السبت - 18 شوّال 1445 هـ - 27 ابريل 2024 م

الأصول العقليَّة على حجيَّة فهم الصَّحابة

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

مقدمَة:

أرسل الله رسوله محمَّدًا صلى الله عليه وسلم بخاتِمة الرسالات، وأعظم الكُتب على الإطلاق؛ ليكون نبراسًا للبشرية إلى قيام السَّاعة، فبلَّغ النَّبي صلى الله عليه وسلم الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح أمَّته، وتركها على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلَّا هالك، وقد تلقَّى هذا الدين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أناسٌ اختارَهم الله ليكونوا أصحاب خيرة رسله، وآخر رسالاته، فأخذوا الدِّين بحق، ونقلوه لنا بأمانةٍ وصدق، وقد عاينوا التَّنزيل، وصحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وشهدوا ظروف الوحي وحيثيَّاته، فكان فهمهم أصوب الفهوم، وبيانهم أبلغ البيان، فلم يختلط لسانهم بعُجمة، ولم يختلط فكرهم بفلسفة وضعية أو أصول كلاميَّة، كل هذا مع ثناء الشرع عليهم، وأمره باتِّباعهم.

ولأجل ذلك كانَ من أبرز أصول أهل السُّنة والجماعة: الأخذُ بفهم الصَّحابة للدين، وتقديمُه على كل رأيٍ حدث بعدهم.

والمراد بفهمهم: الفهم الذي أجمعوا عليه؛ فيُمنع إحداث قول يناقضُ إجماعهم، أما إن اختلفوا في المسألة؛ فيُمنع أن يُؤتى بقول جديد يناقض أقوالهم كلها ويبطلها، هذا ما عناه أهل السنة والجماعة حين احتجُّوا بفهم الصحابة؛ إذ إنَّهم لم يقصدوا: اتباع فهم آحاد الصحابة – وفي حجية ذلك نزاعٌ مشهور – لكن قصدوا: أنَّ الصَّحابة إذا اتفقوا على فهمٍ فإنَّه لا يجوز لنا أن نخرج عن ذلك الفهم بشيءٍ يبطله، وعلى هذا كانت تقريرات سائر علماء الأمَّة، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: ((إنَّ الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمَّد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاهُ لنفسِه، فابتعثه برسالتِه، ثمَّ نظر في قلوب العباد بعد قلب محمَّد، فوجد قلوب أصحابِه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيِّه، يقاتلون على دينِه، فما رأى المسلمون حسنًا، فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيئ))([1]). وقال ابن عمر رضي الله عنهما: ((من كان مستنًّا فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم،كانوا خير هذه الأمة، أبرُّها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، ونقلِ دينِه، فتشبَّهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهُم أصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم، كانوا على الهدى المستقيم))([2]). ويقول الإمام أحمد رحمه الله: “أصول السُّنة عندنا: التمسُّك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بهم”([3]). ويقولُ اللالكائي: “فإنَّ أوجب ما على المرء: معرفة اعتقاد الدين، وما كلَّف الله به عباده؛ من فهم توحيده، وصفاتِه، وتصديق رُسُله بالدَّلائل واليقين، والتَّوصل إلى طرقها، والاستدلال عليها بالحُجج والبراهين، وكان من أعظم مقول، وأوضح حجة ومعقول: كتاب الله الحق المبين، ثمَّ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته الأخيار المتَّقين، ثم ما أجمع عليه السَّلف الصالحون، ثم التمسك بمجموعها والمقام عليها إلى يوم الدين، ثم الاجتناب عن البدع والاستماع إليها مما أحدثها المضلون”([4]).  

والشَّواهد على ذلك كثيرة، وقد دلَّ على هذا الأصل أدلّة عديدة، منها أصولٌ وأدلة شرعية كثناء الله عليهم، واصطفائِه لهم، وشهادة الله لهُم بالعلم، إلى غير ذلك من الأصول التي دلَّت عليها الشريعة([5]).

وفي هذه الورقة المختصرة نعرِّج على أصولٍ عقليَّة دلَّت على وجوب تقديم فهم الصحابة على كل من جاء بعدهم، وهي أصولٌ يشترك جميع العقلاء في إدراكها، ومعرفة أهمِّيتها، ومن وعاها وأذعن للحجج فيها؛ ازدادت قناعتُه بما بيَّنته الشَّريعة من وجوب اتباع فهم الصحابة، وهذه الأصول العقليَّة يمكن بيانها في الآتي([6]) :

الأصل الأول: التَّعايش مع الوحي:        

الصَّحابة الكرام تميَّزوا بخصيصةٍ لا توجد في أي جيلٍ بعدهم وهو: أنَّهم تعايشوا مع الوحي، فقد تلقوا القرآن غضًّا طريًّا من النبي صلى الله عليه وسلم، فشهدوا نزوله، وحضروا بلاغ النَّبي صلى الله عليه وسلم، ورأوا حالات الوحي إليه، وعاينوا الأحداث التي أحاطت بنزولِ بعض الآيات، وتعايشوا معه تعايشًا كاملًا؛ فكان النصُّ هو الحاكم على جميع حركاتهم وسكناتهم.      

ولا شكَّ أنَّ رؤيتَهم لنزول الوحي، ومعايشتهم لأحداث وحالات نزولِه يعطيهم أفضليَّة في فهمه، وإدراكِ معانيه، فليس من حضَرَ ورأى وعرَفَ الأسباب، واستمَع إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، وعاش مع النَّص، كمن جاء بعدهم ممَّن بلغهم النَّص دون كل ما احتفَّ به من طريقةِ نزولٍ، وسبب، وبيان، وتداول حديث حوله.

وعلى هذا المعنى اعتمَد أهل السُّنة والجماعة في بيان حجيَّة فهم الصحابة، بل اعتمد ذلك الصحابة أنفسهم رضوان الله عليهم، فهذا ابن عباس رضي الله عنهما حين ذهب يحاور الخوارج زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم بيَّن لهم أنَّه جاء من عند من فهم النُّصوص الشرعية؛ لأنَّها أنزلت عليهم، فقال: ((أتيتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: المهاجرين، والأنصار، ومن عند ابن عمِّ النَّبي صلى الله عليه وسلم وصهره، وعليهم نزل القرآن، فهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحد))([7])، فهذا اعتمادٌ على هذا الأصل في تقديم فهم الصَّحابة الكرام.

كذلك اعتمد الشَّافعي رحمه الله على أنَّ الصحابة قد عاينوا التنزيل، وبناءً عليه فلا شكَّ أنَّ فهمهم وإدراكهم أعظم من فهم وإدراكِ من جاء بعدهم؛ لاختصاصهم بما أحاط بالوحي عمَّن دونهم، يقول  – رحمه الله -: “وقد أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلم في القرآن والتَّوراة والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل ما ليس لأحدٍ بعدهم، فرحمهم الله، وهنأهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصِّديقين والشُّهداء والصالحين، أدوا إلينا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشاهدوه والوحيُ ينزل عليه؛ فعلموا ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم عامًّا وخاصًّا، وعزمًا وإرشادًا، وعرفوا من سنَّته ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كل علمٍ واجتهادٍ وورعٍ وعقلٍ وأمر استدرك به علم واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد، وأولى بنا من رأينا عند أنفسِنا، ومن أدركنا ممَّن يُرضَى أو حُكِي لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه سنَّة إلى قولهم إن اجتمعوا، أو قول بعضهم إن تفرقوا، وهكذا نقول، ولم نخرج عن أقاويلهم”([8]) .

فلهُم إذن فهمٌ عالٍ للنَّصِّ الشرعي لِما عاينوه، وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله: “وللصحابة فهمٌ في القرآن يخفى على أكثر المتأخِّرين، كما أنَّ لهم معرفة بأمورٍ من السُّنة وأحوال الرسول لا يعرفها أكثر المتأخِّرين؛ فإنَّهم شهدوا الرَّسول والتنزيل، وعاينوا الرسول، وعرفوا من أقوالِه وأفعالِه وأحوالِه ممَّا يستدلون به على مرادهم ما لم يعرفه أكثر المتأخِّرين الذين لم يعرفوا ذلك”([9]).

فمعرفتهم إذًا بمعاني القرآن والسنة أكمل من معرفة من أتى بعدَهم، بل حصل لهم من المعارف ما لم تحصل لغيرهم؛ وذلك لمعايشتهم الوحي كما بينَّا، ورؤيتهم للأمور التي اقترنت بالخطاب الشَّرعي عند نزوله، والظُّروف التي أحاطت به، وعرفوا وعاينوا من أسباب النزول ما يكشف لهم النِّقاب عن معاني الكتاب، وكل ذلك لا يتأتَّى لغيرهم بنفس القوة والغزارة، وعلى  هذا اعتمد الشاطبي في بيان حجيَّة قول الصَّحابي، يقول الشاطبي: “وأمَّا بيان الصحابة فإن أجمعوا على ما بينوه فلا إشكال في صحته أيضًا، وإن لم يجمعوا عليه؛ فهل يكون بيانهم حجَّة، أم لا؟ هذا فيه نظرٌ وتفصيل، ولكنَّهم يترجح الاعتماد عليهم في البيان من وجهين:

…الثَّاني: مباشرتُهم للوقائع والنَّوازل، وتنزيل الوحي بالكتاب والسُّنة؛ فهم أقعد في فهم القرائن الحالية، وأعرف بأسباب التَّنزيل، ويدركون ما لا يدركه غيرُهم بسبب ذلك، والشَّاهد يرى ما لا يرى الغائب، فمتى جاء عنهم تقييد بعض المطلقات، أو تخصيص بعض العمومات؛ فالعمل عليه صواب، وهذا إن لم يُنقل عن أحدٍ منهم خلافٌ في المسألة، فإن خالف بعضهم؛ فالمسألة اجتهاديَّة”([10]).

ففهم الجيل القرآني الذي تربَّى على يد النبي صلى الله عليه وسلم ورأوا ما لم يره من بعدهم؛ مقدَّم على كل فهم، وكلُّ فهمٍ يبطل قولهم، أو يخالفه، بما يجعلهُ خطئًا والقول الآخر هو الصواب؛ فإنه أيضًا باطل، وكانت مشاهدتهم للوحي عاملا مهمًّا في تأثُّرهم المباشر بهذا الدين تأثرًا كان نتيجته الرسوخ واليقين، ولذلك نجد أنَّ الصَّحابة لم يختلفوا في أصول العقائد والأحكام، وفي هذا يقول طاش كبري زاده: “الصَّحابة رضوان الله عليهم أجمعين، كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، على عقيدة واحدة، لأنهم أدركوا زمان الوحي، وشرف صحبة صاحبه، وأزال نور الصحبة عنهم ظلم الشُّكوك والأوهام، وهكذا إلى زمن انقراض الصحابة رضي الله عنهم”([11]).

الأصل الثاني: بناؤهم المنهجي، ووجود الضَّامن:

ويعني: أنَّ الصحابة الكرام قد بنوا فهمهم على ما سبق بيانه من معايشة النَّص الشرعي، ومعرفة كل ما يحيط به، وزادوا على ذلك بأنَّهم لم يعتمدوا على أنفسهم فقط، وإنما هم نتاج تربية النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقد رأوه وهو يعمل بالنَّص الشرعي، ويحكم بموجبِه، وكانوا إن أشكل عليهم شيئًا في فهم النَّص الشرعي سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا بناءٌ منهجيٌّ سليم يُبعدهم عن الخطأ.           

وإضافةً إلى بنائهم المنهجي السَّليم فإنَّه يوجد ضامنٌ على فهمهم، وهو تصحيح النبي صلى الله عليه وسلم، فإنَّهم إن فهموا فهمًا للنَّص الشرعي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فإنَّه لا يخلو من أمرين:

  • إمَّا أن يكون هذا الفهم صحيحًا مستقيمًا، وهو مراد الله ورسوله؛ فيقرون عليه.
  • وإما أن يكون فهمهم هذا فهمًا خاطئًا؛ فيُصحَّح لهم ذلك الفهم.

فعلى الاحتمالين فهمهم سليمٌ صحيحٌ مصيبٌ للحق، وقد كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يصحح لأصحابه ما يقعون فيه من خطأ في الفهم، كما صحَّح النبي صلى الله عليه وسلم لعمار ابن ياسر حين فهم التيمُّم خطأ، فعن عن سعيد بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: ((جاء رجلٌ إلى عمر بن الخطاب، فقال: إنِّي أجنبت فلم أصب الماء، فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر أنَّا كنا في سفر أنا وأنت، فأمَّا أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت([12]) فصلَّيت، فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إنَّما كان يكفيك هكذا” فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفَّيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه))([13])، وكما صحَّح النَّبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله عنه حين فهم قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } [البقرة: 187] فهمًا خاطئًا، فصحح له النبي صل الله عليه وسلم ذلك الفهم؛ فإنَّه (( لما نزلت هذه الآية جاءه عدي في الفجر فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إنِّي أجعل تحت وسادتي عقالين: عقالًا أبيض وعقالًا أسود، أعرف الليل من النَّهار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ وسادتك لعريض، إنما هو سواد الليل، وبياض النهار”))([14]).

فتلقِّي الصَّحابة الكرام العلم والفهم من النَّبي صلى الله عليه وسلم، وسؤالهم له عمَّا أشكل عليهم، والضَّمان الذي كان على فهمهم بتصحيح النَّبي صلى الله عليه وسلم لهم، يجعل فهمهم هو المقدَّم، ولا يمكن أن يأتي فهمٌ يبطل فهمهم للنَّص الشرعي، وعلى هذا اعتمد أهل السنة والجماعة في بيان حجية فهم الصحابة رضوان الله عليهم، يقول ابن تيمية رحمه الله وهو يبين أنَّ الصَّحابة الكرام قد فهموا معاني القرآن كله، سواء فهمًا مباشرًا بما تقتضيه لغتهم، أو بسؤال النَّبي صلى الله عليه وسلم عما لم يفهموه، يقول رحمه الله: “يجب أن يُعلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه، فقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] يتناول هذا وهذا، وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: ((حدثنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن: كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنَّهم كانوا إذا تعلَّموا من النَّبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلَّموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا)) ، ولهذا كانوا يبقون مدَّةً في حفظ السورة، وقال أنس رضي الله عنه: ((كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جلَّ في أعيننا)) ، (( وأقام ابن عمر على حفظ البقرة عدَّة سنين، قيل: ثمان سنين)) ، ذكره مالك. وذلك أنَّ الله تعالى قال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]، وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82]، وقال: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68]، وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن. وكذلك قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، وعقل الكلام متضمِّنٌ لفهمه، ومن المعلوم أنَّ كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك. وأيضًا: فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابًا في فنٍّ من العلم كالطبِّ والحساب ولا يستشرحوه؛ فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم، وقيام دينهم ودنياهم؟ ولهذا كان النِّزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلًا جدًّا، وهو وإن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة؛ فهو قليلٌ بالنسبة إلى من بعدهم، وكلَّما كان العصر أشرف كان الاجتماع والائتلاف والعلم والبيان فيه أكثر”([15]).

ففهم الصَّحابة إذًا مقدَّم؛ لأنهم فهموا النص الشرعي، وعرفوا ملابساته، وأمكنهم التحقق من سلامة فهمهم بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم، أو ببيانه لهم، وهي خصيصة لم توجد إلا عندهم.

الأصل الثالث: الاختصاص والملازمة:

من المعلوم أنَّ كل أحدٍ يخاطب الناس فإن الأحق بفهم كلامه فهمًا سليمًا هم أقرب الناس منه، وأكثرهم ملازمة له، وقد كان الصَّحابة رضوان الله عليهم أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من كل من جاء بعدهم، فقد رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي العين، ولازموه، وعرفوا حاله، وتتبَّعوا أثره، واقتفوا سنَّته، وحرصوا على العمل بأقواله، وفقهوا مضمون أوامره ونواهيه، واجتمعوا به، وآكَلوه وشَاربوه، وصحبوه في السفر والحضر، وعرفوا طريقة كلامه، وحفظوا أساليب بيانه، بل حتى عرفوا تعابير وجهه، فهم قد مروا بتجربة لم يمرَّ بها أحدٌ بعدهم؛ فوجب تقديم فهمهم، ففهمُهم لكلامه بحكم الاختصاص به وملازمته مقدم على فهم غيرهم.

وقد عمل بهذا حتى الصَّحابة الكرام، فهذا ابن عباس رضي الله عنه بعدما توفي النبي صلى الله عليه وسلم إنَّما ذهب يطلب العلم من أكابر الصحابة؛ لأنهم عاشوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ولازموه أكثر منه([16])، واعتمد على ذلك أهل السنة والجماعة، يقول اللالكائي: “فلم نجد في كتاب الله تعالى وسنَّة رسوله وآثار صحابته إلا الحث على الاتباع، وذم التكلُّف والاختراع، فمن اقتصر على هذه الآثار كان من المتَّبعين، وكان أولاهم بهذا الاسم، وأحقهم بهذا الوسم، وأخصهم بهذا الرسم: “أصحاب الحديث”؛ لاختصاصهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباعهم لقوله، وطول ملازمتِهم له، وتحملهم علمه، وحفظهم أنفاسه وأفعاله، فأخذوا الإسلام عنه مباشرةً، وشرايعه مشاهدةً، وأحكامه معاينةً، من غير واسطة ولا سفير بينهم وبينه واصلة. فجاولوها عيانًا، وحفظوا عنه شفاهًا، وتلقنوه من فِيهِ رطبًا، وتلقنوه من لسانه عذبًا، واعتقدوا جميع ذلك حقًّا، وأخلصوا بذلك من قلوبهم يقينًا”([17]).

ويقول ابن تيمية رحمه الله مقرِّرًا هذا الأصل: “فمن المعلوم أنَّ علم الرسل يكون عند خاصَّتهم كما يكون علمكم عند خاصَّتكم. ومن المعلوم أنَّ كل من كان بكلام المتبوع وأحواله وبواطن أموره وظواهرها أعلم وهو بذلك أقوم؛ كان أحق بالاختصاص به، ولا ريب أنَّ أهل الحديث أعلم الأمَّة وأخصها بعلم الرسول وعلم خاصته، مثل الخلفاء الراشدين وسائر العشرة، ومثل: أبيّ ابن كعب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وأبي الدرداء، وعبادة بن الصامت، وأبي ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، ومثل سعد ابن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة، وعباد بن بشر، وسالم مولى أبي حذيفة، وغير هؤلاء ممَّن كان أخص الناس بالرسول وأعلمهم بباطن أموره، وأتبعهم لذلك. فعلماء الحديث أعلم النَّاس بهؤلاء وببواطن أمورهم وأتبعهم لذلك، فيكون عندهم العلم؛ علم خاصة الرسول وبطانته، كما أنَّ خواص الفلاسفة يعلمون علم أئمَّتهم، وخواص المتكلمين يعلمون علم أئمتهم، وخواص القرامطة والباطنية يعلمون علم أئمتهم، وكذلك أئمَّة الإسلام مثل أئمة العلماء، فإنَّ خاصَّة كل إمام أعلم بباطن أموره”([18]). فابن تيمية رحمه الله يبيِّن أنَّ هذه سنة بشرية تسري على كلِّ الناس، فكل أحد هو أفهم لكلام من اختصَّ به، ولازمه، وعرف كلامه، وفهمه هذا مقدم على فهم غيره.

الأصل الرابع: السلامة اللغوية:

أنزل الله هذا القرآن باللغة العربية كما ذكر الله ذلك في كتابه فقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، وقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]، وقال: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113]، وقال: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192 – 195]، وقال: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 28]، وقال: { كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3]، وقال: {نَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3]، وغيرها من الآيات، ولا يستريب عاقلٌ في أنَّ أسعد النَّاس بفهم كلام الله هو أقرب النَّاس إلى هذه اللغة التي بها أنزل القرآن.

ومعلومٌ أنَّ سوء إدراك اللغة وفهمها فهمًا خاطئًا كان له أثرٌ كبيرٌ في ظهور البدع، يقول الشافعي رحمه الله: “ما جهل النَّاس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب، وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس”([19]). بل يقول السيوطي: “وقد وجدت السَّلف قبل الشافعي أشاروا إلى ما أشار إليه من أنَّ سبب الابتداع: الجهل بلسان العرب…وأخرج البخاري في تاريخه الكبير عن الحسن البصري قال: إنما أهلكتهم العجمة”([20]).

ولا شكَّ ولا ريب أنَّ أقرب الناس إلى لغة القرآن، وأفهمهم لها، هم الصحابة الكرام، فقد كان زمنهم زمن الفصاحة والبيان، وقد بلغت اللغة القمَّة إبَّان بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت لها أسواقها العامرة، ومنتدياتها الجامعة، ولم يكن الصَّحابة بمنأى عن ذلك الحراك العلمي اللغوي، فكانوا هم أشد الناس فصاحةً وبلاغةً، وكانوا هم أهل اللغة المتقنون لها سليقةً لا تعلُّما، فإذا كان كذلك فإنَّ فهم النُّصوص الشرعيَّة ينبغي أن يكون من خلال اللغة التي أُنزلت بها قبل أن تدخلها الألفاظ الحادثة، ويطرأ عليها من دلالات الألفاظ ما لم تكن معهودةً في اللسان العربي في عصر الصَّحابة، ولذلك وجب علينا تقديم فهم الصحابة؛ إذ إنَّهم فهموا القرآن بلغته التي أنزل بها.

وعلى هذا اعتمد أهل السنة والجماعة في بيان حجيَّة فهم الصَّحابة، يقول ابن تيمية رحمه الله: “وأيضًا فإنَّ الله تعالى لمَّا أنزل كتابه باللسان العربي، وجعل رسوله مبلغًا عنه للكتاب والحكمة بلسانه العربي، وجعل السَّابقين إلى هذا الدين متكلمين به؛ لم يكن سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط اللسان، وصارت معرفته من الدِّين، وصار اعتبار التَّكلم به أسهل على أهل الدين في معرفة دين الله، وأقرب إلى إقامة شعائر الدين، وأقرب إلى مشابهتهم للسَّابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، في جميع أمورهم”([21]). فالناس يحتاجون إلى معرفة لغة القرآن من أجل فهمه، وهم في ذلك عالة على الصَّحابة الكرام، يقول ابن تيمية رحمه الله في تقرير ذلك: “يحتاج المسلمون إلى شيئين: أحدهما: معرفة ما أراد الله ورسولُه صلَّى الله عليه وسلم بألفاظ الكتاب والسُّنة بأن يعرفوا لغة القرآن التي بها نزل، وما قاله الصَّحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر علماء المسلمين في معاني تلك الألفاظ، فإنَّ الرسول لما خاطبهم بالكتاب والسنة عرفهم ما أراد بتلك الألفاظ، وكانت معرفة الصحابة لمعاني القرآن أكمل من حفظهم لحروفه، وقد بلغوا تلك المعاني إلى التَّابعين أعظم ممَّا بلغوا حروفه، فإنَّ المعاني العامَّة التي يحتاج إليها عموم المسلمين مثل: معنى التوحيد، ومعنى الواحد والأحد، والإيمان والإسلام، ونحو ذلك؛ كان جميع الصَّحابة يعرفون ما أحبَّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من معرفته”([22]).

وقد رجَّح الشَّاطبي حجيَّة قول الصحابي؛ لأن معرفته باللغة فوق معرفة من جاء بعده، وفي هذا يقول رحمه الله: “وأمَّا بيان الصحابة فإن أجمعوا على ما بينوه فلا إشكال في صحته أيضًا، وإن لم يجمعوا عليه فهل يكون بيانهم حجة، أم لا؟ هذا فيه نظرٌ وتفصيل، ولكنَّهم يترجَّح الاعتماد عليهم في البيان من وجهين:

أحدهما: معرفتُهم باللسان العربي؛ فإنَّهم عرب فصحاء، لم تتغيَّر ألسنتهم، ولم تنزل عن رتبتها العليا فصاحتهم؛ فهم أعرف في فهم الكتاب والسنة من غيرهم، فإذا جاء عنهم قولٌ أو عمل واقع موقع البيان؛ صح اعتماده من هذه الجهة”([23]).

وقد وقع الخطأ في كلام كثير من المتأخرين؛ لبعدهم عن لغة الصحابة رضوان الله عليهم، ذلك أنَّهم يبنون الفهم على مصطلحاتٍ خاصَّة بهم لم تكن معهودة زمن الخِطاب، فإذا رأوا تلك المصطلحات في لسان الشَّرع حمَّولها حمولة معانيهم هم، وهذا غلطٌ بيِّن! وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله: “ومن لم يعرف لغة الصَّحابة التي كانوا يتخاطبون بها، ويخاطبهم بها النبي صلى الله عليه وسلم، وعادتهم في الكلام، وإلا حرّف الكلم عن مواضعه؛ فإنَّ كثيراً من الناس ينشأ على اصطلاح قومٍ وعادتهم في الألفاظ، ثم يجد تلك الألفاظ في كلام الله أو رسوله أو الصَّحابة؛ فيظنُّ أنَّ مراد الله أو رسوله أو الصحابة بتلك الألفاظ ما يريده بذلك أهل عادته واصطلاحه، ويكون مراد الله ورسوله والصحابة خلاف ذلك”([24])، وكم جنت المصطلحات الحادثة، وتحميلُ الألفاظ من المعاني الحادثة التي لم يستعملها العرب مطلقًا، أو لم يستعملوها في تلك السياقات؛ من جنايةٍ عظيمة على عقائد المسلمين.

الأصل الخامس: بعدهم عن الأثقال المعرفية:

الصَّحابة رضوان الله عليهم كانوا أبعد عن الأثقال المعرفية ممَّن جاء بعدهم، وأعني بالأثقال المعرفيَّة: العلوم الكثيرة التي أحيطت بالنَّص الشرعي، ولأجل فهمه بالنِّسبة لمن جاء بعد الصَّحابة، فالصَّحابة قد خصَّهم الله بتوقُّد الأذهان وفصاحة اللسان، وبعدهم عن الأثقال المعرفيَّة من العلوم الأخرى، فلا يحتاجون إلى الاشتغال بعلوم أخرى بغية الوصول إلى فهم النَّص!([25])، ومن ذلك مثلًا: أنَّهم ليسوا بحاجةٍ إلى علم اللغة والصرف وما إلى ذلك، وليسوا بحاجة إلى علم الرجال والإسناد والعلل والجرح والتعديل، ولا يحتاجون إلى النَّظر في قواعد الاستنباط، بل أغناهم الله عن ذلك كلِّه، فكانوا يأخذون النَّص مباشرةً من النَّبي صلى الله عليه وسلم، ويفهمونه بما حباهم الله من فطرة صحيحة، ولغة سليمة.

والصَّحابة وإن كانوا أعملوا كثيرًا من هذه العلوم التي كتبت فيما بعد، إلا أنَّ المتأخرين يبوؤون بثقلها أكثر من الصحابة بلا شك، وذلك لبُعدهم عن عصر الصحابة، وحاجتهم الماسة إلى ضبط الفهم الصحيح، كما أنَّهم ليس لهم بدٌّ من النَّظر في الأسانيد والرجال والعلل ومعرفة الصَّحيح والضعيف، إلى غير ذلك، ولا يعني ذلك أنَّ المتأخرين لا يمكنهم أن يصلوا إلى فهم صحيح؛ كلا، وإنما المراد أنَّ الصحابة كانوا أقرب إلى الحق؛ لأنَّهم تخلصوا من هذا كله، فإن كان المتأخر مع كل هذه القيود يستطيع الوصول إلى الفهم الصحيح، فالصَّحابة أولى، كما لا يمكن أن يصل المتأخر إلى قول يبطل به فهم الصحابة لنصٍّ شرعي لهذه الأمور التي دخلت في العلم فصعبت الوصول.

وقد عبَّر ابن القيم رحمه الله عن هذا الأصل بكلامٍ بديعٍ أنقله بطوله لأهمِّيته، يقول رحمه الله: “أمَّا المدارك التي شاركناهم فيها من دلالات الألفاظ والأقيسة فلا ريب أنهم كانوا أَبرَّ قلوبًا، وأعمق علمًا، وأقل تكلّفًا، وأقرب إلى أن يوفَّقوا فيها لما لم نوفق له نحن؛ لما خصَّهم اللَّه تعالى به من توقّد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك وسرعته، وقلَّة المعارض أو عدمه، وحسن القصد، وتقوى الرب تعالى، فالعربية طبيعتهم وسليقتهم، والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرهم وعقولهم، ولا حاجة بهم إلى النَّظر في الإسناد وأحوال الرواة وعلل الحديث والجرح والتعديل، ولا إلى النَّظر في قواعد الأصول وأوضاع الأصوليين، بل قد غنوا عن ذلك كله، فليس في حقِّهم إلا أمران:

أحدهما: قال اللَّه تعالى كذا، وقال رسوله كذا.

والثاني: معناه كذا وكذا، وهم أسعد الناس بهاتين المقدمتين، وأحظى الأمة بهما، فقواهم متوفِّرة مجتمعة عليهما.

وأمَّا المتأخرون فقواهم متفرقة، وهممهم متشعِّبة، فالعربية وتوابعها قد أخذت من قوى أذهانهم شعبة، والأصول وقواعدها قد أخذت منها شعبة، وعلم الإسناد وأحوال الرواة قد أخذ منها شعبة، وفكرهم في كلام مصنِّفيهم وشيوخهم على اختلافهم وما أرادوا به قد أخذ منها شعبة، إلى غير ذلك من الأمور، فإذا وصلوا إلى النُّصوص النبوية إنْ كان لهم هممٌ تسافر إليها وصلوا إليها بقلوبٍ وأذهانٍ قد كلَّتْ من السَّير في غيرها، وأوهن قواها مواصلةُ السرى في سواها، فأدركوا من النصوص ومعانيها بحسب تلك القوة، وهذا أمرٌ يحس به النَّاظر في مسألة إذا استعمل قوى ذهنه في غيرها، ثم صار إليها وَافَاها بذهن كالٍ وقوة ضعيفة، وهذا شأن من استعمل قواه في الأعمال غير المشروعة؛ تَضعُف قوته عند العمل المشروع، كمن استفرغ قوَّته في السَّماع الشيطاني، فإذا جاء قيام الليل قام إلى ورده بقوة كالَّة، وعزيمة باردة، وكذلك من صرف قوى حبِّه وإرادته إلى الصور أو المال أو الجاه، فإذا طالب قلبه بمحبة اللَّه فإن انجذب معه انجذب بقوة ضعيفة قد استفرغها في محبة غيره، فمن استفرغ قوى فكره في كلام الناس، فإذا جاء إلى كلام اللَّه وكلام رسوله جاء بفكرة كالَّةٍ فأعطى بحسب ذلك.

والمقصود أنَّ الصَّحابة أغناهم اللَّه تعالى عن ذلك كله، فاجتمعت قواهم على تينك المقدمتين فقط، هذا إلى ما خصوا به من قوى الأذهان وصفائِها، وصحتها وسرعة إدراكها، وكماله، وكثرة المعاون، وقلة المعاوق، وقرب العهد بنور النُّبوة، والتلقي من تلك المشكاة النَّبوية، فإذا كان هذا حالنا وحالهم فيما تميَّزوا به علينا وما شاركناهم فيه فكيف نكون نحن أو شيوخنا أو شيوخهم أو من قلَّدناه أسعد بالصَّواب منهم في مسألة من المسائل؟ ومن حدّث نفسه بهذا فليعرِّها من الدين والعلم، واللَّه المستعان“([26]).

ومن هذا أيضًا أنَّ الصحابة تلقوا الوحي بفطر سليمة لم تختلط بثقافات وافدة، ولا فلسفات يونانيَّة، ولا علوم كلاميَّة، ولم تظهر الأقوال البدعيَّة، والأصول الكلامية، فكان ذلك مقتضيا لفهمهم الصَّحيح، إذ نجوا من تأثير العلوم الوافدة، وهي خصيصة لم تتوفر لغيرهم، يقول عبدالرحمن الزنيدي: “لقد كانت أمِّيتهم ومن ثمَّ فطريتهم عاملًا مهما في أن تشرق العقيدة في نفوسهم، وترسخ فيها، طاردة كل غبش كان يساورها قبل ذلك، ومن ثمَّ أصبحت هذه العقيدة بمستلزماتها الإيمانية هي المهيمن الوحيد، والمعيار الحاكم على ما يرد على الإنسان من أفكار وهواجس، وهذا لم يتهيأ لسواهم ممَّن أتى بعدهم عندما حدث الامتزاج الثقافي بين المسلمين والأمم الأخرى، إلا من احتمى بمنهجهم وسلك سبيلهم”([27]).

الأصل السَّادس: زكاء نفوسهم وقربهم من الحق:

فإنَّ الصحابة الكرام كانوا أزكى الناس قلوبًا، وأطهرهم أفئدة، وأكثرهم إرادةً للحق، ومن كان بهذه الحالة في إرادة الخير فإنَّه سيتحرَّى في الفهم الصَّحيح للدين حتى يعمل به، وقد اعتمد على هذا الأصل أهلُ السُّنة والجماعة وعلى رأسهم الصَّحابة الكرام، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((إنَّ الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاهُ لنفسه، فابتعثهُ برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمَّد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيِّه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيئ))([28])، وحين أراد ابن عمر رضي الله عنه بيان اتباع الصحابة علَّق ذلك بهذا المعنى فقال: ((من كان مستنًّا فليستنَّ بمن قد مات، أولئك أصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم؛ كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه، فتشبَّهوا بأخلاقهم وطرائقهم؛ فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا على الهدى المستقيم))([29]).

ولا نعني بهذا أنَّ كل من كان تقيًّا مطيعًا لله فإنَّه بالضرورة سيوفق للفهم الصحيح، وهذا غير صحيح بلا شك؛ لكن نريد أنَّ الصحابة حين حملوا هذه الصفات العظيمة كانوا أقرب إلى إصابة الحق ممَّن لم تقم في قلوبهم هذه الإرادات، فإن جمعنا إلى ذلك: الأصول السابقة التي ذكرناها؛ قطعنا بأن فهمهم هو الفهم الصحيح، وفي بيان هذا يقول الأوزاعي: “لو كان هذا خيرًا ما خصصتم به دون أسلافكم، فإنَّه لم يدخر عنهم خير خبئ لكم دونهم لفضلٍ عندكم، وهم أصحاب نبينا عليه الصلاة والسَّلام، والذين اختارهم الله عز وجل، وبعثهُ فيهم، ووصفه بهم، فقال جل وعلا: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود} [الفتح: 29] إلى آخر السورة”([30]فالأوزاعي هنا لم يعتمد على هذا الأصل فقط، وإنَّما عضده بغيره بأن الله لا يمكن أن يمنع الخير عنهم ويوفق غيرهم له وهم أصحاب رسول الله، وأزكاهم قلوبا، ولأجل تلك الإرادات في قلوبهم جازاهم الله بإصابة الحق في فهمهم، يقول ابن تيمية رحمه الله: “ومن المستقر في أذهان المسلمين: أنَّ ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء هم الذين قاموا بالدِّين علمًا وعملًا، ودعوةً إلى الله والرَّسول، فهؤلاء أتباع الرسول حقًّا، وهم بمنزلة الطائفة الطَّيبة من الأرض التي زكت فقبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير فزكت في نفسها وزكى الناس بها. وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين والقوَّة على الدعوة، ولذلك كانوا ورثة الأنبياء الذين قال الله تعالى فيهم: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45]، فالأيدي: القوة في أمر الله، والأبصار: البصائر في دين الله، فبالبصائر يدرك الحق ويعرف، وبالقوة يتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه. فهذه الطَّبقة كان لها قوَّة الحفظ والفهم والفقه في الدين والبصر والتَّأويل، ففجرت من النصوص أنهار العلوم، واستنبطت منها كنوزها، ورزقت فيها فهمًا خاصًّا”([31]وفي هذا المعنى أيضًا يقول ابن القيم رحمه الله: “أمَّا المدارك التي شاركناهم فيها من دلالات الألفاظ والأقيسة فلا ريب أنَّهم كانوا أبر قلوبًا، وأعمق علمًا، وأقل تكلفا، وأقرب إلى أن يوفقوا فيها لما لم نوفق له نحن؛ لما خصهم الله تعالى به من توقد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك وسرعته، وقلة المعارض أو عدمه، وحسن القصد، وتقوى الرب تعالى”([32]فانظر كيف استخدم ابن القيم رحمه الله لفظة: “أقرب إلى أن يوفقوا” وذلك لما بينَّاه سابقا من أن هذا الأصل لا يقوم وحده؛ إذ ليس بالضرورة أن يكون كل متقٍ مصيبًا للحق.

فالاعتماد في هذا الأصل إذًا على الحالة التي عاشها الصحابة من تزكيةٍ للنفس، وطهارةٍ للقلب، وإرادةٍ للخير، ممَّا يجعل إدراكهم للحق أقرب، وفي هذا يقول الدكتور عبدالله الدميجي: “من الضَّروري أن تكون مثالية ذلك الجيل محل اتفاق بين أهل القبلة، وأن يكون فهمهم للإسلام ونصوصه مقياسًا للفهم الصَّحيح للإسلام ونصوصه، ومرجعًا يتحاكم إليه عند التَّنازع في فهم أصل من أصول الإسلام، أو نصٍّ من نصوصه”([33]).

الأصل السابع: استحالة خلوِّ عصرهم من الحق:

ويعني أنَّه إذا تعارض فهم الصحابة بفهم من بعدهم، فإنَّنا بين أمرين:

  • إمَّا أن نقدم فهم الصحابة؛ لما سبق من بيان الأصول الشرعية والعقلية.
  • أو أن نقدِّم فهم من بَعدهم مع بُعدهم عن مصدر التلقي، واختلاط أفهامهم ببدع كلامية، وفلسفات وضعية، مع ضعفٍ في اللغة.

ولا يصحُّ عقلًا أن نقدِّم فهم الخلف ونترك فهم الصحابة، وذلك لما مرَّ بنا من بيان فضلهم، وحجيَّة فهمهم؛ بناء على الأصول الشرعية والعقلية، وعدم إمكانية أن يمنعوا من الخير كله، ويكونوا على باطل؛ بينما يتوصل إليه من جاء بعدهم، ولهذا كل العلماء إنمَّا يقدمون فهم الصحابة، ويبينون أنَّهم عالة عليه، يقول ابن تيمية رحمه الله: “ولا تجد إمامًا في العلم والدين كمالك والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة والشَّافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، ومثل الفضيل بن عياض وأبي سليمان ومعروف الكرخي وأمثالهم إلَّا وهم مصرِّحون بأنَّ أفضل علمهم ما كانوا فيه مقتدين فيه بعلم الصحابة، وهم يرون أنَّ الصحابة فوقَهم في جميع أبواب الفضل والمناقب”([34]).

إضافةً إلى هذا فإنَّنا نقدِّم فهم الصَّحابة؛ لأن عدم تقديم فهمهم يعني أنَّهم إمَّا لم يكونوا عالمين بالحق؛ وهذا محال، أو أنَّهم اعتقدوا غير الحق مع علمهم به؛ وهذا أبعد، وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله: “ثمَّ من المحال أيضًا أن تكون القرون الفاضلة؛ القرن الذي بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كانوا غير عالمين، وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين؛ لأنَّ ضد ذلك إمَّا عدم العلم والقول، وإمَّا اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصِّدق؛ وكلاهما ممتنع.

أمَّا الأول فلأنَّ من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم، أو نهمة في العبادة يكون البحث عن هذا الباب، والسؤال عنه، ومعرفة الحقِّ فيه؛ أكبر مقاصده، وأعظم مطالبه، أعني: بيان ما ينبغي اعتقادُه، لا معرفة كيفيَّة الرب وصفاته. وليست النُّفوس الصحيحة إلى شيءٍ أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر، وهذا أمر معلومٌ بالفطرة الوجدية، فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضى الذي هو من أقوى المقتضيات أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السَّادة في مجموع عصورهم؟ هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق، وأشدهم إعراضًا عن الله، وأعظمهم إكبابًا على طلب الدنيا، والغفلة عن ذكر الله، فكيف يقع من أولئك؟!

وأمَّا كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق أو قائليه، فهذا لا يعتقده مسلمٌ ولا عاقلٌ عرف حال القوم”([35]).

الأصل الثامن: تراجع مخالفيهم عن منهجياتهم:

فإنَّ كثيرًا من أساطين المتكلمين ممَّن أفنوا أعمارهم في تتبع الأصول الكلاميَّة، والاعتماد عليها في تقرير العقائد، وأمضوا حياتهم في الجدال والحجاج والدِّفاع عن فهمهم الذي بنوه على تلك الأصول؛ قد رجعوا إلى فهم السلف في آخر عمرهم، وشواهد ذلك كثيرة جدًّا، ومن أشهر هؤلاء: أبو الوليد الكرابيسي، حيث قال حين حضرته الوفاة: “هل تعلمون أحدًا أعلم بالكلام مني؟ قالوا: لا. قال: فتتهموني؟ قالوا: لا. قال: فإنِّي أوصيكم بما عليه أصحاب الحديث، فإني رأيت الحق معهم”([36]).

واقرأ هذا الكلام للجويني بعد صولاتٍ وجولاتٍ مع علم الكلام، يقول: “قد اختلفَ مسالك العلماء في الظَّواهر التي وردت في الكتاب والسُّنة، وامتنع على أهل الحق اعتقاد فحواها، وإجراؤها على موجب ما تبتدره أفهام أرباب اللسان منها، فرأى بعضهم تأويلها، والتزم هذا المنهج في آي الكتاب، وما يصحُّ من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب تعالى.

والذي نرتضيه رأيًا، وندين الله به عقدًا؛ اتباع سلف الأمَّة، فالأولى الاتباع، وترك الابتداع، والدليل السَّمعي القاطع في ذلك؛ أن إجماع الأمة حجة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة”([37]).

ويقول أيضًا: “قرأت خمسين ألفًا في خمسين ألفًا، ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام، كل ذلك في طلب الحق، وكنت أهرب في سالف الدَّهر من التَّقليد، والآن فقد رجعت إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحقُّ بلطيف بره، فأموت على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل على كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، فالويل لابن الجويني”([38]).

ويقول الرازي: “لقد تأمَّلت الطرق الكلاميَّة، والمناهج الفلسفيَّة، فما رأيتها تشفي عليلًا، ولا تروي غليلًا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه: 5]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، ومن جرَّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي”([39]).

ولا نريد الإطالة بذكر شواهد أخرى، فهؤلاء رؤوس المتكلمين، وهذه أقوالُهم في تراجعهم عن منهجيَّتهم، وتقديمهم منهج السلف وعلى رأسهم الصَّحابة الكرام، بينما في المقابل نجد أنَّ السَّلف لم يتراجعوا عن عقيدةٍ قط! يقول ابن تيمية رحمه الله: “تجد أهل الكلام أكثر النَّاس انتقالًا من قولٍ إلى قول، وجزمًا بالقول في موضع، وجزمًا بنقيضه وتكفير قائله في موضع آخر، وهذا دليل عدم اليقين، فإنَّ الإيمان كما قال فيه قيصر لما سأل أبا سفيان عمَّن أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم: هل يرجع أحدٌ منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا، قال وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد([40]). ولهذا قال بعض السَّلف – عمر بن عبدالعزيز أو غيره -: من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التَّنقل([41]).

وأمَّا أهل السَّنة والحديث فما يُعلم أحدٌ من علمائهم ولا صالح عامَّتهم رجع قط عن قوله واعتقاده، بل هم أعظم النَّاس صبرًا على ذلك، وإن امتحنوا بأنواع المحن، وفتنوا بأنواع الفتن، وهذه حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين كأهل الأخدود ونحوهم، وكسلف هذه الأمة من الصَّحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة”([42]).

فثباتهم على أصولهم وعدم تناقضهم واضطرابهم يؤكد متانة هذا الاعتقاد واتساقه، وصحته.

وأخيرا:

أثبتت التَّجربة التاريخية التي امتدت بالأمَّة أربعة عشر قرنًا صحَّة هذا المسلك، فإنَّ علم الصَّحابة وفهمهم للدين وأحكامه، لا يزال هو الثَّابت دون أن يظهر فيه خللٌ أو اضطراب، وهو المتَّسق مع الشريعة كلها؛ فلا تناقض ولا تضاد، وعلى هذا استند الأصبهاني رحمه الله في بيان أنَّ أهل الحديث هم الذين على حق، يقول: “وممَّا يدلُّ على أنَّ أهل الحديث هم على الحق: أنَّك لو طالعت جميع كتبهم المصنَّفة من أولهم إلى آخرِهم، قديمِهم وحديثِهم؛ مع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد ما بينهم في الدِّيار، وسكون كل واحد منهم قطرًا من الأقطار، وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرةٍ واحدة، ونمطٌ واحدٌ؛ يجرون فيه على طريقةٍ لا يحيدون عنها، ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد، ونقلهم واحد، لا ترى بينهم اختلافًا، ولا تفرقًا في شيء ما وإن قل، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم، ونقلوه عن سلفهم، وجدته كأنَّه جاء من قلبٍ واحد، وجرى على لسانٍ واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟

قال الله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].

وأمَّا إذا نظرت إلى أهل الأهواء والبدع، رأيتهم متفرقِّين مختلفين، أو شيعًا وأحزابًا، لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقةٍ واحدة في الاعتقاد، يبدع بعضهم بعضًا، بل يرتقون إلى التكفير، يكفر الابن أباه، والرجل أخاه، والجار جاره، تراهم أبدًا في تنازع وتباغض واختلاف، تنقضي أعمارهم ولما تتفق كلماتهم {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14]”([43]).

ولأجل هذا المعنى كان المتأخرون في باب العلم بالدين أقل تحقيقًا من المتقدمين في الجملة، يقول ابن تيمية رحمه الله: “ومن آتاه الله علمًا وإيمانًا؛ علم أنه لا يكون عند المتأخرين من التَّحقيق إلا ما هو دون تحقيق السَّلف، لا في العلم ولا في العمل، ومن كان له خبرة بالنَّظريات والعقليات وبالعمليَّات علم أنَّ مذهب الصحابة دائما أرجح من قول من بعدهم، وأنَّه لا يبتدع أحد قولًا في الإسلام إلا كان خطأ، وكان الصواب قد سبق إليه من قبله”([44]).

وبهذا العرض يتبين لنا أنَّ حجيَّة فهم الصحابة هو ما تقرِّره الأدلة الشرعية، وتؤكده الأصول العقلية، وأنَّ السلامة والنجاة إنَّما هو باتباع فهمهم فيما أجمعوا فيه.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (3600)، قال عنه شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.

([2]) انظر: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصبهاني (1/ 305).

([3]) أصول السنة لأحمد بن حنبل (ص: 14).

([4]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي (1/ 7).

([5]) قد سبق عرضها في ورقة علمية بعنوان: “سنة الصَّحابة حجة”، تجدها على الرَّابط التالي: https://salafcenter.org/4144/

([6]) كتب عن هذا الموضوع عدد من المتخصصين، ومن تلك الكتابات: كتاب فهم السَّلف الصالح للنُّصوص الشرعيَّة والرد على الشُّبهات حوله للدكتور: عبدالله الدميجي، ومقالة بعنوان: حجية فهم السلف (النظرية والتطبيق) قراءة ونقد، للدكتور سلطان العميري.

([7]) أخرجه النسائي في الكبرى برقم (8522).

([8]) ذكره ابن القيم رحمه الله في أعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 63).

([9]) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (19/ 200).

([10]) الموافقات، للشاطبي (4/ 127- 128).

([11]) مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم، لطاش كبري زادة (2/ 143).

([12]) أي: تمرغتُ، يقول الفراهيدي العين (1/ 210): “المعك: دلكك الشيء في التراب. والتمعك: الفعل اللازم، والتمعيك متعد؛ وهو التقلب في التراب، كما تتمعك الدابة”.

([13]) أخرجه البخاري برقم (338) واللفظ له، وأخرجه مسلم برقم (368).

([14]) أخرجه البخاري برقم (4509)، ومسلم برقم (1090) واللفظ له.

([15]) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (13/ 331- 332).

([16]) انظر: سنن الدارمي برقم (590).

([17]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لللالكائي (1/ 23).

([18]) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (4/ 91- 92).

([19]) انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (10/ 74).

([20]) صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام، للسيوطي (ص: 55- 56)، وانظر: التاريخ الكبير للبخاري؛ فقد أورد أثر الحسن البصري تحت رقم (259).

([21]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، لابن تيمية (1/ 449- 450).

([22]) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (17/ 353).

([23]) الموافقات، للشاطبي (4/ 127- 128).

([24]) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، لابن تيمية (ص: 164).

([25]) سَّميت العلوم الأخرى بالأثقال المعرفية؛ ليس لأن تلك العلوم ثقيلة على كل الناس، وإنَّما لأنَّ من لم يحتج إليها فكأنَّه خفيف عنها، بينما من أراد أن يصل إلى الفهم الصَّحيح بعد تقعيد هذه القواعد يحتاج أن يحملها كلها معه، فكأنَّما تثقله.

([26]) أعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (6/ 21- 23).

([27]) مناهج البحث في العقيدة الإسلاميَّة، لعبدالرحمن الزنيدي (ص: 441).

([28]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (3600).

([29]) انظر: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصبهاني (1/ 306).

([30]) الشريعة، للآجري (2/ 674).

([31]) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (4/ 92- 93).

([32]) أعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (4/ 113).

([33]) فهم السَّلف الصالح للنُّصوص الشرعيَّة والرد على الشُّبهات حوله، للدكتور: عبدالله الدميجي (ص: 74).

([34]) شرح العقيدة الأصفهانيَّة، لابن تيمية (ص: 180).

([35]) الفتوى الحموية الكبرى، لابن تيمية (ص: 182- 184).

([36]) سير أعلام النبلاء، للذهبي (10/ 548).

([37]) العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية، للجويني (ص: 165- 166).

([38]) سير أعلام النبلاء، للذهبي (18/ 471).

([39]) المرجع السابق (21/ 501).

([40]) أخرجه البخاري (7)، ومسلم (1773).

([41]) أخرجه مالك في موطئه برقم (918).

([42]) الانتصار لأهل الأثر، لابن تيمية (ص: 72- 73).

([43]) الحجة في بيان المحجة، لأبي القاسم الأصبهاني (2/ 239).

([44]) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (7/ 436).

التعليقات مغلقة.

جديد سلف

ابن سعود والوهابيّون.. بقلم الأب هنري لامنس اليسوعي

 للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   بسم الله الرحمن الرحيم هنري لامنس اليَسوعيّ مستشرقٌ بلجيكيٌّ فرنسيُّ الجنسيّة، قدِم لبنان وعاش في الشرق إلى وقت هلاكه سنة ١٩٣٧م، وله كتبٌ عديدة يعمَل من خلالها على الطعن في الإسلام بنحوٍ مما يطعن به بعضُ المنتسبين إليه؛ كطعنه في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وله ترجمةٌ […]

الإباضــــية.. نشأتهم – صفاتهم – أبرز عقائدهم

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من الأصول المقرَّرة في مذهب السلف التحذيرُ من أهل البدع، وذلك ببيان بدعتهم والرد عليهم بالحجة والبرهان. ومن هذه الفرق الخوارج؛ الذين خرجوا على الأمة بالسيف وكفَّروا عموم المسلمين؛ فالفتنة بهم أشدّ، لما عندهم من الزهد والعبادة، وزعمهم رفع راية الجهاد، وفوق ذلك هم ليسوا مجرد فرقة كلامية، […]

دعوى أن الخلاف بين الأشاعرة وأهل الحديث لفظي وقريب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يعتمِد بعض الأشاعرة المعاصرين بشكلٍ رئيس على التصريحات الدعائية التي يجذبون بها طلاب العلم إلى مذهبهم، كأن يقال: مذهب الأشاعرة هو مذهب جمهور العلماء من شراح كتب الحديث وأئمة المذاهب وعلماء اللغة والتفسير، ثم يبدؤون بعدِّ أسماء غير المتكلِّمين -كالنووي وابن حجر والقرطبي وابن دقيق العيد والسيوطي وغيرهم- […]

التداخل العقدي بين الفرق المنحرفة (الأثر النصراني على الصوفية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: بدأ التصوُّف الإسلامي حركة زهدية، ولجأ إليه جماعة من المسلمين تاركين ملذات الدنيا؛ سعيًا للفوز بالجنة، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم تطور وأصبح نظامًا له اتجاهاتٌ عقائدية وعقلية ونفسية وسلوكية. ومن مظاهر الزهد الإكثار من الصوم والتقشّف في المأكل والملبس، ونبذ ملذات الحياة، إلا أن الزهد […]

فقه النبوءات والتبشير عند الملِمّات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: منَ الملاحَظ أنه عند نزول المصائب الكبرى بالمسلمين يفزع كثير من الناس للحديث عن أشراط الساعة، والتنبّؤ بأحداث المستقبَل، ومحاولة تنزيل ما جاء في النصوص عن أحداث نهاية العالم وملاحم آخر الزمان وظهور المسلمين على عدوّهم من اليهود والنصارى على وقائع بعينها معاصرة أو متوقَّعة في القريب، وربما […]

كيف أحبَّ المغاربةُ السلفيةَ؟ وشيء من أثرها في استقلال المغرب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدّمة المعلِّق في كتابِ (الحركات الاستقلاليَّة في المغرب) الذي ألَّفه الشيخ علَّال الفاسي رحمه الله كان هذا المقال الذي يُطلِعنا فيه علَّالٌ على شيءٍ من الصراع الذي جرى في العمل على استقلال بلاد المغرب عنِ الاسِتعمارَين الفرنسيِّ والإسبانيِّ، ولا شكَّ أن القصةَ في هذا المقال غيرُ كاملة، ولكنها […]

التوازن بين الأسباب والتوكّل “سرّ تحقيق النجاح وتعزيز الإيمان”

توطئة: إن الحياةَ مليئة بالتحدِّيات والصعوبات التي تتطلَّب منا اتخاذَ القرارات والعمل بجدّ لتحقيق النجاح في مختلِف مجالات الحياة. وفي هذا السياق يأتي دورُ التوازن بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله كمفتاح رئيس لتحقيق النجاح وتعزيز الإيمان. إن الأخذ بالأسباب يعني اتخاذ الخطوات اللازمة والعمل بجدية واجتهاد لتحقيق الأهداف والأمنيات. فالشخص الناجح هو من يعمل […]

الانتقادات الموجَّهة للخطاب السلفي المناهض للقبورية (مناقشة نقدية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: ينعمُ كثير من المسلمين في زماننا بفكرٍ دينيٍّ متحرِّر من أغلال القبورية والخرافة، وما ذاك إلا من ثمار دعوة الإصلاح السلفيّ التي تهتمُّ بالدرجة الأولى بالتأكيد على أهمية التوحيد وخطورة الشرك وبيان مداخِله إلى عقائد المسلمين. وبدلًا من تأييد الدعوة الإصلاحية في نضالها ضدّ الشرك والخرافة سلك بعض […]

كما كتب على الذين من قبلكم (الصوم قبل الإسلام)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: مما هو متَّفق عليه بين المسلمين أن التشريع حقٌّ خالص محض لله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، فالتشريع والتحليل والتحريم بيد الله سبحانه وتعالى الذي إليه الأمر كله؛ فهو الذي شرَّع الصيام في هذا الشهر خاصَّة وفضَّله على غيره من الشهور، وهو الذي حرَّم […]

مفهوم العبادة في النّصوص الشرعيّة.. والردّ على تشغيبات دعاة القبور

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لا يَخفَى على مسلم أنَّ العبادة مقصَد عظيم من مقاصد الشريعة، ولأجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وكانت فيصلًا بين الشّرك والتوحيد، وكل دلائل الدّين غايتها أن يَعبد الإنسان ربه طوعًا، وما عادت الرسل قومها على شيء مثل ما عادتهم على الإشراك بالله في عبادتِه، بل غالب كفر البشرية […]

تحديد ضابط العبادة والشرك والجواب عن بعض الإشكالات المعاصرة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لقد أمر اللهُ تبارك وتعالى عبادَه أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ومدار العبادة في اللغة والشرع على التذلُّل والخضوع والانقياد. يقال: طريق معبَّد، وبعير معبَّد، أي: مذلَّل. يقول الراغب الأصفهاني مقررًا المعنى: “العبودية: إظهار التذلّل، والعبادة أبلغُ منها؛ […]

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة.. بين أهل السنة والصوفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الناظر المدقّق في الفكر الصوفي يجد أن من أخطر ما قامت عليه العقيدة الصوفية إهدار مصادر الاستدلال والتلقي، فقد أخذوا من كل ملة ونحلة، ولم يلتزموا الكتاب والسنة، حتى قال فيهم الشيخ عبد الرحمن الوكيل وهو الخبير بهم: “إن التصوف … قناع المجوسي يتراءى بأنه رباني، بل قناع […]

دعوى أن الحنابلة بعد القاضي أبي يعلى وقبل ابن تيمية كانوا مفوضة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة إن عهدَ القاضي أبي يعلى رحمه الله -ومن تبِع طريقته كابن الزاغوني وابن عقيل وغيرهما- كان بداية ولوج الحنابلة إلى الطريقة الكلامية، فقد تأثَّر القاضي أبو يعلى بأبي بكر الباقلاني الأشعريّ آخذًا آراءه من أبي محمد الأصبهاني المعروف بابن اللبان، وهو تلميذ الباقلاني، فحاول أبو يعلى التوفيق بين مذهب […]

درء الإشكال عن حديث «لولا حواء لم تخن أنثى»

  تمهيد: معارضة القرآن، معارضة العقل، التنقّص من النبي صلى الله عليه وسلم، التنقص من النساء، عبارات تجدها كثيرا في الكتب التي تهاجم السنة النبوية وتنكر على المسلمين تمسُّكَهم بأقوال نبيهم وأفعاله وتقريراته صلى الله عليه وسلم، فتجدهم عند ردِّ السنة وبيان عدم حجّيَّتها أو حتى إنكار صحّة المرويات التي دوَّنها الصحابة ومن بعدهم يتكئون […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017