حرية التعبير | المفهوم والضوابط
#مركز_سلف_للبحوث_والدراسات
#إصدارات_مركز_سلف
حرية الرأي وحرية التعبير حقوق إنسانية فطرية، بالنسبة للدين الإسلامي، ما دام هذا الحق لا يستخدمه صاحبه استخدامًا يتعدى فيه الحدود الشرعية، وهذا المصطلح هو مجال خصب لبناء تصورات منهجية، تستمد مرجعيتها من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، بالإضافة إلى إحياء النفَس الاجتهادي القائم على تطبيق القواعد الفقهية، والأصول النظرية لاستنباط الأحكام استنباطًا صحيحًا بعيدًا عن ضغط الواقع المهيمن، ويستجيب للمتطلبات الشرعية، ويبين مستنداتها فيما تذهب إليه من تشريعات وضوابط في هذا الباب، ويواجه التعقيدات والأزمات، ولا سيما المعاصرة منها.
ومن هنا لزم إرجاع الحرية إلى الضوابط الشرعية؛ لكي يتسنى لنا فهمها في إطارها الصحيح، وذلك ما سوف نتناوله في هذا المقال من خلال الكلام عن مفهوم الحرية وأبعادها التي نظر الشارع إليها، ومن ثمَّ رتب الضوابط على أساسها وخصوصا ما يتعلق بالتعبير منها:
مفهوم الحرية: إذا أردنا التعمق في البحث في مفهوم الحرية، فإنه لا بد من تبيين الأسباب التي أدت إلى حدوث إشكالية في تحديد مفهومها، وهذه الإشكالية ترجع إلى سببين:
السبب الأول: تنوع المجالات التي يستعمل فيها مفهوم الحرية، فهو حاضر عند الفلاسفة بصورة مكثفة، وحاضر عند علماء الأديان في أبواب متعددة، ومتداول عند علماء السياسة وعلماء الاجتماع، ومستعمل في علم النفس وعلم الأخلاق، وله حضور عند المتصوفة، وفي كل مجال من هذه المجالات اتجاهات ومدارس، وهذا التنوع والتداخل الاستعمالي الكبير من أقوى ما يؤدي إلى حصول الاضطراب في المفاهيم، وتشتت الرؤية حولها.
السبب الثاني: تعدد المرجعيات المؤثرة في الرؤية؛ فإن الواقع الإنساني مزدحم بالقيم والمبادئ التي تمثل مرجعية محكمة في صوغ الأفكار، ولها تأثير في توجيه الأذهان؛ لكي تنسجم مع مقتضياتها، ومن ثمَّ فإن التعاطي مع مصطلح الحرية سيكون بلا ريب داخلًا ضمن ذلك السياق([1]).
والذي نحن بصدد مناقشته هنا هو حرية الرأي وفقًا للضوابط الشرعية وهي تعني: “حقَّ الفرد في اختيار الرأي الذي يراه في أمر من الأمور العامَّة أو الخاصَّة، وإبداء هذا الرأي وإسماعه للآخرين، وهي حقُّ الشخص في التعبير عن أفكاره ومشاعره باختياره وإرادته؛ ما لم يكن في ذلك اعتداءٌ على حقِّ الآخرين”([2]).
ولتقريبه أكثر لا بدَّ من الإشارة إلى أبعاده، فالحرية مفهوم ضيق من حيث المعنى اللغوي، لكنه استقر على معنى أوسع في بيئة نشأته الأجنبية، بل صار مفهومًا كونيًّا واسع المدلول ليس له بُعد واحد، بل له أبعاد كثيرة منها السياسي والاجتماعي، والفلسفي والفكري والديني، كما مر معنا، وقد وقع الغلط لكثير من المفكرين الذين تناولوا هذا المصطلح بدون حذر، ولم يستطيعوا فك الارتباط بين المدلول اللغوي الضيق للكلمة، والذي يجعلها في مقابل العبودية([3])، والمفهوم الشرعي الذي يتقاطع مع نفس المعني([4])، وبين الحمولة الثقافية للكلمة، “والغالب على هؤلاء أنهم غير متحمسين للتسليم للإسلام، وإنما يحاولون ترويج معاناتهم، وجعل الإسلام تذكرة عبور للمجتمعات”([5])، والحقيقة أن الحرية حين تحاكم إلى الشرع يكون لها بعدان أساسيان هما:
- البعد الديني: العلاقة مع الله، بحيث لا يكون فيها ضرر بتدين الناس وعلاقتهم بربهم.
- البعد الدنيوي: العلاقة مع الخلق، بحيث لا يكون فيها ضرر بحياة الإنسان، وعلاقته بالكون وغيره من البشر([6]).
وهذان البعدان هما اللذان يحدِّدَان مفهوم الشريعة للحرية، وكيف يتعامل معها في منظومتها التشريعية، وحين تُحاكم قضية حرية الرأي والتعبير إلى هذه الأبعاد في الأحكام الشرعية، فإن النتيجة لا تكون مستغربة عند من استصنم عندهم هذا المفهوم؛ ولذا فإنه من الطبيعي أن ينظر إلى الضوابط التي راعت الشريعة في حرية التعبير، وهذه الضوابط يمكن تقسيمها إلى قسمين أساسيين:
- ضوابط التعبير عن الرأي: وهذه الضوابط تتناول قضايا عدة منها:
أولًا: تحديد مجالات الرأي: فكل أمر جاء به الشارع وحكم فيه بنص، سواء تعلق الأمر بالعبادات، أو المعاملات، فهذا ليس للإنسان فيه إلا أن يعمل بمقتضى الدليل؛ قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِينًا} [سورة الأحزاب:36]. وإن وجد مجال للرأي، فهو في فهم الدليل وتنزيله، وليس في إلغائه، أو ردِّه، وحتى في مجال الاجتهاد الذي منه القياس، فإنه إذا خالف النص، فإنه يسمى فاسد الاعتبار([7])؛ قال الشاطبي: “الاجتهاد الواقع في الشريعة ضربان: أحدهما: الاجتهاد المعتبر شرعًا، وهو الصادر عن أهله الذين اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر إليه الاجتهاد، وهذا هو الذي تقدم الكلام فيه. والثاني: غير المعتبر، وهو الصادر عمَّن ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه؛ لأن حقيقته أنه رأي بمجرد التشهي والأغراض، وخبط في عماية واتباع للهوى، فكل رأي صدر على هذا الوجه، فلا مرية في عدم اعتباره؛ لأنه ضد الحق الذي أنزل الله”([8]).
ثانيًا: مراعاة مآل الرأي: فالرأي الذي لا يخالف الشريعة مباح، وقد أُذن في إبدائه، لكنه قد يُمنع باعتبار مآلات معينة قد يؤول إليها، أو نتيجة سلبية قد تنتج عنه، ومن المعلوم أن الأحكام الشرعية قصدت بها معانيها، والمصالح التي شرعت من أجلها، ومن هنا نشأت قاعدة سد الذريعة المفضية للفساد، ومقتضاها تحريم أمر مباح؛ لما يفضي إليه من مفسدة.
قال في المراقى:
ســــــــد الــــــــــــذرائع إلى المحــــــــــــــــرم حتــــــــــــــــم كفتحها إلى المنـــــــــــــــــــــــــــحتم
“يعنى: أن الذرائع إلى الحرام يجب سدُّها، والذرائع إلى الواجب يجب فتحها”([9]).
فقد حرَّمت الشريعة سب الآلهة الباطلة؛ حتى لا يترتب على ذلك سب الله؛ قال تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُون} [سورة الأنعام:108]. وكذلك حرَّمت على الشاهد الواحد أن يتلفظ بما رأى فيما لا تقبل فيه شهادة الواحد: كالزنى؛ قال تعالى: {لَوْلاَ جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُون} [سورة النور:13]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وهذا من حجة كثير من السلف الذين كانوا لا يحدِّثون المعلِنين بالبدع بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هذا الباب: من لا يكون قصدُه في استفتائه وحكومته الحقَّ، بل غرضه مَن يوافقه على هواه، كائنًا من كان، سواءٌ كان صحيحًا أو باطلًا، فهذا سماع لغير ما بعث الله به رسوله، فإنَّ الله إنما بعث رسوله بالهدى ودين الحق، فليس على خلفاء رسول الله أن يفتوه ويحكموا له، كما ليس عليهم أن يحكموا بين المنافقين والكافرين المستجيبين لقوم آخرين لم يستجيبوا لله ورسوله”([10]).
ثالثًا: لا يجوز الإلزام بما فيه خلاف معتبر؛ لأن أحكام الشريعة فيها القطعيُّ الذي لا يجوز خلافه، وفيها الظني الذي بُني على غلبة الظن، وفيها من الأحكام ما تكون أدلته متقاربة، ولم يأت مرجح يرجح أحدهما على الآخر ترجيحًا يحسم الخلاف، ويحدد المراد، فهذا النوع لا يجوز فيه الإلزام بأحد القولين، والإنسان يتكلم فيه بالبينات والحجج العلمية، لكنها ليست موردًا للإنكار، ويجوز للإنسان أن يتبنى أحد القولين إن ترجح لديه، أو يقلد إن لم يظهر له في المسألة مرجح، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، وإذا كان في المسألة قولان: فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به، وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين والله أعلم”([11]).
ومن هنا فإن كل رأي لم يستند إلى قاطع من الشريعة فإنه لا يسوغ لقائله أن يستبدَّ به، ويحتكر الصواب، بل ما دام غير معصوم فالخطأ عليه وارد، والخلاف فيه سائغ([12]).
- ضوابط وسائل التعبير عن الرأي: وكما أن الشريعة جعلت ضوابط للرأي نفسه، فإنها جعلت ضوابط كذلك لوسائل التعبير عنه، والمراد بهذه الضوابط تفادي الخلل الذي يمكن أن يقع أثناء ممارسة الحق الشرعي في التعبير عن الرأي، وقد راعت فيها أمورًا عدة:
أولها: ألَّا تخالف الوسيلة الشرع في نفسها: كمن يستحل الكذب لنصرة الدين، أو يتعسف في التأويل للدفاع عن الشريعة؛ ولذا لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم الوسائل التي عرضت عليه في الدعوة إلى الصلاة؛ لأنها ليست من شرعه، فعن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أنه قال: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلوات، وليس ينادي بها أحد، فتكلموا يومًا في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسًا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: قرنًا مثل قرن اليهود، فقال عمر: أوَلا تبعثون رجلًا ينادي بالصلاة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بلال قم فناد بالصلاة»([13]).
ثانيها: ألا تخرج الوسيلة عن إطار المعروف والنصيحة: والمعروف ضد المنكر، وضد السيئ من القول الذي قال الله فيه: {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [سورة النساء:148]. وأن يكون من باب النصيحة، فلا يدخل في كشف العورات وتشييع الفاحشة([14]).
ثالثها: أن يكون المقصود منها مشروعًا: فمتى كانت الوسيلة مشروعة والغاية منها ممنوعة، فإن الشرع لا يجيز التوسل بها؛ ولذا ذمَّ الشرع الرياء في الأقوال وأن يقول الإنسان القول الطيب وهو لا يعتقده، أو يريد خلافه، وحرم الجدال بالقرآن([15]).
وخلاصة الأمر: أن الشريعة في ضوابطها للرأي راعت كثيرًا من الجوانب، ولم تراع جانبًا واحدًا – وهو حق المتكلم – بل راعت حقه وحق غيره في أن لا يسمع باطلًا، وأن لا يلحق به ضرر مما سمع، والشريعة تعتبر الرأي كلامًا، والكلام ليس درجة واحدة، وتختلف أحكامه بحسب نوعه: ففيه المضحك والمبكي، ومنه المؤيِسُ والمُطْمِعُ، ومنه المخوِّف والمرجي، ومنه ما يُسْقِمُ الصحيح ويبرء السقيم، ومنه ما يزيل النعم ويُحِلُّ النقم، ومنه ما يُؤْلِفُ ويُفرِّقُ، ومنه ما يهوِي به صاحبه سبعين خريفًا في النار؛ لذا وجب جعل حكم لكل نوع منه حسب ما يترتب عليه من خير وشر، كما أن عدم وجود حد شرعي لبعض الأقوال لا يعني إباحتها، فهي لا تزال محرمة بنصوص الشريعة: كالنميمة والغيبة وغيرهما، وللحاكم في حالة رفع الدعوى على أصحابها أن يعزرهم كما هو مقرر في أبواب الفقه.
إعداد اللجنة العلمية بمركز سلف للبحوث والدراسات [تحت التأسيس]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) ينظر: فضاءات الحرية لسلطان العميري (ص 33).
([2]) مقال: حرية الرأي في الحضارة الإسلامية. لراغب السرجاني. شبكة الألوكة.
([3]) في اللسان الحر بالضم: نقيض العبد. والحرة: نقيضة الأمة. وحرره أعتقه. لسان العرب (2/ 391).
([4]) شرح بهرام على مختصر خليل (ج3 ص 120).
([5]) منهج للبناء الفكري الأسس والمبادئ، للسعيدي (ص 49).
([7]) ينظر: إحكام الأحكام لابن دقيق العيد (2/ 342).
([10]) مجموع الفتاوى (8/ 198).
([11]) مجموع الفتاوى (20/ 207).
([12]) ينظر: مفهوم الحرية (ص: 221).
([13]) رواه البخاري (604)، ومسلم (377).