العلامة محمد البشير الإبراهيمي فخرُ علماءِ الجزائر
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الترجمة مُستقاة من الترجمتين اللَّتين كتبهما الشيخ الإبراهيمي لنفسه، إحداهما بعنوان: (خلاصة تاريخ حياتي العلمية والعملية)، وكان كتبها بطلبٍ من مجمع اللغة العربية بالقاهرة عندما انتُخِب عضوًا عاملًا فيه سنة 1961م، وهي منشورة في آثاره (5/ 272-291)، والأخرى بعنوان: (من أنا؟)، وهو حديثٌ كتبه جوابًا عن أسئلة مجلة “المصور” المصرية، نشر سنة 1955م، وهي منشورة في آثاره (5/ 163-170)، ومما كتبه نجله الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي في تقديمه لآثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/ 5-21)، مع زياداتٍ ميَّزتُها بإحالتها إلى مصادرها. وينظر لترجمته أيضًا: الأعلام، للزركلي (6/ 54)، والنهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين، للدكتور محمد رجب البيومي (1/ 251-268)، ومعجم أعلام الجزائر، لعادل نويهض (ص: 13-14)، الإمام الرائد الشيخ الإبراهيمي، للشيخ محمد طاهر فضلاء، والبشير الإبراهيمي عظيمٌ من الجزائر، له أيضًا، والشيخ البشير الإبراهيمي إمام في مدرسة الأئمَّة، للأستاذ الدكتور محمد عمارة، ومحمد البشير الإبراهيمي (1889-1965)، للدكتور عبد المالك مرتاض، وعدَّة بحوث وأوراق علميَّة في الملتقى الدولي للإمام محمد البشير الإبراهيمي بمناسبة الذكرى الأربعين لوفاته، الجزائر، قصر الثقافة، في 13 و14 ربيع الثاني 1426هـ الموافق لـ 22-23 مايو 2005م.
اسمه ونسبه ونسبته:
هو: محمد البشير بن محمد السَّعدي بن عمر بن محمد السَّعدي بن عبد الله بن عمر الإبراهيمي.
والإبراهيمي: نسبة إلى قبيلة عربية ذات أفخاذ وبطون تعرف بـ “أولاد ابراهَم”، وهو إبراهيم بن يحيى بن مساهل، وهي إحدى قبائل سبع متجاورة في سفوح الأطلس الأكبر الشمالية المتصلة بقمم جبال أوراس من الجهة الغربية، وكل ذلك واقع في مقاطعة قسنطينة من القطر الجزائري، وترفع نسبها إلى إدريس بن عبد الله الجذم الأول للأشراف الأدارسة، وإدريس هذا -وُيعرف بإدريس الأكبر- هو الذي خلص إلى المغرب الأقصى بعد وقعة فخ بين العلويين والعباسيين، وإليه ترجع أنساب الأشراف الحسنيين في المغربين الأقصى والأوسط.
مولده:
وُلد بقرية رأس الوادي بناحية مدينة سطيف بالشرق الجزائريِّ، وذلك عند طلوع الشمس من يوم الخميس 14 شوّال سنة 1306هـ، الموافق 13 جوان سنة 1889م.
ولم يعش لوالده من الذكور غيره.
نشأته وتكوينه العلمي:
يُعدُّ بيتُ الشيخ الإبراهيمي إحدى بيوتات إقليم “ريغة” التي حفِظت رسمَ العلم وتوارَثته قرونًا من لَدن خمول بجايَة وسقوطها في القرن التاسع الهجري، فنشأ -رحمه الله- في بيت والده في بيئة ريفيَّة على البساطة في المعيشة، والطهارة في السلوك، والمتانة في الأخلاق، والاعتدال في الصحة البدنية، وبدأ في تعلّم الكتابة وحفظ القرآن الكريم في الثالثة من عمره على يد جماعة من أقاربه من حفَّاظ القرآن، تحت إشراف عمِّه الأصغَر العالم الجليل الشيخ محمد المكي الإبراهيمي -رحمه الله- فريد عصره في إتقان علوم اللسان العربي.
فلما بلغ سبعَ سنين استلمه عمُّه من معلّمي القرآن وتولّى تربيته وتعليمه بنفسه، فكان لا يفارقه لحظةً حتى في ساعات النوم، فكان هو الذي يأمره بالنوم، وهو الذي يوقظه منه، على نظام مطَّرد في النوم والأكل والدراسة، وكان لا يخليه من تلقين حتى حين يخرج معه ويماشيه للفسحة، وكانت له طريقة عجيبة في تنويع الموضوعات والمحفوظات حتى لا يملَّ.
فحفظ فنون العلم المهمَّة في ذلك السن مع استمراره في حفظ القرآن، فما بلغ تسع سنين من عمره حتى كان يحفظ القرآن الكريم حفظًا متقنًا، مع فهم مفرداته وغريبه، وحفظ معه ألفية ابن مالك، ومعظم الكافية له، وألفية ابن معطي الجزائري، وجمع الجوامع في الأصول، وتلخيص المفتاح للقاضي القزويني، وما بلغ الرابعة عشرة حتى كان يحفظ أَلْفِيَتي العراقي في الأثر والسير، ورقم الحلل في نظم الدول لابن الخطيب، ومعظم رسائله المجموعة في كتابه: ريحانة الكتاب، ويحفظ الكثير من شعر أبي عبد الله بن خميس التلمساني، ومعظم رسائل فحول كتاب الأندلس كابن شهيد وابن أبي الخصال وأبي المطرف ابن أبي عميرة وابن برد، ولفته عمه إلى دواوين فحول المشارقة، فحفظ صدرًا من شعر المتنبي، ثم استوعبه بعد رحلته إلى الشرق، وصدرًا من شعر الطائيين، مع حفظ ديوان الحماسة، والمعلقات، والمفضليات، وكثير من شعر الرضي وابن الرومي وأبي تمام والبحتري وأبي نواس، كما استظهر كثيرًا من شعر الثلاثة جرير والأخطل والفرزدق، وحفظ معظم رسائل بلغاء المشرق كالصابي، والبديع، وكثيرًا من رسائل سهل بن هارون وبديع الزمان، وفي عنفوان تلك الفترة كان حفظ كفاية المتحفِّظ للأجدابي الطرابلسي، والألفاظ الكتابية للهمذاني، والفصيح لثعلب، وإصلاح المنطق لابن السِّكِّيت، وحفظ كثيرًا من كتب الأدب كالكامل، والبيان، وأدب الكاتب، وحفظ في تلك المرحلة من حياته الرجال الذين ترجم لهم في نفح الطيب وأخبارهم، وكثيرًا من أشعارهم، إذ كان كتاب نفح الطيب هو الكتاب الذي تقع عليه عينه في كل لحظة منذ فتح عينيه على الكتب، حتى إنه يذكر مواقع الكلمات من الصفحات ويذكر أرقام الصفحات، وكان يحفظ عشرات الأبيات من سماع واحد.
ولم يزل عمُّه -رحمه الله- يتدرّج به من كتاب إلى كتاب تلقينًا وحفظًا ومدارسة للمتون والكتب التي حفظها حتى بلغ الحادية عشرة، فبدأ له في درس ألفية ابن مالك دراسة بحث وتدقيق، وكان قبلها أقرأه كتب ابن هشام الصغيرة قراءة تفهّم وبحث، وكان يقرئه مع جماعة الطلاب، ويقرئه وحده، ويقرئه وهو يماشيه في المزارع، ويقرئه على ضوء الشمع، وعلى قنديل الزيت، وفي الظلمة، حتى يغلبه النوم، بل حتى في حال مرضه، فكان لا يخليه من تلقينٍ وإفادة وهو على فراش الموت، بحيث إنه ختم الفصول الأخيرة من ألفية ابن مالك عليه وهو على تلك الحالة.
تصدِّيه للتدريس في وقت مبكِّر جدًّا:
بعد وفاة عمِّه سنة 1903م شرعَ في تدريس العلوم التي درَسَها عليه وأجازه بتدريسها وعمره أربع عشرة سنة، فدرَّسها للطلبة الذين كانوا زملاءَه في الدراسة على عمِّه، وانثال عليه طلبة العلم من البلدان القريبة، وربما انتقل في بعض السنين إلى المدارس القريبة لسعتها واستيعابها للعدد الكثير من الطلبة وتيسّر المرافق بها للسكنى، ودام على تلك الحال إلى أن جاوز العشرين من عمره.
رحلته الأولى إلى الشرق (القاهرة – المدينة – دمشق):
تاقت نفس الشيخ البشير -رحمه الله- إلى الهجرة إلى الشرق، واختار المدينة المنوّرة لأنَّ والده سبقه إليها سنة 1908م فرارًا من ظلم فرنسا، فالتحق به متخفيًا أواخر سنة 1911م كما خرج والده متخفيًا، ومرَّ في رحلته هذه بالقاهرة، فأقام بها ثلاثة أشهر، وحضر بعض دروس العلم في الأزهر وعرف أشهر علمائه وأخذ عنهم، كالشيخ سليم البشري، والشيخ محمد بخيت، والشيخ يوسف الدجوي، والشيخ عبد الغني محمود، والشيخ السمالوطي، والشيخ سعيد الموجي، ولقي شاعر العربية الأكبر أحمد شوقي وشاعر النيل حافظ إبراهيم وأسمعهما عدة قصائد من شعرهما من حفظه، وزار الشيخ رشيد رضا في دار الدعوة والإرشاد.
خرج الشيخ من القاهرة قاصدًا المدينة المنوّرة، وكان وصوله إليها في أواخر سنة 1911م، واجتمع بوالده -رحمه الله-، وطاف بحلق العلم في الحرم النبوي مختبرًا، فلم يرق له شيء منها، ولم يجد علمًا صحيحًا إلا عند رجلين هما: الشيخ العزيز الوزير التونسي، والشيخ حسين أحمد الفيض أبادي الهندي، ولم يكن راغبًا إلا في الاستزادة من علم الحديث رواية ودراية، ومن علم التفسير، فلازمهما ملازمة الظلّ، وأخذ عن الأول الموطأ دراية، ولازم درسه في فقه مالك، ودرسه في التوضيح لابن هشام، ولازم الثاني في درسه لصحيح مسلم. وأخذ أيضًا أيام مجاورته بالمدينة علم التفسير عن الشيخ الجليل إبراهيم الإسكوبي، وأخذ الجرح والتعديل وأسماء الرجال عن الشيخ أحمد البرزنجي الشهرزوري، وأخذ أنساب العرب وأدبهم الجاهلي والسيرة النبوية عن الشيخ محمد عبد الله زيدان الشنقيطي، وأتمَّ معلوماته في علم المنطق عن الشيخ عبد الباقي الأفغاني، قرأ عليه الحكمة المشرقية، وكان قيّمًا عليها بصيرًا بدقائقها. وذاكر صاحبه الشيخ أحمد خيرات الشنقيطي سنين عديدة في اللغة والشعر الجاهلي، ومنه المعلّقات العشر، وصاحبه محمد العمري الجزائري، أمهات الأدب المشهورة، خصوصًا الكامل للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ، فقد ختماهما مطالعة مشتركة فاحصة متأنية، وكذلك فعلا بكتاب الأغاني من أوله إلى آخره.
وبالجملة فقد كانت إقامته بالمدينة المنوّرة أيام خير وبركة عليه، وكان يتردّد على المكتبات الجامعة الغنية بعشرات الآلاف من المخطوطات النادرة، فلا يراه الرائي إلا في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت، حتى استوعب معظم كتبها النادرة قراءة، وفي مكتبة السلطان محمود، وفي مكتبة شيخه الوزير، وفي مكتبة بشير آغا، أو في مكتبات الأفراد الغاصة بالمخطوطات، مثل مكتبة آل الصافي، ومكتبة رباط سيدنا عثمان، وفي مكتبة آل المدني وآل هاشم، ومكتبة الشيخ عبد الجليل برادة، ومكتبة الوزير التونسي العربي زروق، فبلغ منها غايته حفظًا واطلاعًا مدّة خمس سنوات وشهور. كما كان يستعير كثيرًا من المخطوطات الغريبة من أصدقائه وتلامذته الشناقطة، فيقرؤها ويحفظ عيونها، وقد حفظ في تلك الفترة معظم ديوان ذي الرمة. كلّ هذا وهو لم ينقطع عن إلقاء الدروس للطلبة في الحرم النبويِّ، حتى لما جاءت الحرب العالمية الأولى لم ينقطع عن هذا النظام المحكم في حياته العلمية.
ولما جاءت سنة 1917م أمرت الحكومة العثمانية بترحيل سكان المدينة كلهم إلى دمشق بسبب استفحال ثورة الشريف حسين بن علي، وعجز الحكومة عن تموين الجيش الذي بلغ عدده خمسين ألفًا، وتموين المدنيين الذين يبلغ تعدادهم ثمانين ألفًا، فاقتضى تدبير قوّادها العسكريين إذ ذاك أن ينقل سكان المدينة إلى مصدر الأقوات في دمشق، بدل أن تنقل الأقوات منها إليهم، فكان من أوائل المطيعين لذلك الأمر، وخرج مع والده إلى دمشق في شتاء سنة 1917م، فاستقروا بدمشق في حالة يرثى لها، وكان من أول ما يهمّ الشيخَ لقاءُ رجال العلم، وكانوا أول من بدأ بالفضل فزاروه في منزله، وهدته المجالس الأولى إلى تمييز مراتبهم، فاصطفى منهم جماعة، من أولهم الشيخ محمّد بهجت البيطار.
واتصل به جمال باشا بواسطة عون من أعوانه -هو نقيب الأشراف السابق- يريده على أن يخدم سياسته بقلمه ولسانه، فتجافى عن ذلك بتحايل لطيف.
وما لبثَ شهرًا حتى انهالت عليه الرغباتُ في التعليم بالمدارس الأهلية، فاستجاب لبعضها ليقوم بحاجته وحاجة والده وأتباعهما، ثم حمله بعض إخوانه على إلقاء دروس في الوعظ والإرشاد بالجامع الأموي بمناسبة حلول شهر رمضان، فامتثل وألقى دروسًا تحت قبة النسر الشهيرة على طريقة الأمالي. كما حمله أيضًا جمال باشا على أن يكون أستاذًا للآداب واللغة العربية في المدرسة السلطانية، وهي المدرسة الثانوية الأولى بدمشق، وما كاد يباشر عمله فيها حتى ذهب جمال باشا، ثم ذهب السلطان التركي بعده بقليل، وأصبح التعليم الرسمي كله عربيًّا، وبعد خروج الأتراك من دمشق وقيام حكومة الاستقلال العربي دعته الحكومة الجديدة إلى تدريس الآداب العربية بالمدرسة السلطانية مشاركًا للأستاذ اللغوي الشيخ عبد القادر المبارك، فاضطلع بما حُمِّل من ذلك، فأصبح أستاذًا للآداب العربية وتاريخ اللغة وأطوارها وفلسفتها بالمدرسة السلطانية الأولى، وتخرّج على يديه في ظرف سنة واحدة جماعة من الطلبة هم اليوم عمادُ الأدب العربي في سوريا، وفي طليعة الصفوف العاملة في حقل العروبة، منهم: الدكتور جميل صليبا، والدكتور أديب الروماني، والدكتور المحايري، والدكتور عدنان الأتاسي.
ولما دخل الأمير فيصل بن الحسين دمشق اتَّصل به، وأراده على أن يُبادر بالرجوع إلى المدينة ليتولّى إدارةَ المعارف بها، وكان يلح عليه في ذلك كلما لقيه، ولكن لم يكن ذلك في نية الشيخ وقصده؛ لما طرأ على المدينة من تغيّر في الأوضاع المادية والنفسية، فأبى عليه وكان يطاوله في ذلك ويعلله، إلى أن جاءت من الجزائر أخبار متواترة تفيد أن الجوَّ فيها أصبح صالحًا للعمل المثمر في العلم وفي السياسة، فعقد العزم على الرجوع إلى الجزائر.
رجوعه إلى الجزائر ودعوته وجهاده:
بعد استقرار الشيخ البشير في المدينة المنوّرة بسنة وبضعة أشهر ورد عليه أخوه ورفيقه في الدعوة والجهاد الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، ولم يكن اجتمع به قبل ذلك، وإنما تعارفا بالسماع.
كان الشيخان يؤدِّيان صلاة العشاء كل ليلة في المسجد النبوي، ثم يسمران منفردين إلى آخر الليل حين يفتح المسجد، فيدخلان مع أول داخل لصلاة الصبح، ثم يفترقان إلى الليلة الثانية، إلى نهاية ثلاثة الأشهر التي أقامها الشيخ ابن باديس بالمدينة المنوّرة.
كانت هذه الأسمار المتواصلة كلّها تدبيرًا للوسائل التي تنهض بها الجزائر، ووضع البرامج المفصّلة لتلك النهضات الشاملة التي كانت كلها صورًا ذهنية تتراءى في مخيلتيهما، لكن صحبها من حسن النيّة وتوفيق الله ما حقّقها في الخارج، فكانت تلك الليالي هي التي وُضعت فيها الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي لم تبرز للوجود إلا في سنة 1931م.
ورجع الشيخ ابن باديس إلى الجزائر بعد أن أقنعه الشيخ البشير بأنه لاحق به بعد أن يقنع والده أن رجوعه إلى الجزائر يترتّب عليه إحياءٌ للدين والعربية، وقمعٌ للابتداع والضلال، وإنكاءٌ للاستعمار الفرنسي، وكان هذا هو المنفذ الوحيد الذي يدخل منه على نفس والده ليسمح له بالرجوع إلى الجزائر.
شرع الشيخ ابن باديس بعد رجوعه من أول يوم في تنفيذ الخطوة الأولى من البرنامج الذي اتفقا عليه، قويَّ العزيمة لا يلوي على صائح، واشتعلت الحرب العالمية الأولى وهو في مبدأ الطريق، فاعتصم بالله فكفاه شرّ الاستعمار، وظهرت النتائج المرجوّة لحركته في السنة الأولى، وكانت في السنة الثانية وما بعدها أكبر، وعدد الطلبة أوفر، إلى أن انتهت الحرب، فرجع الشيخ البشير إلى الجزائر في أوائل سنة 1920م على نية القيام بعمل علميٍّ عام يعقبه عمل سياسيّ، فلقيه الشيخ ابن باديس بتونس، وابتهج لمقدمه أكثر من كل أحد؛ لتحقيق أمله المعلّق عليه، وزاره بقسنطينة قبل أن ينقلب إلى أهله، فرأى بعينيه نتائج جهود الشيخ ابن باديس، ولمس بيده آثار الإخلاص في أعمال الرجال.
ولما حلَّ الشيخ البشير ببلده بدأ من أول يوم في العمل الذي يؤازر عمل أخيه ابن باديس، فبدأ أوّلًا بعقد الندوات العلمية للطلبة، والدروس الدينية للجماعات القليلة، فلما تهيّأت الفرصة انتقل إلى إلقاء الدروس المنظّمة للتلامذة الملازمين، ثم تدرّج لإلقاء المحاضرات التاريخية والعلمية على الجماهير الحاشدة في المدن العامرة والقرى الآهلة، وإلقاء دروس في الوعظ والإرشاد الديني كل جمعة في بلد، ثم لما تمّ استعداد الجمهور الذي هزّته الصيحات إلى العلم أسّس مدرسة صغيرة لتنشئة طائفة من الشبان نشأة خاصة وتمرينهم على الخطابة والكتابة وقيادة الجماهير، بعد تزويدهم بالغذاء الضروري من العلم.
وكانت أعمال الشيخ هذه فاترة أحيانًا لخوفه من مكائد الحكومة الاستعمارية، وكانت حركاته منذ حلَّ بأرض الوطن مثار ريب عند الحكومة ومنبع شكوك، حتى صلاته وخطبه الجمعية، فكان يتغطى لها بألوان من المخادعة حتى أنه تظاهر لها عدة سنين بتعاطي التجارة وغشيان الأسواق لإطعام من يعولهم من أفراد أسرته، ولكن الحكومة الاستعمارية لم تنخدع ولم تطمئن إلى حركة الشيخ، فكان بوليسها يلاحقه بالتقارير ويضيّق الخناق على كل من يزوره من تونس أو الحجاز، كل هذا وهو لم ينقطع عن الدروس لطلاب العلم بالليل.
وقد كانت الصلة بين الشيخين قوية فيما بين سنتَي 1920م و1930م، كانا يلتقيان في كل أسبوعين أو في كل شهر على الأكثر، في سطيف بلد البشير، أو في قسنطينة بلد ابن باديس، فيَزِنان أعمالهما بالقسط، ويَزِنان آثارَها في الشعب بالعدل، ويبنيان على ذلك أمرهما، ويضعان على الورق برامجهما للمستقبل، وكانا يقرآن للحوادث والمفاجآت حسابها، فكانت هذه السنوات العشر كلها إرهاصات لتأسيس جمعية العلماء الجزائريين، وكانت كلها إعدادًا وتهيئة لإخراج جمعية العلماء من حيّز القول إلى حيّز الفعل.
وفي شهر مايو سنة 1931م كان الإعلان عن تأسيس الجمعية بعد أن وضع لها الشيخ البشير قانونًا أساسيًّا مختصرًا، أداره على قواعد من العلم والدين لا تثير شكًّا ولا تخيف، وكانت الحكومة الفرنسية في ذلك الوقت تستهين بأعمال العالِم المسلم، وتعتقد أن الشيوخ لا يضطلعون بالأعمال العظيمة، فخيّب الله ظنها، وأصبحت الجمعية حقيقة واقعة قانونية.
وبعد تأسيس الجمعية بدأ الجدُّ والاجتهاد والعمل والجهاد من أجل الدين واللغة والوطن، فنُظِّمت حملات جارفة على البدع والخرافات والضلالات والانحرافات، بواسطة الخطب والمحاضرات والدروس في المساجد والأندية والأماكن العامة والخاصة، حتى في الأسواق، وبواسطة المقالات في الجرائد الخاصة التي أنشأتها الجمعية، وكان الشروعُ العاجل في التعليم العربي للصغار في ما تصل إليه أيدي الجمعية من الأماكن، وتجنيد المئات من التلاميذ المتخرجين للعمل في تعليم أبناء الشعب، والعمل على تعميم التعليم العربي للشبان، ومطالبة الحكومة الفرنسية برفع يدها عن المساجد والمعاهد التي استولت عليها، وبتسليم أوقاف الإسلام التي احتجزتها ووزّعتها على معمّريها، ومطالبتها أيضًا باستقلال القضاء الإسلامي في الأحوال الشخصية مبدئيًّا، وبعدم تدخُّلها في تعيين الموظفين الدينيين.
ولما قرَّرت الجمعية تعيين العلماء الكبار في عواصم المقاطعات الثلاث ليكون كلُّ واحد منهم مشرفًا على الحركة الإصلاحية والعلمية في المقاطعة كلها أبقَت الشيخ ابن باديس في مدينة قسنطينة، وخصَّصت الشيخ الطيب العقبي بالجزائر ومقاطعتها، وخصَّصت الشيخ البشير بمقاطعة وهران وعاصِمتها العلمية القديمة تلمسان، فانتقل إليها بأهله، وأحيا بها رسومَ العلم، ونظم دروسًا للتلامذة الوافدين على حسب درجاتهم، وما لبثَ إلّا قليلًا حتى أنشأ فيها سنة 1937م مدرسة دار الحديث في تحفة فنية من الطراز الأندلسي، واختار لها نخبة من المعلّمين الأكفاء للصغار، وتولى بنفسه تعليم الطلبة الكبار من الوافدين وأهل البلد، فكان يلقي عشرة دروس في اليوم في العلوم والفنون المتنوِّعة.
وفي فترة العطلة الصيفية كان الشيخ يختم الدروس كلها ويخرج من يومه للجولان في الإقليم الوهراني مدينة مدينة وقرية قرية، فيلقي في كل مدينة درسًا أو درسين في الوعظ والإرشاد، ويتفقد الشُّعَبَ والمدارس، فكان ذلك في نظر الاستعمار تحدِّيًا له ولسلطته، وفي نظر الشعب تمجيدًا للعلم والدين وإغاظة للاستعمار.
ولما ضاقت فرنسا ذرعًا بأعماله ونشاطه، ونفد صبرها على التحدِّيات الصارخة لها، وأيقنت أن عاقبة سكوتها هو زوال نفوذها وخاتمة استعمارها، اغتنمت فرصة نشوب الحرب العالمية الثانية، وأصدرت قرارًا يقضي بإبعاد الشيخ إلى الصحراء الوهرانية إبعادًا عسكريًّا لا هوادة فيه؛ لأن في بقائه طليقًا حرًّا خطرًا على الدولة، ووكل تنفيذ القرار للسلطة العسكرية، فنقلوا الشيخ للمنفى في 10 أفريل سنة 1940م، إلى قرية آفلو النائية في الجنوب الوهراني.
وبعد استقراره في المنفَى بأسبوع توفِّي الشيخ عبد الحميد بن باديس -رحمه الله-، فاجتمع المجلس الإداري للجمعية ورؤساء الشُّعَب يوم موته وانتخبوا الشيخ البشير رئيسًا لجمعية العلماء بالإجماع، وأُبلِغ الشيخ بذلك وهو في المنفى، فأصبح يدير الجمعية ويصرِّف أعمالها من المنفى بالرسائل المتبادلة بينه وبين إخوانه بواسطة رسل ثقات.
بقي الشيخ في المنفى ثلاث سنين تقريبًا، ولما أطلق سراحه أول سنة 1943م وُضِع تحت المراقبة الإدارية سنوات إلى أن انتهت الحرب، وكانت فاتحة أعماله تنشيط حركة إنشاء المدارس، فأنشأ في سنة واحدة 73 مدرسة في مدن وقرى القطر كلّه. وتهافتت الأمة على بذل الأموال لتشييد المدارس حتى أربت على 400 مدرسة، ولم يتخلَّ بعد رئاسته للجمعية وخروجه من المنفى عن دروسه العلمية للطلبة وللعامة.
ولما رأت فرنسا أن عقابها له بالتغريب لم يكف لكسر شوكته، وأنه عاد من المنفى أمضى لسانًا وقلبًا وعزيمة مما كان، وأن الحركة التي يقودها لم تزدد إلّا اتساعًا ورسوخًا، انتهزت فرصة نهاية الحرب ودبرت للجزائر ثورة مفتعلة، فدبّر المعمرون مذابح 8 ماي 1945م، وقُتِل من الشعب الجزائري المسلم ستون ألفًا، وسيق إلى المعتقلات سبعون ألفًا معظمهم من أتباع جمعية العلماء. وفي ليلة 27 من الشهر نفسه كُبِست داره بقوّة عسكرية، ففتشوا منزله، وساقوه إلى السجن العسكري بالعاصمة في غسق الليل وبصورة مزعجة، ولبث في زنزانة ضيقة تحت الأرض لا يرى الضوء ولا يستنشق هواء الحياة نحو سبعين يومًا، وكانوا لا يخرجونه منها إلّا ربع ساعة في اليوم مع حراسة مشدّدة، فلما انهارت صحته نقلوه إلى حجرة منفردة على وجه الأرض وفيها بعض وسائل الحياة، ولما أكمل مائة يوم نقلوه ليلًا في طائرة خاصة مخفورًا إلى السجن العسكري بمدينة قسنطينة حيث كان مسرح الحوادث الدامية الفظيعة التي ارتكبتها عصابات المعمرين ضد الأهالي الآمنين، وكان هذا النقل تمهيدًا لمحاكمته في محكمة عسكرية على الحوادث التي دبّرها الاستعمار وأهله، ولبث في السجن العسكري ومستشفاه أحد عشر شهرًا، ثم بدا للاستعمار إطلاق سبيل الجميع باسم العفو العام على مدبِّري الثورة ومجرميها، لا باسم الرجوع إلى الحق.
ولما خرج من السجن عاد إلى أعماله أقوى عزيمة مما كان، وأصلب عودًا وأقوى عنادًا، وعادت المدارس التي عطَّلتها حكومة الاستعمار زمن الحرب، وأحيا جميع الاجتماعات التي كانت معطلة بسبب الحرب، وأحيا جريدة «البصائر» التي عطَّلتها الجمعية من أول الحرب؛ حتى لا يُكتَب فيها حرفٌ مما يراد منها، فتولَّى الشيخ البشير مكرَهًا إدارتها ورئاسة تحريرها.
رحلته الثانية إلى الشرق (القاهرة – باكستان – العراق – الحجاز – سوريا – الأردنّ – القدس):
في يوم 7 مارس سنة 1952م خرج الشيخ من الجزائر إلى الشرق بتكليف من الجمعية، في رحلة منظَّمة البرنامج واضحة القصد، وأقام في القاهرة أسبوعًا. ثم سافر إلى باكستان فأقام بها قريبًا من ثلاثة أشهر، استوعب فيها زيارة المدن الباكستانية من كراتشي إلى كشمير وما بينهما، وألقى في هذه المدن نحو سبعين محاضرة في الدين والاجتماع والتاريخ وأمراض الشرق وعلاجها. ثم رحل عنها إلى العراق، فاستوعب مدنها من البصرة إلى حدود تركيا وإيران من جبال الأكراد، وألقى فيها عشرات المحاضرات الاجتماعية والدروس الدينية. ثم رحل عنها بعد نحو ثلاثة أشهر إلى الحجاز في حج سنة 1952م نفسها، وألقى كثيرًا من المحاضرات والأحاديث. ثم رجع إلى القاهرة يوم 24 أكتوبر من تلك السنة، ثم تردَّد منها على العراق والحجاز وسوريا والأردن والقدس مرات متعدِّدة، وألقى في جميعها كثيرًا من المحاضرات.
وكان الغرض من هذه الرحلات أمرين رئيسين: الأول: مشاركة دعاة الخير في الشرق في ما يدعون إليه، والثاني: التعريف بالجزائر المنسيَّة من إخوانها، ودعوة الحكومات الإسلامية والعربية على الخصوص إلى إعانتها في نهضتها الثقافية، فكان من ذلك أن قرّرت كثير من الحكومات العربية -ومنها العراق والكويت وسوريا ومصر- قبول بعثات من تلامذة جمعية العلماء يدرسون في معاهدها على نفقتها، وقد كوَّن الشيخ في القاهرة مكتبًا باسم الجمعية ليشرف على هذه البعثات.
وفي الفاتح من نوفمبر سنة 1954م قامت الثورة الجزائرية المباركة، ولم يمرَّ عليها أسبوعان حتى وجَّه الشيخ نداءً إلى الشعب الجزائري، يدعوه فيه إلى الالتفاف حول الثورة المسلحة، وخوض غمار الجهاد المقدَّس، والتضحية بالنفس والنفيس؛ لأن ذلك هو السبيل الوحيد لحياة العزة والكرامة، وكان هذا النداء إسكاتًا لكلِّ من يريد التشكيكَ في شرعية الجهاد باسم الدين، ودفعًا قويًّا للثورة الوليدة.
ولما استفحل أمر الثورة التحريرية المباركة انقطع الشيخ مُكرهًا عن الجزائر.
عودته إلى الجزائر بعد الاستقلال ووفاته:
نالت الجزائر استقلالها في 5 جويلية سنة 1962م، فعاد الشيخ الإبراهيمي إلى وطنه، لكنه في هذه المرحلة اضطر إلى التقليل من نشاطه بسبب تدهور صحته من جهة، وبسبب سياسة الدولة التي شعر أنها زاغت عن الاتجاه الإسلامي.
وهكذا -في الجزائر المستقلَّة- تعرَّض الشيخ للإقصاء والتهميش؛ لأنه رفض أن ينحاز إلى تيار ضدَّ تيار داخل الثورة، وأن يتحوَّل إلى بوق للنظام الحاكم، وبقي محتفظًا باستقلال الرأي وصراحة الخلق، فأصدر -وهو على فراش المرض- بيانه الشهير يوم 16 أفريل 1964م، دعا فيه السلطة آنذاك للعودة إلى الحكمة والصواب وإلى جادة الإسلام، حين رأى سياستها تبتعِد عن الإسلام، وتنتهج نهجًا ينبع من مذاهب دخيلة مضادَّة لعقيدة الشعب وروحه وجذوره، وتؤدِّي إلى حرب أهلية، وتهدِّد وحدة البلاد واستقرارها.
وبقي الشيخُ على العهد لم يغيِّر ولم يبدِّل، إلى أن وافته المنيَّة -وهو في إقامته الجبرية- في 20 مايو سنة 1965م، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.
ثناء العلماء والمثقَّفين والكُتَّاب عليه:
لقد تهاطلت الثناءاتُ على الإمام الكبير محمد البشير تهاطُلَ الأمطار الغزيرة، وتلاطمت فيه الكتابات والكلمات تلاطُم الأمواج العاتية الكثيرة، فلا يُحصَى كم مُشيدٍ به ومفتخِر، ومؤيِّدٍ له ومنتصِر، ومسلِّمٍ له ومنكسِر، ومتحيِّر فيه ومنبَهِر، ومقتدٍ به ومقتفِر، ومتيَّم فيه ومنصهر، فعظَّمه بلغاء الكنانة، وبجَّله علماء الحجاز، ومجَّده أدباء الشام، وفخَّمه حكماء العراق، وخلَّده عظماء المغرب، فاجتمعت في الخضوع له والاعتراف بعلمه وفضله وتقدُّمه المشارق والمغاربُ. فمِن تِلكمُ الثناءات:
1- قولُ الشيخ عبد الحميد بن باديس: (عجبتُ لشعبٍ أنجب مثلَ محمد البشير الإبراهيميّ أن يضلَّ في دين، أو يخزى في دنيا، أو يذلَّ لاستعمار). ثم خاطبه بقوله: (وَرِي بك زِناد هذه الجمعية).
ولما بلغ الشيخ ابن باديس ثبات الشيخ الإبراهيمي في وجه فرنسا رغم التخويف والتهديد والتنكيل أرسل إليه رسالةً، وكان ذلك قبل وفاته بثلاثة أيام، يقول فيها: (الأخ الكريم الأستاذ البشير الإبراهيمي سلَّمه الله، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد: فقد بلغني موقفُكم الشريف الجليل العادل، فأقول لكم: “الآن يا عمر”، فقد صنتَ العدم والدين صانَك الله وحفظك وتَرِكتَك، وعظَّمتَهُما عظَّم الله قدرك في الدنيا والآخرة، وأعززتهما أعزك الله أمام التاريخ الصادق، وبيّضت محيّاهما بيَّض الله محيّاك يوم لقائه، وثبَّتك على الصراط المستقيم، وجب أن تطالعني برغباتك، والله المستعان. والسلام من أخيكم عبد الحميد بن باديس)([1]).
2- وكان الشيخ العربي التبسي -رحمه الله- يردّد في كثير من مجالسه: (إنَّ الإبراهيميَّ فلتةٌ من فلتات الزمان، وإنَّ العظمة أصلٌ في طبعه).
3- وقال رفيقه الأستاذ أحمد توفيق المدني-رحمه الله- عندما تبوَّأ كرسيَّه في مجمع اللغة العربية بالقاهرة: (فتقدَّم الإبراهيمي الأمين يحمل الراية باليمين، لا يأبه للمكائد ولا للسجون، ولا يبالي بالمنافي في الفيافي، بل دخل المعمعة بقلب أسدٍ وفكر أسدّ، ووضع في ميزان القوى المتشاكسة يومئذ تلك الصفات التي أودعها الله فيه: علمًا غزيرًا فيّاضًا متعدِّد النواحي عميق الجذور، واطِّلاعًا واسعًا عريضًا يُخيّل إليك أن معلومات الدنيا قد جُمِعَت عنده، وحافظة نادرة عزّ نظيرها، وذاكرة مرنة طيّعة جعلت صاحبها أشبه ما يكون بالعقل الإلكتروني… كدائرة معارف جامعة سهلة التناول من علوم الدين التي بلغ فيها مرتبة الاجتهاد بحق، إلى علوم الدنيا مهما تباينت واختلفت، إلى شتى أنواع الأدبين القديم والحديث بين منظوم ومنثور، إلى تاريخ الرجال والأمم والدول، إلى أفكار الفلاسفة والحكماء من كل عصر ومصر، إلى بدائع الملح والطرائف والنكت، كل ذلك انسجم مع ذكاء وقّاد، ونظرات نافذة، تخترق أعماق النفوس وأعماق الأشياء، وفصاحة في اللسان، وروعة في البيان، وإلمام شامل بلغة العرب، لا تخفى عليه منها خافية، وملكة في التعبير مدهشة، جعلته يستطيع معالجة أي موضوع ارتجالًا على البديهة، إما نثرًا أو نظمًا… ودراية كاملة بجميع ما في الوطن الجزائري، يحدثك حديث العليم الخبير عن أصول سكانه وقبائله، وأنسابه ولهجاته، وعادات كل ناحية منه، وأخلاقها، وتقاليدها، وأساطيرها الشعبية، وأمثالها، وإمكاناتها الاقتصادية، وثرواتها الطبيعية… كل ذلك قد توّج بإيمان صادق، وعزيمة لا تلين، وذهن جبّار منظّم، يخطط عن وعي، وينفّذ عن حكمة، وقوة دائبة على العمل، لا تعرف الكلل ولا الملل. هذا هو البطل الذي اندفعنا تحت قيادته الموفَّقة الملهمة، نخوض معركة الحياة التي أعادت لشعبنا بعد كفاح طويل لسانه الفصيح، ودينه الصحيح، وقوميته الواعية الهادفة).
4- وتحدَّث تلميذه الأستاذ عبد المجيد مزيان عن ثقافته فقال: (ونشهدُ كما عرفناه -نحن تلامذته- أنه كان من أعلم أهل عصره بالعلوم الإسلامية والعربية، كان إمامًا لا نظير له في علوم الحديث، وكانت نيته أن ينشئ مدرسة مغربية للحديث لو ترك له النضال الفاتك بوقته قليلا من الوقت، وقد أنشأ مدرسة «دار الحديث» لهذا الغرض البعيد الأهداف… وكان مفسّرًا للقرآن في دروس عمومية ودروس للطلبة الخواصّ، أتى فيها بإبداعات سجَّلتها عنه ذاكرة الرجال ولو لم تجمعها المكتوبات، وكان معلِّما للتاريخ الإسلامي ببراعة تحليل وسعة نظر، يتطرق إلى فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع والأخلاق لينير التاريخ بمنظار الفكر الإسلامي والالتزام الأخلاقي الذي تدعو إليه النهضة الثقافية والإصلاح، وكان أستاذًا في اللغة والآداب العربية، يجمع بين الأصيل والجديد، وإن كان في أسلوبه الخطابيّ معجبًا بروائع البلاغة العربية، متعشِّقًا لآثار الفطاحل المبدعين في العصور النيّرة من الجاحظ إلى ابن خلدون. وكان مع هذا كله قدوة في سهولة المعاملة والاتصال، بشوشًا مَرِحًا في مجالسه، واسع الصدر في ممارسة المسؤوليات، متفجر الحيوية في أنشطته الثقافية، كاتبًا وخطيبًا وصحافيًّا وأستاذًا وإمامًا).
5- وقال الشيخ عبد الرحمن شيبان -رحمه الله-: (إن الأستاذ الإبراهيميَّ قبل أن يكون إمامًا مصلحًا، وفقيهًا أصوليًّا، ومربيًا حكيمًا، وسياسيًّا محنَّكًا، كان أديبًا شاعرًا، وخطيبًا مفوّهًا، يهزّ القلوب ببيان ساحر، يعيد إلى الأذهان ما كان للخطابة العربية من مكانة وسلطان في عهودها القديمة الزاهرة. وهو محدّث بارع لطيف، يعمر مجالسه بالحكمة، ويجمّلها بالنكتة، ويعطرها بأريج اللطف، ينعش الأرواح، ويؤنسها بشعاع من الفكر يهدي العقول. وهو ديوان لأيّام العرب وآدابهم وتقاليدهم، في أفراحهم وأحزانهم، في حربهم وفي سلمهم، يروي عن فهم وبصيرة، ويصدر عن حافظة واعية خارقة للعادة، وذاكرة تحت الطلب، ملبية منجدة، وهو شاعر فحل في الفصيح والملحون، يذكّرك بالمعرّي في لزومياته، وأبي الطيب في حكمه وأمثاله، وشوقي في ملاحمه وبدائعه. أما أسلوبه في الكتابة فمتنوّع بحسب الموضوعات وأحوال المخاطبين والمناسبات، فتخاله أحيانًا ابن بسّام في ذخيرته، أو ابن العميد في إخوانياته، أو الزّيات في لوحاته، وتحسبه في بعض الأحيان محررًا في جريدة يومية، بساطة وواقعية، من غير إسفاف أو حشو أو سوقية، فهو بحقّ معجزة من معجزات الثقافة العربية الإسلامية والبيان العربي في القرن العشرين)([2]).
6- وقال ابنه أحمد طالب الإبراهيمي: (كان بالنسبة لي أبًا وأستاذًا وصديقًا ورائدًا ومثلًا أعلى أقتدِي به، وأستنير برأيه في كلِّ خطواتي… والحقيقة أن الإبراهيمي كان عظيمًا بعقله ووجدانه، بقلبه ولسانه، فكلُّ من تقلَّب في أعطافه نال من ألطافه، فالقريب والرفيق والسائل والمحروم والمريد والتلميذ يجد فيه الأبَ الشفيق والأخ الصديق، الذي لا يبخل بجهده وجاهه وماله -وإن قل- لتفريج الكروب وتهوين الخطوب، وما تقرَّبتَ منه إلا ملك قلبك بحلمِه، وغمر نفسَك بكرمِه، قبل أن يشغل عقلك بعِلمه، ويسحر لبّك بقلمِه، وكانت الخصال البارزة فيه الإيثار والحلم والوفاء… لم يكن عالما بالمعنى المعروف عن معظَم علماء الدين التقليديِّين، بل كان عالما شاملًا تعمَّق في كثير من فنون العلم والمعرفة، بالإضافة إلى علوم الدين، توَّج ذلك كله ذكاؤه وموهبتُه الخارقة في سرعة الاستيعاب والاستنباط والاجتهاد، وتوظيف ذلك كله لخدمة الإسلام والوطن والأمة، مما أهّله لتَبَوُّإِ سدَّة الريادة والقيادة).
7- وقال الأستاذ الدكتور محمد صالح ناصر: (الإبراهيمي ليس أديبًا أو مصلحًا أو عالِمًا وحسب، بل هو يجمع بين هذه الصفات بكلِّ ما فيها من معنى ودقة وشمولية، ويجمع بينها بمواهبه الفذَّة وشخصيته اللامعة، فهو كاتب مُبدع، يملِك الألباب بأدبه الرفيع، وخطيب مِصقَع، يُبهر الأنفاس بفصاحته وبيانه، وراويةٌ مدهشُ الحفظ، يستوعب آلاف الأبيات والأمثال والحِكَم، ورجَّاز لا يستعصي عليه نظم آلاف الأبيات، وهو مفسِّر له نظر بعيد في القرآن الكريم، ومحدِّث جمع بين الرواية والدراية، بعقلٍ نيِّر وقريحة صافية… يسَّره الله لما خلقه له، فوهبه هذه الثقافة الموسوعية التي كوَّنتها عصامية جادَّة، ورفدتها مواهب قلَّما تجتمع في شخص واحد: ذكاء حادٌّ، وقريحة نيِّرة، وحافظة لاقطة، وذاكرة قلَّما تخون صاحبها، وطموح إلى الاستزادة من العلم… واجتهاد متواصل… وأدب… وأوتي قبل هذا وذاك إخلاصًا وانقطاعًا إلى العلم يوجِّهانه إلى استغلال هذه المواهب فيما يعود عليه وعلى أمَّته بالنفع الجزيل)([3]).
8- وقال الأستاذ محمد هادي الحسني: (رجل ليس كأحد من الرجال، وعالم ليس كأحد من العلماء، هو الإمام محمد البشير الإبراهيمي، الذي جمع مجد العمل إلى شرف العلم، وقد شهد له اللدود قبل الودود بالعلم الغزير، والعمل الكثير، والإخلاص الكبير، فانتزع تقدير الأعداء، ونال إعجاب الأخلاء، ولم قدِّر له أن يكون في غير هذه البلاد لرُفِع مكانًا عليًّا في الحياة، ولخُلِّد تخليدًا نوعيًّا بعد الممات)([4]).
وقال: (كان الإمام الإبراهيمي كالشهاب الثاقب، فيه النار المحرقة للبدع وأوليائها، وللاستبداد وزبانيته، وفيه النور المبين لمن كان له قلب أو ألقى السمع)([5]).
وقال أيضًا: (إن المتصفح بموضوعية تاريخ الجزائر في هذه الفترة (1940-1952) سيجد دون عناء أن الشخصية المحورية فيها هي شخصية الإمام محمد البشير الإبراهيمي، فقد كان المرشد الأبرز، والموجِّهَ الأكبر للشعب الجزائري في جميع الميادين: الدينية، والتعليمية، والسياسية، وهو ما جعل الجزائريين يولونه ثقتَهم، ويلقون السمع لتوجيهاته، ويعلِّقون عليه أملهم؛ فقد رأوا فيه ناصحًا أمينًا، وقائدًا حكيمًا، وموحدًا للصفوف التي فرقتها الأهواء، وجامعًا للكلمة التي شتَّتَتْها المصالح الشخصية والمآرب المادية، ولاحظوا أنه لا يأمر بمعروف حتى يكونَ أول عاملٍ به، ولا ينهى عن منكر حتى يكونَ أول تارك له، وأن أفعاله تسبق أقوالَه، وأن المبادئ عنده ليست قابلة للمساومة، وليست خاضعة للمناورات السياسية والمغانم النيابية التي أصبح أغلب السياسيين يلهثون وراءها)([6]).
9- وقال الأستاذ الدكتور عبد السلام الهراس: (شيخنا الإبراهيمي كان يملك ناصية الأدب مثلما يملك ناصية التفسير واللغة والفقه والحديث والتاريخ الإسلامي… وقد كان الرجل يعيش بروحه في أبراج الحضارة الإسلامية وثقافتها، وبجسمه وعقله في العصر الذي يعيش فيه، وقد تمرَّس بالحياة، واطَّلع على كثير من جوانب عصره، في بلده وفي الحجاز والشام وغيرهما… كان رجلَ المعركة المناسب، وقائد المسيرة الموفَّق، يدري ما يريد، ويعمل وفق مخطَّط واع وأهداف محدَّدة وخطوات محسوبة، وقد آتاه الله قلمًا لو وجَّهه إلى الأرواح المحتضِرة لأحياها، وللعقول الزائغة لهداها، وللإرادات الخائرة لقوَّاها، ولو رمى به الخصم لأصماه، والحقودَ الحسودَ لأعماه، قلم يحرك السواكن ويهيِّج الكوامن، نفاخر به كبار كُتّاب العصور العربية الذهبية، ونباري به الأقلام العربية المعاصرة الفذَّة، بل إنَّ قلم شيخنا يمتاز بغزارة العلم وتدفُّق المعرفة وعمق التجربة وتوقُّد الخاطر وجمال الفواصل واختراع المعاني وجزالة الألفاظ وجمالها، وسمات أسلوبية وفكرية كثيرة تحتاج إلى دراسات علمية رصينة)([7]).
10- ووصفه شيخ الأدباء التونسي الشيخ العربي الكبادي بأنه (دائرة معارف إسلامية)([8]).
11- ووصفه الزعيم التونسي محيي الدين القليبي بأنه إمام هذا الزمان، المصلح، المجدِّد، مفخرة علماء الإسلام([9]).
12- وبعدما ألقى الشيخ الإبراهيمي كلمته في إحدى ندوات سنة 1953م بمصر قام الفيلسوف الكبير منصور فهمي، ونزع حذاءه، معلنًا أن هذا المنبر الذي يقف فيه الشيخ صار ساحةً مقدَّسة ينبغي أن يدخلها الناس كما يدخلون الحرم، وقال: إنه لم يسمع ولم ير في حياته من هو أفصح أو أبلغ من الشيخ البشير، ودعا جميع العلماء والأدباء في الوطن العربي إلى أن يلقوا إليه بمقاليد اللغة والبيان. ثم توجَّه إلى الشيخ قائلًا: (أنت ملك العربية لهذا العصر، ملكتَ نواصيَها ونواصيَنا)([10]).
13- وقال عنه الدكتور محمد رجب البيومي -عميد كلية اللغة العربية بالمنصورة-: (شيخ وقور، يتلألأ وجهه بنور الإيمان وجلال الشيب… هو كبير علماء الجزائر، وشيخ المجاهدين بها… نذر نفسه للكفاح الخالص من كلِّ غرض ذاتي، فلم يلتفت إلى نفسه في شيء… كان متشعِّب المعارف شأنَ السلف الأول من حملة الثقافة الإسلامية)([11]).
14- وقال الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله-: (وأذكر من أولئك الزعماء اللاجئين إلى القاهرة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي… كان لكلماته دوِيٌّ بعيد المدى، وكان تمكّنه من الأدب العربي بارزًا في أسلوب الأداء وطريقة الإلقاء، والحقّ أن الرجل رزق بيانًا ساحرًا، وتأنقًا في العبارة، يذكّرنا بأدباء العربية في أزهى عصورها، لكن هذا ليس ما ربطنا به أو شدّنا إليه على قيمته المعنوية، إنما جذبنا الرجل بإيمانه العميق، وحزنه الظاهر على حاضر المسلمين، وغيظه المتفجّر ضد الاستعمار، ورغبته الشديدة في إيقاظ المسلمين ليحموا أوطانهم، ويستنقذوا أمجادهم، وخُيّل لي أنه يحمل في فؤاده آلام الجزائريّين كلِّهم وهم يكافحون الاستعمار الفرنسيَّ، ويقدِّمون المغارم سيلًا لا ينقطع حتى يحرّروا أرضهم من الغاصبين الطغاة، وكان في خطبته يزأر كأنه أسدٌ جريح، فكان ينتزع الوجل من أفئدة الهيّابين، ويهيّج في نفوسهم الحمية لله ورسوله، فعرفت قيمة الأثر الذي يقول: إن مداد العلماء يوزن يوم القيامة بدم الشهداء… ومن الخطإ تصوُّرُ أنَّ الشيخ الكبير كان خطيبًا ثائرًا وحسب، لقد كان فقيهًا، ذكيَّ الفِكرة، بعيد النظرة)([12]).
15- وقال الدكتور يوسف القرضاوي: (الإمام محمد البشير الإبراهيمي علَّامة الجزائر، ولسانها الناطق بالحقِّ، وسيفها القاطع لعنق الباطل، وقلبها النابض بحرارة الإيمان، ونجمها الثاقب الذي يهدي الحائرين، وينقض رجمًا للشياطين… كان إذا تحدَّث يتدفَّق كأنَّه البحر الثجَّاج، ويتألَّق كأنَّه السراج الوهَّاج، وأشهد أنه شدَّ الحاضرين جميعًا بيانُه الناصع وخطابه الرائع، وسعة اطِّلاعه على الأدب التاريخ، واستشهاده بحِكَم البلغاء وروائع الشعراء ووقائع المؤرِّخين… الإمام محمد البشير الإبراهيمي أحد أئمَّة الإصلاح والتجديد في العصر الحديث)([13]).
16- وقال الزعيم فارس الخوري رئيس الوفد السوري: (أنا وقفت لِأداءِ شهادة، فقد سمعت كثيرًا من الخطباء في هيئة الأمم المتحدة، وهم لا شكَّ النخبة المختارة من دولهم للتأثير على السامع، وغيرهم كثير، ولكن أشهد -فَثِقوا بشهادتي- أنني لم أتأثَّر مثل تأثري الليلة بكلمة فضيلة الشيخ الإبراهيمي، وليس تأثري راجعًا إلى فصاحته وبلاغته فقط، وإنما تأثرت بذلك، ولكونه يتكلَّم من عقله وروحه، ويخرج الكلام مُساوقًا لشعوره، ومَسوقًا بصدقه، وفضيلتُه خاطبنا الليلةَ بنبضات قلبه، وفيض من إيمانه وعقيدته)([14]).
17- وقال الأستاذ محمد سعيد رمضان البوطي -رحمه الله-: (إن الإمام محمد البشير الإبراهيمي يُعدُّ ثاني اثنين على صعيد القيادة الفكرية والروحية للثورة الجزائرية المباركة التي طهَّر الله بها أرض الجزائر من بغي الاستعمار، ولئن قضى الله بأن يرحلَ عن هذه الدنيا بجسمه فإنَّ مبدأه الذي كان يسير وتسير الجزائر عليه غير قابل للرحيل؛ إذ لم يكن فكرًا ابتدعه من عنده، وإنما هو شرعة الله وحكمه، استلهمهما من كتاب الله وهدي نبيِّه وما كان عليه سلف هذه الأمَّة رضوان الله عليهم، وشرعة الله باقية ما بقي الزمان)([15]).
18- وقال الأستاذ عادل نويهض: (محمد البشير الإبراهيمي من الرجال القلائل الذين جمعوا بين العبقرية والعظمة)([16]).
19- وقال الأديب جمال الدين الأتاسي: (نحن في العراق عزَّز عواطفنا وألهب أحاسيسنا في محاضراته وأحاديثه، لم نشهد أديبًا أو داعية بمقدرته وطول نفسه وإجادته لفنِّ القول، وسعة اطِّلاعه على ألاعيب الاستعمار، وكان صادقَ الحبِّ لوطنه ودينه)([17]).
آثاره:
لم يتَّسع وقت الشيخ للتأليف والكتابة مع كل الجهود التي تأكل الأعمار أكلًا، ولكنه -رحمه الله- ألف للشعب رجالًا، وعمل لتحرير عقوله تمهيدًا لتحرير أجساده، وصحَّح له دينه ولسانه، وصحح له موازين إدراكه فأصبح إنسانًا أبيًّا.
ومع ذلك فقد ساهم بالكتابة في موضوعات مفيدة، ولكن لم يساعده الفراغ ولا وجود المطابع على طبعها. فمن أجلِّ تلك الكتب:
1- عيون البصائر، وهي من المقالات التي كتبها بقلمه في جريدة «البصائر» في سلسلتها الثانية.
2- بقايا فصيح العربية في اللهجة العامية بالجزائر، التزم فيه اللهجة السائدة في مواطن هلال بن عامر.
3- النقايات والنفايات في لغة العرب، جمع فيه كلَّ ما جاء على وزن فُعالة من مختار الشيء أو مرذوله.
4- أسرار الضمائر في العربية.
5- التسمية بالمصدر.
6- الصفات التي جاءت على وزن فعَل -بفتح العين-.
7- نظام العربية في موازين كلماتها.
8- الاطِّراد والشذوذ في العربية، رسالة في الفرق بين لفظ المطّرد والكثير عند ابن مالك.
9- ما أخلَّت به كتب الأمثال من الأمثال السائرة.
10- رسالة في ترجيح أن الأصل في بناء الكلمات العربية ثلاثة أحرف لا اثنان.
11- رواية: كاهنة أوراس، بأسلوب مبتكر يجمع بين الحقيقة والخيال.
12- رسالة في مخارج الحروف وصفاتها بين العربية الفصيحة والعامية.
13- حكمة مشروعية الزكاة في الإسلام، بحث فيه ينابيع المال في الإسلام، واستخرج ينابيع أخرى غير منصوصة، يلتجئ إليها جماعات المسلمين إذا حَزَبَهم أمر أو فاجأتهم حادثة.
14- شُعَب الإيمان، جمع فيه الأخلاق والفضائل الإسلامية.
15- ملحمة رجزية نظمها في السنين التي كان فيها مُبعدًا في الصحراء الوهرانية، تبلغ ستة وثلاثين ألف بيت من الرجز السلس اللزومي في كل بيت منه، وهي أعظم ما دوَّن، تضمنت فنونًا من الموضوعات: تاريخ الإسلام، ووصف لكثير من الفرق التي حدثت في عصره، وللمجتمع الجزائري بجميع فرقه ونحله، ولأفانين في الهزل للمذاهب الاجتماعية والفكرية والسياسية المستجدة، والإنحاء على الابتداع في الدين، وتصوير لأولياء الشيطان، ومحاورات أدبية رائعة بينهم وبين الشيطان، ووصف للاستعمار ومكائده ودسائسه وحيله وتخديراته للشعوب للقضاء على مقوماتها.
وله محاضرات وأبحاث كتبها عنه تلامذته، وفتاوى متناثرة.
من مواقفه وكلماته الإصلاحية:
1- يقول -رحمه الله-: (كان من نتائج الدراسات المتكرّرة للمجتمع الجزائري بيني وبين ابن باديس منذ اجتماعنا في المدينة المنوّرة أنَّ البلاءَ المنصبّ على هذا الشعب المسكين آتٍ من جهتين متعاونتين عليه، وبعبارة أوضح من استعمارين مشتركين يمتصّان دمه ويتعرَّقان لحمه، ويفسدان عليه دينه ودنياه: استعمار مادّي هو الاستعمار الفرنسي، يعتمد على الحديد والنار، واستعمار روحاني يمثّله مشائخ الطرق المؤثِّرون في الشعب، والمتغلغلون في جميع أوساطه، المتاجرون باسم الدين، المتعاونون مع الاستعمار عن رضا وطواعية، وقد طال أمد هذا الاستعمار الأخير، وثقلت وطأته على الشعب حتى أصبح يتألَّم ولا يبوح بالشكوى أو الانتقاد؛ خوفًا من الله بزَعمه. والاستعماران متعاضِدان يؤيّد أحدهما الآخر بكل قوّته، ومظهرهما معًا تجهيلُ الأمّة لئلا تُفيق بالعلم فتسعى في الانفلات، وتفقيرها لئلا تستعين بالمال على الثَّورة).
2- وقال -رحمه الله-: (إحياء القرآن على الطريقة السلفية إحياءٌ للأمّة التي تَدين به)([18]).
3- وقال -رحمه الله-: (لقد كان من مقتضى كون الرجل محدِّثًا أن يكون سلفيّ العقيدة، وقّافًا عند حدود الكتاب والسنَّة، يرى ما سواهما من وسواس الشياطين، وأن يكون مستقلًّا في الاستدلال لما يُؤخذ ولما يُترك من مسائل الدين، وقد تعالَت همم المحدّثين عن تقليد الأئمَّة المجتهدين، فكيف بالمبتدعة الدجّالين؛ وعُرفوا بالوقوف عند الآثار والعمل بها، لا يعْدونها إلى قول غير المعصوم إلا في الاجتهاديات المحضة التي لا نصّ فيها… إن السلفية نشأة وارتياض ودِراسة، فالنشأة أن ينشأ في بيئة أو بيت كلُّ ما فيها يجري على السنَّة عملًا لا قولًا؛ والدراسة أن يدرس من القرآن والحديث الأصول الاعتقادية، ومن السيرة النبوية الجوانب الأخلاقية والنفسية، ثم يروّض نفسه بعد ذلك على الهدي المعتصر من تلك السيرة وممن جرى على صراطها من السَّلف)([19]).
4- وقال -رحمه الله-: (أما الطرقية فقد فرغنا منها هدمًا وتخريبًا، واقتحمنا عليها معاقلها الحصينة، ودككنا صياصيها المنيعة، واستبحنا حماها بكلمةِ الله، وأقمنا على أنقاضها بناءَ الحق. بدأنا ذلك كلَّه بإزالة هيبتها الباطلة من الصدور، ومحوِ سلطتها الكاذبة من النفوس، ثم كشفنا عن نسبتها المزورة إلى الدين الحنيف. فما تمّ لنا ذلك حتى انهارت من أساسها، وتلك عاقبة كل بناء بُني على الوهم والتزوير. وقد أحيانا الله حتى شهدنا جنازتها بلا ردة، وهلنا عليها التراب بأيدينا غير آسفين. فمن كان يؤرخ للطرقية بهذا الوطن ولاشتدادِها فيه وامتدادها منه فليحبِس قلمَه، فهذه آخر صحيفة من كتابها، وليختمه بتسجيل سنة الوفاة، بإقحام سطرِ: ماتت -لا رحمها الله- بين سنة كذا وكذا… ماتت الطرقية وانقطعت أنفاسُها، وجاءها قضاء اللهِ الذي فرَّقت دينه، وهوّنت حقّه، ونازعته في جبروته، وصرفت أوباشها في ملكوته، فلم يدفعه عنها دافع، ولم يصرفه عنها أعلامها المنشورة ولا بناديرها. ومن كان في مرية من موتها فآية الآيات اجتماع أبنائها، فوالله ما اجتمعوا وهي حيّة، وما كان من طبع أمِّهم العجوز أن تترك أولادها يجتمعون، وما اجتمعوا إلا بعد خمود أنفاسها. ولقد كانوا في حياتها مفترقين متنابذين متنابزين، يحمل بعضهم لبعض من الحقد الشنيع ما يحمله العدوُّ لعدوّه، ولما طفقت ألسن الحقِّ تنوشها وَجموا لأول مرّة، ثم علموا أنها القاضية، وأن القضاء عليها قضاء على ما يتمتعون به من مال وسلطان، فتنادوا مصبحين، وتناشدوا الرحمَ أن يتهادَنوا حتى يأخذوا بثأر العجوز، فيا ويحهم! إن قتيل الشرع لا يودى)([20]).
5- وقال -رحمه الله-: (يا قوم، إنَّ الحقَّ فوق الأشخاص، وإنَّ السنةَ لا تسمَّى باسم من أحياها، وإنَّ الوهابيين قومٌ مسلمون، يشاركونكم في الانتساب إلى الإسلام، ويفوقونكم في إقامة شعائره وحدودِه، ويفوقون جميعَ المسلمين في هذا العصر بواحدة وهي أنهم لا يقرُّون البدعة، وما ذنبهم إذا أنكروا ما أنكره كتاب الله وسنة رسوله وتيسَّر لهم من وسائل الاستطاعة ما قدروا به على تغيير المنكر؟! أإذا وافقنا طائفةً من المسلمين في شيء معلومٍ من الدين بالضرورة، وفي تغيير المنكرات الفاشية عندنا وعندكم -والمنكر لا يختلف حكمه بحكم الأوطان- تنسبوننا إليهم تحقيرًا لنا ولهم وازدراءً بنا وبهم؟! وإن فرَّقت بيننا وبينهم الاعتبارات فنحن مالكيون برغم أنوفكم، وهم حنبليون برغم أنوفكم، ونحن في الجزائر وهم في الجزيرة، ونحن نُعمِل في طريق الإصلاح الأقلامَ، وهم يُعمِلون فيها الأقدامَ، وهم يُعْمِلُونَ في الأضرحة المعاول، ونحن نُعْمِلُ في بانيها المقاول)([21]).
6- وقال -رحمه الله-: (قد كان آخر طراز من هذه الأسلحة المفلولة التي عرضوها في هذه الأيام كلمة “وهابي”، ولعلّهم حشدوا لها ما لم يحشدوا لغيرها، وحفلوا بها ما لم يحفلوا بسواها، ولعلّهم كافؤوا مبتدعَها بلقب: “مبدع كبير”. إن العامة لا تعرف من مدلول كلمة “وهابي” إلا ما يُعرِّفها به هؤلاء الكاذبون، وما يعرف منها هؤلاء إلا الاسم، وأشهر خاصَّة لهذا الاسم وهي أنه يُذيب البدعَ كما تُذيب النارُ الحديد، وأنَّ العاقل لا يدري ممَّ يعجب: أمن تنفيرهم باسم لا يَعرِف حقيقتَه المخاطِبُ منهم ولا المخاطَبُ، أم مِن تعمّدهم تكفيرَ المسلم الذي لا يعرفونه نكايةً في المسلم الذي يعرفونه؟! فقد وجِّهت أسئلة من العامَّة إلى هؤلاء المفترين من علماء (السنّة)([22]) عن معنى الوهابي فقالوا: هو الكافر بالله وبرسوله، ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾. أما نحن فلا يعسُر علينا فهمُ هذه العُقدة من أصحابنا بعد أن فهمنا جميع عُقَدهم، وإذ قد عرفنا مبلغَ فهمهم للأشياء وعِلمهم بالأشياء، فإننا لا نَردُّ ما يصدر منهم إلى ما يَعلمون منه، ولكننا نردّه إلى ما يَقصِدون به، وما يقصدون بهذه الكلمات إلا تنفيرَ الناس من دُعاة الحقِّ، ولا دافع لهم إلى الحشد في هذا إلا أنهم موتورُون لهذه الوهابية التي هدَمت أنصابهم، ومحت بِدَعهم فيما وقع تحت سلطانها من أرض الله، وقد ضجّ مُبتدعة الحجاز فضجَّ هؤلاء لضجيجِهم، والبدعةُ رحِم ماسّة، فليس ما نسمعُه هنا من ترديدِ كلمة “وهابي” تُقذَف في وجه كلِّ داع إلى الحقِّ إلا نُواحًا مردَّدًا على البدع التي ذهَبت صرعَى هذه الوهابية، وتحرّقًا على هذه الوهابية التي جرَفت البدع، فما أبغضَ الوهابية إلى نفوس أصحابنا! وما أثقلَ هذا الاسم على أسماعهم! ولكن ما أخفَّه على ألسِنَتهم حين يتوسَّلون به إلى التنفير من المصلحين! وما أقسى هذه الوهابية التي فجعت المبتدعة في بِدَعهم وهي أعزّ عزيز لديهم، ولم ترحم النفوس الولهانة بحبّها، ولم ترث للعبرات المراقَة من أجلها!)([23]).
7- وقال -رحمه الله-: (قبَّح الله خبزة أبيع بها ديني، وأعقّ بها سلفي، وأُهين بها نفسي، وأهدِم بها شرَفي، وأكون بها حجَةً على قومي وتاريخي)([24]).
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين
([1]) مقدمة آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/ 39).
([2]) مقدمة آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (2/ 9-10).
([3]) الشيخ محمد البشير الإبراهيمي من خلال نثره الفني، ضمن الملتقى الدولي للإمام محمد البشير الإبراهيمي (ص: 277-278).
([4]) ملتقى الإمام الإبراهيمي، ضمن الملتقى الدولي للإمام محمد البشير الإبراهيمي (ص: 9).
([5]) مقدمة آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/ 31).
([6]) مقدمة آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (2/ 33).
([7]) ملامح من أسس النهضة عند الإمام محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله، ضمن الملتقى الدولي للإمام محمد البشير الإبراهيمي (ص: 265).
([8]) ينظر: الشيخ محمد البشير الإبراهيمي من خلال نثره الفني، للأستاذ الدكتور محمد صالح ناصر، ضمن الملتقى الدولي للإمام محمد البشير الإبراهيمي (ص: 277).
([9]) ينظر: مقدمة آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (2/ 31)، وأمريكا في رأي الإمام الإبراهيمي، للأستاذ محمد هادي الحسني، ضمن الملتقى الدولي للإمام محمد البشير الإبراهيمي (ص: 385).
([10]) ينظر: الشيخ محمد البشير الإبراهيمي من خلال نثره الفني، للأستاذ الدكتور محمد صالح ناصر، ضمن الملتقى الدولي للإمام محمد البشير الإبراهيمي (ص: 329).
([11]) النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين (1/ 251، 252، 253).
([12]) ينظر: مقدمة آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (2/ 10-11، 4/ 5-6).
([13]) مقوِّمات الفكر الإصلاحي عند الإمام محمد البشير الإبراهيمي، ضمن الملتقى الدولي للإمام محمد البشير الإبراهيمي (ص: 39-40، 42).
([14]) ينظر: مقدمة آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (2/ 31).
([15]) نقاط هامَّة استوقفتني في فكر الإمام الإبراهيمي، ضمن الملتقى الدولي للإمام محمد البشير الإبراهيمي (ص: 66).
([16]) البشير الإبراهيمي عظيم من الجزائر (ص: 13).
([17]) ينظر: الشيخ محمد البشير الإبراهيمي من خلال نثره الفني، للأستاذ الدكتور محمد صالح ناصر، ضمن الملتقى الدولي للإمام محمد البشير الإبراهيمي (ص: 330).
([18]) ينظر: آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/ 318).
([19]) ينظر: آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 544-545).
([20]) ينظر: آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/ 407-408).
([21]) ينظر: آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/ 124).
([22]) يقصد بعلماء (السنة) مشايخ الطرق، فقد أسَّسوا جمعية ضرارًا يضاهئون بها جمعية العلماء المسلمين، وسمَّوها: (جمعية السنة).