الأربعاء - 27 ذو الحجة 1445 هـ - 03 يوليو 2024 م

تكفير المعيَّن عند الإمام محمد بن عبدالوهاب (مهمَّاتٌ ومسالكُ)

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

تمهيد:

     “قلَّة هم الرجال الذين أثاروا هكذا انفعالات، وقلَّة هم الذين رأوا فكرهم محرفًا بصورة كاريكاتورية، وقلَّة هم الذين أُبديَت بهم الآراء دون الاهتمام بقراءتهم أو فهمهم، ومع محمد بن عبدالوهاب ندخل في ميدان الجدل، وقضية النوايا والاستيهام، فمنذ أكثر من قرنين راجت التحليلات والروايات غير الموضوعية التي تناولته، ولا بد من الاقتناع بأن شيخ نجد قد أقضَّ مضجع كثير من الناس الذين وصل بهم الأمر إلى هذا الحد من العداء له، لكنه هو الذي جدّد السلفيَّة في مواجهة الانحرافات الأكثر خطورة، والذي أطلق الإصلاح الذي يحتاج إليه الإسلام”([1]).

     هكذا بدأ “شارل سان برو” الفصل الذي عقده عن الإمام محمد بن عبدالوهاب، في كتابه الماتع “الإسلام.. السلفية بين الثورة والتغريب”، وهو بحقٍّ -كما قال في هذا النَّص-، فإن الإمام محمد بن عبدالوهاب من أكثر الشخصيات المعاصرة التي حظِيَت بدراسات مؤيِّدة ومخالفة، ولا شكَّ أنه واحدٌ من علماء المسلمين، ممن يصيبون ويخطئون، إلا أننا نرجو أن صوابه أكثر من خطئه، وسواء وافَقه الناس أو خالفوه، فإنا نشكر له جهاده العلمي الكبير وسط أمواج من الفتن والضياع، وكثبان من سوء الفهم لكلام الله ورسوله، وشيوع القبورية والخرافة بين أوساط المسلمين، فكان الشيخ محمد بن عبدالوهاب وسط هذه المعامع المُعمية كلها.. يحاول أن يعيد الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما يقول “ينبغي للمؤمن أن يجعل همَّه ومقصده معرفة أمر الله ورسوله في مسائل الخلاف والعمل بذلك”([2]).

     وقد حظيت المسائل التي اهتم بها الإمام محمد بن عبدالوهاب، بعناية واهتمام من الدارسين؛ نظرًا لأهمية المواضيع التي تناولها في كتبه ودعوته.

         ومن أكبر تلك القضايا: قضية التكفير.. فإن الإمام محمد بن عبدالوهاب، كان له موقفًا واضحًا من التكفير، وكان منهجه هو منهج أهل السنة والجماعة، من: أنَّ الكفر قول وعمل واعتقاد، كما أنَّ الإيمان قول وعمل واعتقاد، وأنَّ الكفر كما يكون بالجحود، فكذلك يكون بالعناد والاستكبار والإعراض، مع اهتمامه -رحمه الله- بقضية قيام الحجة والإعذار بالجهل وغير ذلك، فكان مذهبه -كما هو مذهب أهل السنة والجماعة- وسطًا بين الوعيدية والمرجئة.

         وقد نشر “مركز سلف” أوراقًا عن الإعذار بالجهل وقيام الحجة عند الإمام محمد بن عبدالوهاب([3])، وفي هذه الورقة، نكمل تلك السلسلة، ببيان أن الإعذار بالجهل لا يعني عدم تكفير المعين.

         ولا يعني أن الإمام محمد بن عبدالوهاب أو من يعذر بالجهل، يحصر الكفر في الجحود، بل كان المنهج متسقًا واضحًا، يجمع بين التكفير الذي جاء في الكتاب والسنة؛ إذ هو أمر شرعي، وبين ما يتعلق بهذا التكفير من قضايا كقيام الحجة، وبين أن هناك تكفيرا للمعين إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، فلا يقول أهل السنة والجماعة: إنَّ كل من قال “لا إله إلا الله” لا يكفر إلا بالجحود، وتغيير الدين، بل المعيَّن يكفَّر بمكفرات حددتها الشريعة، مع مراعاة الضوابط والموانع التي بينتها، ففي هذه الورقة، سنبيّن منهج الشيخ محمد بن عبدالوهاب ومذهبه في تكفير المعين.

مسالك الإمام محمد بن عبدالوهاب في إثبات تكفير المعين:

      مذهب الإمام محمد بن عبدالوهاب مذهبٌ متسق، فهو يرى أنَّ الكفر أمرٌ شرعي جاء به الكتاب والسنة، فقد بيّنت الشريعة أن هناك أمورا كفريَّة؛ فعلُها كفر يناقض الإسلام، فكان الإمام محمد بن عبدالوهاب يبيّن أنَّ هذه الأفعال شرك، ويدعو الناس إلى التَّخلص منها، وإلى توحيد الله وحده، بل إن هذه المسألة هي مرتكز دعوته وجهاد العلمي، وهذا بالنسبة للحكم على الأفعال والأقوال، أمَّا في حال تطبيق هذا الحكم على المعيَّن؛ فإنَّ الإمام محمد بن عبدالوهاب، يقيم ضوابط تكفير المعين المعروفة عند أهل السنة والجماعة، إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، وهذا ما فعله الإمام محمد بن عبدالوهاب، وهو المذهب الوسط بين من يكفر كلَّ أحد وقع في صور الشرك، وبين من يرى أن لا وجود لتكفير المعين، فالمذهب الحق: هناك تكفير عام، وتكفير للمعين بشروطه، وهو ما يقرره الإمام محمد بن عبدالوهاب، ويبين أنَّ التكفير موجودٌ لا يمكن نفيه، وقد بيّن الإمام وجود تكفير المعين شرعًا وواقًعا بعدة مسالك، من أهمها:

المسلك الأول: بيان أنَّ علماء أهل السنة والجماعة يكفّرون المعيّن:

     بيّن الإمام -رحمه الله- موقف عددٍ من العلماء من تكفير المعين، ووجوده في كلامهم وتقريراتهم، وكان من أشهر من قرَّر كلامه: شيخ الإسلام ابن تيمية، يقول -رحمه الله-: “وأمَّا عبارة الشيخ [أي: ابن تيمية] التي لبَّسوا بها عليك، فهي أغلظ من هذا كله، ولو نقول بها لكفّرنا كثيراً من المشاهير بأعيانهم؛ فإنَّه صرح فيها بأن المعين لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجة. فإذا كان المعين يكفر إذا قامت عليه الحجة، فمن المعلوم أنَّ قيامها ليس معناه، أن يفهم كلام الله ورسوله، مثل فهم أبي بكر رضي الله عنه، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله، وخلا من شيء يعذر به، فهو كافر، كما كان الكفار كلهم، تقوم عليهم الحجة بالقرآن، مع قول الله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الأنعام: 25]، وقوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22]، وإذا كان كلام الشيخ ليس في الشرك والردة، بل في المسائل الجزئيات، سواء كانت من الأصول أو الفروع، ومعلوم أنَّهم يذكرون في كتبهم في مسائل الصفات أو مسألة القرآن أو مسألة الاستواء أو غير ذلك، مذهب السلف، ويذكرون أنه الذي أمر الله به ورسوله، والذي درج عليه هو وأصحابه، ثم يذكرون مذهب الأشعري أو غيره، ويرجحونه ويسبون من خالفه.

     فلو قدرنا: أنها لم تقم الحجة على غالبهم، قامت على هذا المعين الذي يحكي المذهبين: مذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، ثم يحكي مذهب الأشعري ومن معه؛ فكلام الشيخ في هذا النوع، يقول: إن السلف كفّروا النوع، وأما المعين: فإن عرف الحق وخالف، كفر بعينه، وإلا لم يكفّروا“([4])، وواضحٌ من كلام الشيخ جمْعُه في منهجه بين اشتراط قيام الحجة، وبين وجود تكفير المعين، إذا قامت الشروط وانتفت الموانع، وهذا واضح في عدة تقريرات ينقلها عن شيخ الإسلام ابن تيمية، يقول محمد بن عبدالوهاب: “قال -رحمه الله تعالى-: أنا من أعظم الناس نهيًا عن أن ينسب معين إلى تكفير أو تبديع أو تفسيق أو معصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرساليَّة التي من خالفها كان كافرًا تارة وفاسقًا أخرى وعاصيًا أخرى”. انتهى كلامه.

     وهذا صفة كلامه في المسألة في كل موضعٍ وقفنا عليه من كلامه، لا يذكر عدم تكفير المعين إلا ويصله بما يزيل الإشكال.. أنَّ المراد بالتوقف عن تكفيره قبل أن تبلغه الحجة، وإذا بلغته حكم عليه بما تقتضيه تلك المسألة من تكفير أو تفسيق أو معصية.

     … فتأمَّل هذا، وتأمل ما فيه من تفصيل الشبهة التي يذكرها أعداء الله، لكن “من يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا”، على أنَّ الذي نعتقده وندين الله به ونرجو أن يثبتنا عليه، أنَّه لو غلط هو أو أجل منه في هذه المسألة، -وهي مسألة المسلم إذا أشرك بالله بعد بلوغ الحجة، أو المسلم الذي يفضل هذا على الموحدين أو يزعم أنَّه على حق، أو غير ذلك من الكفر الصريح الظاهر الذي بينه الله ورسوله وبيّنه علماء الأمة- أنا نؤمن بما جاءنا عن الله وعن رسوله من تكفيره، ولو غلط من غلط، فكيف -والحمد لله- ونحن لا نعلم عن واحد من العلماء خلافا في هذه المسألة؟ وإنما يلجأ من شاق فيها إلى حجة فرعون {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [طه: 51]، أو حجة قريش {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} [ص: 7]”([5]).

     ويقول: “ومن جوابٍ له -رحمه الله- لما سئل عن الحشيشة؛ ما يجب على من يدعي أن أكلها جائز؟

     فقال: أكل هذه الحشيشة حرام، وهي من أخبث الخبائث المحرمة، سواء أكل منها كثيرًا أو قليلا، لكن الكثير المسكر منها، حرام باتفاق المسلمين، ومن استحل ذلك فهو كافر، يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافرًا مرتدا، لا يغسل ولا يصلى عليه، ولا يدفن بين المسلمين، وحكم المرتد أشر من اليهود والنصارى، سواء اعتقد أنَّ ذلك يحل للعامة أو للخاصة الذين يزعمون أنها لقمة الذكر والفكر، وأنها تحرك العزم الساكن، وتنفع في الطريق … فتأمل كلام هذا الذي ينسب عنه، عدم تكفير المعين إذا جاهر بسب دين الأنبياء، وصار مع أهل الشرك ويزعم أنهم على الحق، ويأمر بالمصير معهم، وينكر على من لا يسب التوحيد، ويدخل مع المشركين؛ لأجل انتسابه إلى الإسلام؟ انظر كيف كفر المعين، ولو كان عابدا باستحلال الحشيشة، ولو زعم حلها للخاصة، الذين تعينهم على الفكرة”([6]).

     ويقول -ونلاحظ في النَّص أيضًا اشتراط قيام الحجة والعلم والمعرفة، ثم تكفير هذا المعين الذي هذا حاله- يقول -رحمه الله-: “من محمد بن عبد الوهاب إلى أحمد بن عبدالكريم، سلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

أما بعد: وصل مكتوبك، تقرِّر المسألة التي ذكرت، وتذكر أنَّ عليك إشكالًا تطلب إزالته، ثم ورد منك مراسلة، تذكر أنك عثرت على كلام للشيخ أزال عنك الإشكال، فنسأل الله أن يهديك لدين الإسلام.

     … فأول ما أنصحك به: أنك تفكر، هل هذا الشرك الذي عندكم هو الشرك الذي ظهر نبيك صلى الله عليه وسلم ينهى عنه أهل مكة؟ أم شرك أهل مكة نوع آخر أغلظ منه؟ أم هذا أغلظ؟

     فإذا أحكمت المسألة، وعرفت أنَّ غالب من عندكم، سمع الآيات، وسمع كلام أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين، وأقر به، وقال: أشهد أن هذا هو الحق، ونعرفه قبل ابن عبد الوهاب، ثم بعد ذلك يصرح بمسبّة ما شهد أنه الحق، ويصرح بحسن الشرك واتباعه، وعدم البراءة من أهله.

     فتفكر، هل هذه مسألة مشكلة؟ أو مسألة الردة الصريحة التي ذكرها أهل العلم في الردة؟”([7]).

     ويقول -رحمه الله- بعد أن بيّن عدة وقائع حكم فيها العلماء بالكفر-: “لو ذهبنا نعدِّد من كفّره العلماء مع ادعائه الإسلام وأفتوا بردته وقتله؛ لطال الكلام”([8]).

     ويبيّن أنَّ العلماء متفقون على بعض الأفعال أنها من صور الشرك، وأن خلاف الإمام محمد بن عبدالوهاب مع معاصريه، كان في بيان وجود التكفير بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ووجود تكفير المعين، ونفي أن يكون كل من دخل الإسلام لا يمكن أن يخرج منه إلا بجحوده أو انتقاله إلى ديانة أخرى، بل من فعَل صور الشرك مع العلم وقيام الحجة -كما يصرح- فإنه يُكفَّر بعينه، أعني: يكفره من هو أهل لذلك -كما سيأتي بيانه-، وفي هذا يقول الإمام محمد بن عبدالوهاب: “وتمام الكلام في هذا، أن يقال: الكلام هنا في مسألتين:

     الأولى: أن يقال: هذا الذي يفعله كثير من العوام عند قبور الصالحين ومع كثير من الأحياء والأموات والجن؛ من التوجه إليهم، ودعائهم لكشف الضر، والنَّذر لهم لأجل ذلك، هل هو الشرك الأكبر الذي فعله قوم نوح ومن بعدهم إلى أن انتهى الأمر إلى قوم خاتم الرسل قريش وغيرهم، فبعث الله الرسول، وأنزل الكتب ينكر عليهم ذلك، ويكفرهم، ويأمر بقتالهم حتى يكون الدين كله لله؟ أم هذا شرك أصغر وشرك المتقدمين نوعٌ غير هذا؟

فاعلم أنَّ الكلام في هذه المسألة سهلٌ على من يسره الله عليه؛ بسبب أنَّ علماء المشركين اليوم يقرون أنَّه الشرك الأكبر ولا ينكرونه إلَّا ما كان من مسيلمة الكذاب وأصحابه كابن إسماعيل وابن خالد مع تناقضهم في ذلك واضطرابهم، فأكثر أحوالهم: يقرون أنَّه الشرك الأكبر ولكن يعتذرون بأنَّ أهله لم تبلغهم الدعوة، وتارة يقولون: لا يكفر إلا من كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وتارة يقولون: إنَّه شرك أصغر وينسبونه لابن القيم -رحمه الله- في “المدارج” كما تقدم-، وتارة لا يذكرون شيئًا من ذلك، بل يعظّمون أهله وطريقتهم في الجملة، وأنهم خير أمة أخرجت للناس، وأنَّهم العلماء الذين يجب رد الأمر عند التنازع إليهم، وغير ذلك من الأقاويل المضطربة.

     وجواب هؤلاء، كثير في الكتاب والسنة والإجماع، ومن أصرح ما يجاوبون به.. إقرارهم في غالب الأوقات أنَّ هذا هو الشرك الأكبر، وأيضًا: إقرار غيرهم من علماء الأقطار، مع أن أكثرهم قد دخل في الشرك، وجاهد أهل التوحيد، لكن لم يجدوا بُدّاً من الإقرار به لوضوحه.

     المسألة الثانية: الإقرار بأنَّ هذا هو الشرك الأكبر، ولكن لا يكفر به إلا من أنكر الإسلام جملة، وكذب الرسول والقرآن، واتَّبع يهودية أو نصرانية أو غيرهما، وهذا هو الذي يجادل به أهل الشرك والعناد في هذه الأوقات؛ وإلا المسألة الأولى، قلَّ الجدال فيها -ولله الحمد- لما وقع من إقرار علماء الشرك بها. فاعلم أنَّ تصور هذه المسألة تصورًا حسناً، يكفي في إبطالها من غير دليل خاص؛ لوجهين:

الأول: أنَّ مقتضى قولهم أنَّ الشرك بالله وعبادة الأصنام، لا تأثير لها في التكفير؛ لأنَّ الإنسان إن انتقل عن الملة إلى غيرها وكذب الرسول والقرآن، فهو كافر وإن لم يعبد الأوثان كاليهود؛ فإذا كان من انتسب إلى الإسلام لا يكفر إذا أشرك الشرك الأكبر لأنه مسلم يقول لا إله إلا الله ويصلي ويفعل كذا وكذا= لم يكن للشرك وعبادة الأوثان تأثير، بل يكون ذلك كالسواد في الخِلقة أو العمى أو العرَج، فإن كان صاحبها يدعي الإسلام، فهو مسلم، وإن ادعى ملة غيرها، فهو كافر، وهذه فضيحة عظيمة كافية في رد هذا القول الفظيع.

الوجه الثاني: أن معصية الرسول صلى الله عليه وسلم في الشرك وعبادة الأوثان بعد بلوغ العلم، كفر صريح بالفطر والعقول والعلوم الضرورية”([9])

     ويستدل -رحمه الله- بفعل الصَّحابة الكرام، كما فعل علي بن أبي طالب رضي الله عمه، بمن اعتقد ألوهيته، يقول: “وكذلك: قتل علي رضي الله عنه الذين اعتقدوا فيه، وتحريقهم بالنار، مع كونهم تلاميذ الصحابة، ومع عبادتهم وصلاحهم؛ وهم -أيضًا- يظنون أنهم على حق، وكذلك إجماع السلف على تكفير أناس من غلاة القدرية وغيرهم، مع كثرة علمهم، وشدة عبادتهم، وكونهم يظنون أنهم يحسنون صنعا، ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم”([10]).

     وكذلك تكفير من آمن بنبوة مسيلمة، والأسود العنسي، وفي ذلك يقول -رحمه الله-: “وصورة الردّة: أن العرب افترقت في ردتها؛ فطائفة رجعت إلى عبادة الأصنام، وقالوا: لو كان نبياً ما مات، وفرقة قالوا: نؤمن بالله ولا نصلي، وطائفة أقروا بالإسلام وصلّوا، ولكن منعوا الزكاة، وطائفة شهدوا أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله، لكن صدّقوا لمسيلمة أن النبي أشركه في النبوة، وذلك أنه أقام شهودًا شهدوا معه بذلك.

… وقوم من أهل اليمن، صدّقوا الأسود العنسي في دعوى النبوة، وقوم صدّقوا طليحة الأسدي، ولم يشكّ أحدٌ من الصحابة في كفر من ذكرنا، ووجوب قتالهم”([11]).

     فتبين من هذا: أن من وقع في الكفر والشرك عالمًاً، وقامت عليه الحجة وانتفت عنه الموانع؛ فإنه يكفر ولو كان يقول “لا إله إلا الله” فإن مجرد الانتساب إلى الإسلام، لا يمنع من التكفير إذا وقع فيما هو مكفّر مع العلم وقيام الحجة.

 

 

المسلك الثاني: ذكر أبواب الردة في كتب العلماء:

     من المسالك التي اتخذها الإمام محمد بن عبدالوهاب في بيان تكفير المعين: بيان وجود أبواب المرتد، في كتب الفقه التي يعتمد عليها الناس على اختلاف مذاهبهم، والمرتد: هو من بدّل دين الإسلام إلى دينٍ غيره، وأخص هنا:  ذكر كتب الفقه مع كون هذا من كلام علماء الاعتقاد؛ لأن الناس في عصره -رحمه الله- ممن عادوه ولم يقبلوا منه، كانوا يَقبلون تلك الكتب، ويقرؤونها، ويأخذون منها، فكثر تقرير هذا في كلامه؛ لأنه أراد أن يُرجعهم إلى ما يأخذون منه، ويقررونه؛ إذ ليس الغرض الدعوة إلى مذهب شخصي، وإنما إلى الحق، فبأي طريق وصلوا إليه، كفى.

     يقول -رحمه الله-: “فإن كان الاستدلال بالقرآن عندكم هزؤاً وجهلاً -كما هي عادتكم- ولا تقبلونه، فانظروا في “الإقناع” في باب حكم المرتد، وما ذكر فيه من الأمور الهائلة التي ذكر أنَّ الإنسان إذا فعلها، فقد ارتدَّ وحلّ دمه، مثل: الاعتقاد في الأنبياء والصالحين، وجعلهم وسائط بينه وبين الله، ومثل: الطيران في الهواء، والمشي في الماء، فإذا كان من فعل هذه الأمور منكم مثل السائح الأعرج ونحوه تعتقدون صلاحه وولايته، وقد صرح في “الإقناع” بكفره، فاعلموا أنكم لم تعرفوا معنى شهادة أن لا إله إلا الله”([12]).

     ويقول -رحمه الله-: “فإذا أردت مصداق هذا، فتأمَّل باب حكم المرتد، في كل كتاب وفي كل مذهب، وتأمَّل ما ذكروه في الأمور التي تجعل المسلم مرتداً يحل دمه وماله؛ منها: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، كيف حكى الإجماع في “الإقناع” على ردته.

ثمَّ تأمل ما ذكروه في سائر الكتب، فإن عرفت أن في المسألة خلافاً ولو في بعض المذاهب، فنبّهنِي، وإن صحَّ عندك الإجماع على تكفير من فعل هذا، أو رضيه، أو جادل فيه، فهذه خطوط المويس، وابن إسماعيل، وأحمد بن يحيى عندنا في إنكار هذا الدين والبراءة منه، وهم الآن مجتهدون في صدّ الناس عنه”([13]).

     ويقول -وهو يبيّن أن ما ذكره في التكفير ذكره أئمة الفقه بل وأكثر منه-: “وأما كلام سائر أتباع الأئمة في التكفير، فنذكر منه قليلًا من كثير، أما كلام الحنفية؛ فكلامهم في هذا من أغلظ الكلام، حتى إنهم يكفرون المعيّن، إذا قال: مصيحف، أو مسيجد، أو صلى صلاة بلا وضوء، ونحو ذلك.

     … وأما كلام المالكية في هذا: فهو أكثر من أن يحصر … وقد ذكر القاضي عياض -في آخر كتاب “الشفاء”- من ذلك طرفًا، ومما ذكر: أن من حلف بغير الله على وجه التعظيم، كفر، وكل هذا دون ما نحن فيه، بما لا نسبة بينه وبينه.

     وأما كلام الشافعية: فقال صاحب “الروض” -رحمه الله-: إذا ذبح للنبي صلى الله عليه وسلم، كفر، وقال أيضًا: من شكَّ في كفر طائفة ابن عربي، فهو كافر، وكان هذا دون ما نحن فيه”([14]).

     ويقول -رحمه الله- داعياً إلى أخذ الحق أينما كان، وأن ما جاء به الإمام ليس مخالفًا لتقريرات العلماء-: “وهؤلاء الفقهاء من أولهم إلى آخرهم، عقدوا باب: حكم المرتد للمسلم إذا فعل كذا وكذا، ومصداق ذلك في هذه الكتب، الذي يقول المخالف: جمعوا فيها الثمر، وهم أعلم منا … وهم … انظروا في متن “الإقناع” في باب حكم المرتد، هل صرح أنَّ من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، أنَّه كافر بإجماع الأمة؟ وذكر فيمن اعتقد في علي بن أبي طالب، دون ما يعتقد طالب في حسين وإدريس، أنَّه لا شك في كفره.

     وأنا ألزم عليكم أنكم تحققون النَّظر في عبارات “الإقناع”، وتقرؤونها قراءة تفهّم، وتعرفون ما ذكر في هذا، وما ذكر في التشنيع علي من الأصدقاء؛ وإذا عرفتم ذلك، عرفتم شيئًا من مذاهب الآباء، وفتنة الأهواء، وإذا تحققتم ذلك، وطالعتم الشروح والحواشي، فإذا أنا لم أفهمه وله معنى آخر، فأرشدوني، وعسى الله أن يهدينا وإياكم وإخواننا لما يحب ويرضى، ولا يدخل خواطركم غلظة هذا الكلام، فالله سبحانه يعلم قصدي به، والسلام”([15]).

     ويقول -رحمه الله- مبيّنًا تناقض من يقرّ بكتب الفقه التي تذكر أبواب الردة، وفيها أنواع، هي أهون مما وقع فيه بعض من كفّرهم الإمام محمد بن عبدالوهاب، ثم إنهم يقولون: لا نكفّر كل من قال لا إله إلا الله، إلا بالجحود، ثم يكفّرون الإمام وأتباعه!

يقول -رحمه الله-: “والعجب.. أنَّ الكتب التي بأيديهم، ويزعمون أنَّهم يعرفونها، ويعملون بها، فيها مسائل الردَّة. وتمام العجب: أنهم يعرفون بعض ذلك، ويقرّون به، ويقولون: من أنكر البعث كفر، ومن شكَّ فيه كفر، ومن سبَّ الشرع كفر، ومن أنكر فرعًا مجمعًا عليه كفر، كل هذا يقولونه بألسنتهم.

     فإذا كان من أنكر الأكل باليمين، أو أنكر النَّهي عن إسبال الثياب، أو أنكر سنة الفجر، أو أنكر الوتر، فهو كافر، ويصرّحون: أنَّ من أنكر الإسلام كله وكذب به، واستهزأ به، أو استهزأ بمن صدّق به، فهو أخوك المسلم، حرام المال والدم، مع أنَّه ما معه من الإسلام إلا أنه يقول: لا إله إلا الله، ثم يكفروننا ويستحلون دماءنا وأموالنا، مع أنَّا نقول: لا إله إلا الله، إذا سئلوا عن ذلك، قالوا: من كفَّر مسلماً فقد كفر، ثم لم يكفهم ذلك، حتى أفتوا لمن عاهدنا بعهد الله ورسوله، أن ينقض العهد، وله في ذلك ثواب عظيم”([16]).

     ولأجل حضور أثر هذه الكتب عندهم، فإنهم لا يستطيعون الفِكاك منه، وإن كانوا يردّون تقريرات الإمام محمد بن عبدالوهاب، فيقعون في تناقض.

يقول الإمام -في رسالة أرسلها إلى ابن سحيم، يبيّن فيها تناقضاته-: “وقفت على أوراق بخط ولد ابن سحيم صنفها يريد أن يصد بها الناس عن دين الإسلام، وشهادة أن لا إله إلا الله، فأردت أن أنبّه على ما فيها من الكفر الصريح، وسبّ دين الإسلام، وما فيها من الجهالة التي يعرفها العامة.

     فأما تناقض كلامه، فمن وجوه:

     الأول: أنه صنّف الأوراق يسبّنا، ويرد علينا في تكفير كل من قال: لا إله إلا الله، وهذا عمدة ما يشبّه به على الجهال وعقولها، فصار في أوراقه يقول: أما من قال: “لا إله إلا الله” لا يكفر، ومن أَمّ القبلة لا يكفر، فإذا ذكرنا لهم الآيات التي فيها كفره، وكفر أبيه، وكفر الطواغيت، يقول: نزَلت في النصارى، نزلت في الفلاني، ثم رجع في أوراقه يكذّب نفسه ويوافقنا ويقول: من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أملس الكف، كفر، ومن قال: كذا كفر، تارة يقول: ما يوجد الكفر فينا، وتارة يقرر الكفر، أعجب لبانيه يخربه!”([17]).

المسلك الثالث: ذكره النُّصوص التي تدل على رجوع الشرك في الأمّة:

     ويعني بذلك.. الرد على من يقول: إنّ كل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله لا يمكن أن يكفر، فليس هناك كفْرٌ في الإسلام إلا بجحود الإسلام والانتقال منه، فبيّن الإمام محمد بن عبدالوهاب: أن الأمة الإسلامية ليست معصومة من الشرك، وأن من دخل في الإسلام، ليس بمعصوم من الخروج منه، بل بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن هناك من أمّته من سيخرج من هذا الدين.

     وفي بيان هذا.. عقد بابًا في كتاب التوحيد، عنوَن له بقوله: “ما جاء أن بعض هذه الأمة تعبد الأوثان”، نقل فيه نصوصًا عديدة، تبيّن هذا الأمر، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: “ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق”([18])

     وقال -في رسالته لسليمان بن سحيم-: “إذا كنت تعتقد هذا، وأن مَن أمّ القبلة لا يكفر، فما معنى هذه المسائل العظيمة الكثيرة التي ذكرها العلماء في باب حكم المرتد، التي كثير منها في أناس أهل زهد وعبادة عظيمة؟ ومنها طوائف، ذكر العلماء: أنَّ من شك في كفرهم، فهو كافر، ولو كان الأمر على زعمك؛ لبطل كلام العلماء في حكم المرتد، إلا مسألة واحدة؛ وهي: الذي يصرّح بتكذيب الرسول وينتقل يهودياً، أو نصرانياً، أو مجوسياً ونحوهم، هذا هو الكفر عندك، يا ويلك! ما تصنع بقوله صلى الله عليه وسلم: “لا تقوم الساعة حتى تعبد فئام من أمتي الأوثان “([19])  وكيف تقول هذا، وأنت تقرّ أن من جعل الوسائط كفر؟ فإذا كان أهل العلم في زمانهم، حكموا على كثير من أهل زمانهم بالكفر والشرك، أتظن أنكم صلحتم بعدهم؟ يا ويلك!”([20]).

     وخلاصة هذا: أن الإمام محمد بن عبدالوهاب.. يرى تكفير المعين، وأنَّ من دخل في الإسلام، ثم أتى بمكفّر ووجدت فيه الشروط وانتفت عنه الموانع؛ فإنه يحكم عليه بالكفر، ويفارق دين الإسلام.

فمن قرّر أن مذهب الإمام محمد بن عبدالوهاب هو العذر بالجهل واشتراط قيام الحجة، فإنه لا يعني أن الإمام لا يرى كفر المعيّن، بل يراه موجودًا وشرعيًّا، بل مارسه على من رأى أن الحجة قد قامت عليه، وقبل أن نختم الورقة نُنبّه إلى بعض المهمات.

 

 

مهمات:

أولا: التكفير بعد العلم والبيان:

 قولنا: إن محمد بن عبدالوهاب يكفّر المعيّن، فإن ذلك يعني: أنه يكفّر بعد وجود الشروط وانتفاء الموانع، ويصرحّ بذلك في مواطن كثيرة، عند تقريره كفر المعيّن، وقد سبق بنا الحديث عن العذر بالجهل وقيام الحجة عنده واشتراطه لذلك.

ومما يبيّن ذلك مما هو موصول بتكفير المعيّن: ما مرَّ بنا من نصوصه التي نقلها عن ابن تيمية أو غيره في تكفير المعين، ثم ربط ذلك بقيام الحجة، ومنها: أنه يقول في رسالته إلى ابن سحيم: “تقرون أن الذي يأتيكم من عندنا هو الحق، وأنت تشهد به ليلاً ونهاراً، وإن جحدْت هذا شهد عليك الرجال والنساء، ثم مع هذه الشهادة، أن هذا دين الله، وأنت وأبوك مجتهدان في عداوة هذا الدين ليلاً ونهاراً، ومن أطاعكما، وتبهتون وترمون المؤمنين بالبهتان العظيم، وتصورون على الناس الأكاذيب الكبار، فكيف تشهد أن هذا دين الله ثم تتبين في عداوة من تبعه؟”([21])، ويقول له: “وأما الدليل على أنك رجل معاند، ضال على علم، مختار الكفر على الإسلام، فمن وجوه:

الأول: أني كتبت ورقة لابن صالح من سنتين، فيها تكفير الطواغيت: شمسان وأمثاله، وذكرت فيها كلام الله ورسوله، وبيّنت الأدلة، فلما جاءتك نسختها بيدك لموسى بن سليم، ثم سجلت عليها وقلت: ما ينكر هذا إلا أعمى القلب، وقرأها موسى في البلدان وفي منفوحة وفي الدرعية وعندنا، ثم راح بها للقبلة، فإذا كنت من أول موافقاً لنا على كفرهم، وتقول: ما ينكر هذا إلا من أعمى الله بصيرته، فالعلم الذي جاءك بعد هذا، يبيّن لك أنهم ليسوا بكفار، بيِّنْه لنا”([22]). ثم ذكر أوجهاً عديدة في بيان قيام الحجة عليه.

     ويقول -رحمه الله- وهو يبيّن أنه لا يكفر إلا بقيام الحجة: “ولكن قبل الكلام، اعلم أني عَرَّفْتُ بأربع مسائل:

… الثالثة: تكفير من بان له أنَّ التوحيد هو دين الله ورسوله، ثم أبغضه ونفر الناس عنه، وجاهد من صدق الرسول فيه، ومن عرف الشرك، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بإنكاره، وأقرّ بذلك ليلا ونهارا، ثم مدحه وحسّنه للناس، وزعم أن أهله لا يخطئون، لأنهم السواد الأعظم”([23]).

     ومن ذلك: حين نقل كلام ابن تيمية -رحمه الله-، فقد قال: “وأمَّا عبارة الشيخ [أي: ابن تيمية] التي لبَّسوا بها عليك، فهي أغلظ من هذا كله، ولو نقول بها، لكفرنا كثيراً من المشاهير بأعيانهم؛ فإنَّه صرح فيها بأن المعيّن لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجة … بل إذا بلغه كلام الله ورسوله، وخلا من شيء، يعذر به، فهو كافر … فلو قدرنا أنها لم تقم الحجة على غالبهم، قامت على هذا المعين الذي يحكي المذهبين: مذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، ثم يحكي مذهب الأشعري ومن معه؛ فكلام الشيخ في هذا النوع يقول: إن السلف كفّروا النوع، وأما المعين: فإن عرف الحق وخالف، كفر بعينه، وإلا لم يكفّروا“([24])، فهنا بيانٌ بعد بيان.. بأن المعين الذي يكفَّر، هو من قامت عليه الحجة، وعرف الحق ثم خالفه.

ويقول -بعدما حكى كلام ابن تيمية -رحمه الله- في تكفير المعين-: “على أنَّ الذي نعتقده وندين الله به ونرجو أن يثبتنا عليه: أنَّه لو غلط هو أو أجل منه في هذه المسألة، وهي مسألة المسلم إذا أشرك بالله بعد بلوغ الحجة، أو المسلم الذي يفضل هذا على الموحدين أو يزعم أنَّه على حق، أو غير ذلك من الكفر الصريح الظاهر الذي بينه الله ورسوله وبينه علماء الأمة= أنا نؤمن بما جاءنا عن الله وعن رسوله من تكفيره”([25]).

ويقول -رحمه الله-: “معصية الرسول صلى الله عليه وسلم في الشرك وعبادة الأوثان، بعد بلوغ العلم، كفر صريح بالفِطَر والعقول”([26])، وقد فصلنا الكلام في الموضوع في ورقة مستقلة([27]).

 

 

ثانيًا: التكفير باليقين لا بالظن:

     فإنه يبين -رحمه الله-: أنه لا يكفّر إلا بيقين، وأن الإسلام يقينٌ لا يزول بالظن، يقول: “من محمد بن عبد الوهاب، إلى محمد بن عيد، وفقنا الله وإياه لما يحبه ويرضاه.

وبعد: وصل الكرّاس، وتذكرون: أن الحق إن بان لكم، اتبعتموه، وفيه كلام غير هذا، سرّ الخاطر من جهتك خاصة، بسبب أن لك عقلاً، والثانية: أن لك عرضاً تشحّ به، والثالثة: أن الظن فيك إن بان لك الحق، أنك ما تبيعه بالزهائد.

     فأما تقريركم أول الكلام: أن الإسلام خمس كأعضاء الوضوء، وأنكم تعرفون كلام الله، وكلام رسوله، وإجماع العلماء.. أن له نواقض كنواقض الوضوء الثمانية، منها:

     اعتقاد القلب وإن لم يعمل أو يتكلم، يعني: إذا اعتقد خلاف ما علّمه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته بعدما تبين له، ومنها: كلام باللسان وإن لم يعمل ولم يعتقد، ومنها: عمل بالجوارح وإن لم يعتقد ويتكلم.

     ولكن، مَن أظهر الإسلام وظننَّا أنه أتى بناقض، لا نكفّره بالظن؛ لأنَّ اليقين لا يرفعه الظن، وكذلك لا نكفر من لا نعرف منه الكفر بسبب ناقض ذكر عنه ونحن لم نتحققه، وما قرّرتم هو الصواب الذي يجب على كل مسلم اعتقاده والتزامه”([28]).

ويقول: “وأمَّا ما ذكر الأعداء عني، أنّي أُكَفِّر بالظن وبالموالاة، أو أكفِّر الجاهل الذي لم تقمْ عليه الحجة، فهذا بهتان عظيم، يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله”([29]).

ثالثًا: عدم الخلط بين التقرير والتطبيق:

تقرير مذهب الإمام محمد بن عبدالوهاب شيء، وتطبيقاته شيء، فلا يصح الخلط بينهما، وإن كان الأصل أن تطبيقات العالم نابعة عن تقريراته، إلا أنه أحياناً يكون الاتفاق على التنظير والتقرير؛ لأنه مؤيَّد بالكتاب والسنة، فلا يصح الخلاف فيه، أما التطبيق: فإنه يدخله الاجتهاد، وهو الاجتهاد الذي يكون بسبب تحقيق المناط، فليس بالضرورة أن نقول ونقرر، لكن من خالف الإمام محمد بن عبدالوهاب في تكفير بعض الأعيان، فإن خلافه غير سائغ، بل هي مسألة اجتهادية، طبّق الإمام ما رآه أمامه وما عرفه وعلمه، ورأيه لا شك أنه أقرب للصواب؛ لما غاب عنا من حيثيات الواقعة، وكثيرٌ من الأقوال التي قالوها، وهو أعرف بحالهم وأقوالهم، ومع ذلك فمن خالف الإمام في التطبيق عند تكفير شخص بعينه، فإن خلافه مقبول إن كان ممن يراعي الآداب العلمية.

رابعًا: تكفير المعين ليس حقًّا لكل أحد:

     وهذا من أعظم ما يجب التنبيه عليه، فإن التكفير حكم شرعي يترتب عليه أحكام خطيرة، فلا يحكم به إلا من له الأهلية الشرعية بذلك، ولا يتولى نشره والإعلان عنه إلا من بيده السلطة، كالقضاء، غاية ما يترك لغير من بيده السلطة، أن يقول: عن الفعل الفلاني والقول الفلاني كفر، فبيان وجود تكفير المعيَّن في الشريعة، لا يعني أن يقوم طالب علم صغير، أو أحد من الناس بتكفير فلان وفلان، فإن هذه مزلة خطيرة، ومدحظة مبيرة، يجب على العاقل، النأي عن هذه المركب الصعب، والمَهمه الخطِر، ومتى ما استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من تكفير المسلمين، فافعل!

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

 

([1]) الإسلام، مستقبل السلفية بين الثورة والتغريب (ص: 239).

([2]) فتاوى ومسائل ضمن المجموع (4/97).

([3]) انظر: https://salafcenter.org/5140/

https://salafcenter.org/5170/

https://salafcenter.org/5339/

قضية العذر بالجهل من منظور أصولي وتطبيقات على مقولات الإمام محمد بن عبد الوهاب

([4]) الرسائل الشخصية (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب، الجزء السادس) (ص: 220- 221).

([5]) مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الجزء الأول) (289- 291) باختصار.

([6]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (9/ 445- 446).

([7]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 63- 66) باختصار.

([8]) الرسائل الشخصية (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب، الجزء السادس) (ص: 220).

 

([9]) مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الجزء الأول) (ص: 306- 307).

([10]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (11/ 75).

([11]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (9/ 383- 384).

([12]) الرسائل الشخصية (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب، الجزء السادس) (ص: 126).

([13]) الرسائل الشخصية (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب، الجزء السادس) (ص: 167).

([14]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (9/ 421- 423).

([15]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 59- 60).

([16]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (9/ 395).

([17]) الرسائل الشخصية (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب، الجزء السادس) (ص: 88).

([18]) أخرجه أبو داود في سننه برقم (4252)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود بنفس الرقم.

([19]) بمعناه ما أخرجه أبو داود، وهو الحديث السابق.

([20]) الرسائل الشخصية (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب، الجزء السادس) (ص: 234).

([21]) الرسائل الشخصية (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب، الجزء السادس) (ص: 226- 227).

([22]) الرسائل الشخصية (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب، الجزء السادس) (ص: 228- 229).

([23]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 112- 113).

([24]) الرسائل الشخصية (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب، الجزء السادس) (ص: 220- 221).

([25]) مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الجزء الأول) (289- 291) باختصار.

([26]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (9/ 426).

([27]) على الرابط التالي: https://salafcenter.org/5170/

([28]) درر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 111- 112).

([29]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 113).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

هل يُمكِن الاستغناءُ عن النُّبوات ببدائلَ أُخرى كالعقل والضمير؟

هذه شبهة من الشبهات المثارة على النبوّات، وهي مَبنيَّة على سوء فَهمٍ لطبيعة النُّبوة، ولوظيفتها الأساسية، وكشف هذه الشُّبهة يحتاج إلى تَجْلية أوجه الاحتياج إلى النُّبوة والوحي. وحاصل هذه الشبهة: أنَّ البَشَر ليسوا في حاجة إلى النُّبوة في إصلاح حالهم وعَلاقتهم مع الله، ويُمكِن تحقيقُ أعلى مراتب الصلاح والاستقامة من غير أنْ يَنزِل إليهم وحيٌ […]

هل يرى ابن تيمية أن مصر وموطن بني إسرائيل جنوب غرب الجزيرة العربية؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة (تَنتقِل مصر من أفريقيا إلى غرب جزيرة العرب وسط أوديتها وجبالها، فهي إما قرية “المصرمة” في مرتفعات عسير بين أبها وخميس مشيط، أو قرية “مصر” في وادي بيشة في عسير، أو “آل مصري” في منطقة الطائف). هذا ما تقوله كثيرٌ من الكتابات المعاصرة التي ترى أنها تسلُك منهجًا حديثًا […]

هل يُمكن أن يغفرَ الله تعالى لأبي لهب؟

من المعلوم أن أهل السنة لا يشهَدون لمعيَّن بجنة ولا نار إلا مَن شهد له الوحي بذلك؛ لأن هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، ولكننا نقطع بأن من مات على التوحيد والإيمان فهو من أهل الجنة، ومن مات على الكفر والشرك فهو مخلَّد في النار لا يخرج منها أبدًا، وأدلة ذلك مشهورة […]

مآخذ الفقهاء في استحباب صيام يوم عرفة إذا وافق يوم السبت

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فقد ثبت فضل صيام يوم عرفة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (‌صِيَامُ ‌يَوْمِ ‌عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ)([1]). وهذا لغير الحاج. أما إذا وافق يومُ عرفة يومَ السبت: فاستحبابُ صيامه ثابتٌ أيضًا، وتقرير […]

لماذا يُمنَع من دُعاء الأولياء في قُبورهم ولو بغير اعتقاد الربوبية فيهم؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة هناك شبهة مشهورة تثار في الدفاع عن اعتقاد القبورية المستغيثين بغير الله تعالى وتبرير ما هم عليه، مضمونها: أنه ليس ثمة مانعٌ من دعاء الأولياء في قبورهم بغير قصد العبادة، وحقيقة ما يريدونه هو: أن الممنوع في مسألة الاستغاثة بالأنبياء والأولياء في قبورهم إنما يكون محصورًا بالإتيان بأقصى غاية […]

الحج بدون تصريح ..رؤية شرعية

لا يشكّ مسلم في مكانة الحج في نفوس المسلمين، وفي قداسة الأرض التي اختارها الله مكانا لمهبط الوحي، وأداء هذا الركن، وإعلان هذه الشعيرة، وما من قوم بقيت عندهم بقية من شريعة إلا وكان فيها تعظيم هذه الشعيرة، وتقديس ذياك المكان، فلم تزل دعوة أبينا إبراهيم تلحق بكل مولود، وتفتح كل باب: {رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ […]

المعاهدة بين المسلمين وخصومهم وبعض آثارها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة باب السياسة الشرعية باب واسع، كثير المغاليق، قليل المفاتيح، لا يدخل منه إلا من فقُهت نفسه وشرفت وتسامت عن الانفعال وضيق الأفق، قوامه لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، والإنسان قد لا يخير فيه بين الخير والشر المحض، بل بين خير فيه دخن وشر فيه خير، والخير […]

إمعانُ النظر في مَزاعم مَن أنكَر انشقاقَ القَمر

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الحمد لله رب العالمين، وأصلى وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن آية انشقاق القمر من الآيات التي أيد الله بها نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فكانت من أعلام نبوّته، ودلائل صدقه، وقد دلّ عليها القرآن الكريم، والسنة النبوية دلالة قاطعة، وأجمعت عليها […]

هل يَعبُد المسلمون الكعبةَ والحجَرَ الأسودَ؟

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وهدنا صراطه المستقيم. وبعد، تثار شبهة في المدارس التنصيريّة المعادية للإسلام، ويحاول المعلِّمون فيها إقناعَ أبناء المسلمين من طلابهم بها، وقد تلتبس بسبب إثارتها حقيقةُ الإسلام لدى من دخل فيه حديثًا([1]). يقول أصحاب هذه الشبهة: إن المسلمين باتجاههم للكعبة في الصلاة وطوافهم بها يعبُدُون الحجارة، وكذلك فإنهم يقبِّلون الحجرَ […]

التحقيق في نسبةِ ورقةٍ ملحقةٍ بمسألة الكنائس لابن تيمية متضمِّنة للتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وبآله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ تحقيقَ المخطوطات من أهمّ مقاصد البحث العلميّ في العصر الحاضر، كما أنه من أدقِّ أبوابه وأخطرها؛ لما فيه من مسؤولية تجاه الحقيقة العلمية التي تحملها المخطوطة ذاتها، ومن حيث صحّة نسبتها إلى العالم الذي عُزيت إليه من جهة أخرى، ولذلك كانت مَهمة المحقّق متجهةً في الأساس إلى […]

دعوى مخالفة علم الأركيولوجيا للدين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: عِلم الأركيولوجيا أو علم الآثار هو: العلم الذي يبحث عن بقايا النشاط الإنساني القديم، ويُعنى بدراستها، أو هو: دراسة تاريخ البشرية من خلال دراسة البقايا المادية والثقافية والفنية للإنسان القديم، والتي تكوِّن بمجموعها صورةً كاملةً من الحياة اليومية التي عاشها ذلك الإنسان في زمانٍ ومكانٍ معيَّنين([1]). ولقد أمرنا […]

جوابٌ على سؤال تَحَدٍّ في إثبات معاني الصفات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة أثار المشرف العام على المدرسة الحنبلية العراقية -كما وصف بذلك نفسه- بعضَ التساؤلات في بيانٍ له تضمَّن مطالبته لشيوخ العلم وطلبته السلفيين ببيان معنى صفات الله تبارك وتعالى وفقَ شروطٍ معيَّنة قد وضعها، وهي كما يلي: 1- أن يكون معنى الصفة في اللغة العربية وفقَ اعتقاد السلفيين. 2- أن […]

معنى الاشتقاق في أسماء الله تعالى وصفاته

مما يشتبِه على بعض المشتغلين بالعلم الخلطُ بين قول بعض العلماء: إن أسماء الله تعالى مشتقّة، وقولهم: إن الأسماء لا تشتقّ من الصفات والأفعال. وهذا من باب الخلط بين الاشتقاق اللغوي الذي بحثه بتوسُّع علماء اللغة، وأفردوه في مصنفات كثيرة قديمًا وحديثًا([1]) والاشتقاق العقدي في باب الأسماء والصفات الذي تناوله العلماء ضمن مباحث الاعتقاد. ومن […]

محنة الإمام شهاب الدين ابن مري البعلبكي في مسألة الاستغاثة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن فصول نزاع شيخ الإسلام ابن تيمية مع خصومه طويلة، امتدت إلى سنوات كثيرة، وتنوَّعَت مجالاتها ما بين مسائل اعتقادية وفقهية وسلوكية، وتعددت أساليب خصومه في مواجهته، وسعى خصومه في حياته – سيما في آخرها […]

العناية ودلالتها على وحدانيّة الخالق

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ وجودَ الله تبارك وتعالى أعظمُ وجود، وربوبيّته أظهر مدلول، ودلائل ربوبيته متنوِّعة كثيرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن دلائل الربوبية وآياتها أعظم وأكثر من كلّ دليل على كل مدلول) ([1]). فلقد دلَّت الآيات على تفرد الله تعالى بالربوبية على خلقه أجمعين، وقد جعل الله لخلقه أمورًا […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017