البيان الجلي في بيان وقوع الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
فقد اطلعت على مقالةٍ، وقع فيها صاحبها في أغلاط. وقد استفتح مقاله بدعوى عاريةٍ عن الدليل، حين ادّعى وجود من ينتقص من تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم بحجج فارغة، ويُجففون منابع حبه في القلوب بحجة سدّ ذريعة الشرك. وادّعى أنه لا يُمكن أن يُشرك بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: “فأنى يُشرَك به، وهو إنما يُعرف ويُؤمن به بكلمة التوحيد” فنفى بذلك وقوع الشرك في عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم. وهنا يُقال:
أولًا: إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم من أوجب الواجبات([1])، وقد نصَّ عليه القرآن، وهو مما لا خلاف عليه، قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]، فهذه الآية نصٌّ في وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تلك المحبة يجب أن تكون مُقدَّمة على كل محبوب، وهذا مما لا خلاف فيه بين الأمة([2]).
ولذا لا أدري من يقصد صاحب المقال بقوله: “ابتلينا بأناس يحتجون للانتقاص من تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجج فارغة، ويُجففون منابع حبه في القلوب بحجة سدّ الذريعة” مع أن الأمة كلها مُجمعة على وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه([3])؟
وجاء في الحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْهِ مِن والِدِهِ ووَلَدِهِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ) أخرجه البخاري ومسلم، فمحبة النبي صلى الله عليه وسلم ثابتة لا شك فيها، لكن الشأن في المحبة بين الاتباع والابتداع؛ فالمحبة الصادقة ليست في الغلو والتجاوز في محبته عليه الصلاة والسلام، فالمحبة التي يصل بها الشخص إلى الغلو في المحبوب، فيرفعه إلى مقام لا يكون إلا لله تعالى، هذه محبة غير صادقة. فليس كل من يبالغ أو يغلو في محبة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يرفعه إلى مقام الألوهية، تكون محبته صادقة، وإن كان هذا الغلو نابع عن المحبة، لكنها محبة مشوبة بالغلو الذي نهت عنه الشريعة.
يدل عليه: أن النصارى يحبون عيسى عليه السلام، لكن رفعوه إلى مقام الألوهية وجعلوه ابنا لله -تعالى الله- وقد حكى القرآن هذه العقائد عن القوم وسطرها وقضى بكفرهم، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ۖ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۖ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة: 72]، وقال تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ۘ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۚ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 73]، فمحبة النصارى لعيسى عليه السلام محبة مغشوشة ليست صحيحة؛ لأن المحبة الصحيحة تكون بالمتابعة، وأما الغلو في الأنبياء والصالحين فيتنافى مع المحبة الصحيحة، وإن كان صاحبها يدّعي أنه مُحب لمن يُعظمه؛ لأن هذا تعظيم يُوقع في الشرك، كما كان من البوصيري في قصيدته البردة، حين غالى في مقام النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
(يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ***** سواك عند حلول الحادث العمم([4])
إن لم تكن في معادي آخذًا بيدي ***** فضلًا وإلا فقـــل: يا زلة القــــــدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ***** ومن علومـــــــك علم اللوح والقلم)
فهذه محبة مغشوشة، وغلو فاضح.
وأما إن كان يقصد صاحب المقالة بقوله السابق: “ابتلينا بأناس يحتجون للانتقاص من تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجج فارغة، ويُجففون منابع حبه في القلوب بحجة سدّ الذريعة” نبز أئمة الدعوة بمبالغتهم في سدّ الذرائع([5])، فيُقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم هو من سدَّ هذه الأبواب، ولا أدلَّ على ذلك من نهيه عليه الصلاة والسلام من بناء المساجد على القبور([6]).
ثانيًا: دعواه أنه لا يُمكن وقوع الشرك بعبادة النبي صلى الله عليه وسلم([7])؛ لأنه لا يُعرف التوحيد إلا من خلاله، فهي دعوى غير صحيحة، والواقع يُخالفها ويشهد بضدها.
فمثلا: طائفة البريلوية قد غلت في النبي صلى الله عليه وسلم، وزعمت أنه ليس من البشر، بل هو نور من نور الله تعالى([8])، وأنه حاضر ناظر([9])، ويقصدون بكونه حاضرا ناظرا: أنه محيط بالكون كله، يقول أحد أتباعهم وهو أمجد علي في كتابه: بهار شريعت: “إن النبي صلى الله عليه وسلم نائب مطلق لله سبحانه وتعـــالى، وإن العالم كله تحت تصرفاته، فيفعل ما يشاء، يعطي ما يشاء لمن يشاء، ويأخذ ما يشـــاء، وليس هناك أحد مصرف لحكمه في العالمين، سيد الآدميين، ومن لم يجعله مالكًا له حرم من حلاوة السنة”، ويزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب([10])، مع أن النصوص دلت أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، وليس له تصرف في هذا الكون، قال تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188]، وقال تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: 50]، فمن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما كان وما سيكون، فقد كذب وخالف القرآن، ولهذا لما قالت جارية في المدينة: وفينا نبي يعلم ما في غد: أنكر عليها وقال صلى الله عليه وسلم: (دعي هذا، وقولي ما كنت تقولين، لا يعلم ما في غد إلا الله) أخرجه البخاري، وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “من حدثك أنه صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب فقد كذب وهو يقول لا يعلم الغيب إلا الله” أخرجه البخاري.
فغلوهم في النبي صلى الله عليه وسلم، واعتقادهم أنه حاضر ناظر، مُطلع على الغيب، يعلم كل شيء، هو صورة من صور الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم([11])، فكيف يُقال: لا يُمكن وقوع الشرك بعبادة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فهذه الاعتقادات الصادرة عن البريلوية، غلو يتنافى مع ما جاءت به النصوص من النهي عن الغلو: في الحديث الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) أخرجه النسائي وابن ماجه، وقال عليه الصلاة والسلام: (هلك المتنطعون) أخرجه مسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: (لَا تُطْرُونِي كما أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ؛ فإنَّما أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولوا: عبدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ) أخرجه البخاري، وقال عليه الصلاة والسلام في التحذير من البناء على القبور واتخاذها مساجد: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) قالت عائشة رضي الله عنها: “يحذر ما صنعوا”، متفق عليه، وقال عليه الصلاة والسلام لما أخبرته أم سلمة وأم حبيبة رضي اله عنهما بكنيسة فيها صور، وأنها كذا وكذا، قال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله) أخرجه البخاري، وقال عليه الصلاة والسلام: (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك) أخرجه مسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم لا تجعل قبري وثنًا، لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) أخرجه أحمد في مسنده.
فكل هذه الدلائل تدل على أن هذا الاتخاذ محرم، فبناء المساجد على القبور، وإن كان فيه تعبير عن محبة المقبور وتعظيمه، إلا أنه من التعظيم الممنوع والمحبة المبتدعة؛ فليس للإنسان حق في التعبير عن محبته بما يخالف الشرع، بل الواجب اتباع الشرع والوقوف عند حدوده وأصوله وثوابته ومحكماته.
والمقصود: دعواه أنه لا يُمكن أن يقع الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم أو أن يُعبَد من دون الله تعالى، ليس بسديد؛ فقد وقعت عبادة بعض الأنبياء السابقين؛ كعيسى عليه السلام فقد عبده النصارى وجعلوه ابنا لله -تعالى الله-.
وأقول: هنا مقامان: الأول: لا يُمكن للأنبياء أن يدعون الناس إلى عبادتهم أو تأليههم، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79]، فإذا كان صاحب المقالة يُريد أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التوحيد فهذا حق، وأنه لا يدعو إلى عبادة نفسه فهذا كلام صحيح.
أما إن ادّعى أنه لا يُمكن أن تقع عبادة الرسول من البشر، فهذا خطأ، وهو المقام الثاني هنا. ففي التأريخ حوادث تدل على عبادة البشر للبشر، فكيف يمتنع من عبد بشرا ظن فيه خصائص الألوهية، ألا يعبد النبي صلى الله عليه وسلم؟
فهؤلاء السبئية الذين عبدوا عليا رضي الله عنه، قصتهم مشهورة معلومة.
والرافضة الذين أعطوا أئمتهم مقاما لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل، الذين قالوا بعقيدة التفويض، ويقصدون بها: أن الأئمة هم الذين يتصرفون في الكون، وأن الله تعالى فوضهم في تدبير أمر هذا الكون، مع أن بعض الرافضة يُحذرون من هذه العقيدة، إلا أنها موجودة عندهم.
وكذا غلاة الصوفية الذين يقولون بالأوتاد والأقطاب، ويجعلون لهم تصرفا في هذا الكون، هو من هذا القبيل.
وبالمناسبة: فهذه العقيدة الموجودة عند الرافضة والصوفية، التي تقضي بأن الأئمة هم الذين يتصرفون في تدبير هذا الكون، وأن الله تعالى لا يفعل ذلك، هي عقيدة مُستمدة من الفلسفة؛ فالفلاسفة يرون أن العقل الأول لا تصرف له في الكون، وبنظرية العقول العشرة التي اخترعوها، قضت بأن الفلك العاشر هو الذي يُدبر هذا الكون، فهذا هو مُستمد عقائد القوم، لكنهم بدل أن يقولوا بالعقول العشرة، قالوا بالأئمة والأقطاب والأوتاد.
والمقصود: أن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم قد تقع من البشر، وقد وقعت للأنبياء قبله بنص القرآن، وأنهم أشركوهم مع الله تعالى، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ۖ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30]، وهؤلاء البريلوية الذين يقولون: بأن النبي صلى الله عليه وسلم نور من نور الله.
وحين ننظر في القرآن، نجد أنه يُؤكد على بشرية الأنبياء عليهم السلام، وأنهم لا يعلمون الغيب؛ ومن القصص القرآني التي نستنبط منها هذه المعنى العقدي المهم: قصة إبراهيم ولوط عليهما السلام مع الملائكة، وقصة الهدهد مع سليمان عليه السلام. فإبراهيم عليه السلام لم يعرف أن هؤلاء ملائكة حين جاؤوه ليبشروه بالولد، وكذا لوط عليه السلام لم يدر أن هؤلاء ملائكة جاؤوا بالعذاب، إلا بعد أن بينت له الملائكة، وسليمان عليه السلام لم يدر أن هناك أمة تعبد الشمس، حتى أخبره الهدهد بذلك. فهذه وغيرها دلائل تُؤكد أن الأنبياء عليهم السلام لا يعلمون الغيب فضلا عن الأولياء، فمن زعم أنهم يعلمون الغيب فقد جانب الصواب، ووجب عليه تصحيح عقيدته على مقتضى ما جاء في القرآن.
وهذا الزعم وهو أن الأئمة يعلمون الغيب، مسطور عند الرافضة وغيرهم، حتى أني سمعت أحدهم يقول: إن قولك: يا علي، أفضل من قراءة القرآن ثمانية عشر ألف مرة! فانظر كيف يُؤصلون للبدع والخرافات، وهذا يدل على أن هناك من يُحاول أن يحرف الأمة عن الحق والصواب.
بقي أن يُقال: قياسه امتناع عبادة النبي صلى الله عليه وسلم على الكعبة، وأنها لم تُعبد من دون الله تعالى([12])، قياس مع الفارق؛ فيُقال:
أولا: أن هذا النفي يحتاج إلى دليل، كيف وقد ذكر العلماء عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أنه حضر مجلسا في الحرم، فسمع شيخا يقول: يا كعبة الله، يا كعبة الله، فقال له الشيخ: أقرئني سورة من القرآن، فقرأ عليه سورة قريش: {لإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)} [سورة قريش]، فقرأ عليه الشيخ: (فليعبدوا هذا البيت) فصحح له القراءة: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ}، فرجع الشيخ عما كان يقوله، فهذه صورة من صور عبادة الكعبة ودعائها من دون الله تعالى.
وثانيا: قياس الرسول صلى الله عليه وسلم على الكعبة على فرض عدم وقوع عبادة الكعبة، غير سديد؛ لأن النصوص وردت في النهي عن الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم.
وثالثا: كان عليه لو أراد القياس، أن يقيس على الأنبياء السابقين، هل وقع فيهم الغلو والعبادة أم لا، لاشتراكهم في أصل الرسالة؟
ورابعا: لا يصح قياس النبي صلى الله عليه وسلم الذي أؤتي المعجزات والآيات البينات على الحجارة؛ لأن الحجارة ليست مقصودة لذاتها، فما أؤتيه النبي صلى الله عليه وسلم من الخِلال والفضائل والخصال، قد يكون مدخلا لبعض الناس في الغلو فيه، بخلاف الكعبة.
وخامسا: أن قوم نوح عليه السلام حين عبدوا التماثيل التي صوروها لبعض صالحيهم؛ ود وسواع ويغوث ويعوق ونسرا، لم يكونوا يقصدون عبادة التماثيل بذاتها، بل قصدوا المعنى الذي لأجله صوروها، وهو عبادة هؤلاء الصالحين.
وختاما:
أتعجب من صاحب المقال وأتساءل: ماذا يُريد؟ وما هدفه ومشروعه؟ هل يُريد مهاجمة من يدعون إلى التوحيد ونبذ الشرك ومحاربة البدع والخرافات؟ أم يريد نشر هذه البدع والخرافات التي تُضعف التوحيد وتُذهب بأصله؟ فهل الدعوة إلى تعظيم الأنبياء والصالحين بما يُخالف الشرع المطهر مشروع وهدف؟ هذا هدف ومشروع الرافضة وأرباب التصوف الغالي، في تعبيد الناس لغير الله تعالى. فالدعوة إلى تعظيم الأشخاص من الصالحين وغيرهم من المنكرات المخالفة للشرع المطهر([13])، أو أن تكون المحبة بوابة للبدع والخرافات، فهذا غير مقبول، فالمحبة الصحيحة تكون بالمتابعة الصادقة للرسول عليه الصلاة والسلام، وقد أبانها القرآن الكريم بقوله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31]، أما المبالغة في محبته والغلو فيه إلى درجة تُخرجه عن مقام العبودية إلى مقام الألوهية، فغير مقبول، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وحذر منه.
والخلاصة: أن هناك مقامين يجب التفريق بينهما:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعو إلى الشرك أو عبادة نفسه، فنعم وحاشاه عليه الصلاة والسلام عن ذلك.
والثاني: أنه عليه الصلاة والسلام قد يغلو فيه بعض أمته لدرجة رفعه إلى مقام الألوهية، فهذا غير ممتنع، وقد وقع.
فمن ادّعى أن العبادة قد تقع في الأنبياء قبله، عدا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد أخطأ؛ لأنه تكلم دون دليل؟ والواقع كما ذكرنا دلَّ على وقوعه، فقد عُبِدَ العجل في زمن موسى عليه السلام، فإذا عبدوا العجل، فما المستبعد أن يعبدوا نبيا، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن اتباع هذه الأمة للأمم السابقة، فقال: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن قَبْلَكُمْ شِبْرًا بشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بذِرَاعٍ، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ)، قُلْنَا: يا رَسُولَ اللَّهِ، اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قالَ: (فَمَنْ؟!) أخرجه البخاري.
والله تعالى الموفق وهو من وراء القصد.
ـــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “مَحَبَّةُ اللَّهِ بَلْ مَحَبَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ أَعْظَمِ وَاجِبَاتِ الْإِيمَانِ وَأَكْبَرِ أُصُولِهِ وَأَجَلِّ قَوَاعِدِهِ؛ بَلْ هِيَ أَصْلُ كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ كَمَا أَنَّ التَّصْدِيقَ بِهِ أَصْلُ كُلِّ قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ”. مجموع الفتاوى: 10/ 48-49.
([2]) يقول العلامة القرطبي: “وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّمٌ عَلَى كُلِّ مَحْبُوبٍ”. الجامع لأحكام القرآن: 8/ 95.
ويقول القاضي عياض: “كفى بهذه الآية حضا وتنبيها ودلالة وحجة على لزوم محبته، ووجوب فرضها، واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم إذ قرع تعالى من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله، وأوعدهم بقوله تعالى: (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) ثم فسقهم بتمام الآية وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله”. الشفا: 2/ 563.
([3]) قال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9].
وقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]، قال العلامة الحليمي: “فمعلوم أن حقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل وأعظم وأكرم وألزم لنا وأوجب علينا من حقوق السادات على مماليكهم والآباء على أولادهم لأن الله تعالى أنقذنا به من النار في الآخرة، وعصم به لنا أرواحنا وأبداننا وأعراضنا وأموالنا وأهلينا وأولادنا في العاجلة، فهدانا به لما إذا أطعناه فيه أدانا إلى جنات النعيم. فأية نعمة توازي هذه النعم وأية منة تداني هذه المنن. ثم إنه جل ثناؤه ألزمنا طاعته، وتوعدنا على معصيته بالنار. ووعدنا باتباعه الجنة. فأي رتبة تضاهي هذه الرتبة، وأي درجة تساوي في العلا هذه الدرجة. فحق علينا أن نحبه ونجله ونعظمه ونهابه أكثر من إجلال كل عبد سيده وكل ولد والده. وبمثل هذا نطق القرآن ووردت أوامر الله جل ثناؤه”. المنهاج في شعب الإيمان: 124-125.
([4]) يقول العلامة الشوكاني في كتابه: الدر النضيد (59-60): “فانظر رحمك الله تعالى ما وقع من كثير من هذه الأمة من الغلو المنهى عنه المخالف لما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما يقوله صاحب البردة رحمه الله تعالى:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ***** سواك عند حلول الحادث العمم
فانظر كيف نفى كل ملاذ ما عدا عبدالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وغفل عن ذكر ربه ورب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لله وإنا إليه راجعون.
وهذا باب واسع، قد تلاعب الشيطان بجماعة من أهل الإسلام حتى ترقوا إلى خطاب غير الأنبياء بمثل هذا الخطاب، ودخلوا من الشرك في أبواب بكثير من الأسباب.
ومن ذلك قول من يقول مخاطبًا لابن عجيل:
هات لي منك يابن موسى إغاثة ***** عاجلًا في سيرها حثاثة
فهذا محض الاستغاثه التي لا تصلح لغير الله لميت من الأموات قد صار تحت أطباق الثرى من مئات السنين.
وقد وقع في البردة والهمزية شيء كثير من هذا الجنس، ووقع أيضًا لمن تصدى لمدح نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولمدح الصالحين والأئمة الهادين ما لا يأتي عليه الحصر، ولا يتعلق بالاستكثار منه فائدةٌ فليس المراد إلا التنبيه والتحذير لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) الذاريات: 55″.
([5]) يقول العلامة الشاطبي: “وَسَدُّ الذَّرَائِعِ مَطْلُوبٌ مَشْرُوعٌ، وَهُوَ أَصْلٌ مِنَ الْأُصُولِ الْقَطْعِيَّةِ فِي الشَّرْعِ” الموافقات: 3/ 263 وقال في كتابه الاعتصام (1/ 184): “جَاءَ فِي الشَّرْعِ أَصْلُ سَدِّ الذَّرَائِعِ، وَهُوَ مَنْعُ الْجَائِزِ لِأَنَّهُ يَجُرُّ إِلَى غَيْرِ الْجَائِزِ. وَبِحَسَبِ عِظَمِ الْمَفْسَدَةِ فِي الْمَمْنُوعِ يَكُونُ اتِّسَاعُ الْمَنْعِ فِي الذَّرِيعَةِ وَشِدَّتُهُ”.
وقد عقد العلامة ابن القيّم في كتابه القيّم (إعلام الموقعين: 3/ 110-126) فصلا ذكر فيه أدلة سدّ الذرائع، فساق تسعة وتسعين دليلا عليه، ثم قال: “وَلْنَقْتَصِرْ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ مِنْ الْأَمْثِلَةِ الْمُوَافِقِ لِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى الَّتِي مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، تَفَاؤُلًا بِأَنَّهُ مَنْ أَحْصَى هَذِهِ الْوُجُوهَ وَعَلِمَ أَنَّهَا مِنْ الدِّينِ وَعَمِلَ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ؛ إذْ قَدْ يَكُونُ قَدْ اجْتَمَعَ لَهُ مَعْرِفَةُ أَسْمَاءِ الرَّبِّ تَعَالَى وَمَعْرِفَةُ أَحْكَامِهِ، وَلِلَّهِ وَرَاءَ ذَلِكَ أَسْمَاءٌ وَأَحْكَامٌ.
وَبَابُ سَدِّ الذَّرَائِعِ أَحَدُ أَرْبَاعِ التَّكْلِيفِ؛ فَإِنَّهُ أَمْرٌ وَنَهْيٌ، وَالْأَمْرُ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا: مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ، وَالثَّانِي: وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقْصُودِ، وَالنَّهْيُ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا: مَا يَكُون الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَفْسَدَةً فِي نَفْسِهِ، وَالثَّانِي: مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى الْمَفْسَدَةِ؛ فَصَارَ سَدُّ الذَّرَائِعِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْحَرَامِ أَحَدَ أَرْبَاعِ الدِّينِ”.(3/ 126).
وحتى الصحابة رضي الله عنهم كانوا على فقه سدّ الذرائع، ومن ذلك ما أخرجه الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (4/ 700): “عن ميمون بن مهران قال: قال لي ابن عباس: احفظ عني ثلاثا: إياك والنظر في النجوم فإنه يدعو إلى الكهانة، وإياك والقدر فإنه يدعو إلى الزندقة، وإياك وشتم أحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فيكبك الله في النار على وجهك”. وفي هذا يقول الشيخ محمد أنور شاه الكشميري في كتابه: العرف الشذي (2/ 239): “وسد الذرائع أن لا يكون الشيء منهيًا عنه في الشريعة إلا أن المكلف ينهى عنه كيلا يكون مؤديًا إلى ما هو منهي عنه، مثل نهي عمر وابن مسعود من التيمم للجنب كيلا يكون مؤديًا إلى المنهي عنه من التيمم في أدنى البرد”، وقد ذكر العلامة ابن القيم في الإعلام نماذج من ذلك: “الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَرَّثُوا الْمُطَلَّقَةَ الْمَبْتُوتَةَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ حَيْثُ يُتَّهَمُ بِقَصْدِ حِرْمَانِهَا الْمِيرَاثَ بِلَا تَرَدُّدٍ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الْحِرْمَانَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ ذَرِيعَةٌ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يُتَّهَمْ فَفِيهِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ مَأْخَذُهُ أَنَّ الْمَرَضَ أَوْجَبَ تَعَلُّقَ حَقِّهَا بِمَالِهِ؛ فَلَا يُمْكِنُ مِنْ قَطْعِهِ أَوْ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مُتَأَخِّرٌ عَنْ إجْمَاعِ السَّابِقِينَ”.
الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الصَّحَابَةَ وَعَامَّةَ الْفُقَهَاءِ اتَّفَقُوا عَلَى قَتْلِ الْجَمِيعِ بِالْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْقِصَاصِ يَمْنَعُ ذَلِكَ؛ لِئَلَّا يَكُونَ عَدَمُ الْقِصَاصِ ذَرِيعَةً إلَى التَّعَاوُنِ عَلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ”.
ومن ذلك ما ذكره شيخ الإسلام في الاقتضاء (2/ 144) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: “وأمر عمر رضي الله عنه بقطع الشجرة التي توهموا أنها الشجرة التي بويع الصحابة تحتها بيعة الرضوان. لما رأى الناس ينتابونها ويصلون عندها، كأنها المسجد الحرام، أو مسجد المدينة، وكذلك لما رآهم قد عكفوا على مكان قد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم عكوفا عاما نهاهم عن ذلك، وقال: “أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟”، أو كما قال رضي الله عنه”.
([6]) يقول العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين (3/ 112) في الوجه الثالث عشر من أدلة سدّ الذرائع: “الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ، وَلَعَنَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَنَهَى عَنْ تَجْصِيص الْقُبُورِ، وَتَشْرِيفِهَا، وَاِتِّخَاذِهَا مَسَاجِدَ، وَعَنْ الصَّلَاةِ إلَيْهَا وَعِنْدَهَا، وَعَنْ إيقَادِ الْمَصَابِيحِ عَلَيْهَا، وَأَمَرَ بِتَسْوِيَتِهَا، وَنَهَى عَنْ اتِّخَاذِهَا عِيدًا، وَعَنْ شَدِّ الرِّحَالِ إلَيْهَا، لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى اتِّخَاذِهَا أَوْثَانًا وَالْإِشْرَاكِ بِهَا، وَحَرَّمَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ قَصَدَهُ وَمَنْ لَمْ يَقْصِدْهُ بَلْ قَصَدَ خِلَافَهُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ”.
وقد عقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد بابا عنون له بقوله: “باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد، وسدّه كل طريق يوصل إلى الشرك” وساق الأدلة على ذلك، وقد ذكر في كتابه جملة من المسائل التي يتبيّن من خلالها حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد، وسدّ كل الطرق المؤدية إلى الشرك؛ فعقد بابا للرقى، وبابا للتمائم، وبابا للبس الحلقة والخيط ونحوهما، وبابا للتبرك بالأشجار والأحجار ونحوها، وبابا للتوسل، وبابا للغلو، وبابا في النهي عن أعمال تتعلق بالقبور.
([7]) ذكر شيخ الإسلام كلام البكري في الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم والصالحين، في كل ما يُستغاث بالله تعالى فيه، وردّ عليه (1/ 241) وفيه: “وهذا المفتري لما قال إنه يجوز أن يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل، ما يستغاث بالله فيه؛ وأن ذلك صحيح في حق النبي والصالحين، وقال: (إن كل من توسل إلى الله بنبيه في تفريج كربة؛ فقد استغاث به سواء كان حيًا أو ميتًا، وإن من سأله وطلب منه فقد استغات به، فاقتضى ذلك أنه يطلب منه حيًا وميتًا كل شيء، كما يطلب من الله، ويطلب بالتوسل به حيًا وميتًا كل ما يطلب من الله، وأن ذلك ثابت للصالحين أيضًا، اقتضى كلامه أنه يطلب من المخلوق حيًا وميتًا كل ما يطلب من الخالق سبحانه وتعالى”. ومن الصور التي ذكرها شيخ الإسلام في رده على البكري (215) قوله: “قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وزاد بعض جهال العامة ما هو محرم أو كفر بإجماع المسلمين؛ كالسجود للحجرة والطواف بها، وأمثال ذلك”.
([8]) وفي هذا يقول أحمد يار البريلوي في الفتاوى النعيمية (37): “أن الله خلق الصورة المحمدية من نور اسمه البديع القادر ونظر إليها باسمه القاهر، ثم تجلى عليها باسم اللطيف الغافر”. وقال البريلوي في مقدمة رسالته: صلاة الصفا في نور المصطفى (33): “اللهم لك الحمد يا نور، يا نور النور، يا نور قبل كل نور، ونور يعد كل نور، يا من له النور، وبه النور، ومنه النور، وإليه النور، وهو النور، صل وسلم وبارك على نورك المنير الذي خلقته من نورك وخلقت من نوره الخلق جميعا، وعلى أشعة أنواره، آله وأصحابه وأقماره أجمعين”.
([9]) يقول البريلويون: “لا يخلو مكان ولا زمان إلا والرسول صلى الله عليه وسلم موجود فيه”. انظر: تسكين الخواطر في مسألة الحاضر والناظر، لأحمد سعيد الكاظمي البريلوي (85)، وفيه أيضا (18): “لا يستبعد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون حاضرا موجودا في الأمكنة المتعددة التي لا تعد ولا تحصى، بوجوده المقدس بعينه”. ويقول الكجراتي البريلوي في كتابه: جاء الحق (154): “الرسول عليه السلام له الخيار في طواف العالم مع أرواح الصحابة ولقد رآه كثير من الأولياء”.
([10]) وفي هذا يقول أحمد رضا البريلوي في كتابه: الدولة المكية (58): “إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يعلمون، بل يرون ويشاهدون جميع ما كان وما يكون من أول يوم إلى آخره”، ويقول في كتابه أيضا (230): “وأما النبي صلى الله عليه وسلم، فحصل له جميع العلوم الجزئية والكلية وأحاط بها”، ويقول أحمد يار البريلوي في: موتعظ نعيمية (192): “أن الأنبياء يعلمون الغيب منذ ولادتهم”.
([11]) ومن صور الغلو فيه عليه الصلاة والسلام: (دعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم خلق من نور الله تعالى، وأنه وجد قبل خلق آدم، وأن الأشياء خُلقت منه، ودعوى أن الدنيا خلقت من أجله) انظر: محمد التميمي: حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته: 2/ 712-714.
([12]) هنا أمران: أولا: ما ورد عن أحمد الحسن اليماني في الجواب المنير (4/ 68) من قوله: “والحقيقة أنه لو كان الحجر الأسود لا يضر ولا ينفع، لكان فعل رسول الله وحاشاه خاليا من الحكمة، ولا يمكن أن يكون فعل رسول الله له معنى وحكيما، إن لم يكن هذا الحجر يضر وينفع بإذن الله وبحوله وقوته سبحانه…”. فهذه صورة معاصرة من صور الغلو بالحجر الأسود، وهو جزء من الكعبة.
ثانيا: الكعبة لا شك أنها رمز التوحيد، وعُظمت بكلمة التوحيد، إلا أن بعض أرباب التصوف لا يُفرقون بين الكعبة وبين المعابد الكفرية، فقد سُئل أحد شيوخ الصوفية: ما الفرق بين معبد السيخ وبين بيت الله الحرام؟ فقال: ليس بينهما أي فرق! وبعضهم يرون أن مشايخهم أعظم حرمة من الكعبة، يقول الشعراني: “لا ينبغي للمريد أن يستدبر شيخه أبدًا إلا بإذن, ويكون ذلك مع استشعار المريد الخجل والحياء حتى كأنه يمشي على الجمر , فإن شيخه أعظم حرمة من الكعبة”. انظر: دراسات في التصوف: إحسان إلهي ظهير (112).
والرافضة يفسرون الكعبة والقبلة والمساجد والمسجد بأنها الإمام والأئمة، ورووا عن الصادق: “نحن البلد الحرام، ونحن كعبة الله، ونحن قبلة الله”، يقول الدكتور ناصر القفاري في كتابه: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية: “ولعل مثل هذه الروايات هي السبب في شيوع عبادة الأئمة، وأضرحتهم، وعمارة المشاهد وتعطيل المساجد، لأن المشاهد هي المساجد، والإمام هو كعبة الله وقبلته، ولهذا صنفوا كتبًا سموها: “مناسك المشاهد” أو “مناسك الزيارات”، أو “المزار”، واعتنوا ببيان فضائلها وآدابها، وأخذت هذه المسائل في كتبهم المعتمدة قسمًا كبيرًا”.
([13]) ذكر الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (10/ 262) كلاما نفيسا، يدل على خطورة المغالاة في البشر، فقال في سيرة نفيسة بنت أبي محمد الحسن بن زيد القرشية الهاشمية: “وَلِأَهْلِ مِصْرَ فِيهَا اعْتِقَادٌ. قُلْتُ: وَإِلَى الآن قد بالغ العامة في اعتقادهم فيها وفي غيرها كثيرا جدا، ولا سيما عوام مصر فإنهم يطلقون فيها عبارات بشيعة مُجَازَفَةٌ تُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، وَأَلْفَاظًا كَثِيرَةً ينبغي أن يعرفوا أنها لا تجوز. وَرُبَّمَا نَسَبَهَا بَعْضُهُمْ إِلَى زَيْنِ الْعَابِدِينَ وَلَيْسَتْ مِنْ سُلَالَتِهِ. وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَدَ فِيهَا ما يليق بمثلها مِنَ النِّسَاءِ الصَّالِحَاتِ، وَأَصْلُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ مِنَ الْمُغَالَاةِ فِي الْقُبُورِ وَأَصْحَابِهِا، وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَسْوِيَةِ الْقُبُورِ وَطَمْسِهَا، وَالْمُغَالَاةُ فِي الْبَشَرِ حَرَامٌ”.