السبت - 28 شوّال 1446 هـ - 26 ابريل 2025 م

مفارقة الأشاعرة لمنهج أهل السنة والجماعة (2)

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد:

فقد ذكرنا في المقال السابق، أن المتكلمين يُوجبون النظر، ويُوجبون نظرا محددا، وليس مطلق النظر وفي مطلق الأوقات، كما هو الواقع في دعوة القرآن، الذي يدعو إلى النظر والتأمل والتفكر في ملكوت السموات والأرض في كل وقت وحين.

فدعوة القرآن إلى التفكر والنظر واضحة بيّنة، وهي من أجل العبادات؛ لأن المرء إذا تفكر قوي إيمانه، وزاد يقينه، يقول العلامة ابن القيم في كتابه مفتاح دار السعادة (1/183):” قيل تفكر ساعة خير من عبادة سنة. فالفكر هو الذي ينقل من موت الفطنة إلى حياة اليقظة، ومن المكاره إلى المحاب، ومن الرغبة والحرص، ومن ضيق الجهل إلى سعة العلم ورحبه، ومن مرض الشهوة والاخلاد إلى هذه الدار إلى شفاء الانابة إلى الله والتجافي عن دار الغرور، ومن مصيبة العمى والصمم والبكم إلى نعمة البصر والسمع والفهم عن الله والعقل عنه، ومن أمراض الشبهات إلى برد اليقين وثلج الصدور. وبالجملة، فأصل كل طاعة إنما هي الفكر.”[1].

 فهذا هو النظر الصحيح الموصل إلى الله تعالى، بخلاف النظر عند المتكلمين، الذي يحدّونه بوقت معلوم، وطريق مرسوم، يرونه الطريق الموصل إلى إثبات وجود الله تعالى. وسبق أن بيّنا أن المتكلمين يُوجبون النظر، ويقولون: إنه أول واجب على المكلف، وهم بهذا لا يقبلون ما عليه الناس من الإيمان بالله تعالى؛ لأنه ليس هو الإيمان المطلوب، ويعدونه تقليدا. وقد بيّنا خطأهم في هذه المسألة.

والمتكلمون حين أوجبوا النظر، أرادوا نظرا معينا في إثبات وجود الله تعالى، وذكروا فيه دليل الحدوث، وأنه يقوم على ثلاث مقدمات:

المقدمة الأولى: أن العالم حادث.

والمقدمة الثانية: أن الحادث لا بد له من مُحدِث.

والمقدمة الثالثة: أن العالم لا بد له من محدِث أحدثه، وهو الله تعالى، فالمحدِث فاعل مختار، لا علة ولا طبيعة.

وهذه المقدمات صحيحة في ذاتها، فإذا كان كذلك، فأين الإشكال في كلام المتكلمين؟ الجواب: أن الإشكال يكمن في طريقتهم في إثبات حدوث العالم؛ وذلك أنهم يُثبتون حدوث العالم بطريق الجواهر والأعراض.

وبيانه: أن الأجسام في هذا العالم مكونة من الجواهر الفردة، والجوهر لا يخلو عن الأعراض من الاجتماع والافتراق، والحركة والسكون، فهذه أعراض والجوهر لا يخلو عنها، فكل جوهر لا بد له من حركة أو سكون، واجتماع أو افتراق. وهذه الأعراض حادثة ولا يخلو عنها الجوهر، والجوهر هو المكوّن للأجسام، فصارت الأجسام حادثة؛ لأن الجوهر المكون للأجسام لا يخلو عن الأعراض الحادثة، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث.

إذن: قال المتكلمون في دليل حدوث العالم:

العالم يتركب من أجسام وأعراض، وهذه الجواهر إما كانت مجتمعة فتفرقت، أو متفرقة فاجتمعت، وهذه الحركة أعراض تقوم بالجسم، والأجسام لا تخلو من الأعراض، والأعراض حادثة، وما لا يخلو من الأعراض فهو حادث. ومعنى حدوثها: أنها ليست قديمة، بمعنى: أن الحركة لم تكن موجودة ثم طرأت، فالعرض هو التغير من سكون لحركة، ومن حركة لسكون؛ لأنه لو كان قديما لم يلحقه عدم، ولكن الأعراض تُرى حادثة، والجسم لا يخلو منها؛ لأنه يستحيل عندهم أن يخلو جسم من عرض.

وبمجموع هذه الأدلة توصلوا إلى أن العالم حادث، وأن الحادث لا بُد له من مُحدِث لا مثيل له، ليس من جنس هذه الحوادث، واستحدثوا القانون الذي نفوا به كثيرًا من الصفات الخبرية، والاختيارية التي تتعلق بمشيئة الله تعالى؛ كالمجيء، والنزول، والكلام بحرف وصوت، وهو: ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، فأردوا تطبيق هذا القانون، فجعلوه حاكما على النصوص، ونفوا الصفات، وتأولوا كثيرا منها.

وجهد المتكلمون لإثبات حدوث العالم ردا على الفلاسفة القائلين بقدمه. ومعلوم أن الفلاسفة يرون أن هناك أشياء قديمة مع الله تعالى، فيرون أن المادة قديمة، وأن العالم قديم، ومع ذلك فهو ممكن حسب كلام ابن سينا، وهو تناقض منه.

وحين أراد المتكلمون إثبات وجود الله تعالى، رأوا أنه لا يُمكن إثباته إلا بعد إثبات حدوث العالم؛ ردا على الفلاسفة الذين قالوا بقدمه، فإذا ثبت حدوث العالم، قالوا: احتاج الحادث إلى مُحدِث، فيثبتون وجود الله تعالى بعد ذلك.

ويزيد شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الأمر وضوحا، فيقول في مجموع الفتاوى (16/267):” والطريق المشهورة عند المتكلمين هو الاستدلال بحدوث الأعراض على حدوث الأجسام. وقد بينا الكلام على هذه في غير موضع وأنها مخالفة للشرع والعقل. وكثير من الناس يعلم أنها بدعة في الشرع لكن لا يعلم فسادها في العقل. وبعضهم يظن أنها صحيحة في العقل والشرع وأنها طريقة إبراهيم الخليل عليه السلام. وقد بين فساد هذا في غير موضع. والمقصود هنا أن طائفة من النظار مثبتة الصفات أرادوا سلوك سبيل السنة ولم يكن عندهم إلا هذه الطريق. فاستدلوا بخلق الإنسان لكن لم يجعلوا خلقه دليلا كما في الآية؛ بل جعلوه مستدلا عليه. وظنوا أنه يعرف بالبديهة والحس حدوث أعراض النطفة. وأما جواهرها فاعتقدوا أن الأجسام كلها مركبة من الجواهر المنفردة وأن خلق الإنسان وغيره إنما هو إحداث أعراض في تلك الجواهر بجمعها وتفريقها ليس هو إحداث عين. فصاروا يريدون أن يستدلوا على أن الإنسان مخلوق. ثم إذا ثبت أنه مخلوق قالوا: إن له خالقا. واستدلوا على أنه مخلوق بدليل الأعراض وأن النطفة والعلقة والمضغة لا تنفك من أعراض حادثة. إذ كان عندهم جواهر تجمع تارة وتفرق أخرى فلا تخلو عن اجتماع وافتراق وهما حادثان. فلم يخل الإنسان عن الحوادث وما لم يخل من الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها. وهذه هي الطريقة التي سلكها الأشعري في اللمع في الرد على أهل البدع وشرحه أصحابه شروحا كثيرة. وكذلك في رسالته إلى أهل الثغر.”.

والإشكال أن هؤلاء المتكلمين الذين استدلوا بخلق الإنسان، ظنوا أن طريقتهم موافقة لطريقة القرآن، يقول شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (16/269):” لكن هؤلاء الذين استدلوا بخلق الإنسان فرضوا ذلك في الإنسان ظنا أن هذه طريقة القرآن. وطولوا في ذلك ودققوا حتى استدلوا على كون عين الإنسان وجواهره مخلوقة لظنهم أن المعلوم بالحس وبديهة العقل إنما هو حدوث أعراض لا حدوث جواهر. وزعموا أن كل ما يحدثه الله من السحاب والمطر والزرع والثمر والإنسان والحيوان فإنما يحدث فيه أعراضا وهي جمع الجواهر التي كانت موجودة وتفريقها. وزعموا أن أحدا لا يعلم حدوث غيره من الأعيان بالمشاهدة ولا بضرورة العقل وإنما يعلم ذلك إذا استدل كما استدلوا. فقالوا: هذه أعراض حادثة في جواهر وتلك الجواهر لم تخل من الأعراض لامتناع خلو الجواهر من الأعراض. ثم قالوا: وما لم يخل من الحوادث فهو حادث. وهذا بنوه على أن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة التي لا تقبل القسمة وقالوا: إن الأجسام لا يستحيل بعضها إلى بعض. وجمهور العقلاء من السلف وأنواع العلماء وأكثر النظار يخالفون هؤلاء فيما يثبتون من الجوهر الفرد ويثبتون استحالة الأجسام بعضها إلى بعض ويقولون بأن الرب لا يزال يحدث الأعيان كما دل على ذلك القرآن. ولهذا كانت هذه الطريق باطلة عقلا وشرعا وهي مكابرة للعقل. فإن كون الإنسان مخلوقا محدثا كائنا بعد أن لم يكن أمر معلوم بالضرورة لجميع الناس. وكل أحد يعلم أنه حدث في بطن أمه بعد أن لم يكن وأن عينه حدثت.”. وهذا يُبيّن مدى المفارقة بين طريقة القرآن وطريقة المتكلمين في إثبات وجود الله تعالى.

ولقائل أن يقول: قلتم: إن مقدمات دليل الحدوث عند المتكلمين صحيحة، وأنها تُوصل إلى إثبات وجود الله تعالى، فما الفرق بين طريقتهم وطريقة السلف في إثبات وجود الله تعالى؟ والجواب: أن علماء السلف يرون أن حدوث العالم أمر مشاهد لا يحتاج إلى دليل الجواهر والأعراض، الذي كان من جنايته رد النصوص المحكمة، فالسلف أثبتوا وجود الله تعالى بالمشاهدة. فالعالم فيه حوادث كثيرة، فنحن نشاهد نزول الأمطار، وإنبات الأشجار، وولادة الحيوانات وموتها، كل هذه الأمور حادثة ممكنة ليست واجبة، فإذا نظر العقل لهذه الأمور الحادثة الممكنة، قرر أن لها مُحدِثا فاعلا مختارا، وهو الله تعالى.

ومما يرد كلام القائلين بقدم العالم، ما يُعرف بنظرية الانفجار العظيم الذي يُثبته بعض العلماء، فهي تُؤكد أن العالم حادث وليس قديما كما يزعم الفلاسفة وينصر هذه المقالة، وهي حدوث العالم، كيف لا، ونحن نشاهد حدوثه وإمكانه، فهو ليس واجبا، بل حادث ليس بقديم، وهو محتاج إلى خالق يُوجده، وهو الله تعالى.

فهذا هو الدليل الذي يذكره علماء السلف يمتاز باليسر والسهولة، بخلاف دليل المتكلمين الذي يتسم بالتعقيد والصعوبة، ومما يُبيّن ذلك ويدل عليه: أن المتكلمين استندوا لإثبات المقدمة الأولى، وهي (أن العالم حادث) إلى خمسة أمور ذكرها الجويني في كتابه الإرشاد (23) وذكرها غيره، وهذه الأمور التي تحتاج لإثبات هي: (إثبات الأعراض – إثبات حدثها – إثبات استحالة تعري الجواهر عن الأعراض- إثبات استحالة حوادث لا أول لها – إثبات أن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث)، وكل واحد من هذه الأمور بحاجة إلى دليل لإثباته، ثم بعد ذلك يقيمون الدليل على إثبات صحة المقدمة الثانية، وهي ( كل حادث لا بد له من محدث) وبعد ذلك تكون المقدمة الثالثة: إذا تبين افتقار المحدَث إلى محدِثٍ رجح وجوده على عدمه، فهذا المحدِث لا بد أن يكون فاعلا مختارا، ليس بعلة ولا طبيعة. فهذا هو الدليل الذي يُثبتون به وجود الله تعالى، ويُوجبون على المكلف إثبات الله تعالى عن طريقه.

فهذا الدليل صعب التصور؛ فإن المستدَل عليه وهو إثبات وجود الله تعالى أوضح وأبين من ذات الدليل، فضلا عن جناية هذا الدليل على النصوص بالرد والتأويل.

ومما يعيب هذه الطريقة:

1- أنها مباينة لطريقة السلف، وفي هذا يقول الإمام السمعاني في كتابه الانتصار لأهل الحديث (60):” وعلى أننا لا ننكر النظر قدر ما ورد به الكتاب والسنة لينال المؤمن بذلك زيادة اليقين وثلج الصدر وسكون القلب وإنما أنكرنا طريقة أهل الكلام فيما أسسوا فإنهم قالوا أول ما يجب على الإنسان النظر المؤدي إلى معرفة الباري عز وجل وهذا قول مخترع لم يسبقهم إليه أحد من السلف وأئمة الدين ولو أنك تدبرت جميع أقوالهم وكتبهم لم تجد هذا في شيء منها لا منقولا من النبي صلى الله عليه وسلم ولا من الصحابة وكذلك من التابعين بعدهم.” وقال أيضا في الكتاب ذاته (71) ” وإذا كان الأمر على ما قلناه وقد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعهم في هذه الأمور إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر وذكر ماهيتهما ولا يمكن لأحد من الناس أن يروي في ذلك عنه ولا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم من هذا النمط حرفا واحدا فما فوقه لا في طريق تواتر ولا آحاد فعلمنا أنهم ذهبوا خلاف مذهب هؤلاء وسلكوا غير طريقهم وأن هذا طريق محدث مخترع لم يكن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه رضي الله عنهم وسلوكه يعود عليهم بالطعن والقدح ونسبتهم إلى الجهل وقلة العلم في الدين واشتباه الطريق عليهم.”.

2- أن أصل هذه الطريقة مأخوذة عن المعتزلة، وفي ذلك يقول أبو جعفر السمناني نقله الحافظ ابن حجر عنه في فتح الباري (13/349):” وقد وافق أبو جعفر السمناني وهو من رؤوس الأشاعرة على هذا وقال إن هذه المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة وتفرع عليها أن الواجب على كل أحد معرفة الله بالأدلة الدالة عليه وأنه لا يكفي التقليد في ذلك.”.

3- أن فيها اضطرابا عند المتكلمين، ولذلك لم يسقها بعضهم، بل نازعهم فيها غيرهم. وقد ذكر شيخ الإسلام سبب عدم سوق الأصبهاني دليل الحدوث عند المتكلمين، فقال في شرحه لعقيدته (1/366):” وها المصنف لم يذكر حدوث العالم في هذه العقيدة؛ وكأن ذلك لما رأى فيها من الاضطراب، لا سيما فيما عنده من طريقة الرازي وأمثاله؛ فإن كلامهم فيها يوجب الحيرة والشك. أو لاعتقاده أن ما ذكره من الطريق إلى إثبات الصانع لا يحتاج إلى إثبات حدوث العالم؛ فيمكن مع ذلك العلم به من جهة السمع، كما يقول ذلك طوائف من النظار، كما هو قول الرازي وغيره.”.

4- ما ترتب عليها من لوازم باطلة، وقد ذكر شيخ الإسلام شيئا منها، فقال في شرح العقيدة الأصبهانية (1/370):” وهؤلاء أخطؤوا من وجوه: منها: دعواهم أن الرب تعالى لا يعرف إلا بهذه الطريقة. ومنها: دعواهم أنها أول واجب على العباد. ومنها: التزامهم للوازمها؛ كنفي الصفات والأفعال، أو رؤية الله، أو غير ذلك من اللوازم المبسوطة في غير هذا الموضع.”.

وأما المقدمة الثالثة: وهي أن العالم لا بد له من محدِث أحدثه، وهو الله تعالى، فالمحدِث فاعل مختار، لا علة ولا طبيعة، فهذا مما لا خلاف فيه، ويردون به على الفلاسفة الذين يقولون بأنه علة أو طبيعة.

ومعلوم أن العلة يجب تقارن معلولها، والعلة إما أن تكون قديمة أو حادثة، فإن كانت قديمة لزم قدم المعلول وهو العالم، والشأن أن العالم حادث ليس بقديم، وإن كانت حادثة افتقرت إلى محدِث، وهذا يُؤدي إلى التسلسل الممتنع.

وأما الطبيعة فلا اختيار لها، فهي تفعل بطبيعة فيها، ولذلك لا تُميز بين شيء وآخر؛ كالنار، من طبعها الإحراق، فإحراقها طبيعة؛ لأنها تحرق كل شيء يلامسها ولا تُميز بين أن يكون الملامس قرآنا أو كتاب كفر، ولا تُميز بين صغير وكبير، ولا بين ثمين وغير ثمين، بل تحرق الجميع؛ لأن طبعها الإحراق، وهكذا الماء، فإن طبعه الإرواء، ولا يُميز بين شخص وآخر.

ولكن حين تنظر إلى الكون تجد فيه التمييز والتخصيص؛ ليل ونهار، شمس وقمر، ذكر وأنثى، صغير وكبير، وهذا التمييز والتخصيص لا يمكن أن ينتج عن طبيعة، بل عن فاعل مختار، هو الله تعالى.

والمقصود: أن طريقة المتكلمين في إثبات وجود الله تعالى مع صعوبتها، أنتجت قانونا ظنوا أنه بديهي، وجعلوه حاكما على النصوص، فردوا كثيرا منها؛ زعما أنها تتعارض مع هذا القانون.

فالقانون ينص: على أن الجسم لا يخلو من الأعراض، والأعراض حادثة، وما لا يخلو من الأعراض فهو حادث، فالأجسام حادثة ليست قديمة.

ونقصد بالقانون: هو قولهم: (ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث) فجعلوه مسألة يقينة مقطوع بها، وبها حكموا على نصوص الوحي من القرآن والسنة، فمنعوا كثيرا من الصفات الفعلية والاختيارية، وأنها تقوم بالله تعالى.

وتطبيق القانون على وجه الإجمال: كان هذا القانون مسلطا على نصوص الصفات الاختيارية والخبرية؛ فجعلوا أي صفة يلزم منها الجسمية، كاليد، والعين، والمجيء، والنزول، والكلام بحرف وصوت، مردودة حتى لا يُقال: إن الله تعالى حادث، وهذا كلام باطل لا دليل عليه.

إذن: فمنعوا اتصاف الله تعالى بأي صفة فيها حدوث؛ كالاستواء كان بعد خلق السموات والأرض فيمنعونه؛ لأنه حدوث عندهم يُخالف قاعدتهم ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث. وكذا في بقية الصفات التي تدل على الحدوث؛ كصفة المجيء والنزول والكلام بحرف وصوت، نفوها عن الله تعالى، ومنعوا قيامها به تعالى؛ لأنها تخالف قانونهم العقلي وهو: ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث.

وهذا الدليل العقلي، هو مقصودهم في القانون الكلي المُستحدث في تعارض العقل والنقل، فيقصدون هذا العقل لا مطلق العقل، وهذا الدليل لا مطلق دليل، وهو دليل حدوث العالم الذي أثبتوا به حدوث العالم، فأساس الرسالة عندهم هو هذا الدليل، فأرادوا بالعقل: دليل حدوث العالم الموصل لإثبات وجود الله تعالى، وأرادوا بالنقل: النصوص الواردة في الصفات، من النزول، والمجيء، والإتيان، والكلام بحرف وصوت، وغيرها، فهي بحاجة إلى تأويل حسب زعمهم.

أما منهج السلف، منهج أهل السنة والجماعة، فأثبتوا حدوث العالم بالمشاهدة، فصارت النتيجة التي توصلوا إليها المتكلمون في دليلهم، وهي: أن الحادث لا بد له من محدِث، هي قضية ضرورية بدهية من مقتضيات العقل عند أهل السنة والجماعة.

وهذا هو الفارق الجوهري بين منهج السلف ومنهج المتكلمين في هذا الباب: أن السلف يُثبتون وجود الله تعالى بالحدوث والمشاهدة؛ بنزول الأمطار، وإنبات الأشجار، ومشاهدة الحياة والموت، كلها ممكنات حادثة، بحاجة إلى مدبر حكيم عليم، والقرآن كثيرا ما يُشير إلى دليل الخلق والعناية، وهو من أقوى الأدلة الجالبة لمعرفة الله تعالى.

والخلاصة: أن أهل السنة يرون بساطة الاستدلال على وجود الله تعالى، في حين أن المتكلمين جعلوها مسألة معقدة، سلكوا في إثباته طرقا طويلة صعبة عَسِرة، تحوي مقدمات كثيرة. فضلا عن كونها طريقة مبتدعة لم تُعرف عن سلف هذه الأمة، ولذلك جرى نكير السلف على ذم هذا الكلام، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في شرحه لعقيدة الأصبهاني (1/371):” وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام، أن الرسول لم يدع أحدا بهذه الطريق، فضلا عن أن يوجبها على كل مكلف، ولا سلك هذه أحد من الصحابة، بل لما أحدثها من أحدثها من أهل الكلام، تطابقت أئمة الإسلام على ذم هذا الكلام.”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

[1] – ولذلك وكان سفيان بن عيينة كثيرًا ما يتمثل بقول القائل: (إذ المرء كانت له فكرة… ففي كل شيء له عبرة)، وورد عن ابن عباس قوله:” تفكروا في كل شيء، ولا تفكروا في ذات الله” قال الحافظ الذهبي في كتابه العرش (2/171) بعد أن ساق هذا الأثر:” رواه البيهقي في الصفات، وأبو الشيخ الأصبهاني في كتاب العظمة وغيرهما بإسناد حسن عنه”، وأورده ابن حجر في فتح الباري (13/383) وقال: “موقوف وإسناده جيد”. ” فالحازم لا يترك مسارح النظر ترقد ولا تكرى إلا وهو يقظان الفكر، نهار يحول، وليل يزول، وشمس تجري، وقمر يسري، وسحاب مكفهر، وبحر مستطر، وخلق تمور، ووالد يتلف، وولد يخلف، ما خلق الله هذا باطلا، وأن بعد ذلك أثوابا وأحقابا، وحشرا ونشرا، وثوابا وعقابا.” فيض القدير (3/263).

التعليقات مغلقة.

جديد سلف

القول بالصرفة في إعجاز القرآن بين المؤيدين والمعارضين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ الآياتِ الدالةَ على نبوّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم كثيرة كثرةَ حاجة الناس لمعرفة ذلك المطلَب الجليل، ثم إن القرآن الكريم هو أجلّ تلك الآيات، فهو معجزة النبي صلى الله عليه وسلم المستمرّة على تعاقُب الأزمان، وقد تعدَّدت أوجه إعجازه في ألفاظه ومعانيه، ومع ما بذله المسلمون […]

الطاقة الكونية مفهومها – أصولها الفلسفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة تمهيد: إن الله عز وجل خلق الإنسان، وفطره على التوحيد، وجعل في قلبه حبًّا وميلًا لعبادته سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]، قال السعدي رحمه الله: […]

موقف الليبرالية من أصول الأخلاق

مقدمة: تتميَّز الرؤية الإسلامية للأخلاق بارتكازها على قاعدة مهمة تتمثل في ثبات المبادئ الأخلاقية وتغير المظاهر السلوكية، فالأخلاق محكومة بمعيار رباني ثابت يحدد مسارها، ويمنع تغيرها وتبدلها تبعًا لتغير المزاج البشري، فحسنها ثابت الحسن أبدًا، وقبيحها ثابت القبح أبدًا، إذ هي تحمل صفات ثابتة في ذاتها تتميز من خلالها مدحًا أو ذمًّا خيرًا أو شرًّا([1]). […]

حجاب الله تعالى -دراسة عقدية-

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: معرفة الله سبحانه وتعالى هي قوت القلوب، ومحفِّزها نحو الترقِّي في مقامات العبودية، وكلما عرف الإنسان ربَّه اقترب إليه وأحبَّه، والقلبُ إذا لم تحرِّكه معرفةُ الله حقَّ المعرفة فإنه يعطب في الطريق، ويستحوذ عليه الكسل والانحراف ولو بعد حين، وكلما كان الإنسان بربه أعرف كان له أخشى […]

ترجمة الشَّيخ د. عبد الله بن محمد الطريقي “‏‏أستاذ الفقه الطبي والتاريخ الحنبلي” (1366-1446هـ/ 1947-2024م)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   اسمه ونسبه([1]): هو الشيخ الأستاذ الدكتور عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد المحسن بن عبد الله بن حمود بن محمد الطريقي، الودعاني الدوسري نسبًا. مولده: كان مسقط رأسه في الديار النجدية بالمملكة العربية السعودية، وتحديدا في ناحية الروضة الواقعة جنوبي البلدة (العَقْدَة) -ويمكن القول بأنه حي من […]

ضبط السنة التشريعية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: السنة النبوية لها مكانة رفيعة في التشريع الإسلامي، فهي المصدر الثاني بعد القرآن الكريم، وهي التطبيق العملي لما جاء فيه، كما أنها تبيّن معانيه وتوضّح مقاصده. وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة تأمر بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بسنته، وتحذّر من مخالفته أو تغيير سنته، وتؤكد أن […]

القواعد الأصولية لفهم إطلاقات السلف والتوفيق بينها وبين تطبيقاتهم العملية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: تُعدّ مسألة التعامل مع أقوال السلَف الصالح من أهمّ القضايا التي أُثيرت في سياق دراسة الفكر الإسلامي، خاصةً في موضوع التكفير والتبديع والأحكام الشرعية المتعلقة بهما؛ وذلك لارتباطها الوثيق بالحكم على الأفراد والمجتمعات بالانحراف عن الدين، مما يترتب عليه آثار جسيمة على المستوى الفردي والجماعي. وقد تعامل العلماء […]

التدرج في تطبيق الشريعة.. ضوابط وتطبيقات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس الناس بالقسط، قال تعالى: ﴿‌لَقَدۡ ‌أَرۡسَلۡنَا ‌رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِ﴾ [الحديد: 25] أي: “ليعمل الناس بينهم بالعدل”[1]. والكتاب هو النقل المُصَدَّق، والميزان هو: “العدل. قاله مجاهد وقتادة وغيرهما”[2]، أو “ما يعرف به العدل”[3]. وهذا […]

تأطير المسائل العقدية وبيان مراتبها وتعدّد أحكامها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إنَّ علمَ العقيدة يُعدُّ من أهم العلوم الإسلامية التي ينبغي أن تُعنى بالبحث والتحرير، وقد شهدت الساحة العلمية في العقود الأخيرة تزايدًا في الاهتمام بمسائل العقيدة، إلا أن هذا الاهتمام لم يكن دائمًا مصحوبًا بالتحقيق العلمي المنهجي، مما أدى إلى تداخل المفاهيم وغموض الأحكام؛ فاختلطت القضايا الجوهرية مع […]

توظيف التاريخ في تعزيز مسائل العقيدة والحاضر العقدي

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إنَّ دراسةَ التاريخ الإسلاميِّ ليست مجرَّدَ استعراضٍ للأحداث ومراحل التطور؛ بل هي رحلة فكرية وروحية تستكشف أعماقَ العقيدة وتجلّياتها في حياة الأمة، فإنَّ التاريخ الإسلاميَّ يحمل بين طياته دروسًا وعبرًا نادرة، تمثل نورًا يُضيء الدروب ويعزز الإيمان في قلوب المؤمنين. وقد اهتم القرآن الكريم بمسألة التاريخ اهتمامًا بالغًا […]

تصفيد الشياطين في رمضان (كشف المعنى، وبحثٌ في المعارضات)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  تمهيد يشكِّل النصُّ الشرعي في المنظومة الفكرية الإسلامية مرتكزًا أساسيًّا للتشريع وبناء التصورات العقدية، إلا أن بعض الاتجاهات الفكرية الحديثة -ولا سيما تلك المتبنِّية للنزعة العقلانية- سعت إلى إخضاع النصوص الشرعية لمنطق النقد العقلي المجرد، محاولةً بذلك التوفيق بين النصوص الدينية وما تصفه بالواقع المادي أو مقتضيات المنطق الحديث، […]

رمضان مدرسة الأخلاق والسلوك

المقدمة: من أهم ما يختصّ به الدين الإسلامي عن غيره من الأديان والملل والنحل أنه دين كامل بعقيدته وشريعته وما فرضه من أخلاق وأحكام، وإلى جانب هذا الكمال نجد أنه يمتاز أيضا بالشمول والتكامل والتضافر بين كلياته وجزئياته؛ فهو يشمل العقائد والشرائع والأخلاق؛ ويشمل حاجات الروح والنفس وحاجات الجسد والجوارح، وينظم علاقات الإنسان كلها، وهو […]

مَن هُم أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَة؟

الحمدُ للهِ وكفَى، والصَّلاةُ والسَّلامُ على النبيِّ المصطفَى، وعلى آلِه وأصحابِه ومَن لهَدْيِهم اقْتفَى. أمَّا بَعدُ، فإنَّ مِن المعلومِ أنَّ النَّجاةَ والسَّعادةَ في الدُّنيا والآخِرَةِ مَنوطةٌ باتِّباعِ الحَقِّ وسُلوكِ طَريقةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَة؛ ولَمَّا أصْبحَ كلٌّ يَدَّعي أنَّه مِن أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَة، وقام أناسٌ يُطالِبون باستِردادِ هذا اللَّقبِ الشَّريفِ، زاعِمين أنَّه اختُطِفَ منهم منذُ قرون؛ […]

أثر ابن تيمية في مخالفيه

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: شيخ الإسلام ابن تيمية هو البحرُ من أيِّ النواحِي جِئتَه والبدرُ من أيّ الضَّواحِي أتيتَه جَرَتْ آباؤُه لشأْو ما قَنِعَ به، ولا وقفَ عنده طليحًا مريحًا من تَعَبِه، طلبًا لا يَرضَى بِغاية، ولا يُقضَى له بِنهايَة. رَضَعَ ثَدْيَ العلمِ مُنذُ فُطِم، وطَلعَ وجهُ الصباحِ ليُحاكِيَهُ فَلُطِم، وقَطَعَ الليلَ […]

عرض وتعريف بكتاب (نقض كتاب: مفهوم شرك العبادة لحاتم بن عارف العوني)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدّمة: إنَّ أعظمَ قضية جاءت بها الرسل جميعًا هي توحيد الله سبحانه وتعالى في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، حيث أُرسلت الرسل برسالة الإخلاص والتوحيد، وقد أكَّد الله عز وجل ذلك في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017