الولاية ..بين المفهوم الشرعي والفكر الصوفي الغالي
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
لا يخفى على لبيبٍ هيبةُ المصطلحات الشرعية وقُدسيَّتها، فهي بمجرَّد سماعها ينقَدح في ذهن المتشرِّع معناها الشرعيّ المهيب، ومن ثَمّ يصعُب عليه التخلُّص من سطوة المعنى وفارق التطبيق، وهنا تكمن الفتنةُ في فهم الشّرع وتطبيقه.
وقد تنبَّهت الفرق الإسلامية لمصداقيَّة المصطلحات الشرعية وإملائها معنى شرعيًّا تلقائيًّا على المكلَّف، فاستهدفوها بالتبنّي والتحرّي والتجرِّي والتأويل، وكلٌّ يروم تعلُّقًا بها ومحاولةَ إثبات دعواه من خلالها، فمنهم من يحمِل مصطلح الشارع على معنى حادِث بعده، ومنهم من يقصُره على بعض معناه وينكر البعض الآخر، ومنهم من يحرّف المعنى ويؤوِّله، ولم يسلم من هذه العمليات التأويلية مصطلحٌ شرعي بدءً بالوحي والإيمان والنبوة وانتهاء بالولاية والمحبَّة.
وقد أدَّى التجاذب التأويلي للمصطلحات إلى تشويهها وشيوع معانٍ لها لا تتلاءم مع مقصد الشارع من وضعِها، بل أحيانا تتناقض وتتضارب معه، ومع ذلك لم يألُ أهل العلم جهدًا في محاولة ردِّ عاديات التحريف والتأويل عن الشرع، فردّوا عنه تحريف الغالين وتأويل المبطلين، فلم يبقَ لأهل الأهواء قولٌ باطلٌ إلا ولأهل العلم مقالٌ ينقضُه، ويبين بطلانه بالدليل الشرعي كتابًا وسنة.
وكان أهل العلم يتحسَّسون من أقوال المنتسبين إلى الشرع أكثرَ من تحسُّسهم من أقوال أهل الباطل المحض؛ لأن أقوال المنتسبين إلى الشرع شُبهة في الشرع قد تغُر غيرَ أهله وبعضَ أهله، فعن أبي إدريس الخولاني قال: أدركتُ أبا الدرداء رضي الله عنه ووعيتُ عنه، وأدركتُ عبادةَ بن الصامت رضي الله عنه ووعيتُ عنه، وفاتني معاذُ بن جبل رضي الله عنه، فأخبرني يزيدُ بن عميرة أنه كان يقول في كل مجلس يجلسه: (اللهُ حكمٌ قسط، تبارك اسمه، هلك المرتابون، إنَّ من ورائكم فتنًا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن حتى يأخذه الرجل والمرأة والحرّ والعبد والصغير والكبير، فيوشك الرجل أن يقرأ القرآن فيقول: قرأت القرآنَ فما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟! ثم يقول: ما هم متَّبعيَّ حتى أَبتدع لهم غيرَه، فإياكم وما ابتدعَ، فإنَّ ما ابتدع ضلالة، اتقوا زلَّةَ الحكيم؛ فإن الشيطان يلقي على في الحكيم الضلالةَ، ويلقي للمنافق كلمةَ الحق)، قال: قلنا: وما يدريك -يرحمك الله- أن المنافق يُلقَى كلمةَ الحقّ، وأن الشيطانَ يُلقي على فِي الحكيم كلمةَ الضلالة؟! قال: (اجتنِبوا من كلام الحكيم كلَّ متشابهٍ، الذي إذا سمعتَه قلت: ما هذا؟! ولا يُنبيك ذلك عنه؛ فإنه لعله أن يراجعَ ويلقي الحقَّ، فاسمعه فإنَّ على الحق نورًا)([1]).
ومن المصطلحات التي تكلم الناس فيها بغير حقٍّ وخفضوا فيها ورفَعوا حتى عَمِيت عليهم الأنباءُ فيها: مصطلَحُ الولاية، فقد تمَّت منازعة الشريعة في معناه القريب ليُصرَف إلى معنى مخصوصٍ يرتبط بتعلُّق الناس بصاحبه وتقديمه على النبوة وتسويتِه بربّ العالمين عند الغلاة فيه، ومِن أكثر مَن استخدم هذا المصطلحَ ولوَّثه وجعل اصطلاحه فيه قسيمًا للاصطلاح الشرعي الصوفيةُ.
تنبيه: لا يخفى علينا تفاوتُ الصوفية، وأنَّ هذا المصطلحَ لم يكن مذمومًا بإطلاق ولا ممدوحًا بإطلاق، وكان بعضُ أئمَّة الإسلام يطلقونه على أهل السلوك من خاصَّة أهل الشريعة المنيبين إلى الله تعالى؛ لكن هذا المصطلح اشتركت فيه طوائف كثيرة منتسبة إلى الإسلام، فيهم الزنادقة وأهل الحلول، وفيهم المبتدعة وأهل الأهواء الآكلون لأموال الناس بالباطل، وآخرون من أئمة أهل المذاهب وفقهاء الشريعة ومَن لا تبغي أمة محمد صلى الله عليه وسلم بهم بدلًا.
ونحن حين نستخدِم مصطلح الصوفيةِ فإنما نستخدمه في معناه الغالب عليه في أيامنا، وهو التصوفُ الغالي وأتباعه من أهل الشطح؛ ولهذا نجعله في مقابل الشرع، ولا نكلِّف أنفسنا تصفيتَه ولا صنع مصداقيّة له؛ لأن المصطلح لم تنطِق به الشريعة، وهو لا يكتسي هيبةً من منتسبيه ولا مصداقية، ونحن في هذا تبعٌ لمن سبقَنا من أئمة أهل المذاهب ممن كانوا يذمّون التصوُّف إجمالا، دون أن يكلِّفوا أنفسَهم عناءَ تبرئةِ المصطلح لأن بعضَ أهل العلم تكلَّم فيه بالحقِّ أو تبناه على وجه لا يكون به مذمومًا.
ومن ثم فإننا سنتناول مصطلح الولاية في الشيعة وتجاذباته عند أهل التصوف، ونعرض هذه التجاذبات على ما تقرِّره النصوص وتضبط به المعاني، بحيث لا تتداخل مع غيرها، ولا يفهم منها غير المراد منها شرعا، ونبدأ ذلك بمفهوم الولاية.
المبحث الأول: مفهوم الولاية في اللغة والشرع:
إنَّ التجاذب الذي وقَع في دلالة الكلمة الشرعيَّة أدَّى إلى اندراس المصطلح الشرعيّ وانسحابه تدريجيًّا لصالح المصطلح العرفيّ الحادث الذي يخصّ فرقةً معينة، فإذا أَطلقت الوليَّ وسكتت فإنه لا ينصرف إلى المعنى الذي تحيل إليه النصوص بقدر ما ينصرف إلى المعنى العرفي عند المتصوّفة وما يصاحبه، فإذا أطلقت الولي على المحدّث أو الفقيه أو القارئ الذي لا يلتزم طريقةً صوفية ولا يأخُذ وِردا معيَّنا فإنَّ أول ما ينطبع في أذهان السامعين هو ترحيل الكلمة من معناها الشائع إلى معنى آخر، ومن ثم لزم تبيين مفهوم الولي في اللغة والشرع ومحاكمة ما سواهما إليهما.
مفهوم الولي في اللغة:
قال الجوهري: “الولى: ضدُّ العدوّ، يقال منه: تَوَلًاهُ. والْمَوْلى: الْمُعْتِقُ، والْمُعْتَقُ، وابنُ العمّ، والناصرُ، والجارُ. والوَليُّ: الصِهْرُ، وكلُّ من وَلِيَ أمرَ واحدٍ فهو وليه. وقول الشاعر:
هم المولى وإن جنفوا علينا * وإنا من لقائهم لزور
قال أبو عبيدة: يعني الموالي أي: بني العم، وهو كقوله تعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا}.
وأما قول لبيد:
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه * مولى المخافة خلفها وأمامها
أي: تحسب أنَّ كلا الفرجين مولى المخافة.
والمولى: الحليف، وقال:
موالي حِلفٍ لا مَوالي قَرابةٍ * ولكنْ قَطينًا يسألون الأتاويا
يقول: هم حلفاء لا أبناء عمّ”([2]).
فدلالة الكلمة في اللغة ترجع إلى معنى النصير والمحب والحليف، وهي بهذا المعنى لا تحمل قدحًا في نفسها ولا ذمًّا، إلا بحسب الاستعمال وما تضاف إليه.
مفهوم الولي في الشرع:
وبنفس المعنى اللغوي وردت الولاية في الشرع، فإذا أضيفت إلى الله كانت حقًّا ونصرة ومحبة، وإذا أضيفت إلى غيره مما يتنافى مع المعنى الأول -كالشيطان والكفار- كانت قدحًا وذمًّا، وقد استخدمتها الشريعةُ استخداما مزدوجا، فمدحت بها حين أضافتها إلى الله والمؤمنين، وذمت بها حين أضافتها إلى المشركين والأصنام والشيطان، ومن أمثلة إضافتها إلى الشيطان قول الله: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُون} [النحل: 100]، وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون} [البقرة: 257]، وقول: {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76]. وقد أضافها الله إلى الكفار فقال: {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِير} [الأنفال: 73]. وهذا النوع من الولاية منهيّ عنه ومذموم، وهو بمعنى الطاعة والمحبة والنصرة في الباطل.
الولاية المحمودة:
والولاية التي هي محلّ بحثنا هي ولاية الله عز وجل، وهي التي تُضاف إليه أو إلى عباده المؤمنين السالكين لسبيل الحق، قال الله سبحانه: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون} [يونس: 62]، وقال سبحانه: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196].
وقد تكلم العلماء في معنى الولي، وعبروا عنه بتعبيرات متقاربة:
فقال شيخ الإسلام رحمه الله: “وَولَايَة الله مُوَافَقَته بِأَن تحبّ مَا يحبّ، وَتبْغض مَا يبغض، وَتكره مَا يكره، وتسخط مَا يسْخط، وتوالي من يوالي، وتعادي من يعادي، فَإِذا كنتَ تحبّ وترضى مَا يسخَطه ويكرهه كنتَ عدوَّه لَا وليه، وَكَانَ كل ذمّ نَالَ من رَضِي مَا اسخط الله قد نالك، فَتدَّبر هَذَا فَإِنَّهُ تَنْبِيه على أصل عَظِيم ضلَّ فِيهِ من طوائف النُّسَّاك والصوفية والعبَّاد الْعَامَّة من لَا يحصيهم إلا الله”([3]).
وقال ابن القيم رحمه الله: “فالولاية هي عبارة عن موافقة الولي الحميد في محابِّه ومساخطه”([4]).
وقال السيوطي رحمه الله: “وهو العارف بالله حسب ما يمكن، المواظِب على الطاعات، المجتنب للمعاصي، المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات”([5]).
وقال الشوكاني رحمه الله: “والمراد بأولياء الله: خُلَّص المؤمنين، كأنهم قرُبوا من الله سبحانه بطاعتِه واجتناب معصيته. وقد فسّر سبحانه هؤلاء الأولياءَ بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} أي: يؤمنون بما يجب الإيمان به، ويتَّقون ما يجب عليهم اتّقاؤه من معاصي الله سبحانه، والمراد بنفيِ الخوف عنهم: أنهم لا يخافون أبدًا كما يخاف غيرهم؛ لأنهم قد قاموا بما أوجب الله عليهم، وانتَهَوا عن المعاصي التي نهاهم عنها، فهم على ثقةٍ مِن أنفسهم وحسن ظنٍّ بربهم”([6]).
وكلّ هذه التعريفات هي مراعية للمعنى الشرعي المقيِّد للولاية، وهو الإيمان والتقوى. ومن نظر في النصوص الشرعية وجَد الولاية فرضًا لا حظًّا كما يقوله بعض المتصوِّفة، فهي فرض من الله عز وجل على عبادِه، وتُنال بالإيمان والاستقامة على التقوى. والولي يدخل فيه قسمان من الناس: المقتصد والسابق بالخيرات، وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى طريقةَ الوصول إلى مرتبة الولاية وهي المحبة فقال كما في الحديث القدسي: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ»([7]).
فهي هنا مرتبة تحصل بالمجاهدة والطاعة، وليست منقبة تمنح من دون عمل، فمن حصل معنى الإيمان والتقوى فهو ولي، سواء كان جنديًّا أو تاجرا أو عاملا أو مزارعا أو مدرِّسا أو زاهدا؛ لأن العبرة في الشرع بتحقيق معاني ألفاظه، وليس بادِّعائها، ولم يكن هذا المعنى مخصوصًا بجماعة أو طائفة من الناس في العهد الأول لهذه الأمّة، بل هو كالإيمان والإسلام يشترك الناس في أصله، ثم يتفاوتون في مراتبه وشُعَبه، مع استحضار الرقابةِ وخوف سوءِ الخاتمةِ.
وتحصيل الإنسان لمراتب العمل لا يوجب اجتماعَ الناس حوله، ولا يعفيه من المساءلة الشرعية عن أفعاله وأحواله وعرضها على الشرع، وهكذا كان حال السلف مع الأولياء الكُمَّل كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من كبار الصحابة، فلم يقبلوا منهم قولًا في الشرع بناء على فضلهم ولا على سابقتهم، بل كانوا يسألونهم عن مستندهم، ويخطِّئونهم ويردّون عليهم ما يخالف الشرعَ، ولم يتَّخذهم أحد لا من الصحابة ولا من التابعين أولياء من دون النبيِّ، فيصدُر عن أقوالهم جملةً وتفصيلًا دون أن يرجِعَ إلى دليل محكَم أو يستبين طريقا بيِّنًا من الوحي، ولا أُخِذت عنهم أوراد، ولا استُشفِع بجاهِهم، ولا سُئلوا مِن دون الله سبحانه، ولا خُصُّوا باسمٍ غير الصحبة، ولا فُضِّلوا بغير الإيمان، إلى أن تمايَزتِ العلوم وازدَهرت الفنون، ودخل في الإسلام شعوبٌ لها ثقافات وأديان، فأَدخلت على الإسلام مفاهيمَ لم تكن عندَهم، وأوردت عليهم شُبَها، واتَّخذت لهم في الدين طرقًا لم تعهد، فقام بعضُ الناسِ، ونذروا نفوسَهم لله، وتسمَّوا بالزُّهَّاد، ولم يظهر في شطح ولا مخالفة في بادئ أمرهم حتى جاء الجيل الثاني، فقصر عن مرتبة الأول في العلم، فكان في العبَّاد جُهّال وفي الزُّهّاد وُعّاظ وضَّاعون كذَّابون، فبدأ عقد الدين ينفرط على القوم، ولم يزل يرمي بهم واد لواد حتى انفصل التصوّف بكامله عن الشرع، وصار له تنظيره الخاصّ ومصطلحه الذي يخصُّه، فنشأت مفاهيم وفلسفات، وصار تحت كلِّ لفظ قانون يضاهي الشرع في المفهوم، ومن بين تلك المفاهيم مفهوم الولاية عند القوم، وهو ما نناقشه في المبحث الثاني.
المبحث الثاني: مفهوم الولاية عند الصوفية:
المسار التاريخي لمفهوم الولاية مرّ بعملية ترحيل عقدية، فأول البحث ظهر عند الشيعة في مفهوم الإمام وشخصية الإمام وقدرات الإمام وانتظار الإمام، لينتقل نتيجةً للاحتكاك الثقافيِّ وضعف المناعة العقدية لبعض الطوائف السنية، لكن تحت لقب آخر وهو الولي، وقد اختلفت عبارة الصوفية في تعريفه مع اتِّحادها في أهمِّيته وكون الولاية مقصدًا وغاية، إلا أنَّ مفهوم الولاية انتهى إلى حدٍّ يجمعه ويحدِّده، فكان أوّل من تكلم في مفهوم الولاية وأفرده بالتأليف محمد بن علي بن الحسن المعروف بالحكيم الترمذي، فقد ألَّف كتابًا سمَّاه بـ: (ختم الأولياء)، تحدَّث فيه عن علوم الوليّ التي يَعرف، وهي عِلم البدء وعلم المقادير وعلم الحروف([8])، ورأى أنَّ الأولياء يعلَمون الغيب بإطلاعٍ من الله لهم، وفصَّل في مسألة الإلهام، وجعَلَها شرعًا للأولياء، وقال: “إنهم بعد البشرى آمنون من مكر الله الذي هو بمعنى التحويل من حال إلى حال”([9]). ثم تكلَّم عن المجذوب وخاتم الأولياء فقال عنه: “قال له القائل: صف لنا هذا المجذوب الذي وجبت له الإمامة على الأولياء، وأن لواء الولاية بيده، وأن الأولياء كلهم محتاجون إليه في الشفاعة كما يحتاج الأنبياء إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. قال: أما صفته فهو الذي أعلمتك. قال: فبم تقدّم الأولياء فاحتاجوا إليه؟ قال: بأنه أعطى ختم الولاية، فبالختم تقدّمهم، فصار حجَّةَ الله على أوليائه. وقد ذكرت في أول الكتاب سبب الختم وهو أنّ النبوة أُعطِيت الأنبياءَ عليهم السلام، ولم يُعطَوا الختم. فلم تخل تلك الحظوظ من هنات النفس ومشاركتها، وأُعطي نبينا وخُتمت له نبوته، كالعهد الذي يكتب ثم يختم، فلا يصل أحد إلى أن يزيد فيه ولا أن ينقص منه، وقد وصفت شأنه فيما تقدم.
وكذلك هذا الولي يسير به الله تعالى على طريق محمد صلى الله عليه وسلم بنبوته، مختومًا بختم الله. فكما كان محمد صلى الله عليه وسلم حجة على الأنبياء، فكذلك يصير هذا الولي حجة على الأولياء بأن يقول الله تعالى لهم: معاشر الأولياء، أعطيتكم ولايتي فلم تصونوها من مشاركة النفس، وهذا أضعفكم وأقلكم عمرًا قد أتى بجميع الولاية صدقًا، فلم يجعل للنفس فيها نصيبًا ولا تلبيسًا، وكان ذلك في الغيب من منة الله تعالى على هذا العبد، حيث أعطاه الختم لتقر به عين محمد صلى الله عليه وسلم في الموقف. حتى قعد الشيطان بمعزل، وأيست النفس فبقيت محجوبة، فيقر له الأولياء يومئذ بالفضل عليهم. فإذا جاءت تلك الأهوال لم يك مقصرًا. وجاء محمد صلى الله عليه وسلم بالختم فيكون أمانًا لهم من ذلك الهول. وجاء هذا الولي بختمه فيكون أمانًا لهم بصدق الولاية، فاحتاج إلى الأولياء.
وللختم شأن عجيب، ولله في ولد آدم عجائب، وخلقهم لأمر عظيم. ولما عرف العاقل أن الله وَلِيَ خلقَ آدم بيده علم أن هذه خطة فيها أمور عظام. ولما عرف أنه سماه خليفة علم أن ههنا عجائب، فإن الخليفة له شعبة من ملك المستخلف”([10]).
وقد تحدث عن خوارقهم وكراماتهم فقال: “ما قولك في محدث بشر بالفوز والنجاة فقال: رب، اجعل لي آية تحقّق لي ذلك الخبر الذي جاءني لينقطع الشك والاعتراض، فقال: آيتك أن أطوي لك الأرض حتى تبلغ بيتي الحرام في ثلاث خطوات، وأجعل لك البحر كالأرض تمشي عليه كيف شئت، وأجعل لك التراب والجو في يديك ذهبًا. ففعل هذا. هل ينبغي له أن يطمئن إلى هذه البشرى بعد ظهور هذه الآية أم لا؟ فإن قال: لا، فقد عاند واجترأ على الله وحلت به دائرة السوء. وإن قال: نعم، فقد ذهب قوله واحتجاجه الظلماني.
ولا ينكر هذا إلا حاسد لنعم الله وتقديره، محب للدنيا، كاتم للمحبة، مظهر للزهو معجب بنفسه. وقد سترت نفسه المخادعة له هذه الأشياء، فهو لا يراها من نفسه. ويحسب أنه يذب عن الحق بقوله، وغيظه في صدره يتلظى. ولا يعلم أن هذا غيظ الغيرة والحسد، وإنه لا يصل بجهده إلى هذا. فهو يغتاظ ويحنق على من أوصله الله تعالى، من طريق المنن والمشيئة حتى يؤديه ذلك الغيظ والحنق إلى تكذبيه ورميه بالزندقة”([11]).
وقد استقرَّ مفهوم ختم الأولياء عند المتصوِّفة بعد الترمذي، فصار مفهوما موازيًا للإمامة عند الشيعة والمهدوية عند أهل السنة، وأحيانا يكون رديفًا للنبوة، وقد تكلم فيه ابن عربي وفصَّله، فقال: “وأما ختم الولاية المحمدية فهي لرجل من العرب، من أكرمها أصلًا ويدًا، وهو في زماننا اليوم موجود، عرفت به سنة خمس وتسعين وخمسمائة، ورأيت العلامة التي له قد أخفاها الحق فيه من عباده، وكشفها لي بمدينة فاس، حتى رأيت خاتم الولاية منه -وهو خاتم النبوة المطلقة- لا يعلمها كثير من الناس، وقد ابتلاه الله بأهل الإنكار عليه فيما يتحقق به من الحق في سره من العلم به، وكما أن الله ختم بمحمد صلى الله عليه وسلم نبوة الشرائع كذلك ختم الله بالختم المحمدي الولاية التي تحصل من الورث المحمدي لا التي تحصل من سائر الأنبياء، فإن من الأولياء من إبراهيم وموسى وعيسى، فهؤلاء يوحدون بعد الختم المحمدي، وبعده فلا يوجد ولي على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، هذا معنى خاتم الولاية المحمدية”([12]).
وبالنسبة لِلَبنَة النّبوَّة فإنَّ للوليّ رأيًا آخرَ يشرحه ابن عربي فيقول: “ولما مثَّل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبن، وقد كمل سوى موضع لبنة، فمكان الرسول صلى الله عليه وسلم تلك اللبنة، غير أنه صلى الله عليه وسلم لا يراها إلا كما قال: لبنة واحدة. وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤيا، فيرى ما مثَّله به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرى في الحائط موضع اللبنتين واللبن من ذهب وفضة، فلا بد أن يرى نفسَه تنطبع في موضع تَينك اللبنَتين، فيكون خاتم الأولياء تينك اللبنتين، فيكمل الحائط”([13]).
وهذا التصريح بمساواة النبوة ومضاهاتها لم يكن هو الحد الأدنى للتصوف في مفهوم الولاية، بل تجاوزه إلى التسوية بها في أمور:
منها: جعل الإلهام حجة على الولي كما الوحي حجة على النبي.
ومنها: تلقي الشرائع عن الأولياء كما تُتَلقَّى عن الأنبياء، سواء في ذلك الأوراد المخصوصة والصلوات المخصوصة، واعتقاد فضلها وتحديد الأجر فيها.
ومنها: ختم الولاية كما ختمت النبوة مع كثرة المدعين لهذا الختم.
ومنها: الرواية عن الولي والاعتناء باتباعه في كل صغيرة وكبيرة كما هو شأن النبي.
وقد صرح الحكيم الترمذي بعصمة الولي من إلقاء الشيطان مثل عصمة النبي في الوحي([14]).
وقد تجاوز بعضهم إلى أبعد من ذلك، فرأوا دعاءَهم من دون الله، وأن لهم تصرفًا في الكون واطِّلاعا على الغيبِ، وأنهم ينفعون أحياءً وأمواتًا، فصرفوا لهم النذرَ والذبح، وجعلوا هذا من صميم الاعتراف بالولاية، وما عداه إنكارٌ للكرامة، وهوَّلوا من شأن الكرامة ومن شأن إنكارها، حتى ادَّعوا فيها سوءَ الخاتمة لمنكِرها، وفي ذلك قطعٌ بأنها كرامة، ولنا مع هذه المفاهيم على عِلَّاتها وتشعُّبها وقفاتٌ يأتي تفصيلُها في المبحث التالي.
المبحث الثالث: وقفات مع مفهوم الولاية عند الصوفية:
أولا هذا المفهومُ الذي مرَّ معنا لا يستقيم مع الوحي، بل ينقُض الشرعَ، ويأتي عليه من أساسِه، فلا يلزم من الولاية الكرامة ولا الإلهام، فالكرامة بمعنى الخارق ليست رديفةً للولاية، فهؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن لكثيرٍ منهم خوارق ولا أحوال، ولم ينقض ذلك ولايتَهم، ولا نقص من مرتبتهم، بل حسب العبد أن يكونَ مستقيمًا على أمر الله، فتلك هي أعظم كرامَة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لسفيان بن عبد الله حين قال له: قل في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدًا بعدك: «قل: آمنت بالله، ثم استقم»([15])، فالاستقامة حظُّ الربّ، والكرامة حظُّ العبد، قال أبو علي الجوزجاني: “كن طالبًا للاستقامة، لا طالبا للكرامة، فإن نفسَك متحركة في طلب الكرامة، وربّك يطلب منك الاستقامة”. قال الشيخ السهروردي في عوارفه: “وهذا الذي ذكره أصلٌ كبير في الباب، فإنَّ كثيرا من المجتهدين والمتعبدين سمعوا عن سلف الصالحين المتقدمين، وما مُنحوا به من الكرامات وخوارق العادات، فنفوسهم لا تزال تتطلَّع إلى شيء من ذلك، ويحبون أن يُرزقوا شيئًا منه، ولعل أحدهم يبقى منكسِر القلب متهمًّا لنفسه في صحة عمله حيث لم يحصل له خارق، ولو علموا بسرِّ ذلك لهان عليهم الأمر، فيعلم أن الله يفتح على بعض المجتهدين الصادقين من ذلك بابا، والحكمة فيه أن يزداد بما يرى من خوارق العادات وآثار القدرة يقينا، فيقوى عزمه على الزهد في الدنيا، والخروج عن دواعي الهوى. فسبيل الصادق مطالبةُ النفس بالاستقامة، فهي كل الكرامة”([16]).
والولاية محكومة بالنبوة والشرع الظاهر، والولي ليس له صفةٌ غير الولايةِ، وهي حكم بظاهر الشرع لا يوجب جزمًا بخيرٍ ولا شرٍّ. وقد أنكر العلماء على المتصوفة غلوَّهم في مفهوم الولاية ورفعهم لمرتبة الأنبياء وصرف العبادة لهم من دون الله، قال شيخ الإسلام رحمه الله: “القائلون بهذه الأمور مِنهم من ينسب إلى أحد هؤلاء ما لا تجوز نسبته إلى أحد من البشر، مثل دعوى بعضهم أن الغوث أو القطب هو الذي يمدّ أهل الأرض في هداهم ونصرهم ورزقهم، فإنّ هذا لا يصل إلى أحد من أهلِ الأرض إلا بواسطة نزوله على ذلك الشخص، وهذا باطل بإجماع المسلمين، وهو من جنس قول النصارى في الباب. وكذلك ما يدعيه بعضهم من أن الواحد من هؤلاء قد يعلم كل وليّ لله كان ويكون، واسمه واسم أبيه، ومنزلته من الله، ونحو ذلك من المقالات الباطلة التي تتضمن أن الواحد من البشر يشارك الله في بعض خصائصه، مثل أنه بكل شيء عليم، أو على كل شيء قدير، ونحو ذلك، كما يقول بعضهم في النبي صلى الله عليه وسلم وفي شيوخه: إن علم أحدهم ينطبق على علم الله، وقدرته منطبقة على قدرة الله، فيعلم ما يعلمه الله، ويقدر على ما يقدر الله عليه. فهذه المقالات وما يشبهها من جنس قول النصارى والغالية في علي، وهي باطلة بإجماع علماء المسلمين”([17]).
وقد تنبه الشاطبي رحمه الله لخطر الاستجابة للأمر الكوني دون الرجوع للخطاب الشرعي، فليست كل مكاشفة بالغيب تكون علامة خير لصاحبها، فقال: “وقد تكلم الفقهاء في وجوب القوَد على من يقتل غيرَه في الباطن، وهؤلاء يشهدون ببواطنهم وقلوبهم الأمر الكونيّ، ويعدّون مجرد خرق العادة لأحدهم أنه كرامة من الله له، ولا يعلمون أنه في الحقيقة إنما الكرامة لزوم الاستقامة، وأن الله تعالى لم يكرم عبدا بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه، وهو طاعته وطاعة رسوله، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، وهؤلاء هم أولياء الله الذين قال الله فيهم: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون} [يونس: ٦٢].
وأما ما يبتلِي الله به عبده من السرِّ بخرق العادة أو بغيرها أو بالضراء فليس ذلك لأجل كرامة العبد على ربّه ولا هوانه عليه، بل قد سعد بها قوم إذا أطاعوه، وشقي بها قوم إذا عصوه، كما قال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر: ١٥-١٧].
ولهذا كان الناس في هذه الأمور ثلاثة أقسام: قسم ترتفع درجتهم بخرقِ العادة، وقسم يتعرضون بها لعذاب الله، وقسم يكون في حقهم بمنزلة المباحات”([18]).
وما يدعونه من الفيوضات والروحانيات والعلوم كلُّه معروض على الشرع، فمن ادَّعى سقوط شرعٍ عنه بسبب كرامة أو علم لدنيّ فقد ضلّ وزلّ، وانتقضت ولايته، وتبينت عداوته للشرع، وقد كان علماء الإسلام لهذا النوع من التصوّرات بالمرصاد، يقول ابن حجر الهيتمي: “من قال: إذا ظهرت الربوبية زالت العبودية، وعنى بذلك رفع الأحكام، أو قال: إنه فني من صفات الناسوتية إلى اللاهوتية، أو قال: إن صفاته تبدلت بصفات الحق، أو قال: إنه يرى الله تعالى عيانا في الدنيا ويكلِّمه شفاها، أو إن الله يحل في الصور الحسان، أو قال: إن الحق يطعمه ويسقيه، وأسقط عنه التمييز بين الحلال والحرام، وأنه يأكل من الغيب ويأخذ منه، أو قال: أنا الله أو هو أنا، أو قال: دع الصلاة والزكاة والصوم والقراءة وأعمال البر، الشأن في عمل الأسرار، أو قال: سماع الغناء من الدين وأنه أنفع للقلوب من القرآن، أو قال: العبد يصل إلى الله تعالى من غير طريق العبودية، أو قال: وصلت إلى رتبة تسقط عني التكليف، أو قال: الروح نور الله، فإذا اتصل النور بالنور اتحد = كفر في جميع هذه المسائل.
بخلاف ما لو قال: وصلت إلى رتبة خلصت من [ربقة] النفس وعتقت منها، فإنه لا يكفر، لكنه مبتدع مغرور، وكذا لو قال: أنا أعشق الله أو يعشقني، والعبارة الصحيحة: أُحِبّه ويحبني، أو قال: يلهمني الله ما أحتاج إليه من أمر ديني، فلا أحتاج إلى العلم والعلماء، بل هو مبتدع كذّاب، ومن أَظهَر السكرَ والوجد، ولا يستقيم ظاهره، ولا تتقيَّد جوارحه بالورع، فهو مغرور بَعيدٌ من الله تعالى، ومن تخلى واعتزل وترك الجماعات بلا عذر شرعي فمبتدع لا يقبل الله منه الزهد، ومنِ ادَّعى الكرامات لنفسه بلا غَرض ديني فكاذب يلعب به الشيطان، ومن قال في غير الغلبات: ما بقي لسوى الحق فيّ موضع، فهو بعيد من الله تعالى مبتدع”([19]).
أما دعاء الولي من دون الله والاستغاثة به فهو شرك بالله عز وجل، ومناقضة لأصل الدين، ولم ينزل الله كتابًا ولم يرسل رسولا بأن يُعبد مخلوق من دونه، قال الله سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُون} [آل عمران: 79].
عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام: أتريد -يا محمد- أن نعبدك كما تعبد النصارَى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرِّبِّيس: أوَذاك تريد منا يا محمد، وإليه تدعونا؟ أو كما قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «معاذَ الله أن نَعبُد غيرَ الله، أو نأمر بعبادة غيره، ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني» أو كما قال، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} الآية إلى قوله: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 79]([20]).
وقال سبحانه: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِين} [يونس: 106]. فالأولياء لا ينفعون ولا يضرون، بل هم مبتغون إلى الله الوسيلة بعبادته، ومشفقون من عذابه.
ومن نظر في نصوص الشرع وجد أن الولاية مفهوم كسبي يصل إليه الإنسان بالإيمان والعمل ويدركه بالصالحات، وأولى الناس به على الإطلاق الصحابة، ولو كان كمال الولاية موجبا لختمها لأغلق بابها بعد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ومن نظر في حال الصحابة وما هم عليه من الإيمان وقارنه بحال غيرهم وما هو عليه من الشطح تبيَّن له الفرق الذي لا يسع أحدا إنكارُه ولا تجاهله، وقد كان الصحابة يدعون إلى الله ويعظمون النبي، وبهذا نالوا الولاية الحقيقية، بينما دعا المتصوفة إلى أنفسهم وإلى أشياخهم وطرقهم، فصارت الولاية أعظم من النبوة، وحق الولي عندهم آكد من حق النبي، فانتقض الشرع من أساسه، وظهر في القوم من الباطل ما لا يقرّه شرع ولا يرضاه دينٌ، والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) المستدرك على الصحيحين (8422).
([5]) ينظر: إتمام الدراية (ص: 7).
([10]) المرجع السابق (ص: 180).
([16]) ينظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي (ص: 509).
([17]) منهاج السنة النبوية (1/ 96).
([19]) الإعلام بقواطع الإسلام (ص: 204) نقلا عن بعض الشافعية.