوبية يُنجِي صاحبه من النار؟

مقدمة: كثيرٌ ممن يحبّون العاجلة ويذرون الآخرة يكتفون بالإقرار بالربوبية إقرارًا نظريًّا؛ تفاديًا منهم لسؤال البدهيات العقلية، وتجنُّبا للصّدام مع الضروريات الفطرية، لكنهم لا يستنتجون من ذلك استحقاق الخالق للعبودية، وإذا رجعوا إلى الشرع لم يقبَلوا منه التفصيلَ؛ حتى لا ينتقض غزلهم مِن بعدِ قوة، وقد كان هذا حالَ كثير من الأمم قبل الإسلام، وحين […]

هل كان شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني أشعريًّا؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: مِن مسالك أهل الباطل في الترويج لباطلهم نِسبةُ أهل الفضل والعلم ومن لهم لسان صدق في الآخرين إلى مذاهبهم وطرقهم. وقديمًا ادَّعى اليهود والنصارى والمشركون انتساب خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام إلى دينهم وملَّتهم، فقال تعالى ردًّا عليهم في ذلك: ﴿‌مَا ‌كَانَ ‌إِبۡرَٰهِيمُ يَهُودِيّا وَلَا نَصۡرَانِيّا وَلَٰكِن كَانَ […]

هل علاقة الوهابية بالصوفية المُتسنِّنة علاقة تصادم؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: تعتبر الصوفيةُ أحدَ المظاهر الفكرية في تاريخ التراث والفكر الإسلامي، وقد بدأت بالزهد والعبادة وغير ذلك من المعاني الطيِّبة التي يشتمل عليها الإسلام، ثم أصبحت فيما بعد عِلمًا مُستقلًّا يصنّف فيه المصنفات وتكتب فيه الكتب، وارتبطت بجهود عدد من العلماء الذين أسهموا في نشر مبادئها السلوكية وتعدَّدت مذاهبهم […]

مناقشة دعوى بِدعية تقسيم التوحيد

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة    مقدّمة: إن معرفة التوحيد الذي جاء به الأنبياء من أهم المهمّات التي يجب على المسلم معرفتها، ولقد جاءت آيات الكتاب العزيز بتوحيد الله سبحانه في ربوبيته وأنه الخالق الرازق المدبر، قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]، كما أمر الله تبارك وتعالى عباده […]

اتفاق علماء المسلمين على عدم شرط الربوبية في مفهوم العبادة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدّمة: كنّا قد ردَدنا في (مركز سلف) على أطروحة أحد المخالفين الذي راح يتحدّى فيها السلفيين في تحديد ضابط مستقيم للعبادة، وقد رد ردًّا مختصرًا وزعم أنا نوافقه على رأيه في اشتراط اعتقاد الربوبية؛ لما ذكرناه من تلازم الظاهر والباطن، وتلازم الألوهية والربوبية، وقد زعم أيضًا أن بعض العلماء […]

هل اختار السلفيون آراءً تخالف الإجماع؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: كثير من المزاعم المعاصرة حول السلفية لا تنبني على علمٍ منهجيٍّ صحيح، وإنما تُبنى على اجتزاءٍ للحقيقة دونما عرضٍ للحقيقة بصورة كاملة، ومن تلك المزاعم: الزعمُ بأنَّ السلفية المعاصرة لهم اختيارات فقهية تخالف الإجماع وتوافق الظاهرية أو آراء ابن تيمية، ثم افترض المخالف أنهم خالفوا الإجماع لأجل ذلك. […]

الألوهية والمقاصد ..إفراد العبادة لله مقصد مقاصد العقيدة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: مما يكاد يغيب عن أذهان بعض المسلمين اليوم أن العبودية التي هي أهمّ مقاصد الدين ليست مجرد شعائر وقتيّة يؤدّيها الإنسان؛ فكثير من المسلمين لسان حالهم يقول: أنا أعبدُ الله سبحانه وتعالى وقتَ العبادة ووقتَ الشعائر التعبُّدية كالصلاة والصيام وغيرها، أعبد الله بها في حينها كما أمر الله […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017