قيام الحجَّة عند الإمام محمد بن عبد الوهاب (بيانٌ ونقاش)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مسألة قيام الحجَّة هي إحدى المسائل المهمّة التي وقع فيها خلافٌ كبيرٌ بين علماء المسلمين، وهي من المسائل التي يترتَّب على الخطأ فيها إشكالات عميقة في قضية إنزال الأحكام ومن ثمَّ قضايا استباحة الأموال والدماء، وكثيرٌ من الجماعات الغالية أوغلت في الدماء لفهمهم الخاطئ لهذه المسألة، وقد كتب العلماء فيها قديمًا وحديثًا بحوثًا عديدةً، وبيَّنوا أصلها وكيفيّتها وشروطها.
كما أنَّ الساحة العلميَّة قد شهدت نقاشاتٍ كثيرةً في تحرير مذاهب الأئمة الكبار في هذه المسألة، ومنهم شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب، فقد اختلف الدارسون لمنهجه في بيان حقيقة قيام الحجة عنده، ونحاول في هذه الورقة أن نقف على التقرير الصحيح اعتمادًا على نصوصه ومواقفه، وذلك بأن لا نعتمد صنفًا منها ونترك صنفًا آخر؛ بل نجعلها كالكل الذي يفسر بعضه بعضًا، ولا شكَّ أن الانصراف عن هذا المنهج هو سبب استشكال كلام الشيخ رحمه الله وتضارب الآراء في فهمه؛ فهناك من لهم ميلٌ إلى الإرجاء، وتطرف في الإعذار بالجهل، وآخرون على عكسهم، والكل منهم يتنازعون الشيخ محمد بن عبدالوهاب ويريدونه إليهم.
فالأولون يريدون أن يثبتوا أنَّه يعذر بالجهل مطلقًا، والآخرون يريدون أن يجعلوه غير عاذر بالجهل مطلقًا، أو يعذر بالجهل عذرًا صوريًّا.
والصواب سهل يسير جدًّا بين ذلك، فالإمام يعذر قبل بلوغ الدعوة واشتهارها، ولا يعذر بعد بلوغ الدعوة، وهذا الاشتهار هو أمارة قيام الحجة.
وقبل أن ندلف إلى بيان ذلك نقدم بمقدمات منهجيَّة:
أوًلا: إنَّ تقرير مذهب إمام معيَّن يدخله الاجتهاد في تتبُّع نصوصه، وجمع بعضها إلى بعض، والاعتماد على مواقفه، وإعماله هو لتقريراته، فينبغي لطلاب العلم والدارسين أن يُبقوا المسألة في إطارها البحثي والعلمي، ولا يخرجوا بها إلى التَّبديع والتضليل والتفسيق لأصحاب الرأي المختلف مادام البحث متخذًا المنهج العلمي في الفهم والاستنتاج، بعيدًا عن الهوى والمواقف الشخصية المسبقة، فإن هذه الآفات الثلاث؛ أعني: البعد عن المنهج العلمي، والهوى، والمواقف المسبقة من الأشخاص؛ من أعظم أدواء التفرُّق والتشرذم، والبعد عنها سبيل الوئام والتصافي وبلوغ الحق.
ثانيًا: إننا حين نتحدَّث عن قيام الحجة فإنّنا لا نعني أنَّ كلَّ أحدٍ يجب أن يقف على رأسه من يبلِّغه الخطاب الشرعي، ويفهِّمه إيّاه فهمًا صحيحًا!
لا؛ ليس الأمر كذلك، فقد يكون الإنسان على خطأ لكن يبلغه القول الصحيح، ويعرف معناه ولو كان بعيدا، كما قد يكون في حاضرة علم ثم هو يعرض عن العلم، فمثل هذين قامت عليهما الحجة. ونؤكد على هذا حتى لا نكرره في كل مرة نقول فيها: يجب قيام الحجة لإنزال الحكم على المعين.
ثالثًا: إنَّنا في هذه القضية لا نتحدَّث عن الكفار الأصليين، فبعض الناس يستغلّ هذه المسألة ليمرر مذهبه في أنَّ غير المسلم ليس بكافر ما لم تقم عليه الحجة، وهذا غير صحيح، فكل من لم يدخل في عقد الإسلام بالشهادتين فهو كافر لا مسلم، ويترتب على هذا جميع أحكام الكفر؛ كمسائل التوارث والزواج ومسائل الوفاة وغير ذلك.
أما مسألتنا فهي تقرير مذهب الإمام محمد بن عبد الوهاب في قيام الحجة على من وقع في بعض صور الشرك، فمتى يكون معذورًا ولا نحكم عليه بالكفر، ومتى لا يكون معذورًا ونحكم عليه بذلك.
ويمكن بيان مذهب الإمام محمد بن عبد الوهاب في هذه المسألة عبر هذين الأصلين:
الأصل الأول: التَّصريح بشرط قيام الحجَّة في تكفير المعين:
قيام الحجة ممَّا توارد عليه علماء الإسلام وإن لم يسمِّه بعض المتقدمين بذلك، وكتب فيها كلُّ من كتب عن ضوابط التكفير، أو من كتب في الرد على أهل الإرجاء؛ فهو بذلك بابٌ منضبط عند أهل السنة والجماعة بالخصوص لوسطيَّة أهل السنة بين الوعد والوعيد، ممَّا يجعلهم أيضًا يقدمون منهجًا وسطًا في باب التكفير؛ باعتمادهم على الكتاب والسنة.
ومن أمثلة اشتراط أهل السنة والجماعة قيامَ الحجَّة في إنزال الأحكام على المعين: قول الشافعي رحمه الله مبينًا وجوب قيام الحجَّة قبل الحكم على معين: “لله أسماء وصفات لا يسع أحدا ردُّها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفَر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يُعذَر بالجهل”([1]).
ويقول ابن بطال رحمه الله: “وأمَّا قول البخاري: (باب قتال الخوارج بعد إقامة الحجة عليهم) فمعناه أنَّه لا يجب قتال خارجي ولا غيره إلا بعد الإعذار إليه، ودعوته إلى الحق، وتبيين ما ألبس عليه، فإن أبى من الرجوع إلى الحق وجب قتاله بدليل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة: 115]”([2]).
ويقول ابن حزم رحمه الله: “ولا خلاف في أنَّ امرأً لو أسلم ولم يعلم شرائع الإسلام فاعتقد أن الخمر حلال، وأن ليس على الإنسان صلاة، وهو لم يبلغه حكم الله تعالى؛ لم يكن كافرًا بلا خلاف يعتدُّ به، حتى إذا قامت عليه الحجة فتمادى، حينئذ بإجماع الأمة فهو كافر”([3]).
ويقول ابن تيمية رحمه الله: “وليس لأحد أن يكفِّر أحدًا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبيَّن له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يَزُلْ ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة”([4]).
وغير ذلك من النصوص الكثيرة التي تثبت هذا الأمر، وأنه متقرّر عند السلف، معروف عندهم.
وهذا هو أيضًا مذهب الإمام محمد بن عبد الوهاب، فإنَّه يرى أنه لا يجوز الحكم على معين إلا بعد إقامة الحجة عليه، وله في تقرير هذا نصوصٌ واضحة كثيرة في كتبه.
فتارةً ينفي عن نفسه التَّكفير قبل قيام الحجة، يقول رحمه الله: “وأما ما ذكر الأعداء عني أني أُكَفِّر بالظنِّ وبالموالاة، أو أكفِّر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة، فهذا بهتانٌ عظيم، يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله”([5]).
ويقول أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب مبيِّنين منهجَه: “ونحن لا نكفِّر إلا رجلًا عرف الحقَّ وأنكره بعدما قامت عليه الحجة، ودُعي إليه فلم يقبل، وتمرد وعاند، وما ذكر عنَّا من أنَّا نكفِّر غير من هذا حاله فهو كذب علينا”([6])، ثم قالوا: “فتأمل كونه رحمه الله أطلق على هذا القول أنَّه كفر ولم يتعرض لتكفير قائله، فافهم الفرق؛ لأن إطلاق الكفر على المعين الذي لم تقم عليه الحجة لا يجوز”([7]).
وتارة أخرى بالتصريح بأنَّ إنزال الحكم على المعيَّن إنَّما يكون بعد إقامة الحجة، فقد نقل الشيخ محمد بن عبد الوهاب كلام شيخ الإسلام ابن تيمية مقررًا له فقال: “قال رحمه الله: أنا من أعظم الناس نهيًا عن أن ينسب معيّن إلى تكفير، أو تبديع، أو تفسيق، أو معصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرساليَّة التي من خالفها كان كافرًا تارة، وفاسقًا أخرى، وعاصيًا أخرى، انتهى كلامه. وهذا صفة كلامه في المسألة في كل موضع وقفنا عليه من كلامه، لا يذكر عدم تكفير المعين إلا ويصله بما يزيل الإشكال أنَّ المراد بالتوقف عن تكفيره قبل أن تبلغه الحجة، وأما إذا بلغته الحجة حكم عليه بما تقتضيه تلك المسألة من تكفير أو تفسيق أو معصية”([8]).
ويصرح رحمه الله بأنه لا يكفر إلا من قامت عليه الحجة بعد بيانٍ وإيضاح ثم أصر على فعله، يقول رحمه الله: “كذلك تمويهه على الطغام بأن ابن عبد الوهاب يقول: الذي ما يدخل تحت طاعتي كافر، ونقول: سبحانك هذا بهتانٌ عظيم! بل نشهد الله على ما يعلمه من قلوبنا بأن من عمل بالتوحيد، وتبرأ من الشرك وأهله، فهو المسلم في أي زمان، وأي مكان. وإنَّما نكفِّر من أشرك بالله في إلهيته بعدما نبين له الحجة على بطلان الشرك، وكذلك نكفر من حسنه للناس، أو أقام الشبه الباطلة على إباحته، وكذلك من قام بسيفه دون هذه المشاهد التي يشرك بالله عندها وقاتل من أنكرها وسعى في إزالتها، والله المستعان، والسلام”([9]).
ويقول رحمه الله رابطًا وقوع التكفير بالمعرفة، فلا يقع التكفير على معين إلا بعد أن يُعرَّف بالحق، يقول: “بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه من المسلمين؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: ما ذكر لكم عني أني أكفِّر بالعموم، فهذا من بهتان الأعداء. وكذلك قولهم: إني أقول: من تبع دين الله ورسوله وهو ساكن في بلده أنه ما يكفيه حتى يجيء عندي، فهذا أيضًا من البهتان. إنما المراد: اتباع دين الله ورسوله في أي أرض كانت. ولكن نكفر من أقر بدين الله ورسوله ثم عاداه وصد الناس عنه، وكذلك من عبد الأوثان بعدما عرف أنها دين للمشركين وزينة للناس، فهذا الذي أكفِّره، وكل عالم على وجه الأرض يكفّر هؤلاء، إلا رجلًا معاندًا أو جاهلًا، والله أعلم. والسلام”([10]).
ولابنه عبد الله تقريراتٌ كثيرة تشرح أقوال والده الإمام محمد بن عبد الوهاب ومذهبه، فقد سُئل رحمه الله عن حال من صدر منه كفر من غير قصد منه بل هو جاهل، هل يعذر، سواء كان قولًا أو فعلًا أو توسلًا؟ فأجاب: “إذا فعل الإنسان الذي يؤمن بالله ورسوله ما يكون فعله كفرًا أو اعتقاده كفرًا جهلًا منه بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يكون عندنا كافرًا، ولا نحكم عليه بالكفر حتى تقوم عليه الحجة الرسالية التي يكفر من خالفها، فإذا قامت عليه الحجة، وبيّن له ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصرَّ على فعل ذلك بعد قيام الحجة عليه، فهذا هو الذي يكفر”([11]).
وانظر إلى هذا القول البيِّن في أنه يجب التبليغ بلاغًا واضحًا، ويعرف الإنسان أن ما يفعله هو الشرك، وبهذا تقوم الحجَّة، يقول عبد الله: “في أزمنة الفترات وغلبة الجهل لا يكفر الشخص المعين بذلك، حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة، ويبيّن له، ويعرف أن هذا هو الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله؛ فإذا بلغته الحجة، وتليت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ثم أصر على شركه فهو كافر، بخلاف من فعل ذلك جهالة منه، ولم ينبّه على ذلك؛ فالجاهل فعله كفر، ولكن لا يحكم بكفره إلا بعد بلوغ الحجّة إليه، فإذا قامت عليه الحجة ثم أصرَّ على شركه فقد كفر، ولو كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويصلي ويزكي، ويؤمن بالأصول الستة”([12]).
وهكذا أبناء الشيخ رحمه الله، فقد سئلوا عن أناس بأعيانهم، فبينوا أن التكفير لا يكون إلا بعد إقامة الحجة، فقد: “ورد عليهم سؤال، هذا نصه: بلغنا أنَّكم تكفِّرون أناسًا من العلماء المتقدمين، مثل ابن الفارض وغيره، وهو مشهور بالعلم، من أهل السنة. فأجابوا: ما ذكرت أنَّا نكفِّر ناسًا من المتقدمين وغيرهم، فهذا من البهتان الذي أشاعه عنا أعداؤنا، ليجتالوا به الناس عن الصراط المستقيم، كما نسبوا إلينا غير ذلك من البهتان أشياء كثيرة، وجوابنا عليها أن نقول: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]؛ ونحن لا نكفر إلا رجلا عرف الحقَّ وأنكره، بعدما قامت عليه الحجة، ودعي إليه فلم يقبل، وتمرد وعاند، وما ذكر عنا من أنا نكفر غير من هذا حاله، فهو كذب علينا”([13]).
وهذه النصوص واضحة صريحة من هؤلاء الأئمة في أن تكفير المعيَّن لا يمكن أن يكون إلا بعد قيام الحجة.
الأصل الثاني: هل يشترط الفهم في إقامة الحجة؟!
ما سبق بيانه من اشتراط قيام الحجة لا إشكال فيه، ولم يختلف فيه الناس في بيان مذهب الإمام محمد بن عبد الوهاب، أستثني من كان له هوى ضد دعوة الشيخ رحمه الله وقصد إلى رميها بالبهت ليصرف الخلق عنها، أو كان من دعاة التكفير الذين يريدون زوراً أن يُرَوِّجوا لأنفسهم بكونهم أتباع للدعوة، والدعوة منهم براء!
لكن الخلاف كل الخلاف في بيان كيفيَّة قيام الحجة، فهل تقوم الحجة بمجرد وصول القرآن ومجرد البلاغ، أم يشترط فهم الحجة بأن يعرف مدلول اللفظ ويفهم المعنى الصحيح منها؟
وقد اختلف الدارسون لمنهج الإمام محمد بن عبد الوهاب في هذه المسألة، فمنهم من جعله متَّبعًا للسلف بالقول بوجوب فهم الحجة وعدم كفاية بلوغها دون فهم، ومنهم من جعل منهجه هو القول بقيام الحجة بمجرد البلوغ([14]) .
والصحيح أن منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو اشتراط الفهم لقيام الحجة، وقد بين ذلك بكلامه، وبينته مواقفه وتعامله مع مخالفيه، كما نصَّ عليه بعض أبنائه، لكن الإشكال الذي وقع إنما وقع من أجل عدم تحرير نوعية الفهم الذي اشترطه ويشترطه أهل السنة من أجل قيام الحجة، فالإمام له نصوصٌ كثيرة تبين اشتراط الفهم، وعلى هذا الأصل تعامل مع مخالفيه كما سيأتي بيانه، كما أن له نصوصًا يصرح فيها بأنه لا يشترط الفهم في قيام الحجة! وهي النصوص التي يتمسَّك بها من يقول: إن منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو عدم اشتراط الفهم وإنما الاكتفاء ببلوغ النص لتقوم الحجة.
ولأجل تحرير مذهب الإمام محمد بن عبد الوهاب نحتاج أن نجمع أقواله في المسألة، ونحصّل قوله من مجموع أقواله ونصوصه، وكذلك تعامله النابع عن تقريره، ولا يصح الاعتماد على نصّ دون آخر بشكل يظهر التناقض في موقف الإمام في المسألة، وسنورد معنى الفهم المشروط في قيام الحجة، ثم نعرج على النصوص التي تبين أنه يشترط الفهم، وأن نفيه لاشتراط الفهم إنما هو نفيٌ خاصّ لنوعٍ خاص من الفهم، ونختم بذكر أبرز نصٍّ اعتمد عليه من يرى أن الإمام محمد بن عبد الوهاب لا يرى اشتراط الفهم، فأقول وبالله التوفيق:
أولا: معنى الفهم الذي يشترط في قيام الحجة:
هو: إدراك المعنى الصحيح للحجة.
وبناءً عليه فيشترط لقيام الحجة شرطان:
أولاهما: بلوغ الحجة.
وثانيهما: إدراك معناها إدراكًا صحيحًا.
فمتى ما بلغه الخطاب وفهمه فهمًا صحيحا قامت الحجة عليه، فالعبرة إذن بالفهم الصحيح، فقد تقوم الحجة بمجرد بلوغ القرآن لصحَّة ذهن من بلغته تلك الحجة وفهمِه، وكونه في حاضرة علم تقرّر القول الصحيح، وقد لا يكفي مجرد البلوغ لكثرة التقريرات المخالفة التي تنتشر في بلدة ما، فتحول بين هذا المخاطَب وبين الفهم الصحيح للحجة.
وعلى هذا تقريرات أهل السنة والجماعة، وكذلك الإمام محمد بن عبد الوهاب، يقول ابن تيمية رحمه الله: “وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها”([15]). وهذا نصٌّ واضح من شيخ الإسلام ابن تيمية على أنَّ من الناس من لم تبلغه الحجة أصلا، ومن الناس من بلغته ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وكل هؤلاء معذورون.
وينبغي أن ينبه هنا أننا ما دمنا اشترطنا الفهم الصحيح، فإن هذا الفهم يختلف من شخص لآخر، ومن منطقة لأخرى، ومن زمان لآخر، ومن فَهِمَ هذا عرف لماذا لم يكفّر الإمام محمد بن عبد الوهاب في مسألة واحدة من كان على قبّة الكواز أو قبر البدوي، وكفر لأجلها أو لمثلها بعض من كان قريبًا منه في نجد، وكانت بينه وبينهم مراسلات، فالكل قد بلغتهم الحجَّة، وهم في بلاد إسلامية، ومع هذا حكم بالكفر على أناس دون آخرين؛ مراعاة لهذه النقطة، وهي قضية فهم الحجة؛ إذ إنَّ فهمَ من كانوا في مكان الدعوة وراسلهم الإمام محمد بن عبد الوهاب وأرسل لهم دعاته، وكلموهم وبينوا لهم بلهجاتهم معاني الآيات؛ فَهْمُ هؤلاء ليس كفهمِ من لم يبلغهم ذلك، فليست العبرة فقط بكون المسألة من المسائل الظاهرة فيُكتفى فيها بالبلاغ، وبكون المسألة خفية فلا يُكتفى فيها بالبلاغ؛ لأن ظهور المسألة من عدمها هو أيضًا خاضع للزمان والمكان، فالاعتبار الأول عند الإمام محمد بن عبد الوهاب هو النظر للمعيَّن الواقع في شيء من الشرك ومراعاة الأحوال التي تحيط به.
وفي بيان أن الفهم نسبيّ يختلف من مكان لآخر، ومن زمان لآخر، يقول ابن القيم رحمه الله: “قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أُخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له، فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئًا ولا يتمكن من الفهم”([16]).
فانظر كيف جعل من لم يفهم الخطاب أنَّه لم تقم عليه الحجة، وليس هذا خاصًّا بالأعجمي، بل حتى العربي الذي لا يفهم الحجة فهمًا صحيحا، وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله في قوله تعالى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]: “قد عُلم أنَّ المراد أنَّه يسمعه سمعًا يتمكَّن معه من فهم معناه، إذ المقصود لا يقوم بمجرَّد سمع لفظ لا يتمكن معه من فهم المعنى، فلو كان غير عربي وجب أن يترجم له ما يقوم به عليه الحجة، ولو كان عربيًّا وفي القرآن ألفاظٌ غريبة ليست لغته وجب أن يبيّن له معناها، ولو سمع اللفظ كما يسمعه كثير من الناس ولم يفقه المعنى وطلب منا أن نفسّره له ونبين له معناه فعلينا ذلك، وإن سألنا عن سؤال يقدح في القرآن أجبناه عنه”([17]).
وفي تقرير هذا يقول العثيمين رحمه الله: “الذي نراه: أنَّ الحجة لا تقوم إلا إذا بلغت المكلف على وجهٍ يفهمها، لكن نعرف أن أفهام الناس تختلف، من الناس من يفهم من هذا النص معنًى جليًّا مثل الشمس، ومعنًى لا يحتمل عنده أيّ شك، ومن الناس من يفهم النص فهمًا أوليًّا مع احتمال شك في قلبه، فالأول في قمة المعرفة والعلم، والثاني في أول العلم، والثاني قد قامت عليه الحجة لا شك؛ لأنه فهم منهُ ما يراد به، لكن ليس على الفهم التام الذي فهمته الطائفة الأولى كأبي بكر وعمر، وأما من بلغه النص ولكنه لم يعرف منه معنًى أصلًا كرجل أعجمي بلغه النص باللغة العربية ولكن لا يدري ما معنى هذا النص، فهذا لم تقم عليه الحجة بلا شك، ودليل هذا قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم: 4] أي: بعد البيان بهذا اللسان الذي يفهمونه يضل الله من يشاء فلا يقبل، ويهدي من يشاء فيقبل… فالذي نرى: أنه لا بد من بلوغ الحجة وفهم معناها على وجه يتبين له الحق“([18]). فاشترط أن يكون فهم الحجة على وجه يتبين له الحق، ولا يكون هذا بمجرد البلاغ.
ثانيًا: بيان اشتراط الفهم عند الإمام محمد بن عبد الوهاب:
بينَّا أنَّ الإمام محمد بن عبد الوهاب يشترط الفهم لقيام الحجة، وهذا ما تدل عليه نصوصه ومواقفه، والمنهج السليم في بيان موقف الإمام هو أننا نجمع كل أقواله فننظر فيها، وبعد التأمُّل ندرك أنه يشترط الفهم، وأما نصوصه التي فيها عدم اشتراط الفهم فيعني به فهمًا معينًا وهو فهم الهداية والتوفيق، ويتبين ذلك بالآتي:
1- يقول رحمه الله مبينًا اشتراط الفهم ونافيًا فهمًا معينًا خاصًّا، وهو فهم التوفيق، أو فهمًا عاليا بحيث يعرف به بطلان حجته: “فإذا كان المعيَّن يكفر إذا قامت عليه الحجة، فمن المعلوم أن قيامها ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله مثل فهم أبي بكر رضي الله عنه، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله، وخلا من شيء يعذر به، فهو كافر، كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن مع قول الله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 46]”([19]).
وانظر كيف اشترط هنا ثلاثة شروط:
أ- أن يبلغَه كلامُ الله ورسوله.
ب- أن يفهمه فهمًا صحيحًا وإن لم يبلغ درجة فهم أبي بكر رضي الله عنه.
ج- خلوّه من شيءٍ يعذَر به.
فالفهم إذَن شرط في قيام الحجة، لكن الفهم المنفيّ اشتراطُه هو فهم كفهم أبي بكر رضي الله عنه، وذلك بأن يفهمه دون أن يكون له شكّ أو ريب، إلى غير ذلك من المعاني.
2- يؤكّد هذا نصٌّ واضحٌ يبيِّن خطأ من فرَّق بين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية في هذا الباب وزعم أن الإمام محمد بن عبد الوهاب لا يشترط فهمًا للحجة في المسائل الظاهرة، يقول رحمه الله: “كل من بلغه القرآن فليس بمعذور؛ فإن الأصول الكبار التي هي أصل دين الإسلام قد بيَّنها الله تعالى في كتابه، وأوضحها وأقام بها حجته على عباده، وليس المراد بقيام الحجة أن يفهمها الإنسان فهمًا جليًّا كما يفهمها من هداه الله ووفقه وانقاد لأمره، فإن الكفار قد قامت عليهم الحجة من الله تعالى، مع إخباره بأنه جعل على قلوبهم أكنَّة أن يفقهوا كلامه، فقال: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 46]”([20]).
وفي هذا النص أيضًا نرى ربط قيام الحجة بالفهم، لكنه ينفي الفهم الجليّ الذي يفهمه من هداه الله ووفقه، ومعنى ذلك أنه يشترط فهمًا للحجة.
3- ممَّا يؤكد هذا المعنى أيضًا ما بيّناه سابقًا من أن الإمام محمد بن عبد الوهاب كفَّر أناسًا دون آخرين رغم أن الحجة قد بلغتهم كلهم، وكلهم قد أخطؤوا في مسائل كبيرة تعدّ من أصول الدين، ومع ذلك كان هذا الفرق في التعامل، وسببه هو أنه يرى أن من كان في حاضرة علم، ووصلته الحجة، وهو ممن يفهم الحجة فهمًا صحيحا، فقد قامت عليه الحجة بمجرد بلوغها، أما من كان بعيدًا، واستولت على بلاده أفكار خاطئة تحول بينه وبين الفهم الصحيح، مع بلوغ القرآن، فإنه لا يحكم بكفره، وفي بيان هذا يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: “حتى إنه -أي: الشيخ محمد بن عبد الوهاب- لم يجزم بتكفيره الجاهل الذي يدعو غير الله من أهل القبور أو غيرهم إذا لم يتيسّر له من ينصحه ويبلّغه الحجة التي يكفر تاركها، قال في بعض رسائله: وإذا كنا لا نقاتل من يعبد قبة الكواز -في العراق- حتى نتقدّم بدعوته إلى إخلاص الدين لله، فكيف نكفر من لم يهاجر إلينا وإن كان مؤمنًا موحدًا؟! وقال: وقد سئل عن مثل هؤلاء الجهال فقرر أن من قامت عليه الحجة وتأهل لمعرفتها يكفر بعبادة القبور”([21])، وهذا واضح في أنه لم يكفّر هؤلاء الذين يعبدون القبور من أجل جهلهم، كما أن الشيخ عبد اللطيف يصرح ويقول: “فقرر أن من قامت عليه الحجة وتأهل لمعرفتها يكفر بعبادة القبور”.
وفي نصٍّ ظاهر في هذا السياق يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب: “وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من ينبّههم، فكيف نكفّر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا، أو لم يكفِّر ويقاتل؟!”([22]). ومعلومٌ أن قبة البدوي في مصر وهي دار إسلام، والقرآن منتشر فيه في كل مكان، ومع ذلك لم يكفرهم ولم يقل: بَلَغْتُهم الحجة فقامت عليهم بمجرد البلوغ، بل عذرهم بجهلهم.
فالحجة إذن قد تبلغ، لكن المكان والزمان المحيط بالمعيَّن يجعلانه لا يفهم الحجة الفهم الصحيح، فلا يحكم عليه حينئذ، وانظر إلى تقرير عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في أصل مسألتنا، وهو يتحدّث عن رجل عرف الأدلة واطّلع عليها، لكنه لم يفهمها فهمًا صحيحًا، فما حكمه؟ يقول رحمه الله: “فإن قلت:… فما القول فيمن حرر الأدلة واطلع على كلام الأئمة القدوة واستمر مُصِرًّا على ذلك حتى مات؟ قلت: ولا مانع أن نعتذر لمن ذكر، ولا نقول: إنه كافر، ولا لما تقدم أنه مخطئ وإن استمر على خطئه، لعدم من يناضل عن هذه المسألة في وقته، بلسانه وسيفه وسنانه، فلم تقم عليه الحجة، ولا وضحت له المحجة؛ بل الغالب على زمن المؤلفين المذكورين التواطؤ على هجر كلام أئمة السنة في ذلك رأسا، ومن اطلع عليه أعرض عنه قبل أن يتمكن في قلبه”([23]).
4- ممَّا يؤكد أيضًا على أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يشترط فهم الحجة وإدراك المعنى الصحيح: أنَّه يعذر الإنسان بالجهل، ونصوصه في هذا كثيرة جدًّا، ومعلوم أن الجهل لا يرتفع بمجرد بلوغ الكلام ما لم يفهمه كما يحصل للأعجمي مثلا حين يبلغه نصّ قرآني بلغة عربية لا يفهمها، فإن هذا البلوغ لا يرتفع به الجهل، ولا يجب به تكليف، وكذلك العربي الذي بلغه الخطاب لكنه لم يفهمه فهمًا صحيحًا.
فهذا هو مذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهو مذهب السلف لا اختلاف بينهم، ويظهر هذا عند جمع نصوصه رحمه الله، يقول الشيخ أحمد الرضيمان: “ونحن إذ نقرر أن من سمات منهج الإمام محمد التفريق بين قيام الحجة وفهم الحجة، فليس المراد أن الإمام لا يشترط الفهم مطلقًا لقيام الحجة، وإنما الذي لا يشترطه الإمام محمد هو الفهم المؤدي إلى التوفيق والاهتداء كما مثل له بفهم أبي بكر رضي الله عنه، أما قيام الحجة فتقتضي الإدراك وفهم الدلالة والإرشاد وإن لم يتحقق توفيق أو انتفاع“([24]).
إيرادٌ ونقاش:
سبق بيان أنَّ هناك من يرى أنَّ الإمام محمد بن عبد الوهاب يرى قيام الحجة بمجرد بلوغها ولا يشترط فهمها، وقد اعتمد معظم من قرر ذلك على كلام للإمام عدوه نصًّا واضحًا في تقرير مذهبه، وهذا النصُّ هو ما يقول فيه الإمام رحمه الله: “ما ذكرتم من قول الشيخ -أي: ابن تيمية رحمه الله-: كل من جحد كذا وكذا، وقامت عليه الحجة، وأنكم شاكون في هؤلاء الطواغيت وأتباعهم، هل قامت عليهم الحجة؟ فهذا من العجب، كيف تشكون في هذا وقد أوضحته لكم مرارًا؟! فإن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسألة خفية، مثل الصرف والعطف، فلا يكفر حتى يعرف. وأمَّا أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه، فإن حجة الله هو القرآن، فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة؛ ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وبين فهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين من المسلمين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]، وقيام الحجة نوع، وبلوغها نوع، وقد قامت عليهم، وفهمهم إياها نوع آخر، وكفرهم ببلوغها إياهم وإن لم يفهموها”([25]).
وهذا النصُّ يمكن الاعتماد عليه في تقرير أن مذهب الإمام هو القول بقيام الحجة بمجرد بلوغها في حال أنه لم ترد له نصوصٌ أخرى في الباب، وفي حال أن تطبيقاته كانت موافقة لهذا النص، لكننا نرى أن نصوصه الأخرى كلها تقيِّد هذا النص وتشرح نوع الفهم المنفي هنا، كما أنَّ تطبيقات الشيخ رحمه الله تؤكد أن المراد هو أنه لا يشترط نوع الفهم الذي ذكرناه سابقا، وهو فهم الهداية، أو فهم عال كفهم أبي بكر رضي الله عنه.
وعند التأمل في هذا النص ندرك أنَّه لا يخدش تقريرنا بأن مذهب الإمام هو القول بقيام الحجة حال بلوغها وفهمها فهمًا صحيحًا، ويبين ذلك أمور:
1- أنَّه استثنى في أوله صنفين: (حديث عهد بإسلام، ومن نشأ في بادية بعيدة)، ومفهوم الكلام: أن أصول الدين يكفي في قيام الحجة فيها بلوغ الحجة، إلا حديث عهد بإسلام أو من نشأ ببادية بعيدة.
وهذا كاف في بيان النص، فإنَّنا إذا استثنينا هؤلاء بقي من تبلغه الحجة وهو يفهمها فهمًا صحيحًا لصحَّة أدواته، وكونه في ديار علم ينتشر فيه الفهم الصحيح، أو هناك من يدعو إليه ويبينه، كديار نجد زمن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وقد بينَّا سابقًا أن هناك من يكفيه بلوغ الحجة له؛ لأنه يمكنه أن يفهمها فهمًا صحيحا، فمجرد البلوغ يكفي في قيام الحجة، وهو ما يفيده هذا النص إذا استثنينا الصنفين، خاصة إذا عرفنا أن من نشأ ببداية بعيدة لا يعني أنه نشأ في بلاد الكفار، ولكن نشأ في ديار يغيب فيها الفهم الصحيح وينتشر فيها الفهم الخاطئ، وهو ما يبين لنا سبب عدم تكفير الإمام لمن على قبة الكواز وقبر البدوي وغيرهم، مع الحكم بالكفر على أعيان كانت بينه وبينهم مراسلات وبيان وإيضاح، فلم يشترط فيهم انتفاء شبهتهم، بل حكم عليهم بالكفر لأن الحجة قد بلغتهم، وقد قامت عليهم لبيان الإمام محمد بن عبد الوهاب لهم.
2- إذا قلنا: إنَّ مراد الشيخ من هذا النص هو الفهم بإطلاق، أي: أن كل من بلغته الحجة فقد قامت عليه؛ لكان لازم هذا القول: أن الإمام محمد بن عبد الوهاب يكفر عموم المسلمين! ومن يقرأ في تاريخ تلك الحقبة الزمانية والمكانية يجد أنهم ليسوا بجَهَلة بالقرآن والسنة، بل كانوا مسلمين يقرؤون القرآن والسنة، ولديهم كتب العلم، وكان الشيخ محمد بن عبد الوهاب يناظرهم ويراسلهم، ومع ذلك لم يكفرهم، كما أنه لم يكفر من كان في مصر والعراق مع كونها ديارًا إسلامية يُقرأ فيها القرآن ويتلى، فلِمَ لم يُكفِّرهم إن كان مذهبه هو التكفير بمجرد وصول النصِّ؟! ومعلومٌ أنَّ الإمام كان من أبعد الناس عن تكفير عموم المسلمين، وله في ذلك نصوصٌ كثيرةٌ جدًّا، فظهر من ذلك أنه قصد ما قلناه، وأنه يشترط الفهم، ويحكم بناء على المكان والزمان وحال الشخص.
3- من ينظر في سياق هذا النص يدرك أنه إنما جاء في أناس محددين قد قامت عليهم الحجة بعد أن بين الإمام لهم التوحيد والشرك، فمثل هؤلاء لا يعذرون، ويؤيد هذا قوله في أول هذا النص: “إلى الإخوان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: ما ذكرتم من قول الشيخ: كل من جحد كذا وكذا، وقامت عليه الحجة، وأنكم شاكون في هؤلاء الطواغيت وأتباعهم، هل قامت عليهم الحجة، فهذا من العجب”([26])، وقد بينا أنَّ مجرد بلوغ الحجة كافٍ لمن يفهمها فهمًا صحيحًا كحال هؤلاء الذين بيَّن حالهم الإمام محمد بن عبد الوهاب في مواطن كثيرة، وبيَّن أنه قد قامت عليهم الحجة، ومن ذلك قوله: “وصار الخلاف في أناس معينين أقروا أن التوحيد الذي ندعو إليه دين الله ورسوله، وأن الذي ننهى عنه في الحرمين والبصرة والحسا هو الشرك بالله، ولكن هؤلاء المعينون هل تركوا التوحيد بعد معرفته وصدوا الناس عنه، أم فرحوا به وأحبوه ودانوا به وتبرؤوا من الشرك وأهله؟ فهذه ليس مرجعها إلى طالب العلم، بل مرجعها إلى علم الخاص والعام”([27])، ويَقول في رسالة أرسلها إلى سليمان بن سحيم: “إنكم تقرون أنَّ الذي يأتيكم من عندنا هو الحق، وأنت تشهد به ليلًا ونهارًا، وإن جحدت هذا شهد عليك الرجال والنساء، ثم مع هذه الشهادة أنَّ هذا دين الله، وأنت وأبوك مجتهدان في عداوة هذا الدين ليلًا ونهارًا ومن أطاعكما، وتبهتون وترمون المؤمنين بالبهتان العظيم، وتصورون على الناس الأكاذيب الكبار. فكيف تشهد أنَّ هذا دين الله ثم تتبين في عداوة من تبعه؟!
الوجه الثاني: أنك تقول: إني أعرف التوحيد، وتقر أنَّ من جعل الصالحين وسائط فهو كافر، والناس يشهدون عليك أنَّك تروح للمولد وتقرؤه لهم، وتحضرهم، وهم ينخون ويندبون مشايخهم، ويطلبون منهم الغوث والمدد، وتأكل اللقم من الطعام المعَدّ لذلك. فإذا كنت تعرف أن هذا كفر، فكيف تروح لهم وتعاونهم عليه وتحضر كفرهم؟!”([28]).
فانظر كيف أن هؤلاء قد عرفوا الحق، وأقروا بأن ما جاء به الإمام محمد بن عبد الوهاب هو الحق، ثم يخالفونه، فمثل هؤلاء الذين ذكرهم الإمام لا يعذرون بجهل الأحكام الظاهرة عندهم، والحجة قد قامت عليهم.
وتبين من هذا أنَّ هذا النَّص قد غلط من تمسَّك به في بيان موقف الإمام محمد بن عبد الوهاب في مسألة قيام الحجة؛ لأنه مرتبطٌ بنصوصه الأخرى التي تشرحه، وكذلك مواقفه في التعامل مع الواقعين في بعض صور الشرك.
وأخيرًا:
قد غلط في اشتراط فهم الحجة طائفتان:
1- طائفة ظنَّت أن فهم الحجة يعني إدراك أن هذه الحجة هي الصحيحة وأن ما تمسكوا به تبطله هذه الحجة، أي: أن هؤلاء قد فهموا الخطاب وعرفوا المعنى وعرفوا أن هذه الحجة أقوى من حججهم؛ وبناء عليه فإن الكفر عندهم هو كفر عناد واستكبار فقط، وهذا حصر لباب الحكم على المعين، فإن مذهب أهل السنة والجماعة هو الاكتفاء بفهم المعنى، فإن فهم المعنى فهمًا صحيحًا فقد قامت الحجة.
2- طائفة أخرى ظنت أن نفي بعض العلماء لاشتراط الفهم هو نفي حتى لفهم المعنى الصحيح وإدراكه، فحكموا بمجرد بلوغ النصّ، ومذهب أهل السنة والجماعة مخالف لهؤلاء ولهؤلاء؛ فإنهم يشترطون الفهم، ولكن يقصدون بالفهم إدراك المعنى الصحيح للحجة.
ومسألة قيام الحجة من المسائل المتداولة في الساحات العلمية قديمًا وحديثًا، ويبين الشيخ محمد رشيد رضا أنها أثيرت في مجلس الإمام عبد العزيز، وكانت الحجة لمن اشترط الفهم، يقول: “في هذه المسألة نظر، وقد اختلف فيها كبار علماء نجد المعاصرون في مجلس الإمام عبد العزيز بن فيصل آل سعود الملك بمكة المكرمة، فكانت الحجة للشيخ عبد الله بن بليهد بأن العبرة بفهم الحجة لا بمجرَّد بلوغها من غير فهم، وأورد لهم نصًّا صريحا في هذا من كلام المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى، فقنعوا به”([29]).
والمراد أننا نؤكد على ما قلناه سابقًا من أن تقرير مذهب إمام معين ما هو إلا اجتهادٌ قد يصيب فيه الإنسان وقد يخطئ، وينبغي أن تتداول المسألة كمسألة علمية دون الخوض في تبديع أو تفسيق من أجلها، وأسأل الله العلي القدير أن أكون قد وفِّقتُ لعرض المذهب الصحيح للإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: فتح الباري لابن حجر (13/ 407).
([2]) شرح صحيح البخاري (8/ 590).
([3]) المحلى بالآثار (12/ 135).
([4]) مجموع الفتاوى (12/ 466).
([5]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 113).
([6]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (3/ 20-23).
([7]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (ص: 23).
([8]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (9/ 405).
([9]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 128).
([10]) الرسائل الشخصية -ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب- (6/ 58).
([11]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 239).
([12]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 274).
([13]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (3/ 20-21).
([14]) وقد اعتمدوا على نص للإمام محمد بن عبدالوهاب رأوا أنه نصٌّ صريح في أنه يقول بقيام الحجة بمجرد بلوغها، وسيأتي مناقشته.
([15]) مجموع الفتاوى (23/ 346).
([16]) طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 414).
([17]) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (1/ 221-222).
([18]) لقاء الباب المفتوح (98/ 15).
([19]) الرسائل الشخصية -ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب- (6/ 220).
([20]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (11/ 73).
([21]) منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس (ص: 99).
([22]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 104).
([23]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 235).
([24]) منهج الإمام محمد بن عبد الوهاب في مسألة التكفير (ص: 69).
([25]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 93).
([26]) الرسائل الشخصية -ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب- (6/ 244).
([27]) الرسائل الشخصية -ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب- (6/ 204).
([28]) الرسائل الشخصية -ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب- (6/ 226-227).