الثلاثاء - 10 ذو القعدة 1444 هـ - 30 مايو 2023 م

الروايات الضعيفة في دواوين الاعتقاد”بين الاعتماد والتخريج”

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

المقدمة:

من الدلائل الباهرة والآيات القاهرة والبراهين الظاهرة لكل عاقل بصير حِفظُ الله سبحانه وتعالى لدين الإسلام على مر العصور والقرون والأزمان، وفي مختلف الظروف والأحوال والبلدان، فديننا الإسلامي محفوظ بحفظ الله سبحانه وتعالى رغم أنوف الحاقدين ورغم كيد الكائدين؛ ويتجلَّى لنا هذا الحفظ في حفظ الله سبحانه وتعالى لكتابه الكريم؛ ففي أي بقعة من بقاع الأرض قلَّبتَ مُصحفًا من المصاحف لم تُلفِ اختلافًا بينه وبين أيّ مصحف آخر في أي بقعة أخرى، ولو كان بينهما بعد المشرقين، فيا لله ولحفظه هذا الدين العظيم كل هذه السنون! وصدق الله القائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

ومن تجلّيات هذا الحفظ حِفظُه سبحانه وتعالى للمصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، وهو الحديث النبوي الشريف المتمثّل في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره وكلِّ شأنه وهديه، والذي انتصب له عظماء الأمة في سالف الدهور جمعًا وحفظًا ورواية وتبليغًا وشرحًا ودرسًا وتعلُّمًا وتعليمًا؛ إننا لا نستطيع أن نتجاوز ذلك المشروع الإسلامي العظيم في لمحة بصر، ولا أن ننهي الحديث عنه بجرة قلم؛ ولكن حسبنا أن نعرف موقف الأئمة حين سئلوا عن الدجَّالين والكذابين والوضاعين، فكان ردُّهم وبكل ثقة: “يعيش لها الجهابذة([1]).

يقول ابن الجوزي (ت 597هـ): “سنة نبينا صلى الله عليه وسلم مأثورة ينقلها خلف عن سلف، ولم يكن هذا لأحد من الأمة قبلها، ولما لم يمكن أحدًا أن يدخل في القرآن شيئا ليس منه أخذ أقوام يزيدون في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقصون ويبدِّلون ويضعون عليه ما لم يقل، فأنشأ الله عز وجل علماءَ يذبّون عن النقل، ويوضِّحون الصحيح، ويفضحون القبيح، وما يخلي الله عز وجل منهم عصرا من العصور، غير أن هذا النسل قد قلَّ في هذا الزمان فصار أعزَّ من عنقاء مغرب”([2]).

ولقد دخلت الأحاديث الضعيفة على كثير من أبواب العلوم، وكانت السبب في كثير من الانحرافات، يقول ابن تيمية (ت 728هـ): “وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة، ولم يعلموا أنه بدعة؛ إما لأحاديث ضعيفة ظنّوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها، وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم”([3]). ولا شك أن من تلك الأبواب العلمية علم العقيدة.

وفي هذه الورقة سنبحث في عوامل ورود الأحاديث الضعيفة في كتب العقيدة، ونبين مقاصد العلماء في إيرادها.

تمهيد:

“من المصائب العظمى التي نزلت بالمسلمين منذ العصور الأولى انتشارُ الأحاديث الضعيفة والموضوعة بينهم، وقد أدَّى انتشارها إلى مفاسدَ كثيرة، منها ما هو من الأمور الاعتقادية الغيبية، ومنها ما هو من الأمور التشريعيّة، وقد اقتضَت حكمة العليم الخبير سبحانه وتعالى أن لا يدع هذه الأحاديثَ التي اختلقها المغرضون لغايات شتى تسري بين المسلمين دون أن يقيِّض لها من يكشف القناعَ عن حقيقتها، ويبين للناس أمرها، أولئك هم أئمة الحديث الشريف، وحاملو ألوية السنةِ النبوية، فقد قام هؤلاء الأئمة -جزاهم الله عن المسلمين خيرا- ببيان حال أكثر الأحاديث من صحة أو ضعف أو وضع، وأصَّلوا أصولا متينة، وقعَّدوا قواعد رصينة، من أتقنها وتضلَّع بمعرفتها أمكنه أن يعلم درجة أي حديث ولو لم ينصوا عليه، وذلك هو علم أصول الحديث، أو مصطلح الحديث”([4]).

والحديث الضعيف -فضلا عن الموضوع- يتَّفق العلماء على عدم قبوله استقلالا في أبواب الحلال والحرام، فأبواب العقائد من باب أولى.

ولذا نرى أئمة الحديث يبوِّبون أبوابًا خاصّة في كتبهم للتنبيه على هذه القضية، فالخطيب البغدادي (ت 463هـ) بوَّب في كتابه الكفاية بابًا خاصًّا لهذا الأمر سمَّاه: “باب التشدّد في أحاديث الأحكام، والتجوُّز في فضائل الأعمال، قد ورد عن غير واحد من السلف أنه لا يجوز حمل الأحاديث المتعلقة بالتحليل والتحريم إلا عمن كان بريئًا من التهمة، بعيدًا من الظنة”. ثم افتتحه بقول السفيانين: سفيان الثوري (ت 161هـ): “لا تأخذوا هذا العلم في الحلال والحرام إلا من الرؤساء المشهورين بالعلم، الذين يعرفون الزيادة والنقصان، ولا بأس بما سوى ذلك من المشايخ”، وسفيان بن عيينة (ت 198هـ): “لا تسمعوا مِن بقيَّةَ ما كان في سنَّة، واسمعوا منه ما كان في ثواب وغيره”. وكذلك قول الإمام أحمد (ت 241هـ): “إذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشدَّدنا في الأسانيد، وإذا روينا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في فضائل الأعمال وما لا يضع حكما ولا يرفعه تساهلنا في الأسانيد”([5]).

وقال ابن أبي حاتم (ت 327هـ) وهو يذكر مراتب الرواة: “ومنهم الصدوق الورع المغفَّل الغالب عليه الوهم والخطأ والسهو والغلط، فهذا يُكتَب من حديثه الترغيب والترهيب والزهد والآداب، ولا يحتجّ بحديثه في الحلال والحرام”([6]).

ويقول ابن الصلاح (ت 643هـ): “يجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل في الأسانيد ورواية ما سوى الموضوع من أنواع الأحاديث الضعيفة من غير اهتمام ببيان ضعفها فيما سوى صفات الله تعالى وأحكام الشريعة من الحلال والحرام وغيرها، وذلك كالمواعظ والقصص وفضائل الأعمال، وسائر فنون الترغيب والترهيب، وسائر ما لا تعلق له بالأحكام والعقائد”([7]).

ويقول ابن تيمية: “ولا يجوز أن يعتمد في الشريعة على الأحاديث الضعيفة التي ليست صحيحة ولا حسنة… ولم يقل أحد من الأئمة: إنه يجوز أن يجعلَ الشيء واجبًا أو مستحبًا بحديث ضعيف، ومن قال هذا فقد خالف الإجماع… ومن نقل عن أحمد أنه كان يحتج بالحديث الضعيف الذي ليس بصحيح ولا حسن فقد غلط عليه، ولكن كان في عرف أحمد بن حنبل ومن قبله من العلماء أن الحديثَ ينقسم إلى نوعين: صحيح وضعيف، والضعيف عندهم ينقسم إلى ضعيف متروك لا يحتجُّ به، وإلى ضعيف حسن، كما أن ضعف الإنسان بالمرض ينقسم إلى مرض مخوف يمنع التبرعَ من رأس المال، وإلى ضعف خفيف لا يمنع من ذلك”([8]).

فإذا كان الأمر كذلك فإنه يرد السؤال: لماذا توجد مرويات ضعيفة في كتب العقيدة المتقدمة؟

الكتب العقدية التي تحتوي على مرويات ضعيفة التفت مؤلفوها غالبًا إلى أهداف أسنى من مجرَّد العناية بالحديث الصحيح، ولا شكَّ أن العناية بالصحيح أمر عظيم الشأن، ولكن كان لهؤلاء العلماء مبرّرات في ذلك، منها:

  • إبراء الذمة وإخلاء العهدة بذكر الإسناد، فبعض أهل العلم لم يشترط الصحة فيما يروي، ولكن يذكر مروياته بالأسانيد، وقد كان هذا عُرفًا معهودًا في زمانهم أن من أسند فقد أحال، أي: خرج من عهدة الروية وأحالها إلى غيره؛ ولهذا تجد مثلا الإمام الطبري (ت 310هـ) -على جلالة قدره- ينقل في كتاب التاريخ كثيرًا من الأخبار المستشنعة وخصوصًا في زمن الفتنة، وكان ينقل عن أبي مخنف لوط بن يحيى -وهو أخباري تالف، صاحب تصانيف وتواريخ، متروك لا يوثق به-([9]) وأمثاله من المتشيعين، لكنه كتب في المقدمة أن بعض النَّاس قد ينظر إلى كتابه هذا فيستشنع بعض المرويات الموجودة فيه، ثم اعتذر عن ذلك بأنه أسند، وأن من أسند فقد برئ، فقال رحمه الله: “وليعلم الناظر في كتابنا هذا أنّ اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه مما شرطت أني راسمه فيه إنما هو على ما رويتُ من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه، والآثار التي أنا مسندها إلى رواتها فيه، دون ما أدرك بحجج العقول… فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتى من قبل بعض ناقليه إلينا، وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أُدِّي إلينا”([10]).
  • قصد جمع كلّ النصوص الواردة بغضّ النظر عن الصحة والضعف؛ فبعض المؤلفين في العقائد تقصَّد إلى أن يجمعَ كلَّ ما وقف عليه من الروايات في كتب الحديث من السنن والمسانيد والمصنفات وغيرها مما لم يشترط مؤلِّفوها الصحة؛ ليوفِّر مادة علمية غزيرة في الموضوع الذي قصد الجمع فيه، فكان الهدف المسطر هو الاستيعاب، وليس التمييز بين الصحيح والضعيف.
  • رواية بعض الأحاديث لبيان ضعفها؛ فربما كان قصد المؤلف من إيراد الحديث الضعيف في كتابه هو ردُّه وبيان ضعفه؛ حتى يحذره الناس.
  • كون ضعفها منجبرًا وليس ضعفًا شديدًا؛ فقد تكون هذه الأحاديث ضعيفة لكن ضعفها منجبر، يقول ابن تيمية: “وقد ضبط ألفاظ الحديث بعض المحدثين الحفاظ، أو لتلك الرواية من الشواهد والمتابعات ما يبيِّن صحتها، وهذا أيضًا كثير جدًّا، وهو في التَّابعين وتابعيهم إلى الأئمة المشهورين من بعدهم أكثر من العصر الأول، أو كثير من القسم الأول؛ فإن الأحاديث كانت قد انتشرت واشتهرت، لكن كانت تبلغ كثيرًا من العلماء من طرق ضعيفة، وقد بلغت غيرهم من طرق صحيحة غير تلك الطرق، فتكون حجة من هذا الوجه، مع أنها لم تبلغ من خالفها من الوجه الآخر؛ ولهذا وجد في كلام غير واحد من الأئمة تعليق القول بموجب الحديث على صحته، فيقول: قولي في هذه المسألة كذا وقد روي فيها حديث بكذا؛ فإن كان صحيحا فهو قولي”([11]).
  • أن بعض الروايات يختلف أهل الشأن في الحكم عليها؛ فالتضعيف والتصحيح قضية اجتهادية بحدّ ذاتها، فقد يضعِّف أحد العلماء ما يراه الآخر صحيحًا بناء على اجتهاده ونظره، وليس قول أحدهما بحجّة على الآخر ما دام الخلاف سائغًا، وهذا الاختلاف في التصحيح والتضعيف له أسباب كثيرة، يقول ابن تيمية مبينًا شيئًا من أسباب الاختلاف: “منها: أن يكون المحدِّث بالحديث يعتقده أحدهما ضعيفا ويعتقده الآخر ثقةً، ومعرفة الرجال علم واسع. ثم قد يكون المصيب من يعتقد ضعفه؛ لاطلاعه على سبب جارح، وقد يكون الصواب مع الآخر لمعرفته أن ذلك السبب غير جارح؛ إما لأن جنسه غير جارح، أو لأنه كان له فيه عذر يمنع الجرح. وهذا باب واسع… ومنها: ألا يعتقد أن المحدث سمع الحديث ممن حدث عنه، وغيره يعتقد أنه سمعه لأسباب توجب ذلك معروفة. ومنها: أن يكون للمحدث حالان: حال استقامة، وحال اضطراب؛ مثل أن يختلط، أو تحترق كتبه، فما حدث به في حال الاستقامة صحيح، وما حدث به في حال الاضطراب ضعيف”([12]).

ولا شكّ أنَّ الأئمة السابقين كانوا أعلم بالحديث، قال ابن تيمية: “الذين كانوا قبل جمع هذه الدواوين كانوا أعلم بالسُّنة من المتأخرين بكثير؛ لأن كثيرًا مما بلغهم وصح عندهم قد لا يبلغنا إلا عن مجهول، أو بإسناد منقطع، أو لا يبلغنا بالكلية، فلقد كانت دواوينهم صدورهم التي تحوي أضعاف ما في الدواوين، وهذا أمر لا يشك فيه من علم بالقضية”([13]).

وتحت هذا العامل نستطيع أن ندرج جملة من الأحوال، ومنها:

أ- أن يكون الحديث من قبيل الحسن لغيره عند المؤلف، ولكن يراه غيره بأنه من قبيل الضعيف.

ب- أن يكون الحديث مختلفًا فيه؛ فبينما يرى المؤلف أنه من الصحيح أو الحسن يراه غيره من الضعيف.

  • أن يكون المقصود تأييد أصل صحيح؛ وذلك بأن يرد الأصل في الصحاح والحسان، ثم يرد حديث ضعيف يدلّ على ذات المعنى، فيوردونه للتأييد لا للتأصيل عليه؛ يقول ابن تيمية رحمه الله: “وأهل الحديث لا يستدلون بحديث ضعيف في نقض أصل عظيم من أصول الشريعة بل إما في تأييده؛ وإما في فرع من الفروع”([14])، ويقول رحمه الله في موضع آخر: “وأما حديث أم الطفيل فإنكار أحمد له -لكونه لم يعرف بعض رواته- لا يمنع أن يكون عرفه بعد ذلك، ومع هذا فأمره بتحديثه به لكون معناه موافقًا لسائر الأحاديث كحديث معاذ وابن عباس وغيرهما، وهذا معنى قول الخلال: إنما يروى هذا الحديث وإن كان في إسناده شيء تصحيحًا لغيره، ولأن الجهمية تنكر ألفاظه التي قد رويت في غيره ثابتة، فروي ليبين أن الذي أنكروه تظاهرت به الأخبار واستفاضت، وكذلك قول أبي بكر عبد العزيز: فيه وهاء ونحن قائلون به، أي: لأجل ما ثبت من موافقته لغيره الذي هو ثابت، لا أنه يقال بالواهي من غير حجة؛ فإن ضعف إسناد الحديث لا يمنع أن يكون متنه ومعناه حقًّا، ولا يمنع أيضًا أن يكون له من الشواهد والمتابعات ما يبين صحته، ومعنى الضعيف عندهم أنا لم نعلم أن راويه عدل أو لم نعلم أنه ضابط، فعدم علمنا بأحد هذين يمنع الحكم بصحته، لا يعنون بضعفه أنا نعلم أنه باطل؛ فإن هذا هو الموضوع، وهو الذي يعلمون أنه كذب مختلق، فإذا كان الضعيف في اصطلاحهم عائدًا إلى عدم العلم فإنه يطلب له اليقين والتثبيت، فإذا جاء من الشواهد بالأخبار الأخرى وغيرها ما يوافقه صار ذلك موجبًا للعلم بأن راويه صدق فيه وحفظه، والله تعالى أعلم”([15]).
  • أن يكون خطأ من المؤلف؛ فالأئمة على جلالة قدرهم ليسوا معصومين من الخطأ؛ فبلا شك هناك أحاديث وآثار ضعيفة في هذه الكتب، يقول ابن تيمية: “ولا يقولن قائل: إن الأحاديث قد دوّنت وجمعت، فخفاؤها والحال هذه بعيد؛ لأن هذه الدواوين المشهورة في السنن إنما جمعت بعد انقراض الأئمة المتبوعين، ومع هذا فلا يجوز أن يدَّعى انحصار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في دواوين معينة. ثم لو فرض انحصار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فليس كل ما في الكتب يعلمه العالم، ولا يكاد ذلك يحصل لأحد، بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط بما فيها… ولا يقولن قائل: من لم يعرف الأحاديث كلها لم يكن مجتهدا؛ لأنه إن اشترط في المجتهد علمه بجميع ما قاله النَّبِي صلى الله عليه وسلم وفعله فيما يتعلق بالأحكام فليس في الأمة على هذا مجتهد، وإنما غاية العالم أن يعلم جمهور ذلك ومعظمه، بحيث لا يخفى عليه إلا القليل من التفصيل، ثم إنه قد يخالف ذلك القليل من التفصيل الذي يبلغه”([16])؛ ولهذا فصَّل شيخ الإسلام رحمه الله في كيفية التعامل مع هذه الحالة فقال: “السُّنة ينبغي معرفة ما ثبت منها وما علم أنه كذب، فإن طائفة ممن ينتسب إلى السُّنة وعظموا السُّنة والشرع، وظنوا أنهم اعتصموا في هذا الباب بالكتاب والسُّنة جمعوا أحاديث وردت في الصِّفات، منها ما هو كذب معلوم أنه كذب، ومنها ما هو إلى الكذب أقرب، ومنها ما هو إلى الصحة أقرب، ومنها متردّد، وجعلوا تلك الأحاديث عقائد وصنفوا مصنفات، ومنهم من يكفر من خالف ما دلت عليه تلك الأحاديث”([17]).

ولا شك أن هذا النقد من شيخ الإسلام نقدٌ له وزنه، ففي بعض الأحيان قد يخفى على المؤلف أن هذا الحديث ضعيف، ومن ذلك ما تحدث عنه ابن تيمية حيث قال عن بعض المصنفين في العقائد: “وكذلك أبو علي الأهوازي له مصنف في الصِّفات قد جمع فيه الغث والسمين، وكذلك ما يجمعه عبد الرحمن بن منده، مع أنه من أكثر النَّاس حديثًا، لكن يروي شيئًا كثيرًا من الأحاديث الضعيفة، ولا يميز بين الصحيح والضعيف، وربما جمع بابا وكل أحاديثه ضعيفة؛ كأحاديث أكل الطين وغيرها، وهو يروي عن أبي علي الأهوازي، وقد وقع ما رواه من الغرائب الموضوعة إلى حسن بن عدي، فبنى على ذلك عقائد باطلة، وادعى أن الله يُرَى في الدنيا عيانا”([18])، وقال: “وقد صنف القاضي أبو يعلى كتابه في إبطال التأويل ردًّا لكتاب ابن فورك، وهو وإن كان أسندَ الأحاديث التي ذكرها وذكر من رواها، ففيها عدة أحاديث موضوعة؛ كحديث الرؤية عيانًا ليلة المعراج ونحوه، وفيها أشياء عن بعض السلف رواها بعض النَّاس مرفوعة، كحديث قعود الرسول صلى الله عليه وسلم على العرش، رواه بعض النَّاس من طرق كثيرة مرفوعة، وهي كلها موضوعة، وإنما الثابت أنه عن مجاهد وغيره من السلف، وكان السلف والأئمة يروونه ولا ينكرونه، ويتلقونه بالقبول”([19]).

وبعد أن وضَّح رحمه الله الموقف من أولئك العلماء الذين روَوا الأحاديث الضعيفة بيَّن الموقف من النصوص نفسها، ففرق بين النصوص وبين رواتها، قال رحمه الله: “والمقصود هنا أن ما لم يكن ثابتًا عن الرسول لا نحتاج أن ندخلَه في هذا الباب، سواء احتيج إلى تأويل أو لم يحتج([20]).

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/ 2-3)، وينظر: مقال بعنوان: “يعيش لها الجهابذة” على موقع مركز سلف للبحوث والدراسات.

([2]) الموضوعات (1/ 31).

([3]) مجموع الفتاوى (19/ 191).

([4]) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة للألباني (1/ 47) بتصرف يسير.

([5]) الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (ص: 133 وما بعدها).

([6]) مقدمة الجرح والتعديل (1/ 6).

([7]) معرفة أنواع علوم الحديث (ص: 103).

([8]) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (1/ 176 وما بعدها). وينظر: منهاج السنة النبوية (4/ 341)، وإعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 55).

([9]) ينظر: سير أعلام النبلاء (7/ 301)، ولسان الميزان (6/ 430).

([10]) تاريخ الرسل والملوك (1/ 8).

([11]) رفع الملام عن الأئمة الأعلام (ص: 19).

([12]) رفع الملام عن الأئمة الأعلام (ص: 20).

([13]) رفع الملام عن الأئمة الأعلام (ص: 17).

([14]) مجموع الفتاوى (4/ 25).

([15]) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (7/ 356).

([16]) رفع الملام عن الأئمة الأعلام (ص: 17).

([17]) مجموع الفتاوى (16/ 432).

([18]) مجموع الفتاوى (16/ 434).

([19]) درء تعارض العقل والنقل (5/ 237).

([20]) درء تعارض العقل والنقل (5/ 237).

التعليقات مغلقة.

جديد سلف

مقولة الخصوم بنفي العصمة عن أئمة السلفية… كيف نفهمها ونتعامل معها؟

لعلَّه من أشهر الأساليب الهجوميّة لخصوم المنهج السلفي: المبادرةُ للقول بأن أئمتَه ليسوا قدِّيسين أو معصومين من الخطأ، فابن تيمية عالم كبير لكنه يصيب ويخطئ، ومحمد بن عبد الوهاب (داعية وليس نبيًّا)([1]). وغنيٌّ عن القول بأن المراد من هذا الكلام ليس تثبيتَ الحقائق وتأكيدَها، بل هو أسلوب هجوميّ مألوفٌ يستخدمه خصومُ السلفية لتحقيق مجموعةٍ من […]

مثاراتُ الغلط في مسألة التبرُّك

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مسألة التبرك من أكثر المسائل التي حصل فيها خلط وغلط كثير؛ بسبب الإطلاقات غير المنضبطة، إفراطًا أو تفريطًا، مما ترتب عليه اشتباه المشروع بغير المشروع لدى البعض، ومواطن الإجماع بمواطن الخلاف، وما يسوغ فيه الخلاف وما لا يسوغ. وقد حصل توسع كبير في هذا المسألة، أخرجها -في بعض صورها- […]

لماذا لم تفرض الشريعةُ الحجابَ على الرجالِ منعًا من افتتان النِّسَاء؟

  إن الشريعة الإسلامية نادت بالعِفَّة، وحرّمت الزنا ومقدِّماته، وشرعت من الأحكام بين الجنسين ما روعي فيه طبيعة كل منهما، ومن جملة تلك الأحكام: فرض الحجاب على المرأة. وقد أثار دعاة السفور والتهتّك والانحلال شبهاتٍ حول حجاب المرأة، ومن تلك الشبهات قولهم: ما دام الأمرُ بالحجاب من أجْل الفِتنة، وأخَذنا مسألةَ الفِتنة مأخَذًا جادًّا، فلماذا […]

الحضرة الصوفية.. حقيقتها ومفاسدها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: تعتبر جلسات الذكر التي يعقدها الصوفية والتي يسمونها (الحضرة) من أهم الممارسات العملية للطرق الصوفية، فمهما اختلفت الطرق في أسمائها وطرائقها، وفي طريقة إقامة الحضرة وترتيبها، إلا أنها تتفق في ضرورة (الحضرة) ولزومها للسالك والمريد، وأنه لا يجوز للمريد التخلف عن هذه الحضرات التي تعقد في مواعيد منتظمة […]

سُنّة لَعْقِ الأصابع بعد الأكل.. والجواب على شبهات العقلانيين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  كانتِ البشريةُ في انحطاط عقديّ وأخلاقي، إذ كانت التقاليد والأعراف مبنيةً على الهوى والجشَع والأطماع، والقويُّ في مجتمعاتها يتسلَّط على الضعفاء، حتى جاء الإسلام وانتشل العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وأطلقهم من أغلال عادات الجاهلية وقيودها المخالفة للفطرة السليمة التي فطر […]

جواب شبهة حول الاستسقاء بقبور الصالحين والأولياء – وفيه جواب عن الاستدلال بقول مجاهد عن قبر أبي أيوب: “كانوا إذا ‌أمحلوا ‌كشفوا ‌عَنْ ‌قبره فمطروا” –

من الشبهاتِ التي يوردُها من يجوِّز الاستغاثة بالأموات أو طلب الدعاء منهم أو التوسل بذواتهم وجاههم: بعض الآثار والحكايات المروية في الاستسقاء بقبور الأنبياء والصالحين، ومن ذلك: ما نقله ابن عبد البر وغيره في ترجمة أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه ودفنه عند سور القسطنطينية، فأورد قول مجاهد عن قبر أبي أيوب هناك: “كانوا إذا […]

مفهوم الاشتراك المعنوي في الصفات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة منذ أن وفد المنطقُ اليونانيّ على الأمة الإسلامية والناس في باب العقائد في أمر مريج، وقد وصل الغلوُّ ببعض المتفنِّنين في هذا الفنّ إلى محاكمة قواعد اللغة وأخبار الشرع إلى هذا القانون، وجعلوا منه حكَمًا على اللسان والبيان، وكان أولُ العلوم ابتلاء بهذه التحريفات علم العقائد، وخاصة ما يتعلق […]

التخاطب مع الكينونات.. وثنية في ثوب جديد

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة يقول ابن خلدون: “المغلوب مولَع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيِّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، والسّبب في ذلك أنّ النّفس أبدًا تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه؛ إمّا لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أنّ انقيادها ليس لغلب طبيعيّ إنّما هو لكمال الغالب. […]

المحدث المسند نذير حسين الدهلوي “1220-1320هـ”

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة اشتهر الإمام المحدث نذير حسين بلقب “شيخ الكل في الكل” بسبب تفرّغه للتدريس مدة طويلة جدًا تجاوزت سبعين سنة! واقتصر على تدريس القرآن الكريم والسنة والفقه مدة خمسين سنة تقريبًا، وقبل ذلك كان يدرس في غالب العلوم والفنون! وبسبب هذه المدة الطويلة أصبح له طلاب بعشرات الآلاف، ومن دول […]

هل شروط (لا إله إلا الله) من اختراع الوهابية؟

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: من الشبهات التي يثيرها المخالفون لاعتقاد السلف ممن هم على اعتقاد الجهمية والمرجئة في الإيمان: أن شروط لا إله إلا الله من اختراع الوهابية، لم يسبقهم بذكرها أحد. والجواب عن هذه الشبهة يحصل ببيان معنى هذه الشروط، ومأخذ العلماء فيها، وأصل […]

الأعياد بين التشريعات الإلهية والذكريات التاريخية ..دراسة مقارنة بين الأعياد في الملل

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: ينعَم المسلمون بدينهم الإسلاميِّ الذي يختصّ عن غيره من الملل والنحل والمذاهب والفلسفات بأعياد توقيفية شرعَها لهم إلههم وخالقهم ومولاهم، وليست من وضع أحد من البشر، ولا مرتبطة بموت أحد ولا بحياته، ولا مرتبطة بانتصار أو فتح من الفتوحات على الرغم من كثرتها في الدين الإسلامي، ولا مرتبطة […]

من تاريخ الدولة السعوديّة الأولى كما رواه الجبرتي في تاريخه -الجزء الأول-

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن نهج نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا بين أيديكم جزءٌ من تاريخ الدولة السعودية الأولى، وكيف كانت نهايتها، كما صَوَّرَها المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي في كتابه “عجائب الآثار في التراجم والأخبار”، […]

تحريم الاستغاثة بالحي فيما لا يقدر عليه إلا الله ليس بدعة تيمية

مِن نافلة القول أن يُقال: إنّ دعاء الله هو الأصل في الدعاء، فلا يكاد مسلمٌ يقرأ آية من القرآن إلا دفعت بهذه الحقيقة في وجهه مقرِّرة لها بالأدلة الشرعية بقسميها العقليّ والنقلي.  ومع ذلك ظلّ بعضُ المتأخِّرين يجادل في هذه الحقيقة بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، حتى جعلوا دعاءَ غيرِ الله وسؤالَه هو […]

عرض وتعريف بكتاب فتح الملك الوهاب في الرد على من طعن في دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة بيانات الكتاب: عنوان الكتاب: فتح الملك الوهاب في الرد على من طعن في دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب. اسم المؤلف: ناصر عبد الرزاق العبيدان. قدم له: أ. د. خالد بن علي المشيقح. دار الطباعة: مكتبة الإمام الذهبي بالكويت، والتراث الذهبي بالرياض. رقم الطبعة وتاريخها: الطبعة الأولى 1441هـ-2020م. حجم […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017