الثلاثاء - 26 ذو الحجة 1445 هـ - 02 يوليو 2024 م

أبعدت النُجعة يا شيخ رائد صلاح   (الكلمات الموجزة في الرد على كتاب (المسائل الخلافية بين الحنابلة والسلفية المعاصرة)

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

 وقع في يدي كتابان من تأليف الشيخ أشرف نزار حسن -عضو المجلس الإسلامي للإفتاء في بيت المقدس- وهو أشعري المعتقد؛ الكتاب الأول: (المسائل الخلافية بين الحنابلة والسلفية المعاصرة)، والثاني: (قضايا محورية في ميزان الكتاب والسنة).

والذي دعاني لأكتبَ هذا المقال كونُ الشيخِ رائد صلاح هو من قدَّم لهما، ولم أكن أتوقَّع يومًا أن يتدخَّل الشيخ رائد صلاح في هذه المسائل كونَه شخصيةً اعتبارية معروفة في الدفاع عن المسجد الأقصى، ويعمَل على توحيد الجهود من جميع الاتجاهات الإسلاميّة والعلمانية للدفاع عن المسجد الأقصى المبارك، ولا سيما إذا علمنا أنَّ الكتابين فيهما طعنٌ بالدعوة السلفية المباركة والعلماء السلفيين! فأين توحيد الجهود وتجميع الأمة؟! وأين شعار: نجتمع فيما اتَّفقنا فيه، ويعذُر بعضُنا بعضًا فيما اختَلفنا فيه؟!

كنت أنتظر من الشيخ رائد -حفظه الله- أن يقدِّم لكتبٍ أخرى وعناوينَ أفضلَ تتناول الشأنَ الفلسطيني وقضية القدس؛ ليتسق مع دعوته ودفاعه عن المسجد الأقصى؛ ولكن خاب ظني عندما قرأتُ الكتابين! فكيف للشيخ رائد أن يروّج لشبهات ضدَّ الدعوة السلفية عفا عليها الزمن، والردود عليها معروفة ومشهورة؟!

أما عند الحديث عن محتوى الكتابين فمحتوى الكتابين لا يستحقُّ عناء الردِّ عليه؛ لاحتوائهما على شبهات ضعيفةٍ لا تدلُّ على فقه الكاتب ولا اطِّلاعه، وعجبي يزيد حينما يطلق الشيخ رائد صلاح -غفر الله له- على المؤلف لقب (فقيه السّجون)! حيث كان الأجدر به أن يؤلِّف كتابًا عن أحكام السجناء والمعتقلين.

فضل الدعوةَ السلفية:

بداية لا بد أن يُعرف أن الدعوةَ السلفية المباركة لها الدور العظيم في إعادة المسلمين إلى دينهم وعقيدتهم الصحيحة، كما كان لعلمائها الدور البارز في تصحيح عقائد كثير من المسلمين وتصحيح عباداتهم، ولا ينكر هذا الأثر إلا أعمى، ويكفي السلفيين شرفا انتسابهم إلى الصحابة رضوان الله عليهم عقيدةً وعملا، ومن جاء بعدهم من التابعين والأئمة الأربعة الذين أجمعت الأمة على إمامتهم.

كما أوجّه ندائي إلى الشيخ رائد صلاح -غفر الله- له أن ينأَى بنفسِه عن الدخول في هذه الأمور، وأن يبقَى على ثغره ورباطه في الدفاع عن المسجد الأقصى المبارك، رزقنا الله الصلاة فيه.

أهم النقاط التي سنناقشها:

  • السلفية هم على مذهب الظاهرية ومخالفتهم للإمام أحمد.
  • السلفيون يبدعون غيرهم عند المخالفة.
  • السلفيون ليس عندهم فقه الأولويات.
  • السلفيون لا يناصرون قضية فلسطين.
  • السلفيون لم يضحّوا ولم يسجنوا.
  • السلفية حزب نخبوي.
  • مضامين مصطلح السلفية بدعي.
  • إنكاره على السلفيين مهاجمة الصوفية.
  • خلاف علماء السلفية مع علماء الحنابلة في الفقه.
  • السلفية هم على مذهب الظاهرية ومخالفتهم للإمام أحمد:

يقول المؤلف -هداه الله-: (إن السلفية المعاصرة الدعوية أو الظاهرية الجدد ليسوا في الحقيقة حنابلة أو ينتسبون إلى الإمام أحمد بن حنبل، ودليلي على ادعائي هو عدم تطابق آرائهم مع مذهب الحنابلة).

وهذا يدل على عدم معرفته بالدعوة السلفية كمنهج للتلقي، حيث إنه يؤكّد على أن السلفيين لا تتطابق آراؤهم مع مذهب الحنابلة، وهذا حقّ، مع إدراكهم أن التعلم على المذاهب من المسالك العلمية التي يَنصُح بها أهل العلم السلفيّون، وما من عالم فيهم إلا ودرس على مذهب من المذاهب الأربعة، فعلماء الحجاز حنابلة، والعلماء السلفيين في الهند أحناف، وفي المغرب العربي مالكية، وفي مصر وغيرها من البلاد شافعية.

كما أن هناك حنابلة خالفوا اعتقادَ السلف الصالح، وهناك شافعية وأحناف ومالكية على مذهب السلف الصالح، وهذا دليل بأن السلفية ليست مذهبًا ولا حزبًا كما يدَّعي خصومها، وإنما هي طريقة لفهم الدين، وهي طريق الصحابة رضوان الله عليهم ومن تبعهم من أئمة الإسلام، فهل يا شيخ رائد صلاح تؤيِّد هذا الكلام؟!

  • السلفيون يبدِّعون غيرهم عند المخالفة:

يقول المؤلف: (إن سلف الأمة اختلفوا فيما بينهم في الفقه، وفي كيفية التعامل مع الواقع، ووسِعَهم الخلاف، ولم يتَّهم بعضهم بعضًا بالبدعة أو الفسق).

لا بدَّ بدايةً من توضيحِ مفهوم الخلاف، وأنه ليس كلّ خلاف معتبرًا، فخِلاف التَّضاد منه ما هو سائغٌ، ومنه ما هو غير سائغ، فالخلاف مع من يبيح ربا الفضل ومخالفةَ اعتقاد السلف الصالح ومصادمةَ الأدلة الصحيحة، يختلف عن الخلاف بين من يرى وجوب بعض أفعال الصلاة ومن يرى استحبابها.

والسلفيون -بحمد الله تعالى- سائرون على هذا النهج، فمتى بدّع السلفيون غيرهم بسبب الآراء الفقهية وكيفية التعامل مع الواقع؟! وكيف يكون هذا الادِّعاء صحيحًا والسلفيون مختلفون فيما بينهم في المسائل الفقهية، ويرد بعضهم على بعض؟! ولا يخدش هذا في سلفيتهم، فيسعهم ما وسع الأئمة قبلهم، وعلماء الدعوة السلفية ينطلقون من منطلقات شرعية وليست حزبية، ولو أردتُ أن أسوق أدلةً على صحة كلامي لطال المقام، ولكن أضرب لذلك ببعض الأمثلة لعلها تقنع الكاتب بخطَأ دعواه، فقد اختلف أهل العلم السلفيون في حكم دخول البرلمانات، واختلفوا في حكم الاستعانة بالقوات الأجنبية وغيرها من النوازل.

  • السلفيون ليس عندهم فقه الأولويات:

يقول المؤلف: (إن اختلاف فقه الأولويات هو أظهر سمات السلفية).

لا بد أن يُعلم أنَّ أولويات الدعوة السلفية وأصولها هي التوحيد والاتباع والتزكية، وهذه الأصولُ هي التي دعا إليها الرسلُ -صلوات والله وسلامه عليهم أجمعين-، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، والذي يشمل كذلك الدعوة إلى تحكيم شرع الله وإعادة الأمة إلى دينها.

وعن أهمية الاتباع وأنه أصل من أصول الشريعة قوله تعــالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7]، وقوله تعالى: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]، وحذرنا من الابتداع في الدين فقال في حديث جابر بن عبد الله: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة»([1]).

ودليل مقام التزكية في الشريعة في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة: 2]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إن في الجسد مضغة؛ إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»([2]).

فهذه الأصول لا تتغيَّر بتغير الزمان والمكان؛ لكونها أصولَ الشريعة وغيرُها تبعٌ لها، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤكِّد عليها في السلم والحرب والعسر واليسر في السفر والحضر.

فما الأولويات عند الكاتب؟ أهي الثورات العربية والكلام في الحكام والمؤامرات الغربية التي لا يجهلها أحد وتهييج عواطف الناس دون ترسيخ العقيدة في نفوسهم؟! وهل من الأولويات اللقاءات والتعاون ومدّ الأيدي مع الذين يسبّون الصحابة لتحرير فلسطين، أم الأولويات دخول البرلمانات ومناكفة السلطات؟! وكما قالوا من ثمارهم تعرفونهم.

  • السلفيون لا يناصرون قضية فلسطين:

ثم يدّعي المؤلف زورًا أنه لم يجِد من السلفية المعاصرة أنها قدّمت شيئا يذكر ولو الدعم النفسي أو المادي لقضية فلسطين.

ونقول: ستكتب شهادتكم وتسألون! وإنني أعرف يقينا ما قدَّمه السلفيون من دعم لفلسطين ماديّا ومعنويّا على كافة الأصعدة، منذ عشرات السنين، ولكننا لسنا بحاجة إلى شهادتك لنثبت صحَّة كلامنا، وأموال السلفيين وصلت -بحمد الله تعالى- إلى كل المسلمين في العالم، وليس إلى فلسطين فحَسب، ولا ينكر هذا إلا أعمى أو حاقد، وبلاد الإسلام تشهد بهذا ولله الحمد، فهل -يا شيخ رائد صلاح- توافقه على هذا الكلام، وأنت تعلم أهل القدس ومن هي الجهات الداعمة للمقدسيّين هناك؟!

  • السلفيون لم يضحّوا ولم يسجنوا:

ثم يقول: (إن السلفيين لم يضحّوا يومًا بحياتهم من أجل الذّود عن حقّ المسلمين في فلسطين، كما إنهم لم يدخلوا السجن يوما).

أما موقفنا في قضية فلسطين فإننا نعتقد أنها من المسلَّمات والمؤكّدات والمقرَّرات. ومما ينبغي أن يذكر بهذا الصدد أن السلفيين ينظرون للأمور جميعها -بما فيها قضية فلسطين- بمنظار شرعي، ويؤمنون بالعمل دون القول، فمتى يسّر الله عز وجل لهم الجهاد هبّوا وما قعدوا، والجهاد عندهم له أسس وقواعد، وهم في ذلك كله وراء العلماء الربانيين لا أمامهم. هذه من الثوابت في أفهامهم في قضية فلسطين.

ومما ينبغي أن يذكر بهذا الصدد أنَّ السلفيين ما قصَّروا أبدا في البيان والكلام، وما سكتوا ولن يسكُتوا، فإن مخالفة أهل الكتاب -اليهود والنصارى- مركوز في حسّ كل سلفي في جميع أمور حياته وتصوراته وسلوكياته.

وأيضا متى كانت السجون هي مقياس الحق والباطل؟! فليس كونك سُجِنت دليلا على صحَّة معتقدك ومنهجك؛ فالذين سجنوا من الشيوعيين والاشتراكيين والقوميين -ممن دافعوا عن فلسطين وغيرها- أكثر ممن سجن من جماعتك، وليس معنى كلامي التقليل من عظم تضحيات المعتقلين -فرّج الله عنهم-، ولكن الحديث عن كون ميزان الحق لا يعرف بالسجون، وإنما بالاستقامة على الطريق المستقيم، ومع ذلك فقد سجن الإمام أحمد بن حنبل، فهل أنت على معتقد الإمام أحمد بن حنبل؟! وسجن شيخ الإسلام ابن تيمية سبع مرات، فهل أنت على معتقده؟! وفي العصر الحديث إمام المجاهدين وعلى رأس هؤلاء المعاصرين المجاهد المعروف: محمد عز الدين القسام -رحمه الله تعالى-، الذي كان منبرا للدعوة السلفية في فلسطين، وقبل ذلك في سوريا قبل أن يلتحق بكتائب المجاهدين في فلسطين؛ والدليل على ذلك أنه ألَّفَ سنة ألف وتسعمائة وخمس وعشرين كتابا مطبوعا بعنوان: (النقد والبيان في دفع أوهام خزيران)، رد في هذا الكتاب على صوفي عكي مخرف ناصر للبدعة، ومما ذكر فيه أنه قال: (وكنا نود أن نرشد الأستاذ الجزار وتلميذه -أي: خزيران- وكلاهما صوفي، إلى الاستفادة من كتاب الاعتصام للشاطبي الذي لا ندّ له في بابه، ولكننا خشينا أن يرمينا هؤلاء بالنزعة الوهابية)([3]). كما سجن الإمام الألباني رحمه الله في نفس السجن الذي سجن فيه شيخ الإسلام، وغيرهم كثير.

  • السلفية حزب نخبوي:

يصرّ المؤلف على جعل السلفيين حزبا نخبويا كما يدعي وينطبق عليه وصف الحزبية.

فأقول إن السلفية -دعوة ومنهجا- هي دعوة معصومة؛ لأن مصادرها معصومة، وأما أتباعها فهم بين سابق بالخيرات ومقتصد وظالم لنفسه -كغيرهم من المسلمين-، فلا تتحمل الدعوة السلفية أخطاء بعض منتسبيها، كما أن السلفيين يؤمنون بالعمل الجماعي والمؤسسي، وأنه وسيلة للقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمن الضوابط الشرعية، وهذا ما أكد عليه العلماء قديما وحديثا، كشيخ الإسلام ابن تيمية وهيئة كبار العلماء والإمام الألباني، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزَّب -أي: تصير حزبا- فإن كانوا مجتمعين على أمر الله ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق الباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق والباطل، فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى ونهيا عن الإثم والعدوان”([4]).

والسلفيون ليسوا كغيرهم ممن لا يدخل معهم إلا من أدّى البيعة وانضم إلى أسرة تنظيمية وأصبح فردا منتسبا منتظما، ولكن الدعوة السلفية تنظر إلى عامة المسلمين أنهم السواد الأعظم من أهل السنة والجماعة، فتجد منهم البسطاء والفقراء والعلماء والمجاهدين والتجار؛ هدفهم تبليغ دين الله عز وجل، ونشر العقيدة الصحيحة، وإصلاح المجتمع، وتحكيم شرع الله عز وجل، فأين النخبوية التي تدّعيها؟! ولكن كما قيل: “رمتني بدائها وانسلت”.

  • مضامين مصطلح السلفية بدعي:

والعجيب في كلام المؤلف أنه يقول: (إن اختراع هذا المصطلح بمضامينه الجديدة التي أشرنا إليها، بدعة طارئة في الدين، لم يعرفها السلف الصالح، ولا الخلف الملتزم بنهجه) نقلا عن كتاب السلفية مرحلة زمنية.

أقول للمؤلف: أليس مصطلح الأشاعرة طارئا على الأمة لم يعرفه السلف الصالح لا مصطلحا ولا عقيدة؟! ولماذا لا ينطبق مصطلح البدعة على باقي الجماعات الإسلامية كذلك؟! مع أن مصطلح السلفية بمضامينه هو عينه منهج الصحابة رضوان الله عليهم، منهجنا كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله:

العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولو العرفان

ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول بين قول فقيه

وأود أن أذكر للمؤلف -ردًّا على ادعائه أن السلفية حركة ليس لها تاريخ وأن لها نحوا من مائة عام- قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “لا عيب على مَن أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزى إليه، بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق؛ فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقـًّا؛ فإن كان موافقـًا له باطنـًا وظاهرًا فهو بمنزلة المؤمن الذي هو على الحق باطنـًا وظاهرًا، وإن كان موافقـًا له في الظاهر فقط دون الباطن فهو بمنزلة المنافق؛ فتُقبَل منه عَلانِيَتُه، وتُوكَل سَرِيرَتُه إلى الله؛ فإنَّا لم نـُؤمَر أن ننقُبَ عن قلوب الناس ولا نشقَّ بطونَهم”([5]).

ويقول الإمام الذهبي رحمه الله: “السَّلَفي -بفتحتين- وهو من كان على مذهب السلف”([6])، وقال في ترجمة ابن الصلاح رحمه الله: “وكان سلفيًّا حسن الاعتقاد، كافًّا عن تأويل المتكلمين”([7]).

ثم بدأ المؤلف بضرب الأمثلة على اختلاف السلفية مع الحنابلة، وذكر مبحث العقيدة وأن آيات الصفات من المتشابه عند الحنابلة خلافا للسلفية، وأحيل هنا لمزيد من البحث في هذا الموضوع إلى رد مركز سلف للبحوث والدراسات بعنوان: (براءة الإمام أحمد من التفويض وكشف دعوة الحنابلة الجدد)([8]) ففيه الكفاية.

  • إنكاره على السلفيين مهاجمة الصوفية:

ومن عجائبه إنكاره على السلفيين مهاجمة التصوف، ويدعي أن هناك من علماء السلف من يمدح بعض المتصوفة.

فلم يفرق المؤلف بين الثناء على أشخاص معينين ممن اتَّصفوا بالتصوف وكانوا على منهج أهل السنة في العموم، وبين الثناء على التصوف من حيث العقيدة والمنهج والسلوك، ولا يخفى على باحث وجود كثير من الآثار من أئمة الإسلام فيها ذمهم للتصوف الذي يبنى على البدع والشركيات والخزعبلات، قال القاضي عياض رحمه الله: “قال المسيبي: كنا عند مالك وأصحابه حوله، فقال رجل من أهل نصيبين: يا أبا عبد الله، عندنا قوم يقال لهم الصوفية، يأكلون كثيرًا، ثم يأخذون في القصائد، ثم يقومون فيرقصون. فقال مالك: الصبيان هم؟ قال: لا. قال: أمجانين؟ قال: لا، قوم مشايخ. قال مالك: ما سمعت أن أحدًا من أهل الإسلام يفعل هذا”([9]).

أما الإمام الشافعي فقال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: “لو أن رجلا تصوف أول النهار لم يأت عليه الظهر إلا وجدته أحمق”([10])، وقال أيضا: “مَا لزم أحد الصوفية أربعين يوما فعاد عقله إليه أبدا”([11])، وقال أيضا: “صَحِبْتُ الصُّوفِيَّةَ، فَمَا انْتَفَعْتُ مِنْهُمْ إِلَّا بِكَلِمَتَيْنِ: سَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ: الْوَقْتُ سَيْفٌ فَإِنْ قَطَعْتَهُ وَإِلَّا قَطَعَكَ، وَنَفْسُكَ إِنْ لَمْ تَشْغَلْهَا بِالْحَقِّ وَإِلَّا شَغَلَتْكَ بِالْبَاطِلِ”([12]). فهل أنت موافق على كلام المؤلف يا شيخ رائد صلاح؟!

  • خلاف علماء السلفية مع علماء الحنابلة في الفقه:

ثم تكلم المؤلف عن الخلاف بين العلماء السلفيين وبين الحنابلة في المسائل الفقهية، فينقل رأي بعض أهل العلم ويقارنه بأقوال البهوتي رحمه الله، ولا أدري كيف لطالب علم أن يجعل قولا من أقوال بعض أهل العلم السلفيين هو المعتمد عند السلفيين في المسائل الفقهية؟! ومن له أدنى عناية بالعلم يعلم يقينا كيف يختلف السلفيون فيما بينهم في المسائل الفقهية.

وسأضرب لذلك مثالا واحدا يغني عن الرد على باقي المسائل، فيقول المؤلف: “السلفيون يزعمون أن صوت المرأة عورة، ودليله قول الشيخ ابن جبرين: (صوت المرأة عورة) ويدلل على قول الحنابلة بكلام الإمام البهوتي: (وصوتها -أي: الأجنبية- ليس بعورة)، مع العلم أن الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين يقولون بأن صوت المرأة ليس بعورة، خلافا لما نقله عن الشيخ ابن جبرين، مع أن نقله لكلام الشيخ ابن جبرين ليس دقيقا.

هذا ما تيسر تقييده، مع مراعاة الاختصار، والحمد لله رب العالمين.

ـــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) أخرجه مسلم (867).

([2]) أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).

([3]) النقد والبيان في دفع أوهام خزيران (ص: 25). وانظر: السلفيون وقضية فلسطين، من إصدارات مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية.

([4]) مجموع الفتاوى (11/ 92).

([5]) مجموع الفتاوى (4/ 149).

([6]) سير أعلام النبلاء (21/ 6).

([7]) تذكرة الحفاظ (4/ 1431).

([8]) وهذا رابطه: https://salafcenter.org/2715/.

([9]) ترتيب المدارك (2/ 53).

([10]) رواه البيهقي في مناقب الشافعي (2/ 207) بإسناد صحيح.

([11]) ينظر: تلبيس إبليس (ص: 327).

([12]) ينظر: مدارج السالكين (3/ 124).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

هل يُمكِن الاستغناءُ عن النُّبوات ببدائلَ أُخرى كالعقل والضمير؟

هذه شبهة من الشبهات المثارة على النبوّات، وهي مَبنيَّة على سوء فَهمٍ لطبيعة النُّبوة، ولوظيفتها الأساسية، وكشف هذه الشُّبهة يحتاج إلى تَجْلية أوجه الاحتياج إلى النُّبوة والوحي. وحاصل هذه الشبهة: أنَّ البَشَر ليسوا في حاجة إلى النُّبوة في إصلاح حالهم وعَلاقتهم مع الله، ويُمكِن تحقيقُ أعلى مراتب الصلاح والاستقامة من غير أنْ يَنزِل إليهم وحيٌ […]

هل يرى ابن تيمية أن مصر وموطن بني إسرائيل جنوب غرب الجزيرة العربية؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة (تَنتقِل مصر من أفريقيا إلى غرب جزيرة العرب وسط أوديتها وجبالها، فهي إما قرية “المصرمة” في مرتفعات عسير بين أبها وخميس مشيط، أو قرية “مصر” في وادي بيشة في عسير، أو “آل مصري” في منطقة الطائف). هذا ما تقوله كثيرٌ من الكتابات المعاصرة التي ترى أنها تسلُك منهجًا حديثًا […]

هل يُمكن أن يغفرَ الله تعالى لأبي لهب؟

من المعلوم أن أهل السنة لا يشهَدون لمعيَّن بجنة ولا نار إلا مَن شهد له الوحي بذلك؛ لأن هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، ولكننا نقطع بأن من مات على التوحيد والإيمان فهو من أهل الجنة، ومن مات على الكفر والشرك فهو مخلَّد في النار لا يخرج منها أبدًا، وأدلة ذلك مشهورة […]

مآخذ الفقهاء في استحباب صيام يوم عرفة إذا وافق يوم السبت

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فقد ثبت فضل صيام يوم عرفة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (‌صِيَامُ ‌يَوْمِ ‌عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ)([1]). وهذا لغير الحاج. أما إذا وافق يومُ عرفة يومَ السبت: فاستحبابُ صيامه ثابتٌ أيضًا، وتقرير […]

لماذا يُمنَع من دُعاء الأولياء في قُبورهم ولو بغير اعتقاد الربوبية فيهم؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة هناك شبهة مشهورة تثار في الدفاع عن اعتقاد القبورية المستغيثين بغير الله تعالى وتبرير ما هم عليه، مضمونها: أنه ليس ثمة مانعٌ من دعاء الأولياء في قبورهم بغير قصد العبادة، وحقيقة ما يريدونه هو: أن الممنوع في مسألة الاستغاثة بالأنبياء والأولياء في قبورهم إنما يكون محصورًا بالإتيان بأقصى غاية […]

الحج بدون تصريح ..رؤية شرعية

لا يشكّ مسلم في مكانة الحج في نفوس المسلمين، وفي قداسة الأرض التي اختارها الله مكانا لمهبط الوحي، وأداء هذا الركن، وإعلان هذه الشعيرة، وما من قوم بقيت عندهم بقية من شريعة إلا وكان فيها تعظيم هذه الشعيرة، وتقديس ذياك المكان، فلم تزل دعوة أبينا إبراهيم تلحق بكل مولود، وتفتح كل باب: {رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ […]

المعاهدة بين المسلمين وخصومهم وبعض آثارها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة باب السياسة الشرعية باب واسع، كثير المغاليق، قليل المفاتيح، لا يدخل منه إلا من فقُهت نفسه وشرفت وتسامت عن الانفعال وضيق الأفق، قوامه لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، والإنسان قد لا يخير فيه بين الخير والشر المحض، بل بين خير فيه دخن وشر فيه خير، والخير […]

إمعانُ النظر في مَزاعم مَن أنكَر انشقاقَ القَمر

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الحمد لله رب العالمين، وأصلى وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن آية انشقاق القمر من الآيات التي أيد الله بها نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فكانت من أعلام نبوّته، ودلائل صدقه، وقد دلّ عليها القرآن الكريم، والسنة النبوية دلالة قاطعة، وأجمعت عليها […]

هل يَعبُد المسلمون الكعبةَ والحجَرَ الأسودَ؟

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وهدنا صراطه المستقيم. وبعد، تثار شبهة في المدارس التنصيريّة المعادية للإسلام، ويحاول المعلِّمون فيها إقناعَ أبناء المسلمين من طلابهم بها، وقد تلتبس بسبب إثارتها حقيقةُ الإسلام لدى من دخل فيه حديثًا([1]). يقول أصحاب هذه الشبهة: إن المسلمين باتجاههم للكعبة في الصلاة وطوافهم بها يعبُدُون الحجارة، وكذلك فإنهم يقبِّلون الحجرَ […]

التحقيق في نسبةِ ورقةٍ ملحقةٍ بمسألة الكنائس لابن تيمية متضمِّنة للتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وبآله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ تحقيقَ المخطوطات من أهمّ مقاصد البحث العلميّ في العصر الحاضر، كما أنه من أدقِّ أبوابه وأخطرها؛ لما فيه من مسؤولية تجاه الحقيقة العلمية التي تحملها المخطوطة ذاتها، ومن حيث صحّة نسبتها إلى العالم الذي عُزيت إليه من جهة أخرى، ولذلك كانت مَهمة المحقّق متجهةً في الأساس إلى […]

دعوى مخالفة علم الأركيولوجيا للدين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: عِلم الأركيولوجيا أو علم الآثار هو: العلم الذي يبحث عن بقايا النشاط الإنساني القديم، ويُعنى بدراستها، أو هو: دراسة تاريخ البشرية من خلال دراسة البقايا المادية والثقافية والفنية للإنسان القديم، والتي تكوِّن بمجموعها صورةً كاملةً من الحياة اليومية التي عاشها ذلك الإنسان في زمانٍ ومكانٍ معيَّنين([1]). ولقد أمرنا […]

جوابٌ على سؤال تَحَدٍّ في إثبات معاني الصفات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة أثار المشرف العام على المدرسة الحنبلية العراقية -كما وصف بذلك نفسه- بعضَ التساؤلات في بيانٍ له تضمَّن مطالبته لشيوخ العلم وطلبته السلفيين ببيان معنى صفات الله تبارك وتعالى وفقَ شروطٍ معيَّنة قد وضعها، وهي كما يلي: 1- أن يكون معنى الصفة في اللغة العربية وفقَ اعتقاد السلفيين. 2- أن […]

معنى الاشتقاق في أسماء الله تعالى وصفاته

مما يشتبِه على بعض المشتغلين بالعلم الخلطُ بين قول بعض العلماء: إن أسماء الله تعالى مشتقّة، وقولهم: إن الأسماء لا تشتقّ من الصفات والأفعال. وهذا من باب الخلط بين الاشتقاق اللغوي الذي بحثه بتوسُّع علماء اللغة، وأفردوه في مصنفات كثيرة قديمًا وحديثًا([1]) والاشتقاق العقدي في باب الأسماء والصفات الذي تناوله العلماء ضمن مباحث الاعتقاد. ومن […]

محنة الإمام شهاب الدين ابن مري البعلبكي في مسألة الاستغاثة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن فصول نزاع شيخ الإسلام ابن تيمية مع خصومه طويلة، امتدت إلى سنوات كثيرة، وتنوَّعَت مجالاتها ما بين مسائل اعتقادية وفقهية وسلوكية، وتعددت أساليب خصومه في مواجهته، وسعى خصومه في حياته – سيما في آخرها […]

العناية ودلالتها على وحدانيّة الخالق

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ وجودَ الله تبارك وتعالى أعظمُ وجود، وربوبيّته أظهر مدلول، ودلائل ربوبيته متنوِّعة كثيرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن دلائل الربوبية وآياتها أعظم وأكثر من كلّ دليل على كل مدلول) ([1]). فلقد دلَّت الآيات على تفرد الله تعالى بالربوبية على خلقه أجمعين، وقد جعل الله لخلقه أمورًا […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017