الغَرائِز الفطرية ووُجود الله
#مركز_سلف_للبحوث_والدراسات
#إصدارات_مركز_سلف
ما تفسير الغرائز الكامنة في أغوار الكائنات الحية؟
هذا السؤال من أكبر الأسئلة التي حيرت العلماء الماديين، وحين يتأمله ذووا الفِطَر السليمة فإنه لن يقودهم إلا إلى حقيقة ضرورية يجدها الإنسان؛ إن الله الذي خلق الخلق أودع في خلقه ما يدلّ عليه عز وجل، ومنها الغرائز الفطرية، وهي دوافع وميول كامنة في النفس، موجودة منذ الولادة، تدفعها إلى أعمال وسلوكيات تصب في مصالحها.
كالطفل ينساق إلى ارتضاع ثدي أمّه، وامتصاص الحليب منه لنُموّه وسد جوعه دون تعليم ولا تدريب([1]).
وكيف يعيش الطفل لو كان يحتاج منذ ولادته إلى تعليمٍ لطريقة التقام الثدي وكيفية مصه وطريقة ازدراد للحليب؟! وبأي الوسائل سنعلمه ذلك؟!
ثم ارجع البصر وتأمل في غريزة الأمومة، تلك التي تبدأ بحمل الطفل في أحشائها تسعة أشهر، لا تكترث أن يؤلمها طفلها بحركاته، ويشاركها في طعامها، ويمنعها من نومها وراحتها، ثم بعد كل ذلك لا تمانع أن تفديه بحياتها حين ولادته؛ إذ تكون بين الحياة والموت، فإن خرج أقبلت عليه بكل قلبها، وأغدقت عليه ينابيع رعايتها وحبها، وآثرته بنفسها حتى يشبّ، واقرأ عجائب “قصص الأمهات مع أبنائهن:
ابن يطعن أمه فتسعى في الشفاعات ألا يعاقَب أو يؤذَى!
وآخر يهجر أمه، فلا تكون لها في الحياة أمنية إلا في الجلوس معه!
ابن مشلول، وأم عجوز تقوم على شأنه بعد أن بلغت من الكبر عتيا!”([2])
وليس هذا مقصورًا على الإنسان بل هي في البهائم أعجب، فتأمل تفاني البطريق في حماية صغيره؛ حيث يظل حاميا لفرخه بين ساقيه طيلة أربعة أشهر دون تناول طعام، بل تعجب من أمومة التماسيح المتوحشة، كيف تدفن بيضها حفاظا عليه، وعندما يخرج صغارها تضعهم في فمها حتى يشتد عودهم، ثم إذا واجه الصغير أية خطورته كان فيُّ أمه الملاذ الآمن، ثم انظر إلى أنثى اللبان كيف يتوجب عليها أن تأكل جيدًا لترضع صغارها، وفي ذات الوقت الذي ينمو فيه صغيرها يتقلص حجمها هي ولا تمانع([3])!
لا أدري كيف تنتظم الحياة إن لم توجد غريزة الأمومة هذه؟!
والغرائز كثيرة يطول بنا المقام إن أردنا استقصاءها، ولعلنا نعرِّج هنا إلى ما ذكره القرآن، ألا وهي مملكة النحل وغرائزها، كتعاونهم وتكاتفهم على العمل والإنجاز، وانضباطهم في العمل المؤسسي، وتصميمهم العجيب للخلية الذي يسبق تصاميم خبراء الهندسة والرياضيات، وتفانيهم في حماية الخلية بحراستها وطرد كل من يحاول اختراقها ثم وقايتها من التعفن([4]).
ومن الغرائز البشرية التي لا يحسن إغفالها غريزة التدين.
فإن الإنسان يجد من نفسه افتقارا إلى من يعبده ويخضع له، ويتلهف إلى معونته ومدده ويبتهل إليه، كما شهد به المؤرخ الإغريقي بلوتارك بقوله: “لقد وجدنا في التاريخ مدنا بلا مدارس، ووجدنا في التاريخ مدنا بلا حصون، ووجدنا في التاريخ مدنا بلا مستشفيات، ولكن ما وجدنا في التاريخ مدنا بلا معابد”([5]).
وتنجلي هذه الغريزة إذا ادلهمَّت الخطوب على الإنسان، وانقطع أمله من أمثاله من المخلوقات، فيتوجّه ضرورة إلى الخالق، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [يونس: 22]([6])
وإذا كان الإنسان لا بد له من دين، والإله أهم أركان التدين، دلَّ ذلك على ضرورة وجود الله سبحانه وتعالى.
فهذه بعض الغرائز، وغيرها كثير لا يكاد يخلو حيوان منها([7])، فكيف نفسر وجود هذه الغرائز؟ ومن أودعها وأوجدها؟
قد أجاب القرآن عن هذا حين سأل فرعون -المتظاهر بإنكار الخالق- عن الإله الذي يستحق أن يعبد، فردّ عليه سبحانه وتعالى بهذه المسألة الظاهرة التي لا يملك إنكارها، فقال: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] “فهدى كل مخلوق إلى ما خلقه له، وهذه الهداية العامة المشاهدة في جميع المخلوقات، فكل مخلوق تجده يسعى لما خلق له من المنافع، وفي دفع المضار عنه… وهذا كقوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7] … ولهذا لما لم يكن لفرعون أن يعاند هذا الدليل القاطع عدل إلى المشاغبة، وحاد عن المقصود فقال لموسى: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [طه: 51]“([8])
وكما عجَزَ فرعون عن الإجابة عن تفسير هذه الغرائز، فلا زالت هذه المسألة مُؤرّقة ومرهقة لأمثاله من المنكرين لوجود الخالق سبحانه وتعالى، يقول جوردن تايلر أحد دعاة نظرية التطور: “لو تساءلنا عن كيفية ظهور أول سلوك غريزي، وعن كيفية توارث هذا السلوك الغريزي لما وجدنا أية إجابة”([9]).
ولا غرابة فقد اعترف كبيرهم داروين أن الغرائز من أكبر الأدلة المبطلة لنظريته بقوله: “الكثير من الغرائز بديعة إلى درجة أنه من المحتمل أن نشأتها سوف تظهر للقارئ صعوبة كافية للإطاحة بنظريتي بالكامل”([10])
ولكن بعض الملحدين المكابرين فسرها تفسيرًا ماديا، وادعى أنها راجعة إلى الجين الأناني([11])، ويقصد بذلك أن هناك جين في الأحياء يريد أن يستأثر بالبقاء! ويدفع إلى السلوكيات التي تؤدي إلى ذلك، فتعريض الكائنات الحية أنفسها للخطر لتحيا صغارها ليس تضحية وتفانيا من أجلهم، وإنما ذلك بسبب ضغط الجين الأناني!
ويكفي لردّ هذا القول أن نقول: إنه مجرد مصادرة لا دليل عليها.
ولو سلمنا جدلا برأيه، فمن أوجد هذا الجين نفسه إذن! ثم من علّم هذه الجينات الصمّاء أن تدفع إلى مثل هذا السلوك وهي غير قادرة على التفكير، فاقدة للذكاء والعقل!؟
ولكن ما عبّر عنه في الحقيقة هي إحدى الغرائز الفطرية في الحيوانات، وهي غريزة الحفاظ على النسل، التي تُعتبر منَّة من الله للحفاظ على الحياة.
ومن محاولات منظري التطورية لتفسير هذه الغرائز، دعوى أنها تنتقل مع عملية التطور لمصلحة إبقاء الكائن الحي!
وهذه مكابرة ومناقضة لما أكّده داروين أصلًا من قبل، ثم هي دعوى غير مقبولة علميا بحسب (جوردن تايلر)؛ لأنها وإن قبلتها بعض الكائنات لكن لا يمكن تعميمها؛ فعاملات النحل والنمل مثلا عقيمات، فكيف تتم عملية الانتقال مع أن غرائزها تتطلب عقلا وذكاء بارعا!! وكذلك بناء الطيور لأعشاشها، وإنشاء القندس للسدود، يقتضي وجود نوع من الأنماط السلوكية المعقّدة؛ كالتصميم والتخطيط للمستقبل، ولا يتلاءم طبيعة جهازها العصبي مع ذلك([12]).
وإن سلمنا بقولهم فإننا لا نرى الغرائز تتطور مع تطور البناء الحيوي([13])، وعلى سبيل المثال: السمكة تضع بيضها تحت أحجار قاع البحر، فكيف تتطور هذه الغريزة لتصبح السمكة حيواناً بريّاً تقوده غريزته إلى بناء أعشاش خاصة على أطراف الأشجار([14])!!
ثم وإن صحّت هذه النظرية، فسيبقى السؤال قائما: من أنشأها أول مرة؟([15])
فهذه الغرائز الفطرية الباهرة المتوائمة مع نظام الكون لا يمكن أن تنشأ من تلقاء نفسها، فلو رأيت جهازًا بشريًّا صُنع على أحدث التصاميم وبأدق القياسات وأحسن الميزات، هل لك أن تصدق أو تتخيل أنها نشأت من نفسها، أو وُجدت صدفة، أو لا مصمم لها.
هيهات!
إعداد اللجنة العلمية بمركز سلف للبحوث والدراسات [تحت التأسيس]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) ينظر: العقيدة الإسلامية وأسسها لـ د. عبد الرحمن حسن حبنكة (ص89)، شموع النهار للشيخ عبد الله العجيري (ص72).
([2]) شموع النهار للشيخ عبد الله العجيري (ص 73).
([3]) ينظر: الأفلام الوثائقية في كل ذلك، وهي موجودة على الشبكة.
([4]) حيث أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن هذا بقوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)} [النحل: 68، 69]، وللاستزادة ينظر: مقال من عجائب المخلوقات القرآن وأمة النحل على شبكة الألوكة http://www.alukah.net/culture/0/71891/، وشاهد أيضا وثائقي كيف يصنع النحل العسل؟ https://www.youtube.com/watch?v=DKBCUQ5DjsE.
([5]) ولذا تجد في تاريخ البشر تنوع هائل في أنواع المعبودات، حتى إن بعضهم يعبد الحجر والبقر والجرذان!
([6]) والدراسات الغربية الحديثة تعترف بهذا ولكن بلغة أخرى، فهناك كثير من الدراسات التي تجرى على هذه الغريزة حتى صار يُبحث عن جين موجود في نفس الإنسان مسؤول عن التدين!! ينظر: شموع النهار للشيخ عبد الله العجيري (ص 32).
([7]) كغريزة التناسل، وميل كل من الجنسين إلى الآخر، وطلب العيش، وحب البقاء، وحب الكمال والجمال، وحب الولد، ومما لوحظ من الغرائز على البهائم خاصة: بناء المسكن، والدفاع عن النفس وتدابير الحذر من المخاطر، والهجرة الجماعية المنظمة، وغيرها من الغرائز الفطرية.
([9]) نقلا عن: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن و السنة، مقال: الغريزة ونظرية التطور http://quran-m.com/quran/printarticles/2170.
([10]) أصل الأنواع لتشارلز داروين، ترجمة: مجدي المليجي (ص394).
([11]) ومن أشهر من ادعاها داعية الإلحاد الشهير وعالم الأحياء الأمريكي ريتشارد دوكنز في كتابه الذي سماه (الجين الأناني).
([12]) سر التطور العظيم لجوردن تايلر (ص 222)، نقلا عن: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن و السنة، مقال: الغريزة ونظرية التطور http://quran-m.com/quran/printarticles/2170.
([13]) كما استشكله داروين نفسه في كتابه أصل الأنواع، ينظر: (ص98).
([14]) فهذا مناقض لزعم التطوريين الذين يزعمون أن الطيور نشأت من الزواحف وهي نشأت من الأسماك.
([15]) ينظر: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، مقال: الغريزة ونظرية التطور http://quran-m.com/quran/printarticles/2170، وشموع النهار للشيخ عبد الله العجيري (ص 72).