شبهة عدَمِ تواتر القرآن
معلومٌ لكلِّ ناظرٍ في نصِّ الوحي ربانيَّةُ ألفاظه ومعانيه؛ وذلك أنَّ النصَّ يحمل في طياته دلائل قدسيته وبراهينَ إلهيتِه، لا يشكُّ عارف بألفاظ العربية عالمٌ بالعلوم الكونية والشرعية في هذه الحقيقة، وكثيرًا ما يحيل القرآن لهذا المعنى ويؤكِّده، {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} [العنكبوت: 49]، وقال سبحانه: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83].
فهذه الحقيقة المشاهَدَة والتي يفرضُها القرآن على قرَّائه ويُلزِم بها معانديه كافيةٌ في التدليل على أنه من عند الله، فضلا عمَّا تناوله من علوم غيبيَّة وأخبار تاريخيَّة لم تكن معلومةً لأهل زمانِ نزوله، ولا لهم بها خبرةٌ، فكفى وشفى، ومع ذلك يأبى بعضُ أهل العناد إلا أن يتنكَّب عن المحسوس، ويعدلَ عن المعقول؛ ليذِلَّ نفسه بدعوى لا تنهَض وقرينةٍ لا تُعتبرُ وحالٍ لا تَشهَد لما يذهب إليه.
مستند دعوى عدم تواتر القرآن الكريم:
من هذه المذِلَّات دعوى بعضِ المعاندين أنَّ القرآنَ غيرُ متواتر، واستندوا في ذلك إلى روايات لم يفهموها، ولم يدركوا حجم الخلل في الاستناد إليها، ومن حججِهم في هذه الدَّعوى بعضُ الروايات التي فيها حصرٌ لعدد حفَّاظ القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه، مثل قول أنس: (لَمْ يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، ونحن ورثناه)([1])، وقول عبد الله بن زيد: (فتتبَّعت القرآنَ أجمعه من العُسُب والرِّقاع واللِخاف وصدور الرجال، فوجدتُ آخرَ سورة التوبة: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} إلى آخرها [التوبة: ١٢٨] مع خزيمة -أو أبي خزيمة-، فألحقتها في سورتها، وكانت الصحف عند أبي بكر حياته، حتى توفاه الله عز وجل، ثم عند عمر حياته، حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر)([2]).
الجواب على هذه الشبهة:
والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
أولا: لا بد من التفريق بين تواتر القرآن وتواتر بعض القراءات، فالمجمع عليه هو القراءات السبع أو العشر على رأي الجمهور، وهناك قراءات أخر غير متواترة، وقد نص القراء والفقهاء على ذلك، ومنعوا قراءتها في الصلاة، وتكلَموا عن الاحتجاج بها في الأحكام كما هو معلوم في مظانه.
ثانيا: الروايات التي استند إليها الطاعنون روايات لا تشهد لما يذهبون إليه؛ لأن أثر عبد الله بن زيد الذي مرَّ معنا لا ينفي التواتر، وصورة المسألة أن الصحابة طلبوا الآيةَ مكتوبةً ومحفوظةً، وعبد الله بن زيد أراد الوفاءَ بطلب الكتابة لأجل التأكُّد من أنها كتبت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يجدها عند أحد مكتوبة إلا عند صحابي واحد، وهذا لا ينافي وجودَها محفوظة عند عدد يحصُل بهم التواتر.
ومما يؤكِّد ذلك أن عبد الله بن زيد نفسَه كان يحفظها؛ لأن العبرة بالرواية وليست بدعوى راو قصاراه أنه حكى ما علم، وهذا لا ينفي ما لم يعلم، قال أبو بكر بن الطيب: “لا تدلُّ هذه الآثار على أن القرآن لم يحفظه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم غير عبد الله وسالم ومعاذ وأُبيّ بن كعب، وأنه لم يجمعه غير أربعة من الأنصار كما قال أنس بن مالك، فقد ثبت بالطرق المتواترة أنه جمع القرآن عثمان وعليّ وتميم الداري وعبادة بن الصامت وعبد الله بن عمرو بن العاص”([3]). وقد علق المازري على رواية أنس فقال: “لا يلزم من قول أنس: (لم يجمعه غيرهم) أن يكون الواقع في نفس الأمر كذلك؛ لأن التقدير أنه لا يعلم أنَّ سواهم جمعه، وإلا فكيف الإحاطة بذلك مع كثرة الصحابة وتفرُّقهم في البلاد، وهذا لا يتمُّ إلا إن كان لقِيَ كلَّ واحد منهم على انفراده وأخبره عن نفسه أنَّه لم يكمُل له جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا في غاية البُعد في العادة، وإذا كان المرجع إلى ما في عِلمه لم يلزم أن يكونَ الواقع كذلك. قال: وقد تمسَّك بقول أنس هذا جماعةٌ من الملاحِدَة، ولا متمسَّك لهم فيه، فإنَّا لا نسلِّم حملَه على ظاهره. سلَّمناه؛ ولكن من أينَ لهم أن الواقعَ في نفسِ الأمر كذلك. سلمناه؛ لكن لا يلزم من كون كلِّ واحد من الجمِّ الغفير لم يحفظه كلَّه أن لا يكون حفِظ مجموعه الجمُّ الغفير، وليس من شرط التواتر أن يحفَظ كلُّ فردٍ جميعَه، بل إذا حفِظ الكلُّ الكلَّ ولو على التوزيع كفَى”([4]).
ثالثا: أجاب العلماء عن حديث أنس بأجوبة:
1- أنه لم يجمعه على جميع الوجوه والأحرف والقراءات التي نزل بها إلا أولئك النفر فقط، وهذا غير بعيد؛ لأنه لا يجب على سائرهم ولا على أولئك النفر أيضًا أن يجمعوا القرآن على جميع حروفه ووجوهه السبعة.
2- أنه لم يجمع القرآن ويأخذه تلقينًا من في النبي صلى الله عليه وسلم غير تلك الجماعة؛ فإنَّ أكثرهم أخذ بعضَه عنه وبعضَه عن غيره.
3- أن يكونَ لم يجمع القرآن على عهد النبي من انتصب لتلقينه وأقرأ الناس له غير تلك الطبقة المذكورة. وقد تظاهرت الروايات بأن الأئمةَ الأربعة الراشدين جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأجل سبقهم إلى الإسلام وإعظام الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، وقد ثبت عن الصِّدّيق بقراءتُه في المحراب بطوال السور التي لا يتهيَّأ حفظُها إلا لأهل القدرة على الحفظ والإتقان([5]).
رابعا: أجمع العلماءُ على أنَّ القراءةَ لا تكون قرآنًا يُكتب في المصحف ويُتلى في الصلاة إلا بثلاثة شروط:
الشرط الأول: التواتر.
الشرط الثاني: موافقة أحد المصاحف العثمانية.
الشرط الثالث: موافقة وجه عربي.
فحين اشتَرَط المسلمون هذه الشروطَ فإنهم لم يقبلوا تخلُّفها في آية من كتاب الله عز وجل.
خامسا: مما يدفع هذه الدعوى كثرةُ حفاظ القرآن في الصحابة بشهادة الصحابة ومن لقيهم من العدول، وهو ما يُبعد دعوَى أنه لم يحفَظه إلا أربعةٌ، قال القرطبي: “قد قُتل يوم اليمامة سبعون من القراء، وقُتل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ببئر معونة مثلُ هذا العدد. قال: وإنما خصَّ أنس الأربعة بالذكر لشدَّة تعلُّقه بهم دون غيرهم، أو لكونهم كانوا في ذهنه دون غيرهم”([6]).
سادسا: معلوم أنَّ أهل الإسلام اعتمدوا في حفظ القرآن على طريقتين مجتمعتين هما الحفظ والكتابة، والتواتر المطلوب هو الحفظ والسماع أولا، والكتابة مؤكِّدة، ومع ذلك لم يختلفا، فلو فُرض أن سبعين رجلًا من مختلف الأعمار يحفظون آيةً بلفظ واحد، ولم يجتمعوا في مكان واحد، فهل ينفي أنها متواترة؛ لأنها لم توجد مكتوبة عند أحد منهم؟! هذا مسلك لا يسلكه عاقل، ولا يقول به من كان يحترم نفسه في مقام البحث العلمي الرصين.
سابعا: مما يدل على تواتر القرآن نسقُه وحصول التحدِّي بمجموعه، فكلُّ ما بين دفتي المصحف أجمع أهل الملة على أنه كتاب الله، وفيه جميع مواصفات التحدِّي التي في بقية القرآن، لا فرق في ذلك بين آية التوبة وغيرها، فلو قدر أنه غير متواتر ولا تصحّ قرآنيته لأمكنت محاكاة بعضه والإتيان بمثله، وهو ما لم يقع.
والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([3]) ينظر: شرح البخاري، لابن بطال (10/ 242).
([4]) ينظر: فتح الباري (9/ 52).