هكذا إذا توجهت الهممُ..”الإصلاحات المعنويَّة والماديَّة في البلاد المقدَّسة”
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
توالت على بلاد الإسلام المقدَّسة قرونٌ وأحقابٌ كانت فيها أشدّ البلاد افتقارًا إلى الإصلاح، وأقربها إلى الفوضى، وأقلها أمنة سُبُل وراحة سكان، وأكثرها عيثًا وفسادًا، وكانت هذه الحالة فظيعة جدًّا مخجلة لكلّ مسلم، مرمضة لكلّ مؤمن، حجَّة ناصعةٌ للأجانب على المسلمين الذين لا يقدرون أن ينكروا ما في الحجاز من اختلال السُّبل، واضطراب الحبل؛ مع كونه هو مهد الإسلام، ومركز الحجيج العام، في كلِّ عام، إلى بيت الله الحرام، والمشاعر العِظام، ومهوى قلوب يتأجج بها الغرام؛ لزيارة مرقد الرَّسول عليه الصَّلاة والسلام.
كلُّ الأجانب يستظهرون بهذه الحالة على دعوى أنَّ الإسلام لا يلتئم مع العمران، وأنَّه هو والفوضى توءمان، وأنَّه لو كان دِينًا عمرانيًّا لما كانت تكون هذه الحالة السيِّئة في مركزه، ولما عجز عن إقامة العدل والأمن في مأرزه.
وحقيقة الحال هي أنَّ تلك الفوضى لم تنشأ إلا عن إهمال العمل بقواعد الشَّرع الإسلامي، وعن إرخاء العنان لبعض الأمراء الذين كانوا يلون أمر الحجاز؛ مدلِّين على الناس بما لهم من النَّسب النبويّ الشَّريف الذي كان يحول بين سلاطين الإسلام وبين تشديد الوطأة عليهم، أو إرهاف الحدِّ فيهم، وقد كان هذا من خَطل الرَّأي ومن التَّقصير في جانب الشرع؛ فإنَّ الشريعة الإسلامية لا تعرف نسبًا ولا حَسبًا.
{فإذا نُفِخ في الصُّور فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون}.
وإنَّ الله تعالى قد جعل التَّقوى فوق كلِّ المناقب والمحامد، وقرَّر أن من قصَّر به عمله لم ينهض به نسبه، ومن المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إنَّ بعض آل بيتي يرون أنفسهم أولى الناس بي؛ وليس الأمر كذلك، إنَّما أوليائي المتقون؛ من كانوا وحيث كانوا، ألا إنِّي لا أجيز لأهل بيتي أن يفسدوا ما أصلحت)([1]).
هذا حديث نقله لنا خاتمة المحدِّثين المرحوم السيِّد بدر الدين الحسني المغربي الدمشقي، وكيف كانت درجة ثبوته فهو مطابق لروح الشرع، تتفجر معانيه من كلِّ ناحيةٍ من الكتاب.
ولهذا كان سلاطين الإسلام من وقت إلى آخر ينذرون من أمراء الحرمين من كانوا يظلمون النَّاس ويبغون في الأرض بغير الحقّ، ولقد ذهب مثلًا ذلك الكتاب الذي كتبه أحد سلاطين مصر من المماليك إلى أحد أمراء مكَّة المكرمة، وهو الذي يقول فيه:
اعلم أن الحسنة في نفسها حسنة؛ وهي من بيت النبوَّة أحسن، والسيِّئة في نفسها سيِّئة؛ وهي من بيت النبوَّة أسوأ، وقد بلغنا أنَّك بدَّلت حرم الأمن بالخيفة، وأتيت ما يحمرُّ له الوجوه وتسودُّ الصحيفة، فإن وقفت عند حدك؛ وإلا أغمدنا فيك سيف جدِّك.
ولا ينبغي أن يفهم من هنا أنَّ هؤلاء الأمراء لم يكن فيهم إلا من استحق هذا الوصف، كلَّا؛ فقد وجد فيهم الأمراء العادلون، إلا أنَّه قد بقيت مع الأسف أحوال الحجاز غير مستوية، وأعراب البادية يسطون على الحجاج، وليس لداء معرَّتهم علاج، وكانت كلُّ من الدَّولة العثمانية والدولة المصريَّة ترسل طوابير من الجند النظامي مصحوبة بالمدافع وسائر آلات القتال؛ لأجل خفارة قوافل الحجّ، وتؤدِّي إلى زعماء القبائل الرواتب الوافرة، وكل هذا لم يكن يمنع الأعراب ومن لا يخاف الله من الدعار من تخطف الحجَّاج في كلِّ فرصة تلوح لهم.
وكثيرًا ما كانت قافلة الحجّ تضطر إلى الرُّجوع وقد فاتها الحج أو الزيارة بعد أن قصدوا ذلك من مكانٍ سحيقٍ، وتكلَّفوا بذل الأموال، وتجشَّموا مشاق الأسفار في البرِّ والبحر، فكانوا يذوبون من الشَّوق على ما فاتهم، ويتحرَّقون من الوجد، ويبكون بصيِّب الدمع، والنَّاس بأجمعهم يحوقلون ويقولون: (ليس لها من دون الله كاشفة) ذاهبين إلى أنَّ سطو الأعراب هؤلاء داء عضال لا تنفع فيه حيلة ولا وسيلة، وقد عمَّت بهم البلوى، وإلى الله المشتكى.
وهكذا توالت القرون والحقب والنَّاس على هذا الاعتقاد لا يتزحزحون عنه إلى أن آل أمر الحجاز إلى الملك عبد العزيز بن سعود منذ بضع عشرة سنة؛ فلم تمض سنة واحدة حتَّى انقلب الحجاز من مسبعة تزأر فيها الضَّواري في كلِّ يومٍ بل في كلِّ ساعة إلى مهد أمان، وقرارة اطمئنان، ينام فيها الأنام بملء الأجفان، ولا يخشون سطوة عادٍ، ولا غارة حاضرٍ ولا باد، وكأنَّ أولئك الأعراب الذين روَّعوا الحجيج مدَّة قرون وأحقاب لم يكونوا في الدُّنيا، وكأن هاتيك الذئاب الطلس تحوَّلت إلى حملان؛ فلا نهب ولا سلب ولا قتل ولا ضرب، ولو شاءت الفتاة البكر الآن أن تذهب من مكَّة إلى المدينة، أو من المدينة إلى مكة، أو إلى أيَّة جهة من المملكة السعودية وهي حاملة الذهب والألماس والياقوت والزمرد، ما تجرَّأ أحدٌ أن يسألها عمَّا معها.
ما من يوم إلا وتُحمل فيه إلى دوائر الشرطة لقَط متعدِّدة، ويؤتى بضوال فقدها أصحابها في الطُّرق، وأكثر من يأتي بها الأعراب أنفسهم؛ خدمة للأمن العام، وإبعادًا للشّبهة عنهم وعن ذويهم، فسبحان محوِّل الأحوال ومقلِّب القلوب، والله لا يوجد في هذا العصر أمن يفوق أمن الحجاز لا في الشَّرق ولا في الغرب، ولا في أوروبا ولا في أمريكا، وقد تمنَّى المستر كراين الأميركي صديق العرب الشهير في إحدى خطبه أن يكون في وطنه أمريكا الأمن الذي رآه في الحجاز واليمن.
وكلُّ من سكن أوروبة وعرف الحجاز في هذه الأيام يحكم بأنَّ الأمنة على الأرواح والأعراض والأموال في البِقاع المقدَّسة هي أكمل وأشمل وأوثق أوتادًا وأشد أطنابًا منها في الممالك الأوروبيَّة والأمريكيَّة، فأين أولئك الذين كانوا يقولون: إنَّ الأعراب لا يقدر على ضبطها إنسان، وإن سكَّان الفيافي هم غير سائر البلدان؟! فها هو ذا ابن سعود قد ضبطها بأجمعها في مملكته الواسعة، ومحا أثر الغارات والثارات بين القبائل، وأصبح كلُّ إنسان يقدر أن يجوب الصحاري وهو أعزل، ويدخل أرض كلِّ قبيلة دون أن يعترضه معترض أو يسأله سائل إلى أين هو غادٍ أو رائح، ولو قيل لبشر: إن بلادًا كان ذلك شأنها من الفزع والهول وسفك الدِّماء وقطع الطُّرق قد مرد أهلها على هذا البغي وهذا العدوان من سالف الأزمان، وإنَّه يليها ابن سعود فلا تمضي على ولايته لها سنة واحدة حتى يطهِّرها تطهيرًا ويملأها أمنًا وطمأنينة؛ لظنَّ السَّامع أنَّه يسمع أحلامًا أو خرافات، أو اتّهم القائل في صحَّة عقله.
ولكن هذا قد صار حقيقة كليَّة، وقضية واقعيَّة في وقت قصير، وما أوجده إلا همّة عالية، وعزمة صادقة، وإيمانٌ بالله، وثقةٌ بالنَّفس، وعلم بأنَّ الله تعالى مؤيِّد من أيَّده، ناصرٌ من نصره، يحثُّ على العمل ويكافئ العامل، ويكره اليأس، ويقول لعباده: {ومن يقنط من رحمة ربِّه إلَّا الضَّالّون}.
وقد سرت بشرى الأمان الذي شمل البلاد المقدَّسة الحجازيَّة فعمت أقطار الإسلام، وأثلجت صدور أبنائه، وارتفعت عن الحجاز تلك المعرَّة التي طالما وجم لها المسلمون؛ وذلك بقوَّة إرادة الملك عبد العزيز بن سعود، والتزامه حدود الشّرع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)