السبت - 23 شعبان 1446 هـ - 22 فبراير 2025 م

مفارقة الأشاعرة لمنهج أهل السنة والجماعة (3) نصيحة لطلاب العلم، ولمن لا يعرف جناية علم الكلام

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعد:

الذي بعثنا أن نتحدث عن الأشاعرة ومخالفتهم لأهل السنة والجماعة، أن بعضهم أراد أن يجعل الأشاعرة من أهل السنة والجماعة، وأن يُقلل من الخلاف الذي بين أهل السنة وبينهم، وأنه خلاف صوري ليس حقيقيًّا، ولا يلزم منه تبديعهم.

وهذا ما زعمه أحدهم مع أنه ممن يشتغل بعلم الحديث، وهذه مشكلة؛ فهو لا يدري عن خطورة علم الكلام!

وعلم الكلام هو الذي حذّرَ منه أهل العلم، فقال الإمام الشافعي: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويُطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام.

فهذه عقوبتهم عند الإمام الشافعي.

وقال الإمام أحمد: لا يُفلح صاحب كلام أبدًا، ولا تكاد ترى أحدًا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل([1]).

وإمام الحرمين الجويني كان من علماء الكلام، إلا أنه تراجع في آخر حياته، وقال: قرأت خمسين ألفًا في خمسين ألف، وخضت في الذي نهى أهلُ الإسلام عنه، وحذّر من علم الكلام: ” إياكم وعلم الكلام”، وقد تمنى أن يموت على عقيدة عجائز نيسابور.

وجناية علم الكلام على أصحابه: أنه يبث الشكوك، ولذلك تمنى أن يموت على عقيدة العجائز، كما ورد عنه في سيرته.

وكذلك ما كان من الفخر الرازي: “قال ابن الصلاح: أخبرني القطب الطّوغاني مرّتين، أنه سمع فخر الدّين الرّازي يقول: يا ليتني لم أشتغل بعلم الكلام، وبكى”([2]

وإذا كان هؤلاء المتكلمون تراجعوا عن مذهبهم، فهذا الجويني في (رسالته النظامية) يمنع من التأويل، وقد كان قد أوجبه في (الإرشاد).

وكذلك أبو الحسن الأشعري الذي ينتسبون إليه يُقرر إثبات الصفات كما في كتابيه (الإبانة ومقالات الإسلاميين)، ويبين صحة مذهب أهل السنة والجماعة أهل الحديث بعد أن ذكر أقوال الناس وموقفهم من الصفات.

وبعد هذا تتعجب من بعض المنتسبين إلى الحديث، كيف يقلل من الخلاف بين أهل السنة وبين الأشاعرة، وهذا أمر جد عجيب وغريب!!

والمقصود: أن نربي الناس على تعظيم الكتاب والسنة وأخبار الله تعالى.

فأنت الآن بين مذاهب متعددة؛ فيما يجب لله وما يجوز وما يمتنع، فلاسفة ومتكلمون من معتزلة وأشاعرة، وبين كلام ربنا سبحانه وتعالى، فلا يمكن أن يتخيل إنسان مؤمن أن الله تعالى وهو الذي ينزه نفسه عن صفات النقص والعيوب، ويشتد نكيره تعالى على النصارى الذين نسبوا إليه الولد، واليهود الذين قالوا: (إن الله فقير ونحن أغنياء)، والذين قالوا:(يد الله مغلولة) فرد عليهم في القرآن، وبين ضلالهم فساد عقيدتهم.

وبهذا يتبين لنا أن القرآن لا يمكن أن يسكت عن صفات النقص، فلو كان وصف الله تعالى بما جاء في القرآن من الصفات التي لا يثبتها المتكلمون لا تليق بجلال الله تعالى وتستحيل في حقه لما ذكرها القرآن، والله تعالى أعلم بنفسه منا، والرسول عليه الصلاة والسلام أعلم بالله تعالى من الأشاعرة والمعتزلة.

وهذا الذي يجب أن يُربى الناس عليه، أن نقبل ما وصَفَ الله تعالى به نفسَه أو وصفَه به رسولُه؛ لأنه لا يمكن أن يصف الله تعالى نفسَه بصفات النقص والعيوب، قال تعالى:(سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين) فأوصاف الآخرين نزَّه الله تعالى نفسه عنها، وأثبت لنفسِه صفاته وأسماءه، وذكر صحة مذهب الأنبياء والرسل.

فهذا الذي ينبغي أن ندعو إليه ونربي الناس عليه، بأن نقبل أخبار الله تعالى، وقد تعبدنا الله تعالى بالقرآن وتدبره، فليس تدبره أن نؤوّله أو نردّه.

وخلاصة موقف المتكلمين من النصوص التي تتعلق بذات الله تعالى وصفاته التي لا يثبتونها: أنها إن جاءت في القرآن أوّلوها، وإن جاءت في السنة ردّوها، بحجة أنها من أخبار الآحاد، وهذا شيء مشهور عنهم. وهذا منهج باطل غير مقبول.

 

ولذلك تراجع طائفة من المتكلمين كالجويني حيث نص على هذا، ودعوا الناس إلى قبول ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

وإذا اشتبه على الإنسان أمر، فليَكِل أمره إلى الله تعالى لكن لا يرده، ولا يدّعي أن ذلك مستحيلا في حقه تعالى. 

وعليه: فإنك لتعجب ممن ينتسب إلى أهل الحديث، ثم هو يهوّن من علم الكلام، ويهوّن من الخلاف الذي بين أهل السنة والحديث وبين الأشاعرة. وهذا إن كان عالمًا بذلك فهو يغشّ الناس، ويعطيهم عقائد فاسدة مُهلكة، وإلا فواجب طالب العلم أن يدعو الناس إلى ما ينجيهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الافتراق:(كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).

فعلى طالب العلم أن يبين للناس هذه الحقيقة، ومن خرج عن الكتاب والسنة وردّهما لا يكون من الفرقة الناجية، ولكن لا بأس بالتلطف واللين في البيان والنصح (وقولا له قولا لينا) هذا لا بأس به، لكن لا يقلل من هذا الخلاف ويجعله خلافًا صوريًّا أو اجتهادًا مقبولا؛ لأن الاجتهاد في مقابل النص غير مقبول أبدا، فإذا قال الله تعالى:(وكلم الله موسى تكليما) فيأتي متكلم ويقول: لا، الله لا يتكلم، وهذه صفة مستحيلة في حقه، فهذا كلامه ساقط وباطل.

وعندما يقول: (وجاء ربك والملك صفا صفا) ثم يأتي متكلم ويقول: لا، المجيء على الله مستحيل، فكيف صفة على الله تعالى مستحيلة يطلقها على نفسه.

فالمقصود: أنه يجب أن نربي الناس على أن معرفة الله تكون بالكتاب والسنة (وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) أي شيء يأتينا به الرسول صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، ونقابله بالقبول والتسليم، هذا الذي يجب أن نربي الناس عليه، ولا نقلل من شأن الكتاب والسنة. فالمتكلمون لهم جناية عندما قللوا من قيمة الكتاب والسنة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) جامع بيان العلم وفضله (2/942).

([2]) شذرات الذهب (7/41).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

موقف الإمامية الاثني عشرية من خالد بن الوليد -قراءة نقدية-

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إن الله أعزّ الأمة، ووجّهها نحو الطريق المستقيم، وفتح لها أبواب الخير بدين الإسلام، هذا الدين العظيم اصطفى الله له محمدَ بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، واصطفى له من بين أهل الأرض رجالًا عظماء صحبوه فأحسنوا الصحبة، وسخروا كل طاقاتهم في نشر دين الله مع نبي […]

التلازم بين العقيدة والشريعة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: من تأمل وتتبَّع أسفار العهدين القديم والحديث يدرك أنهما لا يتَّسمان بالشمول والكمال الذي يتَّسم به الوحي الإسلامي؛ ذلك أن الدين الإسلامي جاء كاملا شاملا للفكر والسلوك، وشاملا للعقيدة والشريعة والأخلاق، وإن شئت فقل: لأعمال القلوب وأعمال الجوارح واللسان، كما جاء شاملا لقول القلب واللسان، وهذا بخلاف غيره […]

إنكار ابن مسعود للمعوذتين لا طعن فيه في القرآن ولا في الصحابة

يعمد كثير من الملاحدة إلى إثارة التشكيك في الإسلام ومصادره، ليس تقويةً لإلحاده، ولكن محاولة لتضعيف الإسلام نفسه، ولا شك أن مثل هذا التشكيك فيه الكثير من النقاش حول قبوله من الملاحدة، أعني: أن الملحد لا يؤمن أساسًا بالنص القرآني ولا بالسنة النبوية، ومع ذلك فإنه في سبيل زرع التشكيك بالإسلام يستخدم هذه النصوص ضد […]

دعاوى المناوئين لفتاوى ابن باز وابن عثيمين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: تُثار بين الحين والآخر نقاشات حول فتاوى علماء العصر الحديث، ومن أبرز هؤلاء العلماء الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز والشيخ محمد بن صالح العثيمين. ويطغى على هذه النقاشات اتهام المخالف لهما بالتشدد والتطرف بل والتكفير، لا سيما فيما يتعلق بمواقفهما من المخالفين لهما في العقيدة […]

شبهات العقلانيين حول حديث “الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم” ومناقشتها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة    مقدمة: لا يزال العقلانيون يحكِّمون كلامَ الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم إلى عقولهم القاصرة، فينكِرون بذلك السنةَ النبوية ويردُّونها، ومن جملة تشغيباتهم في ذلك شبهاتُهم المثارَة حول حديث: «الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم» الذي يعتبرونه مجردَ مجاز أو رمزية للإشارة إلى سُرعة وقوع الإنسان في […]

البهائية.. عرض ونقد

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات بعد أن أتم الله تعالى عليه النعمة وأكمل له الملة، وأنزل عليه وهو قائم بعرفة يوم عرفة: {اليومَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ علَيْكُم نِعْمَتي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وهي الآية التي حسدتنا عليها اليهود كما في الصحيحين أنَّ […]

الصمت في التصوف: عبادة مبتدعة أم سلوك مشروع؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: الصوفية: جماعةٌ دينية لهم طريقةٌ مُعيَّنة تُعرف بالتصوّف، وقد مَرَّ التصوّف بمراحل، فأوَّل ما نشأ كان زُهدًا في الدنيا وانقطاعًا للعبادة، ثم تطوَّر شيئًا فشيئًا حتى صار إلحادًا وضلالًا، وقال أصحابه بالحلول ووحدة الوجود وإباحة المحرمات([1])، وبين هذا وذاك بدعٌ كثيرة في الاعتقاد والعمل والسلوك. وفي إطار تصدِّي […]

دفع مزاعم القبورية حول حديث: «اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»

مقدمة: من الفِرى ردُّ الأحاديث الصحيحة المتلقّاة بالقبول انتصارًا للأهواء والضلالات البدعية، وما من نصّ صحيح يسُدُّ ضلالًا إلا رُمِي بسهام النكارة أو الشذوذ ودعوى البطلان والوضع، فإن سلم منها سلّطت عليه سهام التأويل أو التحريف، لتسلم المزاعم وتنتفي معارضة الآراء المزعومة والمعتقدات. وليس هذا ببعيد عن حديث «‌اتخذوا ‌قبور ‌أنبيائهم»، فقد أثار أحدهم إشكالًا […]

استباحة المحرَّمات.. معناها وروافدها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: من أعظم البدع التي تهدم الإسلام بدعة استباحةُ الشريعة، واعتقاد جواز الخروج عنها، وقد ظهرت هذه البدعة قديمًا وحديثًا في أثواب شتى وعبر روافد ومصادر متعدِّدة، وكلها تؤدّي في نهايتها للتحلّل من الشريعة وعدم الخضوع لها. وانطلاقًا من واجب الدفاع عن أصول الإسلام وتقرير قواعده العظام الذي أخذه […]

الحالة السلفية في فكر الإمام أبي المعالي الجويني إمام الحرمين -أصول ومعالم-

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: من الأمور المحقَّقة عند الباحثين صحةُ حصول مراجعات فكرية حقيقية عند كبار المتكلمين المنسوبين إلى الأشعرية وغيرها، وقد وثِّقت تلك المراجعات في كتب التراجم والتاريخ، ونُقِلت عنهم في ذلك عبارات صريحة، بل قامت شواهد الواقع على ذلك عند ملاحظة ما ألَّفوه من مصنفات ومقارنتها، وتحقيق المتأخر منها والمتقدم، […]

أحوال السلف في شهر رجب

 مقدمة: إن الله تعالى خَلَقَ الخلق، واصطفى من خلقه ما يشاء، ففضّله على غيره، قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُ ‌وَيَخۡتَارُ﴾ [القصص: 68]. والمقصود بالاختيار: الاصطفاء بعد الخلق، فالخلق عامّ، والاصطفاء خاصّ[1]. ومن هذا تفضيله تعالى بعض الأزمان على بعض، كالأشهر الحرم، ورمضان، ويوم الجمعة، والعشر الأواخر من رمضان، وعشر ذي الحجة، وغير ذلك مما […]

هل يُمكِن الاستغناءُ عن النُّبوات ببدائلَ أُخرى كالعقل والضمير؟

مقدمة: هذه شبهة من الشبهات المثارة على النبوّات، وهي مَبنيَّة على سوء فَهمٍ لطبيعة النُّبوة، ولوظيفتها الأساسية، وكشف هذه الشُّبهة يحتاج إلى تَجْلية أوجه الاحتياج إلى النُّبوة والوحي. وحاصل هذه الشبهة: أنَّ البَشَر ليسوا في حاجة إلى النُّبوة في إصلاح حالهم وعَلاقتهم مع الله، ويُمكِن تحقيقُ أعلى مراتب الصلاح والاستقامة من غير أنْ يَنزِل إليهم […]

الصوفية وعجز الإفصاح ..الغموض والكتمان نموذجا

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  توطئة: تتجلى ظاهرة الغموض والكتمان في الفكر الصوفي من خلال مفهوم الظاهر والباطن، ويرى الصوفية أن علم الباطن هو أرقى مراتب المعرفة، إذ يستند إلى تأويلات عميقة -فيما يزعمون- للنصوص الدينية، مما يتيح لهم تفسير القرآن والحديث بطرق تتناغم مع معتقداتهم الفاسدة، حيث يدّعون أن الأئمة والأولياء هم الوحيدون […]

القيادة والتنمية عند أتباع السلف الصالح الأمير عبد الله بن طاهر أمير خراسان وما وراء النهر أنموذجا (182-230ه/ 798-845م)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  المقدمة: كنتُ أقرأ قصةَ الإمام إسحاق بن راهويه -رحمه الله- عندما عرض كتاب (التاريخ الكبير) للإمام البخاري -رحمه الله- على الأمير عبد الله بن طاهر، وقال له: (ألا أريك سحرًا؟!)، وكنت أتساءل: لماذا يعرض كتابًا متخصِّصًا في علم الرجال على الأمير؟ وهل عند الأمير من الوقت للاطّلاع على الكتب، […]

دعوى غلو النجديين وخروجهم عن سنن العلماء

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: تكثر الدعاوى حول الدعوة النجدية، وتكثر الأوهام حول طريقتهم سواء من المخالفين أو حتى من بعض الموافقين الذين دخلت عليهم بعض شُبه الخصوم، وزاد الطين بلة انتسابُ كثير من الجهال والغلاة إلى طريقة الدعوة النجدية، ووظفوا بعض عباراتهم -والتي لا يحفظون غيرها- فشطوا في التكفير بغير حق، وأساؤوا […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017