الأربعاء - 27 ذو الحجة 1445 هـ - 03 يوليو 2024 م

شذرات في التحوّل المذهبي

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

إن التحوّل المذهبي من الأمور التي تشدّ أنظار المطالع في سير الفقهاء والعلماء والمفكرين من السابقين واللاحقين وتراجمهم، وقلما ينظر فيها طالب علمٍ إلا وتساءل عن أسباب ذاك التحوّل وملابساته.

ومن الرسائل اللطيفة التي أُفْرِدت لهذا الموضوع: رسالة للشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله، حيث جَالَ الشيخُ في جملةٍ صالحةٍ من كتب التراجِم، مقيّدًا ما رآه من أخبار المتحولين من مذهب إلى مذهب، في الاعتقاد أو الفقه، فحصل له جمع دوّنه في رسالة ظريفة صغيرة الحجم بعنوان: (التحوّل المذهبي).

وفي حالات التحوّل التي ذكرها الشيخ يقف القارئ على أسباب متنوعة للتحوّل من مذهب إلى مذهب، فتجد السبب المادّي أحيانًا، وأحيانًا يكون التحوّل بسبب رؤيا منامية، وأحيانًا بسبب اعتقاد أفضلية المذهب المتحوّل إليه أو تيسيره، وأحيانًا يذكر خبر التحوّل بدون ذكر السبب، ويرى الشيخ في مثل هذه الحالة أنه (ليس من حقنا تَفَعُّل الأسباب)([1]).

والرسالة مفيدة لمن يعتني برصد ظاهرة التحوّل أو تحليل أسبابها، وقد قيدتُ بمطالعتها هذه الشذرات، ضامًّا إليها تعليقاتٍ ونكاتٍ متصلةٍ بها.

الشذرة الأولى: التحوّل المذهبي من أجل محبّة المال:

قال ابن حجر في ترجمة يَلْبُغا أحد كبار أمراء المماليك: (وكان يَتعصَّبُ للحنفية، حتى كان يعطي من يتمذهب لأبي حنيفة العطاء الجزيل، ورتب لهم الجامكية الزائدة -الراتب- فتحوَّلَ جمعٌ من الشافعية لأجل الدنيا حنفيّة، وحاول في آخر عمره أن يجلس الحنفي فوق الشافعي فعاجله القتل)([2]).

وقال السَّخَاوي في ترجمة عبيد الله بن عوض الأردبيلي: (وحكى القاياتي أن عبيد الله هذا كان شافعيًّا، وكذا أسلافه، وأن بعض آبائه صنف في المذهب، بل أهل أردبيل بلده كلهم شافعية، وأنه إنما تحنف على يد يلبُغا، فإنه كان يقول: من ترك مذهب الشافعي وتحنّف أعطيته خمسمائة، وجعلت له وظيفة، ففعل ذلك جماعة منهم صاحب الترجمة)([3]).

ففي هذه الواقعة نجد أن المال كان المؤثر الرئيس في التحوّل.

ولا ننفي أن يكون السَّخَاوي قد بالغ في الموقف من الأمير المملوكي في وقته، وهو ما يلمح إليه قوله: (وحاول في آخر عمره أن يجلس الحنفي فوق الشافعي فعاجله القتل)، فقد كان لدى بعض الفقهاء تصوّرات متأثرة بالعصبية المذهبية عن أثرِ اعتماد المذاهب في تقدّم الدول وانهيارها، وهذا ما نجده عند ابن السبكي حين قال: (وقال أهل التجربة: إن هذه الأقاليم المصرية والشامية والحجازية متى كانت البلد فيها لغير الشافعية خربت، ومتى قدَّمَ سلطانُها غير أصحاب الشافعي زالت دولته سريعًا، وكأن هذا السر جعله الله في هذه البلاد كما جعل مثله لمالك في بلاد المغرب، ولأبي حنيفة فيما وراء النهر)([4]).

والحقّ أن زوال الدول إنما يكون بترك الحكم بما أنزل الله تعالى، وبإظهار البدع والضلالات، وليس بتقديم أصحاب مذهب على مذهب من المذاهب السنّية الأربعة أو غيرها أو تأخيرهم. وأعني بغيرها: مذاهب السلف التي انعدم أتبعاها كمذهب الإمام الأوزاعي الذي كان منتشرًا بالشام قبل أن يظهر فيها المذهب الشافعي بالقاضي أبي زرعة الدمشقي في المئة الرابعة.

الشذرة الثانية: التحوّل المذهبي من أجل محبة الرئاسة والولاية:

إن عزل القاضي عن منصبه من الأحوال الشاقة عليه التي كثر كلام الفقهاء والأدباء في وصفها، قال نجم الدين الغزي: (حكي عن القاضي عبد الوهاب المالكي أنه قال: “العزل حيض الرجال”. ووجهه أن العادة أن المرأة إذا حاضت حصل عند الحيض ما يشبه الخجل، خصوصًا إذا طلبها الحليل، ولطفت بعض جواري الرشيد حين طلبها لنفسها، وقد فاجأها الحيض، فقالت: “أتى أمر الله فلا تستعجلوه”.

وكذلك القاضي يخجل إذا قيل له: قد عزلت فقم، ولطف بعض الأمراء فيما كتبه بعزل قاضي قم -وهي بلدة من بلاد فارس-:

أيها القاضي بِقُم * قد عزلناك فقم

ومن البلية في القضاء أن من وليه -وإن طلبه سرًّا- أنه يقول: “أكرهونا على ذلك ما قدرنا دفعهم”، وإذا عزل يقول: “قد كان ذلك مطلوبي، وقد استرحت من معاناة الحكم”، ولطف من قال -كما أنشده قاضي القضاة التاج ابن السبكي في كتابه (معيد النعم):

عجيبةٌ قد سمعنا … بمثلها يُتَغنَّى

في قاضيين يعزّى … هذا وهذا يُهنَّى

هذا يقول: أكرَهونا … وذا يقول: ‌استرحنا

ويكذِبان جميعًا … ومن يصدِّق منا)([5]).

ومن القصص العجيبة في موضوع التحوّل المذهبي التي ذكرها الشيخ بكر أبو زيد ما نقله عن ابن تغري بردي قال: (اجتمعتُ مرةً بالقاضي كمال الدين بن البارزي، كاتب السر الشريف بالدّيار المصرية رحمه الله تعالى، فدفع إليَّ كتابًا من بعض أهل غزّة، فوجدت الكتاب يتضمّن السعي فى بعض وظائف غزّة، وهو يقول فيه: “يا مولانا، المملوك منذ عزل من الوظيفة الفلانية بغزّة خاطره مكسور، والمسؤول من صدقات المخدوم أن يوليه قضاء الشّافعية بغزّة، فإن لم يكن فقضاء الحنفيّة، فإن لم يكن فقضاء المالكية، وإلا فقضاء الحنابلة”، فكتبتُ على حاشية الكتاب بخطي: فإن لم يكن، فمشاعلي -وهو الذي يتولى أمر الجرائم- ملك الأمراء)([6]).

وقد كان هذا الداء الذي يصيب القضاة يُعالَج بتحديد مدة لولاية القاضي، ولهذا قرر بعض الفقهاء أن القاضي لا يُترَك على القضاء أكثر من سنته، وعللوا ذلك بأنه إذا تُرِك أكثر من ذلك استأنس، وصار بحيث لو عُزِل لطَلَب ثانيًا، قالوا: وأيضًا إذا استأنس به يداهن في معاملات بعض الناس خوفًا من العزل([7]).

الشذرة الثالثة: التحوّل المذهبي من أجل التسهيل الفقهي:

يقول أكمل الدين البابرتي الحنفي: (قال شيخي العلامة شمس الدين الأصفهاني رحمه الله: توضأت في الطواف ‌زهاء عشر مرات لأطوف على مذهب الشافعي سبعة أشواط، فلم أقدر على ذلك، فقلدت أبا حنيفة)([8]). أي: لعموم البلوى بمس النساء في الطواف مع قول الشافعي بنقض الوضوء بمسها.

وفي ترجمة الشيخة الصالحة المتفقهة الحنفية خديجة بنت محمد بن حسن البابي الحلبي المعروف بابن البيلوني الشافعي: (اختارت مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه مع أن أباها وإخوتها شافعيون حفظًا لطهارتها من الانتقاض بما عساه يقع من مس الزوج لها، وحفظت فيه كتابًا)([9]).

ومما يشار إليه أن هذه المسألة لا تقتضي تحوّلا تامًّا من المذهب الشافعي أو الحنبلي على مقتضى ما أصله الفقهاء والأصوليون منهم، فقد أجاز عدد منهم الخروج عن المذهب إن لم يكن الدافع لذلك محض التشهي وتتبع الرخص([10]).

ومن العجائب في هذا الباب: ترويج بعض الحنفية لمذهبهم في الإرجاء بدعوى التسهيل على الناس، وفي ذلك يقول أكمل الدين البابرتي: (ذهب أبو حنيفة إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان، فمن صدق محمدًا صلى الله عليه وسلم بقلبه فيما جاء به من عند ربه وأقر بلسانه فهو مؤمن، والأعمال -أي: الصلاة والصوم والزكاة والحج- غير داخلة فيه. فلولا مذهب أبي حنيفة لكان كل من ترك الصلاة أو فعلًا من الأفعال المذكورة آنفًا كان كافرًا تطلق امرأته، وبوطئها يكون زانيًا ويبطل حجه وجهاده)([11]).

وقد كتب ابن أبي العزّ الحنفي رسالةً في الرد على رسالة البابرتي هذه، وقال في الرد على هذا الموضع: (وَمَن لم يُرجِّح الحكم بالدليل لا ينبغي له الانتصار لتاركي الصلاة والزكاة والحج، ويُرجِّح مذهب من قال بالتخفيف عنهم بمجرد التشنيع والتهويل، فإن ذلك ينتهي إلى قولِ المرجئة الذين قالوا: لا يضر مع الإيمان معصية. وقد تكرر منه نظير ذلك: “لولا مذهب أبي حنيفة لكان كذا”) و”لولا مذهبه لكان كذا”، وهو كلام ساقط؛ لأن اعتقاد المعتقد كفر مسلم أو بطلان حق أو تحريم حلال أو عكس ذلك لا يغير الشيء عما هو عليه، ألا ترى أن الكفار لما اعتقدوا في الملائكة أنهم إناث لم يغير ذلك الملائكة عما هم عليه، ولم يصيروا إناثا لاعتقاد الكفار الباطل فيهم، ولا يقال: لولا المسلمون لكانت الملائكة إناثًا. ولو لم يُخلق أبو حنيفة والشافعي لما ضر دين الإسلام، وليس إلى العلماء من أمر الدين إلا التبليغ وإيضاح المشكل، وأما أمر التكفير والتفسيق والتحليل والتحريم فإلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم)([12]).

ويقول سراج الدين الغزنوي الحنفي: (وأما بيان احتياج كافة الناس -يعني: إلى مذهب أبي حنيفة- فمن وجوه:

الأول: تارك صلاة واحدة عندهم يُقتل إما حدًّا وإما كفرًا، فيجب حينئذ قتل أكثر العالم، إذ المواظبون على الصلوات أقل من التاركين في كل وقت، خصوصًا النساء، فإنَّ أكثرهُنَّ لم تصلّ في العمر إلا نادرًا، فسكوت القضاة عن العامة والأزواج عن نسائهم فيه ما فيه.

وفي القول الذي يكفر تارك الصلاة يُشكل بقاء الأنكحة مع تاركات الصلاة، فإقامتهنّ معهم فيه من العسر ما لا يقاس عليه، فيجب عليهم تقليد أبي حنيفة رضي الله عنه)([13]).

وقد نقل الكوثري([14]) -الذي ردّ به على إمام الحرمين([15])– كلام الغزنوي وختم به كتابه.

ومن العجيب أن الكوثريّ انتقد على الشيخ أحمد شاكر أخذه باجتهاد شيخ الإسلام ابن تيمية في طلاق الثلاث، والحلف بالطلاق، مع أنه يؤيد الغزنوي في ما قاله!

قال الكوثري: (إذا حدث مرضٌ اجتماعي كالعبث بالطلاق، مثلًا يحلف هذا بالطلاق دون سبب، ويطلق ذاك ثلاثًا مجموعة بلا باعث على الاستعجال، فليس دواء ذلك مسايرة المرضَى بتعبيد الطرق لهم في العبث بالطلاق، بل هذه المسايرة تزيد من فتك المرض بهم، وتوجب اتساع الخرق على الراقع، وهذه المسايرة هي التي أدت إلى تخلي الفقه عن كثير من أبوابه في المحاكم بأيدي أبنائه الذين عقوه، وليس ذلك ناشئًا من عدم صلاحية الفقه لكل زمان ومكان بدون تقويض دعائمه، أو قص خوافيه وقوادمه)([16]).

فالإفتاء بعدم وقوع طلاق الثلاث في مجلس واحد ثلاثًا وبعدم وقوع طلاق من علق الطلاق على قصد اليمين ثم حنث مسايرة لمرض اجتماعي عند الكوثري، أما ما ذكره البابرتي والغزنوي -وأيَّدَه الكوثري- في ترجيح القول بالإرجاء وقول من لم يكفر تاركي وتاركات الصلاة فلا يعد مسايرة لمرض اجتماعي!

ولا يلزم من القول بتكفير تاركة الصلاة ما هَوَّلَ به الغزنوي، قال شيخ الإسلام: (وأما انفساخ النكاح بمجرد التركِ فلا يُحكَم بذلك، لكن إذا دُعِيَتْ إلى الصلاة وامتنعتْ انفسخَ نكاحُها في أحد قولَي العلماء، وفي الآخر لا ينفسخ، لكن على الرجل أن يقومَ بما يَجبُ عليه. وليس كلُّ من وجبَ عليه أن يطلِّقَها ينفسخُ نكاحُها بلَا فعله، بل يقال له: مرْها بالصلاة وإلا فَارِقْها، فإن كان عاجزًا عن ذلك لِثِقَلِ صَداقِها كان مُسِيْئًا بتزوجه مَن لا تُصلِّي على هذا الوجه، فيتوبُ إلى الله من ذلك، ويَنوِي أنه إذا قَدَرَ على أكثر من ذلك فَعَلَه، والله أعلم)([17]).

الشذرة الرابعة: بقاء تأثير المذهب المتحوّل عنه بعد التحوَّل:

عند التحوّل من مذهب فكري أو عقدي أو فقهي إلى آخر قد لا ينقطع تأثير المذهب المتحوَّل عنه على خيارات المرء بعد تحوّله، بل تبقى الرواسب تعمل عملها متفاوتة من حالة لأخرى قوّة وضعفًا. فكانت معرفة الأطوار والمراحل التي تمر بها أي شخصية لدى دراستها أو دراسة نتاجها لها نصيبها من الأهمية.

وهذا ما نجده في قول أبي حيان الأندلسي رحمه الله الذي نقله الحافظ ابن حجر في ترجمته أنه كان ظاهريًّا ثم انتمى إلى الشافعية واختصر كتاب “المنهاج” للنووي، إلا أنه كان يقول: (مُحَالٌ أن يرجع عن مذهب الظاهر من علق بذهنه)([18]).

الشذرة الخامسة: رجوع بعض الأئمة عن المذاهب الباطلة والمنحرفة:

من صور التحوّل المحمود: الرجوع عن المذاهب الباطلة والآراء المنحرفة والاعتقادات الفاسدة، ونماذج ذلك كثيرة، نذكر اثنين منها:

أما النموذج الأول: فهو الإمام أبو الفضل محمد بن ناصر السلامي، الذي انتقل عن اعتقاد الأشعرية إلى اعتقاد السلف وأصحاب الحديث، حيث حصلت له نفرةٌ من قولهم بالكلام النفسي المخالف للمعقول والمنقول، وكان من دعائه ما ذكره بقوله: (كنت إذا صليت أدعو الله تعالى أن يوفقني لأحب المذاهب والاعتقادات إليه، فبقيت على ذلك مدة طويلة أقول: اللهم وَفِّقني لأحب المذاهب إليك وأقربها عندك). وفي هذا: فائدة الدعاء وأثرِه العظيم في الهداية إلى مذهب أهل السنة([19]).

ومما قاله في قصته: (فحضرت يومًا عند الشيخ أبي الحسن علي بن عمر القزويني الزاهد الصالح لأقرأ عليه القرآن، فابتدأت أقرأ عليه القرآن، فقطع علي القراءة مرة أو مرتين، ثم قال: قالوا وقلنا، وقلنا وقالوا! فلا نحن نرجع إليهم، ولا هم يرجعون إلى قولنا، ورجعنا إلى عاداتنا فأيُّ فائدة في هذا؟! ثم كرر علي هذا الكلام. فقلت في نفسي: والله ما عنى الشيخ بهذا أحدًا غيري، فتركت الاشتغال بالخلاف، وقرأت مختصر أبي القاسم الخرقي على رجل كان يقرئ القرآن).

قال: (ورأيت بعد ذلك ما زادني يقينًا وعلمت أن ذلك تثبيت من الله لي وتعليم، لأعرف حق نعمة الله علي، وأشكره إذ أنقذني من اعتقاد البدعة إلى اعتقاد السنة، والله المسؤول الخاتمة بالموت على الإسلام والسنة).

وقد ذكر الإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي([20]) قصته، وذكرها غيره.

والنموذج الثاني: هو الإمام عماد الدين الواسطي([21])، المعروف بابن شيخ الحزامِيِّين، من كبار أصحاب شيخ الإسلام ابن تيمية، ذكره ابن تيمية في رسالته للمنبجي وسماه: (سيدنا الشيخ عماد الدين)([22])، وسماه كذلك في المحضر الذي كتبه لمجلس عقد في كشف حال ابن عربي، حضره الشيخ عماد الدين وغيره من مشايخ دمشق([23])، ونقل عنه ابن رجب أنه سماه: (جُنيد وقته). وقال مؤرخ الشام الإمام علم الدين البرزالي: (له كلام متين في التصوف الصحيح، وهو داعية إلى طريق الله تعالى). وقال ابن رجب في وصف كتبه: (وهي من أنفعِ كُتُب الصوفيَّة للمُريدين، انتفع بها خلقٌ من مُتصوِّفة أهل الحديث ومتعبِّدِيها)([24]).

ولد الشيخ عماد الدين في قلب الطائفة الأحمدية، إذ كان والده شيخًا من شيوخها. كان التصوف في بلاد إيران والعراق في العصر المغولي الذي عاش فيه الشيخ عماد الدين قوةً ضاربة الجذور اجتماعيًّا وسياسيًّا. رأى الشيخ عماد الدين في نشأته ما وقعت فيه هذه الطائفة من فواقِر مناقضة لتوحيد الله تبارك وتعالى، ومخلّة بالأخلاق الإسلامية. يقول عن نفسه في الرسالة التي كتبها يشرح فيها إنقاذ الله تعالى له من الضلال: (ومن ألطاف الله تعالى بي أن خلق فيَّ غريزةً في حال الطفولة كنت أعلم بها أن هؤلاء ليسوا على شيء، وأن الحقّ وراء ما يدّعونه، وكنت أتشبّث برسالة القشيري وكتاب “القوت” و”الإحياء”، فأعلم باطلهم علمًا في القوّة، ولا سبيل إلى ظهوره في الفعل لأنّ الدولة لهم، فلا يمكن ظهور ذلك في الفعل أصلًا)([25]). انتقل الشيخ عماد الدين من العراق إلى مصر، ونزل في الإسكندرية، والتقى بجماعة من متصوّفتها هم أحسن حالًا من أولئك الذين نشأ بينهم، إلا أنه مما انتقده عليهم أنَّه (لا شعور لهم بالسنة، ولا الأيام النبوية، ولا السير الصحابيَّة، ولا الأخلاق الدينيَّة، ووجدتهم يعتقدون شيئًا من التجهُّم)([26]).

أمّا هناك في دمشق فقد كان تقيُّ الدّين ابن تيمية وصحبُه يسعون في تربية نفوسهم على الطريقة السُّنيَّة السالمة من البدع الاعتقادية والسلوكية المنتشرة في ذلك الزمان، يقول ابن تيمية: (وكُنَّا نجتمع مع إخواننا في الله، نطلبُ الحق، ونتَّبعُه، ونكشفُ حقيقة الطريق)([27]).

وشاء الله أن يجتمع الشيخ عماد الدين بهم بعد سفره إلى دمشق، يقول في وصف هذه الصحبة الجديدة: (فلم أزَلْ في هذا العوز حتى لطف الله تعالى بي، واجتمعت بطائفة بدمشق منّ الله بهم عليّ، فوجدتهم عارفين بأيام النبوة، والسير الصحابية، ومعاني التنزيل، وأصول العقائد المستخرجة من الكتاب والسنة، عارفين بأذواق السالكين وبداياتهم، وتفاصيل أحوالهم، يرونها من كمال الدين، لا يتم الدين إلا بها، ولا تشبه أنفاسهم أنفاس أهل العصر من فقهائهم وصوفيتهم، وما شبهت أنفاسهم إلا بأنفاس القرن الأول والثاني والثالث، في عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم، وكأني -باجتماعي بهم ورؤيتهم- وجدت أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا، ووجدت التابعين كسعيد بن المسيّب والحسن البصريّ والربيع بن خثيم وثابت البناني وأمثالهم، وكأني وجدت برؤيتهم مالكًا والشافعي والسفيانين والحمادين وابن المبارك وإسحاق وأحمد بن حنبل وأقرانهم ونظراءهم، فإني وجدتهم عارفين بحقائق العلم الذي أنزل من السماء على محمد صلى الله عليه وسلم، مسارعين إلى إقامة أوامر الله تعالى، كمسارعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، معظّمين للدين، مُهتمِّين بإقامته وإظهار شرائعه وشعائره، حَنِقِينَ على من هتك حدود الدين، أو انتقص شريعة من شرائعه اعتقادًا أو عملًا، وليستْ أصولهم أصول المتكلّمين، بل أصول عقائدهم على الآيات والأخبار الصحيحة، وأمرّوا الصفات كما جاءت بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه، وأثبتوا حقائقها لله كما يليق به من الاستواء أو النزول وجميع الصفات، وظهر لهم مع ذلك معارف صحيحة، وأنوار ظاهرة من معرفة الله تعالى، ومعرفة صفاته القائمة بذاته ذوقًا وحالًا، مع العلم والنظر، ووجدت آثارها في قلوبهم عند صلاتهم وأذكارهم ودعوتهم إلى الله تعالى)([28]).

وقد كان الاعتناء بالسيرة النبوية من الأمور التي لاحظ الشيخ عماد الدين تميز جماعة ابن تيمية فيها عن تلك المدارس الصوفية التي اطّلع على أحوالها، إضافة إلى ذلك كانت هناك وصية خاصة من ابن تيمية لعماد الدين بالسيرة النبوية، قال ابن رجب في ترجمته: (قَدِم دمشق، فرأى الشيخَ تقيَّ الدِّين ابنَ تيمية وصاحَبَه، فدلَّه على مُطالعة السيرة النبوية، فأقبل على سيرة ابن إسحاق تهذيب ابن هشام، فلخَّصَها واختصَرها)([29]).

فالشيخ عماد الدين الواسطي من نماذج التحول المذهبي المحمود، إن صح أن نسميه تحولًا مذهبيًّا، وإلا فحقّه أن يسمّى توبةً ورجوعًا إلى الله تعالى ابتغاء وجهه سبحانه ورضوانه، لا لقصد دنيا ولا جاه ولا رئاسة.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) التحول المذهبي، ضمن (النظائر) (ص: 74).

([2]) الدرر الكامنة (6/ 209). ونحوه في ترجمة يَلْبُغا من: الذيل على دول الإسلام للسخاوي (1/ 155).

([3]) الضوء اللامع (5/ 118)، ونقله الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في التحول المذهبي، ضمن (النظائر) (ص: 156)، وتحرف عنده اسم (يَلْبُغا) إلى (بليفا).

([4]) طبقات الشافعية (8/ 320).

([5]) التحفة الندية شرح اللامية الوردية (ص: 132-133).

([6]) النجوم الزاهرة (13/ 40-41).

([7]) انظر: السعاية، للكنوي (5/ 421).

([8]) النكت الظريفة في ترجيح مذهب أبي حنيفة (ص: 57-58).

([9]) شذرات الذهب (8/ 172).

([10]) انظر مثلًا: جمع الجوامع، لابن السبكي (ص: 155).

([11]) النكت الظريفة في ترجيح مذهب أبي حنيفة (ص: 45-47).

([12]) الاتباع (ص: 59 -60).

([13]) الغرة المنيفة في ترجيح مذهب أبي حنيفة (ص: 542).

([14]) إحقاق الحق (ص: 90).

([15]) وهذا الكتاب لإمام الحرمين ركب فيه الصعب والذلول لإثبات وجوب التمذهب بمذهب الشافعي على كافة الخلق! وقد ردّ عليه الحنفية كالكوثري، والمالكية كالقرافي، حيث قال ابن المعلم في كتابه (نجم المهتدي ورجم المعتدي) (2/ 199) في ترجمة القرافي: (وصنف كتبًا نافعة مفيدة)، ثم ذكر منها: (كتابًا عارض به كتاب إمام الحرمين: مغيث الخلق في اختيار الأحق، يذهب إلى أن أحق العلماء أن يقلد دون غيره الإمام مالك بن أنس، كما عين إمام الحرمين في كتابه الإمام الشافعي).

([16]) الإشفاق على أحكام الطلاق (ص: 4-5).

([17]) جامع المسائل (4/ 143-144).

([18]) الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة (6/ 59).

([19]) انظر: الفتوى الحموية الكبرى، لابن تيمية (ص: 551-552).

([20]) كتاب التوابين (ص: 138-139).

([21]) ذكر الشيخ بكر أبو زيد خبره مختصرًا في التحول المذهبي، ضمن (النظائر) (ص: 126-127).

([22]) مجموع الفتاوى (2/ 464).

([23]) جامع المسائل (7/ 246).

([24]) الذيل على طبقات الحنابلة (4/ 382).

([25]) رحلة ابن شيخ الحزامِيِّين من التصوف المنحرف إلى تصوف أهل الأثر (ص: 26).

([26]) رحلة ابن شيخ الحزامِيِّين من التصوف المنحرف إلى تصوف أهل الأثر (ص: 35).

([27]) مجموع الفتاوى (2/ 465).

([28]) رحلة ابن شيخ الحزامِيِّين من التصوف المنحرف إلى تصوف أهل الأثر (ص: 45-46).

([29]) الذيل على طبقات الحنابلة (4/ 381).

التعليقات مغلقة.

جديد سلف

هل يُمكِن الاستغناءُ عن النُّبوات ببدائلَ أُخرى كالعقل والضمير؟

هذه شبهة من الشبهات المثارة على النبوّات، وهي مَبنيَّة على سوء فَهمٍ لطبيعة النُّبوة، ولوظيفتها الأساسية، وكشف هذه الشُّبهة يحتاج إلى تَجْلية أوجه الاحتياج إلى النُّبوة والوحي. وحاصل هذه الشبهة: أنَّ البَشَر ليسوا في حاجة إلى النُّبوة في إصلاح حالهم وعَلاقتهم مع الله، ويُمكِن تحقيقُ أعلى مراتب الصلاح والاستقامة من غير أنْ يَنزِل إليهم وحيٌ […]

هل يرى ابن تيمية أن مصر وموطن بني إسرائيل جنوب غرب الجزيرة العربية؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة (تَنتقِل مصر من أفريقيا إلى غرب جزيرة العرب وسط أوديتها وجبالها، فهي إما قرية “المصرمة” في مرتفعات عسير بين أبها وخميس مشيط، أو قرية “مصر” في وادي بيشة في عسير، أو “آل مصري” في منطقة الطائف). هذا ما تقوله كثيرٌ من الكتابات المعاصرة التي ترى أنها تسلُك منهجًا حديثًا […]

هل يُمكن أن يغفرَ الله تعالى لأبي لهب؟

من المعلوم أن أهل السنة لا يشهَدون لمعيَّن بجنة ولا نار إلا مَن شهد له الوحي بذلك؛ لأن هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، ولكننا نقطع بأن من مات على التوحيد والإيمان فهو من أهل الجنة، ومن مات على الكفر والشرك فهو مخلَّد في النار لا يخرج منها أبدًا، وأدلة ذلك مشهورة […]

مآخذ الفقهاء في استحباب صيام يوم عرفة إذا وافق يوم السبت

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فقد ثبت فضل صيام يوم عرفة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (‌صِيَامُ ‌يَوْمِ ‌عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ)([1]). وهذا لغير الحاج. أما إذا وافق يومُ عرفة يومَ السبت: فاستحبابُ صيامه ثابتٌ أيضًا، وتقرير […]

لماذا يُمنَع من دُعاء الأولياء في قُبورهم ولو بغير اعتقاد الربوبية فيهم؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة هناك شبهة مشهورة تثار في الدفاع عن اعتقاد القبورية المستغيثين بغير الله تعالى وتبرير ما هم عليه، مضمونها: أنه ليس ثمة مانعٌ من دعاء الأولياء في قبورهم بغير قصد العبادة، وحقيقة ما يريدونه هو: أن الممنوع في مسألة الاستغاثة بالأنبياء والأولياء في قبورهم إنما يكون محصورًا بالإتيان بأقصى غاية […]

الحج بدون تصريح ..رؤية شرعية

لا يشكّ مسلم في مكانة الحج في نفوس المسلمين، وفي قداسة الأرض التي اختارها الله مكانا لمهبط الوحي، وأداء هذا الركن، وإعلان هذه الشعيرة، وما من قوم بقيت عندهم بقية من شريعة إلا وكان فيها تعظيم هذه الشعيرة، وتقديس ذياك المكان، فلم تزل دعوة أبينا إبراهيم تلحق بكل مولود، وتفتح كل باب: {رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ […]

المعاهدة بين المسلمين وخصومهم وبعض آثارها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة باب السياسة الشرعية باب واسع، كثير المغاليق، قليل المفاتيح، لا يدخل منه إلا من فقُهت نفسه وشرفت وتسامت عن الانفعال وضيق الأفق، قوامه لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، والإنسان قد لا يخير فيه بين الخير والشر المحض، بل بين خير فيه دخن وشر فيه خير، والخير […]

إمعانُ النظر في مَزاعم مَن أنكَر انشقاقَ القَمر

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الحمد لله رب العالمين، وأصلى وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن آية انشقاق القمر من الآيات التي أيد الله بها نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فكانت من أعلام نبوّته، ودلائل صدقه، وقد دلّ عليها القرآن الكريم، والسنة النبوية دلالة قاطعة، وأجمعت عليها […]

هل يَعبُد المسلمون الكعبةَ والحجَرَ الأسودَ؟

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وهدنا صراطه المستقيم. وبعد، تثار شبهة في المدارس التنصيريّة المعادية للإسلام، ويحاول المعلِّمون فيها إقناعَ أبناء المسلمين من طلابهم بها، وقد تلتبس بسبب إثارتها حقيقةُ الإسلام لدى من دخل فيه حديثًا([1]). يقول أصحاب هذه الشبهة: إن المسلمين باتجاههم للكعبة في الصلاة وطوافهم بها يعبُدُون الحجارة، وكذلك فإنهم يقبِّلون الحجرَ […]

التحقيق في نسبةِ ورقةٍ ملحقةٍ بمسألة الكنائس لابن تيمية متضمِّنة للتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وبآله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ تحقيقَ المخطوطات من أهمّ مقاصد البحث العلميّ في العصر الحاضر، كما أنه من أدقِّ أبوابه وأخطرها؛ لما فيه من مسؤولية تجاه الحقيقة العلمية التي تحملها المخطوطة ذاتها، ومن حيث صحّة نسبتها إلى العالم الذي عُزيت إليه من جهة أخرى، ولذلك كانت مَهمة المحقّق متجهةً في الأساس إلى […]

دعوى مخالفة علم الأركيولوجيا للدين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: عِلم الأركيولوجيا أو علم الآثار هو: العلم الذي يبحث عن بقايا النشاط الإنساني القديم، ويُعنى بدراستها، أو هو: دراسة تاريخ البشرية من خلال دراسة البقايا المادية والثقافية والفنية للإنسان القديم، والتي تكوِّن بمجموعها صورةً كاملةً من الحياة اليومية التي عاشها ذلك الإنسان في زمانٍ ومكانٍ معيَّنين([1]). ولقد أمرنا […]

جوابٌ على سؤال تَحَدٍّ في إثبات معاني الصفات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة أثار المشرف العام على المدرسة الحنبلية العراقية -كما وصف بذلك نفسه- بعضَ التساؤلات في بيانٍ له تضمَّن مطالبته لشيوخ العلم وطلبته السلفيين ببيان معنى صفات الله تبارك وتعالى وفقَ شروطٍ معيَّنة قد وضعها، وهي كما يلي: 1- أن يكون معنى الصفة في اللغة العربية وفقَ اعتقاد السلفيين. 2- أن […]

معنى الاشتقاق في أسماء الله تعالى وصفاته

مما يشتبِه على بعض المشتغلين بالعلم الخلطُ بين قول بعض العلماء: إن أسماء الله تعالى مشتقّة، وقولهم: إن الأسماء لا تشتقّ من الصفات والأفعال. وهذا من باب الخلط بين الاشتقاق اللغوي الذي بحثه بتوسُّع علماء اللغة، وأفردوه في مصنفات كثيرة قديمًا وحديثًا([1]) والاشتقاق العقدي في باب الأسماء والصفات الذي تناوله العلماء ضمن مباحث الاعتقاد. ومن […]

محنة الإمام شهاب الدين ابن مري البعلبكي في مسألة الاستغاثة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن فصول نزاع شيخ الإسلام ابن تيمية مع خصومه طويلة، امتدت إلى سنوات كثيرة، وتنوَّعَت مجالاتها ما بين مسائل اعتقادية وفقهية وسلوكية، وتعددت أساليب خصومه في مواجهته، وسعى خصومه في حياته – سيما في آخرها […]

العناية ودلالتها على وحدانيّة الخالق

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ وجودَ الله تبارك وتعالى أعظمُ وجود، وربوبيّته أظهر مدلول، ودلائل ربوبيته متنوِّعة كثيرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن دلائل الربوبية وآياتها أعظم وأكثر من كلّ دليل على كل مدلول) ([1]). فلقد دلَّت الآيات على تفرد الله تعالى بالربوبية على خلقه أجمعين، وقد جعل الله لخلقه أمورًا […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017