دعاوى المابعدية ومُتكلِّمة التيميَّة ..حول التراث التيمي وشروح المعاصرين
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
في السنوات الأخيرة الماضية وإزاء الانفتاح الحاصل على منصات التواصل الاجتماعي والتلاقح الفكري بين المدارس أُفرِز ما يُمكن أن نسمِّيه حراكًا معرفيًّا يقوم على التنقيح وعدم الجمود والتقليد، أبان هذا الحراك عن جانبه الإيجابي من نهضة علمية ونموّ معرفي أدى إلى انشغال الشباب بالعلوم الشرعية والتأصيل المدرسي وعلوم الآلة، والحث على أخذ العلم عن المتخصّصين، وانتشر أثر ذلك جليًّا، وانتشرت أيضًا القراءة والثقافة بين الشباب السلفي.
وهذه كلها جوانب إيجابيّة لا يُمكن لمنصفٍ إنكارُها، إلا أن هذا التجديد والحراك أبان أيضًا عن قصور وجوانبَ سلبية، فهذه الصحوة العلمية المعاصرة نراها ما زالت في طور التكوين ولمَّا تبلغ درجة النضوج؛ وذلك لأن الانفتاح غير المنضبط على جميع العلوم والآراء دون مرشد وموِّجه سيؤدّي إلى خللٍ علميّ منهجي.
وبفقدان أهل العلم مكانتَهم في قلوب الشباب فقدوا دورَ المُرشد والمربّي، واستبدلوهم باتجاهات بديلة على الساحة العلمية، هذه الاتجاهات كانت ردودَ أفعال مُقابلة لجمود بعض القيادات العلمية قديمًا:
1- فاتجاه غالى في التمذهب كردّ فعل لفقه الدليل.
2- واتجاه آخر غالى في علوم المنطق والكلام وأوجبها على طلاب العلم.
3- واتجاه ثالث غالى في الاستشراق والثقافة المادية.
وكل هذه الإفرازات تحتاج إلى ضبط وتهذيب لينتفع الشباب بهذا الحراك والصحوة العلمية المعاصرة.
وفي هذا البحث نستعرض بعض إشكالاتهم، لا سيما الاتجاه المشتغل بالمساق الفلسفي والكلامي، الذي يمثّله بعض السلفيين ممن كانوا قد حضروا في السابق دروس الأشاعرة والشيعة في علم المنطق والفلسفة، وسمعوا ما يجهلونه، فأورثهم ذلك انبهارًا بعلوم الفلاسفة من جهة، وعقدة نقص من جهةٍ أخرى. والإنسان دائمًا يروم الغريبَ منَ القول، وإذا ما صادف مُبهمَ الكلام وغريبَه عظُمَ ذلك في نفسه، فرجعوا على السلفيين بالردّ والنقد، حتى أصبحوا مجرّدَ ردّ فعلٍ لأخطاء عوامّ السلفيين وشيوخ الدعاة قديمًا، تلك الأخطاء التي عمّموها على المنهج السلفي وعلمائه الكبار، ممن هم بعيدون كلَّ البعد عن هذه الجهالات.
فبدؤوا أولًا بزعزعة الثقة بالعلماء، وتحذير الشباب من الوثوق بعلمهم، ومن الاعتماد على شروحهم، ثم بعد ذلك تدرَّجوا حتى زعموا عدمَ الاعتماد على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية نفسه؛ لأنها كتب لم يتخرّج بها العلماء، وليست من كتب الدرس عند المتأخرين.
ومُلخص دعوتهم: ألا يبدأ طالب العلم بكتب ابن تيمية، بل يبدأ بالسنوسيات والجوهرة، ثم يترقى إلى كتب الفلسفة والمنطق.
وما إن يسمعوا من ينصح بكتب ابن تيمية حتى ينبري مدعو الإنصاف من هؤلاء ويضعون أمام الطالب المتاريس التي ينبغي عليه تجاوزها أولًا ليصل إلى كتب الشيخ، وهي أن يأتي على تصانيف المُتكلمين والفلاسفة ومذاهبهم من أولها إلى آخرها، ويظل يدرس الحكمة والمنطق وعلم الكلام مُدة تؤهّله لفهم الرازي وابن سينا، ووقتها فقط سيكون مؤهلًا لقراءة كتب ابن تيمية!
وسنورد ما طرحوه من إشكاليات مشفوعة بالجواب عنها، وبيان ما فيها من مغالطات:
المغالطة الأولى: طالب العلم لن يفهم تراث ابن تيمية إلا إذا درس علم الكلام والفلسفة والمنطق دراسة طويلة تؤهِّله إلى أن يفهم كلام الرازي وابن سينا وغيره من الفلاسفة:
والجواب عن ذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن هذا الكلام مُخالف لمنهجية الأشاعرة -ممن يريد المُخالف اتباعهم في طريقة تعلُّمهم- فقد اشترطوا ألا يدرس الطالب تلك العلوم إلا إذا تأهّل وأصبح فقيهًا عالمًا في العلم الشرعي، قد حفظ القرآن وتفسيره، وحفظ الحديث النبوي على طريقة المُحدثين.
يقول تاج الدين السبكي: “فالحذر الحذر منهم، وقد أفتى جماعة من أئمتنا ومشيختنا ومشيخة مشيختنا بتحريم الاشتغال بالفلسفة. وأما المنطق فقد ذكرنا كلام الأئمة وكلام الإمام فيه في أوائل شرح مختصر ابن الحاجب. والذي نقوله نحن: أنه حرام على من لم ترسخ قواعد الشريعة في قلبه، ويمتلئ جوفه من عظمة هذا النبي الكريم وشرعته ويحفظ الكتاب العزيز، وشيئًا كثيرًا جدًّا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم على طريقة المحدثين، ويعرف من فروع الفقه ما يُسمَّى به فقيهًا مفتيًا مُشارًا إليه من أهل مذهبه.. وأما من وصل إلى هذا المقام فله النظر فيها للرد على أهلها”([1]).
فالسبكي يشترط بلوغَ الإنسان درجة العالم إلى أن يُصبح فقيهًا يُشار إليه بالبنان. وهؤلاء يريدون لطُلاب العلم أن يبدؤوا بهذه العلوم أولا، ولو قلنا: إنه لا يلج الشريعة وعلوم الفقه إلا أن يفهم المنطق للزم منه الدور، فتأمل.
ولقد ذكر التاج السبكي في ترجمة شارح (المحصول) إمام المنطق والحكمة والكلام شمس الدين الأصبهاني قال: “وكان من دينه أنّ الطالب إذا أراد أن يقرأ عليه الفلسفة ينهاه، ويقول: لا، حتى تمتزج بالشرعيات امتزاجًا حقيقيًّا جيّدًا، فللَّه درُّه”([2]).
ويؤكّد ذلك قول ابن تغري بردي في ترجمة هبة الله الإسنائي: قال كمال الدين الإدفوي: قال لي -أي الإسنائي-: أردت أن أقرأ على الشيخ شمس الدين الأصبهاني فلسفة، فقال: حتى تمتزج بالشرعيات امتزاجًا جيّدًا([3]).
الوجه الثاني:
وقع المعترض في مغالطة التركيب المنطقية عندما استنتج صحَّة أمر ما اعتمادًا على صحة جزء منه؛ ذلك لأن وجود بعض الردود الفلسفية هي جزء من تصانيف ابن تيمية، ولا يعني ذلك أن كلّ كتابات ابن تيمية كذلك، ومعلوم أن لكل عالم مقامات في الكتب، فمقام (المغني) لابن قدامة يختلف عن مقام (الكافي)، ومقام (الكافي) يختلف عن مقام (المقنع) و(العمدة) وهكذا، ولا يُقال: إنك لن تفهم ابن قدامة إلا إذا بلغت مرتبة (المغني).
ثم العجيب أن يقال: (لا تبدأ بالواسطية؛ لأن ابن تيمية كتبها وعينه على المتكلّمين والفلاسفة)، والأعجب أن هذا الكلام العجيب يدَّعيه من يدَّعي علم المنطق والكلام.
وقد صدق السيوطي إذ يقول: “والعجب أنهم يناضلون عن المنطق ولا يتقنونه، ويدأبون فيه وفي أبحاثهم لا يستعملونه، فيخبطون فيه خبط عشواء، ولا يهتدون عند المناظرة والاستدلال إلا عمياء”([4]).
ومقتضى هذا الكلام أيضًا ألا يبدأ طالب العلم بالقرآن؛ لأنه يقرر التوحيد بنقض عقائد اليهود والنصارى والثنوية والمجوس والصابئة، بل يجب عليه أن يدرس عقائد هؤلاء وغيرهم؛ لأن مادة تقرير الألوهية في القرآن جاءت بنقض عقائدهم في المقام الأول.
وعليه -وبمقتضى كلامهم- فإن المسلم لن يفهم القرآن الكريم وما جاء به من توحيد إلا إذا يتمكن من عقائد هذه الأديان التي نقضها القرآن، وهذا لم يقل به عالمٌ قطّ. نعم، قد يُمدح العالم المُتخصِّص إذا استزاد في معرفة كلام أهل الأديان من أجل نقضها، لكن هذه الاستزادة تكون في مرحلةٍ متقدِّمة، وليست ضرورية ولا واجبة في حقِّ كل العلماء، فضلًا عن عامة المُتعلِّمين.
وإذا كان على المرء أن يدرس المنطق والفلسفة والحكمة، فهذا معناه أن الإنسان يقضي عمره أولًا في ذلك حتى يبدأ بالواسطية، فمتى يعرف العقيدة الصحيحة إذن؟! وهل الذي يدرس هذه العلوم مدة طويلة، ويتشرب بها لحمه ودمه، ثم يفتح الواسطية بعدها، هل تُراه يقتنع بمذهب أهل السُنة في النهاية، أم سيعلُق في رأسه شبهات لا يمكنه التخلُّص منها؟!
والصواب أن يُقال: لا يُصبح العالم مُتخصِّصًا ومتمكّنًا تمام التمكن من دقائق العقائد ومسالك ابن تيمية في كتبه الكلامية إلا أن يدرس الفلسفة وعلم الكلام في (مرحلة التخصّص) بعد تشرّبه بالقرآن والسنة، لكن هذا -وإن كان حسنًا- إلا أنه لا يتوقّف عليه فهمه لذات العلم وأصله وزبدته.
الوجه الثالث: أن كلام المعترض فيه حقّ وباطل، فصحيح أنَّ ابن تيمية خاضَ في دقائق فلسفية، لكن هذا كان في معرض السبر والتتبّع للفرق والمذاهب، لا في مناقشة أصل القضية بأدلتها، بمعنى أن ابن تيمية بعد أن يناقش قضيةً كليةً مثل بطلان قِدم شيء من العالم مثلًا، ويأتي بالأدلة العقلية والنقلية عليها، ثم يُبطل قول الفلاسفة وأدلتهم إجمالًا -وكل ما سبق يفهمه العالم المتوسِّط ومن فوقه- ثم تأتي مرحلة السبر والتتبع للفلاسفة واحدًا تِلو الآخر، وقد يُفكّك كلامهم، وهنا يأتي دور المتخصِّص في علوم الفلسفة والمنطق، ولا يضرّ العالم أو الفقيه الأصولي عدم إلمامه بمذهب فيلسوف بعينه في سياقات جزئية، بعد أن فهم القضيةَ الكليةَ بأدلَّتها. وإنما قد يُعنى بهذا المتخصِّصون في مجال الفرق والمذاهب.
وتلاميذ ابن تيمية لم يتوسَّعوا في سبر سياقات الفلاسفة، ومن نظر لتقرير ابن القيم وابن أبي العز سيجدهما مقتصدَين في هذه المسائل، ويكتفيان بمناقشة القضية الكلية بأدلتها، وإبطال قول المتكلمين إجمالًا، دون تتبَّعٍ وسبر لكلامهم -على أنهما أوعبُ من غيرهما من تلامذة الشيخ ممن لم يطرقوا هذه الأبواب رأسًا-.
والصواب هنا أن يُقال: لن تفهم بعضَ ردود ابن تيمية الجزئية على الفلاسفة في الخلاف العالي إلا إذا مررتَ على كلام الفلاسفة، وهو أمر لا تختصّ به ردود ابن تيمية وحدَه، بل هو جارٍ على جميع العلماء، فيُمكن أن يُقال أيضًا: لن تفهم ردود ابن رشد على الغزالي في (تهافت التهافت) إلا إذا قرأت (التهافت) للغزالي أولًا.
أما أن يُقال: إن طالب العلم لن يفهم كتبَ ابن تيمية بالكلية -بما فيها (الواسطية) و(الحموية) و(التدمرية) و(الأكمليَّة)- وغير ذلك دون أن يبلغ مرتبة ابن سينا في علم الفسلفة والرازي في علم الكلام، فهذه مغالطة مكشوفة.
المغالطة الثانية: رسائل ابن تيمية العقدية ليست من كتب الدرس الصناعي؛ لأنها لم تُكتب بطريقة مدرسية، ولا هي من الكتب التي شرحها المتأخرون:
وجواب ذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن هذه مجرد دعوى تفتقر إلى دليل، فرسالة (التدمرية) كُتبت بطريقة مدرسية عقلية، فانطبق عليها هذا الشرط وهو الترتيب الكلاميّ المدرسيّ، ولذلك اعتمد عليها عثمان بن قايد النجدي في الفصل الثالث من (نجاة الخلف)، ونقل قواعد توحيد الصفات من التدمرية بتمامها([5]).
وإن قصَد المعترضُ أن بعض رسائل الشيخ كـ(الواسطية) كُتبت بطريقة أثرية، ولم تُكتب على طريقة المتأخرين من علم الكلام ونحوه، فليس لابن تيمية خصوصية في ذلك، بل رسائل الاعتقاد لابن قدامة أيضًا على نفس النسق، مع ما لها من محلٍ وتعظيم عند المتأخرين.
ومما يدل على اعتماد رسائل ابن تيمية عند المتأخرين ما نقله عبد الله بن محمد العياشي الشافعي نقلًا عن شيخه الكوراني: “ولقد أطلعني بعض أصحابنا الحنابلة بالقاهرة على رسالة للشيخ ابن تَيميَّة، وهي معتمدة عند الحنابلة، فطالعتها كلها، فلم أر فيها شيئًا مما يُنبذ به ويُرمى به في العقائد”([6]).
وفيه أن الكوراني الشافعي نقل أن رسالة ابن تيمية معتمدة عند حنابلة تلك الحقبة، والرسالة هي (التدمرية) كما صرح الكوراني بنفسه، وذكر أنه اطلع على عدة رسائل غيرها منها (شرح حديث النزول)([7]).
ومن دلائل اعتماد التراث التيمي في الدرس العقدي ما نقله الأصوليون من تحقيقات ابن تيمية، ومن أمثلته: ما نقله المرداوي في كتابه (التحبير)، حيث نقل تسعة أقوال للمذاهب في صفة الكلام عن ابن تيمية، ثم قال: “التاسع: أن يقال: لم يزل الله متكلمًا إذا شاء، ومتى شاء، وكيف شاء، بكلام يقوم به، وهو يتكلَّم بصوت يُسمع، وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يكن الصوت المعين قديمًا، وهذا القول هو المأثور عن أئمة الحديث والسنَّة”. ثم يقول المرداوي تعليقًا على هذا القول التاسع: “ومن أعظم القائلين بهذا القول الأخير: الإمام أحمد؛ فإنه قال: لم يزل الله متكلمًا كيف شاء بلا تكييف، وفي لفظ: إذا شاء”([8]).
هذا مثال لاعتماد تأصيل كلامي عن ابن تيمية في مسألة من أعظم مسائل الأسماء والصفات وهي مسألة الأفعال الاختيارية (قدم نوع الكلام وحدوث الأفراد) التي تميِّز بها ابن تيمية عن الأشاعرة ومدرسة القاضي.
وقد تتابع الأصوليون الحنابلة على نقل هذا التحرير لصفة الكلام، فذكره ابن النجار الفتوحي في (الكوكب المنير)([9])، وذكره البعلي في (الذخر الحرير)([10])، واختاره ابن المبرد في (تحفة الوصول)([11]) ورد على مدرسة القاضي، واختاره من صنف في الاعتقاد استقلالًا كمرعي الكرمي([12])، وابن عبد الباقي([13]) وعثمان النجدي([14]) وغيرهم([15]).
ولا يخلو مبحث من مباحث كتاب (التحبير) إلا وينقل فيه المرداوي عن ابن تيمية إما مرجحًا قوله، وإما مُلفِّقًا قوله مع قول القاضي في قالب واحد -كما هي عادة الحنابلة التأخرين- دون تعقّب له.
فكيف يُقال بعد ذلك: إن كتب ابن تيمية العقدية ليست كتب درس، مع كون زبدتها مبثوثة في الكتب المدرسيِّة الحنبلية؟!
الوجه الثاني: القول بأنها لم تُشرح ولم تحظ باعتناء هو استقراءٌ ناقص، فقد شرح العلامة الطوفي (التائية) لابن تيمية في القدر، وشرح أحمد بن عبد الله المرداوي الحنبلي لامية ابن تيمية في العقيدة وأسماها (اللآلئ البهية)، واختصر الذهبي كتاب (منهاج السنة) لابن تيمية، واختصر ابن كثير كتاب (الاستغاثة).
ثم إنه لم تكن من عادة أهل تلك الأزمنة شرح كتب الاعتقاد -إلا ما ندر-؛ وذلك لأن كتب الاعتقاد واضحة في نفسها، ولا خصوصية لكتب ابن تيمية في ذلك، فلم يشرح الحنابلة أصول السنة للإمام أحمد، ولا شرح أئمة الدعوة النجدية قديمًا (الواسطية) لابن تيمية، ولا غيرها من كتبه، ولم يدل ذلك على أن (الواسطية) لم تكن معتمدةً لديهم.
وكذلك لم يشرح أحدٌ من السابقين رسائلَ ابن قدامة، كـ(اللمعة) و(ذم التأويل) و(الصراط المستقيم) ونحوها، ومع ذلك فمادة كتب ابن قدامة مبثوثة في الكتب الأصولية عند الحنابلة كما في (التحبير) للمرداوي و(الكوكب المنير) لابن النجار و(الزخر الحرير) للبعلي وغيرهم، كما أن مادة رسائل ابن تيمية مبثوثة أيضًا في كتبهم وبنسبة معيارية أكبر من نسبة ابن قدامة، فإذا لم تكن كتب ابن تيمية كتب درس فلماذا نقل عنها أصوليو الحنابلة؟!
الوجه الثالث: كتب الدرس تتغير بتغيُّر الزمان، بل بتغيُّر المكان، وهي من باب الوسائل التي توصل إلى المقصود، وليست من باب الغايات الثابتة التي لا تتغير، ولم يكن هناك كتب عقدية معتمدة اعتمادًا كليًّا عند الحنابلة، وحتى كتاب ابن حمدان (نهاية المبتدئين) لم يعوِّل عليه الحنابلة تعويلًا كلّيًّا، بل ضموا إليه رسائل ابن قدامة وابن تيمية وغيرهما، وبثوها في نظامٍ واحد في كتبهم الأصولية، وحتى من صنف في الاعتقاد استقلالًا من المتأخرين كابن عبد الباقي ومرعي الكرمي وعثمان النجدي والسفاريني يوردون كلام ابن تيمية جنبًا إلى جنب كلام مدرسة القاضي في قالبٍ واحد، والعجيب أن تجد من يشرح كلام القاضي بكلام ابن تيمية معارضًا له، ظنًا منه أنهما على مذهبٍ واحد، وهذه طريقة تلفيقيّة غير صحيحة، ولا أظنّ أن المُخالف يُعارضنا في خطأ تلك الطريقة؛ وذلك لأن ضبط مذهبٍ واحدٍ بأدلته أولى من تلفيقٍ بين مذهبين متعارضين باضطرابٍ ودون ضبط.
فلو اتفقنا على هذه المقدمة -أي: خطأ الطريقة المدرسية للمتأخرين- فسننتهي ولا بد إلى أن الأولى والأقرب للتدريس هو طريقة السلفية المعاصرة، أي: دراسة مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وتحقيقه وضبطه، ثم إذا أراد الطالب التوسع بعد ذلك كان في الأمر مندوحة.
فإذا قال المعترض: سلّمنا لكم اضطرابَ طريقة الحنابلة المتأخرين، إذن الحل أن يدرس الطالب الكلام والمنطق من الأشعرية بدلًا من مذهب الحنابلة المضطرب؛ لأن المذهب الأشعريّ مخدوم بالشروح والحواشي، وقد تلقّته الأمة بالقبول لقرون، فيجب احترام عمل الأمة.
والجواب على تلك المغالطة: أننا نقلنا نصوصًا عن علماء الأشاعرة (غير المتكلمين) -وهم جمهور الأشاعرة- تحريم ذلك لطالب العلم حتى يتمكَّن الطالب من علوم الإسلام، وحفظ كتب الحديث على طريقة المُحدثين، ويتمكّن من مذهب فقهي حتى يُصبح فقيهًا، ثم بعد ذلك إذا أراد التخصّص في علم الكلام والمنطق فلا يُمنع من ذلك -كما ذكر السُبكي وغيره-، وهذا القول لا يختلف كثيرًا عن قول السلفية المُعاصرة، بل هو أشدّ عند التأمُّل.
ويؤكد هذا القول الشيخ عليش المالكي قائلا: “وما ذَكَرَهَ من توقُّفِ العقائد عليه وتوقف إقامة الدين عليها (أي: دراسة المنطق والكلام) غيرُ صحيحٍ، وقد قال الغزالي في الإحياء: ذهب مالك والشافعي وأحمد وجميع أهل الحديث من السلف -رضي الله تعالى عنهم- إلى أن علم الكلام والجدل بدعةٌ وحرامٌ، وأن العبد أن يلقى اللهَ بكل ذنب خيرٌ من أن يلقاه بعلم الكلام”. ويُتابع الشيخ عليش تعليقًا: “ونهى عن قراءة المنطق الباجي وابنُ العربي وعياض. وقال الشاطبي في الموافقات في القضايا الشرعية: إن علم المنطق منافٍ لها؛ لأن الشريعة لم توضع إلا على الشريعة الأمّيّة. اهـ. وقال في الإحياء: معرفة الله سبحانه وتعالى لا تحصل من علم الكلام، بل يكاد الكلام يكون حجابًا عنها ومانعًا منها. وقال أيضا: ليس عند المُتكلّم من عقائد الدين إلا العقيدة التي يُشارك فيها العوامّ، وإنما يتميَّز عنهم بصنعة المُجادلة. وحينئذ فإن لم يكن المنطق منهيًّا عنه فلا أقلَّ أن يكون جائزًا كما اختاره ابن السبكي وغيره. وأما الوجوب فلا سبيل إليه والله أعلم”([16]).
وأما دراستهم الأولية للعقيدة -مع تحريمهم علم الكلام والنطق- فقد كانت دراسة لمتون عقدية مُيسَّرة كـ(الجوهرة) و(الخريدة) ونحوهما، وهي متون لا تُحقِّق مقصود المُخالف؛ إذ لا يُحقق فيها الطالب علم الكلام ولا الفلسفة ولا المنطق، بل هي من جنس دراسة السلفيين لـ(الواسطية) و(التدمرية) و(لمعة الاعتقاد) ونحو هذه الكتب.
المغالطة الثالثة: رسائل ابن تيمية العقدية عبارةٌ عن ردود أو فتاوى جاءت طلبًا من غيره، لذلك فهي تُمثل حالة انفعالية وليست حالة تأصيلية:
والجواب من وجوه:
الوجه الأول: أنّ أسبابَ التصنيف كثيرةٌ، ومن الأسباب الداعية للتصنيف أن يكون جوابًا عن سؤال، أو نقدًا وردًّا -وهو عُرف شائع عند العلماء-، وليس هذا بمسوِّغ أن يكون الكتاب مُهملًا في الدرس العقديّ، فكثير من المصنَّفات كتبها أصحابها لهذه العلّة.
فكتاب القاضي أبي يعلى (إبطال التأويلات) إنما كتبه ردًّا على كتاب أبي بكر بن فورك (تأويل الأخبار المتشابهة)، وله ردود كثيرة مثل (الرد على الكرامية) و(الرد على الأشعرية) و(الرد على السالمية)، فما الذي يجعل تصانيف ابن تيمية تمثل حالة انفعالية، وتصانيف القاضي ليست انفعالية؟!
وهذا أبو إسحاق الشيرازي الأشعري قد صنف كتابه (الإشارة إلى مذهب أهل الحق)، وهو من الكتب المُعتمدة والمُمثِّلة للمذهب الأشعري، وقد كتبه ردًّا على الحنابلة في اتهامهم إياهم بالتعطيل، فقال في سبب تصنيفه: “فإني لمَّا رأيتُ قومًا ينتحلون العلم ويُنسبون إليه، وهم من جهلهم لا يدرون ما هم عليه، ينسبون إلى أهل الحق ما لا يعتقدونه”([17]).
وأما ما صُنف جوابًا وطلبًا من الغير فمثاله (العين والأثر) لأبي المواهب ابن عبد الباقي، لما سأله أحد الشافعية -وهو إبراهيم الكوراني- عن ثلاثة أسئلة تتعلق بالمذهب العقدي عند الحنابلة، ثم أورد عليه إشكالات أجاب عنها ابن عبد الباقي في نهاية كتابه وسمّاها “تتمّات”.
قال ابن عبد الباقي في سبب تصنيفه: “قد طلب مني بعض الأصدقاء الذين لا تسعني مخالفتُهم أن أجمع مؤلفًا يشتمل على مقاصد ثلاث وتتمات خمس”([18]).
كذلك وسواء بسواء يُقال في (التدمرية) لابن تيمية، فقد سأله مشايخ من أهل تدمر كتابةَ مختصرٍ في مسائل التوحيد والصفات والشرع والقدر، فأملى عليهم (التدمرية)، وكذلك لما سأله القاضي رضيُّ الدين الواسطي كتابه عقيدة، فكتب له (الواسطية).
فما الذي يجعل عقيدة المواهبي معتمدةً مع كونها جاءت جوابًا وطلبًا من غيره، ورسائل ابن تيمية غير معتمدة مع أنها صُنفت لنفس العلة؟!
الوجه الثالث: أن ابن تيمية لم يردَّ إلا وهو يؤصِّل لمعمار مُقابل، ولم تكن ردوده ردودًا نثرية كما يدَّعي المخالف، ففي كتابه العظيم (درء تعارض العقل والنقل) تجد الكتاب تأصيليًّا في المقام الأول، فقد استفتح أبوابه الأولى بمقدماتٍ منطقية غاية في الدقة، في التأصيل لقانون شرعي سلفي يُقابل قانون المتكلمين، مفاده أن العقل الصريح يوافق النقل الصحيح.
وأما مناقشته للمتكلمين والفلاسفة في أثناء الكتاب فلا يجعل من الكتاب حالة انفعالية عند أهل الإنصاف، وإلا اعتبرنا كتب الرازي -هي الأخرى- حالة انفعالية، فإن طريقة الرازي في معظم كتبه كـ(تأسيس التقديس) و(المطالب) وغيرهما أنه يورد حجج مُخالفيه والإيرادات أولًا، ثم يُجيب عنها، ثم يُلخِّص رؤيته في نهاية كل باب، ومعلوم أنه لا يكتمل البناء إلا بالتعرض لإشكالات الخصوم والجواب عنها، وإلا كان البناء ناقصًا.
والعلماء في طريقة التصنيف مدارس متعدّدة، وليسوا مدرسة واحدة، ولا على قالَبٍ واحدٍ، والعلم يحصل بالإيرادات والأجوبة كما يحصل بالتقرير سواء بسواء، والطريقة الأولى أرسخ وأتقن.
وفي ذلك يقول ابن تيمية: “ولا يستريب عاقلٌ أن العلم بكثرة الأدلة وقوتها، وبفساد الشبهة المعارضة لذلك، وبيان بطلان حجة المحتج عليها؛ ليس كالعلم الذي هو الحاصل عن دليل واحد من غير أن يعلم الشبهة العارضة له؛ فإن الشيء كلما قويت أسبابه وتعددت وانقطعت موانعه واضمحلت كان أوجب لكماله وقوته وتمامه”([19]).
وفي النهاية، لا نُسلم بأن كل مصنفات ابن تيمية كانت ردًّا أو استفتاءً، فقد صنف تصانيف مستقلة كثيرة، ككتاب (الإيمان الكبير) في مجلد ضخم، وهو كتاب صنفه استقلالًا وليس ردًّا أو استفتاءً، و(اقتضاء الصراط المستقيم)، و(قواعد الاستقامة)، و(قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة) و(نقض المنطق)، وكذلك (البعلبكية) تكلَّم فيها عن صفة الكلام والقرآن وغيرها من الرسائل. وهناك ما صنَّفه تقريرًا -وإن جاء بطلبٍ من غيره- كالرسالة (التدمرية)، و(الواسطية)، (الأصبهانية)، ومنها ما كانت فُتيا مثل (الحموية)، و(مُفصَّل الاعتقاد)، (وشرح حديث النزول) وغير ذلك.
والتصنيف طلبًا من الغير أو استفتاءً لا يُنافي التقرير المدرسي كما ذكرنا آنفًا.
المغالطة الرابعة: ورود بعض المصطلحات الكلامية في (الواسطية) مثل مصطلح (الحقيقة) و(التأويل)، وبناءً عليه يجب دراسة علم الكلام أولًا حتى يفهم الطالب (الواسطية):
والجواب من وجوه:
الوجه الأول: ورود مصطلح (الحقيقة) و(التأويل) في (الواسطية) لا يعني بالضرورة اختصاص علم الكلام بها، بل هي ألفاظٌ عربية في الأصل، استخدمها المتكلِّمون استخدامًا كلاميًّا مُجملًا، وقد استخدم ابن قدامة المصطلحات نفسها في (لمعة الاعتقاد) و(ذم التأويل) وغيرهما، ومعلوم أن ابن قدامة أبعد ما يكون عن الكلام وأهله. فهل قال عالم: لا يجوز قراءة كتب ابن قدامة إلا مع دراسة علم الكلام؟!
الوجه الثاني: أنه لا ضرر بأن تكون مادةً للمبتدئين أكثرُها مبنيّ على مادة شرعية، ثم يكون فيها استثناء كلامي خارج عن الأصل، بأن يتمّ التعريج على مصطلح أو اثنين للمتكلمين يكثر تداولهما، ثم يُشرح بشكلٍ ميسّر وسهل بما يُناسب طلاب هذا المستوى.
ومثال ذلك: أنه لما تعرَّض المعتزلة لمصطلح (الحدوث) -وهو مصطلح كلامي- وقالوا: إن القرآن مُحدَث، نفى أهل الحديث ذلك، وكتبوه في عقائدهم الأثرية، وقالوا: إن القرآن غير محدَث، ولم يُخرج ذلك هذه العقائد عن أثريتها، ولا طالَب الأئمةُ تلاميذَهم أن يدرسوا الفلسفة لأجل ذلك.
ولم يقل أحدٌ من العلماء: إنه كُلما تمّ التنبيه على قضية في أثناء كتاب يتم دراسة تلك القضية في نفس المقام دراسةً وافية والتعرض للقيود والشروط والتفريعات، فهذا مما لا سبيل إليه، بل مما تفنى فيه الأعمار دون تحصيله.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “فإن التعرض عند كل مسألة لقيودها وشروطها تعجرفٌ وتكلُّف وخروج عن سنن البيان وإضاعةٌ للمقصود”([20]).
وكذلك عند دراسة النحو يبدأ الطالب بالآجرومية، مع أن أصول مسائل الآجرومية مردها إلى كتب المطولات النحوية الداخل فيها مادة منطقية، ولم يقل أحد من العقلاء: إنه يجب دراسة المنطق أولًا قبل إجادة النحو، بله الآجرومية!
الوجه الثالث: ما كتبه شيخ الإسلام في (الواسطية) و(الحموية) ونحوهما هو جُمل إجماعية اتفق عليها أهل الحديث ولم يتطرق ابن تيمية لمسائل خلافية، ولا تطرق إلى مسائل كلامية دقيقة، حتى أمهل مخالفيه ثلاث سنوات على أن يأتوا بحرفٍ واحدٍ يخالف ما كتبه فلم يستطيعوا. وعقدوا له مجلسًا ممثَّلًا من المذاهب الأربعة، وأذعنوا له أن ما كتبه هو عين ما عليه سلف الأمة، قال الحافظ ابن كثير: “ثم انفصل الحال -أي: من المجلس- على قبول العقيدة، وعاد الشيخ إلى منزله معظَّمًا مكرَّمًا”([21]).
فإذا كانت (الواسطية) عقيدة سلفيّة إجماعية كان من المُناسب أن يبدأ بها طالب العلم ليُصحِّح وجهته أولًا قبل الولوج في غيرها، وقد اتفق العلماء على البدء بصغار مسائل العلم قبل كباره.
المغالطة الخامسة: لا يبدأ الطالب بشروحات المعاصرين على (الواسطية)؛ لأن المعاصرين ليسوا متمكّنين من فهم كلامه، وردود ابن تيمية على المتكلِّمين والفلاسفة لا يُحقِّقها المعاصرون.
والجواب عن ذلك من وجوه:
الوجه الأول: لا نُسلِّم أنَّ العلماء المعاصرين ليسوا متمكِّنين من كلاميات ابن تيمية، بل هم من أعرف الناس بمقاصد ابن تيمية، وإن لم يدرس بعضهم علم الكلام استقلالًا، وإنما عرفوه بالدربة والمُمارسة والبحث في الكتب والسبر والتتبع لمظان المسائل، وقد شرح الشيخ ابن عثيمين كتب ابن تيمية شرحًا متميّزا، وله شروح لمسائل كلامية عند ابن تيمية كتسلسل الحوادث، وأنواع الأقيسة، والمشكِّك والمتواطئ والعدم والملكة، والواجب والممكن وأنواع التصوّرات والماهيات، وكل ذلك مبثوث في كتبه وفتاواه، ولم يؤخذ على الشيخ رحمه الله خطأ منهجي واحد.
وقد اعترف كمال الحيدريّ وهو من علماء الكلام والمنطق عند الشيعة، وهو يشرح مسألة كلامية عند ابن تيمية أحال فيها إلى ابن عثيمين، ثم قال: “هذا الرجل أهم مُفسِّرٍ وموضّحٍ وفاهمٍ لنظريات ابن تيمية”([22]).
وكذلك الشيخ محمد رشاد سالم، ومحمد خليل هراس، وعبد الرحمن البراك، ويوسف الغفيص، وعبد الكريم الخضير، وعبد الله الغنيمان، وعبد الرحمن القاضي، والدكتور مصطفى حلمي، والدكتور محمد الجَلَيند وغيرهم، ولهم من حسن السبك والاستدلال وجمع كلام ابن تيمية في الباب الواحد ما يدل على تمكنهم من تراث شيخ الإسلام.
بخلاف غيرهم من الشباب المعاصر من مُتفلسفة السلفية، فبعضهم خطَّأ ابن تيمية نفسه في قضايا كلامية لقصورٍ في علمه، والبعض الآخر فهموا ابن تيمية على غير مراده، ونسبوا إليه وجوب الخلق من مادة، وأن مطلق الخلق من العدم ممتنع على الله! وبسبب هذا الإغراب والشذوذ جرَّؤوا بعض المبتدعة على شيخ الإسلام، وجعلوها تكأة لتكفيره. ومن هؤلاء من نسب ابن تيمية إلى مخالفة أهل الحديث في الأفعال الاختيارية، ومخالفة الإمام أحمد في قِدم القرآن بدعوى عدم الرسالية، وغير ذلك من استشكالاتٍ تدلّ على أنهم أخذوا طرفًا من علوم الفلسفة والمنطق ثم بقوا في مراهقة فكرية، وليس في علمٍ وتمكن.
الوجه الثاني: لو خفيَت بعض العبارات في الفلسفة واستُغلقت معانيها على أحد علماء أهل السُنة المعاصرين، فليس هذا مما يطعن في علمه بحال، ولا يقول ذلك إلا ذو تفكيرٍ طوباوي عريّ من الإنصاف، جارٍ على منوال التعصّب والاعتساف، بل إننا نقرر أن هذه النظرة الطوباوية غير مُتحققة عند العلماء المتأخرين الذين يرونهم المثال الأسمى الذي يُحتذى بهم.
1- فمن ذلك ما قاله الحافظ المزي: “سمعت شيخنا النووي يقول: ما ولي قضاء دمشق مثل العز أبي المفاخر، وكان مُنصفا في بحثه ودروسه، قرأتُ عليه أكثر مختصر ابن الحاجب، وكان إذا أتى موضعٌ لا يعرفه يقول: لا أعرف ما أراد بذلك، وتعدَّاه إلى غيره حتى يكشفه ويفكر فيه”([23]).
فانظر كيف أن شيخ النووي -وهو العز أبي المفاخر الذي وليَّ القضاء- أشكل عليه مواضع في (مختصر ابن الحاجب) -الذي هو متن في أصول الفقه-، ولم يكن ذلك مطعنًا في علمه بحال. رغم أنه لو قال عالم مُعاصر نفس ما قاله شيخ النووي في متنٍ أصولي مُختصر لعلّقوا له أعواد المشانق، ولخرج هؤلاء يستهزؤون به في كل محفل؛ وذلك لأن العلم عند هؤلاء الشباب للتباهي والمفاخرة، وليس فيه البُعد الرسالي الذي يُراد به وجه الله عز وجل.
2- ومن ذلك أيضًا أن العلامة الطوفي رحمه الله قد تخطّى المقدمة المنطقية؛ لأنه لا يجيد علم المنطق.
يقول الطوفي رحمه الله: “فتركي لاختصارها في جملة الكتاب كان لأمور: أحدها: ما صح عنه من رجوعه([24]). والثاني: أن النسخة التي اختصرت منها لم تكن المقدمة فيها. والثالث -وهو المعول عليه-: أني أنا لا أحقق ذلك العلم، ولا الشيخ أبو محمد كان يحققه [يعني: ابن قدامة]، فلو اختصرتها لظهر بيان التكليف عليها من الجهتين”([25]).
فهذا العلامة الطوفي يُصرح بأنه لا يُجيد علم المنطق، والغريب أن المُخالف لا يطبق هذه الطوباوية على غير السلفيين، فلو طبَّق قواعده تلك لما سلم له معاصر قط! فإنه لا يزعم عاقل أن جميع المدارس قد أحكموا علوم الحكمة والمنطق أو الفلسفة، فأنت ترى مثلًا الشيخ الشعراوي أو الشيخ عطية صقر أو جاد الحق أو أحمد عمر هاشم أو أحمد معبد عبد الكريم وغيرهم الكثير لهم تخصصات علمية مختلفة كمجال الفقه، أو الدعوة، أو التفسير، أو الحديث، وهذا أمر طبيعي؛ ولا يطعن هذا في علمهم بحال؛ لأن العلم تخصصات، ولكن المخالف يطبق قواعده الجائرة على علماء دون علماء بمحض الهوى.
أما اشتباه قول ابن تيمية الكلامي على المعاصرين: فعلى فرضية وقوعه جدلًا فهو أمرٌ منتشر في علماء المتأخرين، ولا علاقة له بالمعاصرين. ولنضرب أمثلةً على ذلك ليتضح المقصود:
المثال الأول: ستجد أن السفاريني يقرر كلام القاضي في صفة الكلام، ثم يشرحه بكلام ابن تيمية وكأنه لم يلحظ الفرق بينهما.
فقال مثلًا: “يجب الجزم بأنه تعالى متكلم بكلام قديم ذاتي وجودي غير مخلوق ولا محدَث ولا حادث، لا يُشبه كلام الخلق، قال شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين ابن تَيميَّة في شرح رسالة الأصفهاني: وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الله متكلم بكلام قائم بذاته غير مخلوق… -إلى أن قال:- والمتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام لازمًا له بدون قدرته ومشيئته. وقال ابن كلاب: كلامه تعالى صفة ذات لازم لذاته كلزوم الحياة” انتهى مختصرًا([26]).
وهنا قرر السفاريني عقيدة القاضي في نفي الفعل الاختياري، ثم شرحه بكلام ابن تَيميَّة، وأطال في النقل عن ابن تيمية في حوالي أربع صفحات، ولم يلحظ أن ثمة فرقًا بين القولين.
فهذا السفاريني على علمه وفضله، وهو قطعًا ممن درس العلم الصناعي على طريقة المتأخرين، وقع في عدم إدراك كلام ابن تيمية في مسألة كبيرة اشتهر بها الشيخ، لا في مسائل فلسفية خفيَّة، وهذا الغلط يقع كثيرًا في المتأخرين، ولا خصوصية للسفاريني به، وإنما مثلتُ بنموذجٍ واحد لعدم الإطالة.
والمقصود: أن عدم فهم كلام ابن تيمية في مواضع فلسفية دقيقة -لو سلَّمنا بحدوثه جدلًا- فليس دليلًا على جهل هذا العالم، وليس معيارًا لعدم أهلية الشيخ لشرح كتب ابن تيمية كما يُدندن بعض الشباب المعاصر ممن لم يتأدبوا بآداب العلم.
المثال الثاني: ستعجب إن علمت أن بعض تلامذة ابن تيمية نفسه قد اشتبه عليهم قول الشيخ رحمه الله في بعض المسائل الكلامية، ولم يُقلل هذا من علمهم، فقد شرح العلامة الطوفي كلام ابن تيمية بغير مذهبه في مواضع، ومن ذلك قول ابن تيمية:
وأصل ضلال الخلق من كل فرقةِ ** هو الخوض في فعل الإله بعلةِ
يقول الطوفي شارحًا: “تضمن البيت المذكور أن أحكام الله تعالى وأفعاله غير معلّلة”([27]).
ثم ذكر احتمالات أخرى لمراد ابن تيمية، ثم قال: “ويجوز أن نحمل كلام الشيخ -أيده الله-: يخوضون في فعل الإله بعلة، أي: بعلة يدّعون ظهورها لهم. وإن كان الشيخ -أي: ابن تيمية- يرى أن أفعال الله تعالى غير معللة، صح حمل كلامه على إطلاقه”([28]).
وحتى هذا الاحتمال الثاني الذي ذكره الطوفي ليس هو مراد ابن تيمية، يعرف هذا أي متخصص في التراث التيمي.
والشاهد من ذلك: أن الطوفي رحمه الله لم يكن يعلم مراد ابن تيمية في بعض المسائل -مع أنه معاصر له وتلميذه-، ولم يقلل هذا من شأنه ولا من فحولته في العلم.
إذن، إن عدم تبحر العالم في علم من العلوم هو أمر وارد، وعدم فهمه لمواضع من كلاميات ابن تيمية أمر وارد وواقع، وحصل هذا لمن لا يختلف أحد على علمهم، كأصحاب ابن تيمية ومن جاء بعدهم.
مع ملاحظة أن الكلام السابق ليس القصد منه الدعوة إلى عدم التبحر في العلوم -فهذا أمر مطلوب-، بل إن المقصد الأسمى هو فهم المنهجية العلمية بصورة متوازنة وعاقلة، وأن يُعلم أن العلم تخصصات، ولا تثريب على من تخصص في جانب دون جانب، وأن يستفيد الطالب من كل عالم مما أحسن فيه، وبذلك تعتدل النظرة بلا إفراط ولا تفريط.
المغالطة السادسة: كتب التراث تُدرس كما هي دون تنبيه على الأخطاء العقدية:
زعم المعترض أن كتب التراث يجب تدريسها كما هي، دون تعقبات واستدراكات، ودون تنبيه الطالب على أخطاء المُصنفين العقدية، فإذا كان الكتاب في البلاغة مثلًا ووقع المصنف في خطأ عقدي في أثناء كلامه، لا يجوز للشارح أن يُنبِّه الطلبة على هذا الخطأ؛ وذلك حرصًا على هيبة الطريقة المدرسية عند المتأخرين، وحتى يتخرَّج الطالب وقد بلغ ما بلغه المتأخرون من التأصيل المدرسي الذي يؤهلهم لفهم العلوم، ثم إذا بلغ الطالب التمكن وأصبح عالمًا مؤصلًا فلا يضير أن يصبح سلفيًّا أو أشعريًّا أو معتزليًّا، فهذا شأنه، المهم أن يحترم كتب التراث ولا يستدرك عليها، فهذا يعصم الطالب من الاستدراكات العبثية التي كانت تحدث من السلفيين سابقًا.
والجواب عن ذلك: أن ما ذكره المعترض خطأٌ محض -ولعل نيته طيبة في حرصه على العلم وهيبته-، إلا أنه بالغ في رؤيته، بحيث خالف علماء الأمة جميعًا، حتى إنه خالف علماء المتأخرين الذين يُريد اتباع طريقتهم في التدريس؛ فما زال المتأخرون يستدرك بعضهم على بعضٍ في الحواشي وشروح الكتب، والأشاعرة يستدركون على المعتزلة في شروح كتبهم، وقد استدرك ابن المنيِّر اعتزاليات الكشَّاف، ولم يقل: كتب التراث تجب أن تُحترم وتُشرح كما هي.
بل حتى شروح الأشاعرة وحواشيهم على كتب أئمتهم لم تخلُ من استدراكات وتعقبات على بعضهم البعض، مع كونهم على مذهبٍ واحد، ولا غرو أن نجد للعلامة بخيت المطيعي في حاشيته على (نهاية السول) استدراكات كثيرة على الإسنوي في شرحه على (منهاج الوصول) للبيضاوي، مع أن (نهاية السول) كان وقتئذٍ من كتب الدرس الأصولية في الأزهر الشريف([29]).
فما المانع أن يستدرك العالم على غيره ما دام مؤهلًا علميًّا، ومسبوقًا بقوله واستدراكه؟!
وقضية تشتيت ذهن الطالب أو الخوف من عدم تمكُّنه لا مجال لها في هذا السياق؛ لأنه ما دام الشيخ يشرح مراد المصنف ويُحسن تصويره أولًا ثم يتعقبه فقد أدى ما عليه.
بل نحن نقول: هذا مما يُفتِّح ذهن الطالب، فالتعقبات والإيرادات مما قد يثري الطالب ويعينه على تصوُّر المسائل وإتقانها جيّدًا.
وهذا العلامة السفَّاريني يستدرك عقديًّا على أهم المسائل في الدرس الأصولي عند الحنابلة وهي مسألة الحكمة والتعليل، قائلًا: “الحاصل: أن فعل الله -تعالى وتقدس- لا يكون لعلة في قولٍ مرجوح، اختاره كثير من علمائنا. والقول الثاني: أنهما لعلة وحكمة، اختاره الطوفي وهو مختار شيخ الإسلام ابن تَيميَّة وابن القيم وابن قاضي الجبل، وحكاه عن إجماع السلف. والحاصل: أن شيخ الإسلام وجمعًا من تلامذته أثبتوا الحكمة والعلة في أفعال الباري جل وعلا، وأقاموا على ذلك من البراهين ما لعَلَّه لا يُبقي في مخيلة الفطين السالم من رِبقة تقليد الأساطين أدنى اختلاج وأقل تخمين”([30]).
ويستدرك مرعي الكرمي على ما قُرر في كتب الدرس قائلًا: “اعلم أنه قد ذهب كثير من العلماء إلى منع جواز التقليد حيث أدى إلى التلفيق من كل مذهب.. والذي أذهب إليه وأختاره: القول بجواز التلفيق، لا بقصد تتبع ذلك؛ لأن من تتبع الرخص فسق، بل حيث وقع ذلك اتفاقًا”([31]).
وحصر التعقبات يطول جدًّا، وإنما أردنا التمثيل والإشارة.
بل الذي قد يُفاجئ المُعترض أن العلامة محمد بخيت المطيعي الحنفي -وهو ممن يُعظمه المخالفون- يستدرك على كتب المتأخرين جميعًا، ويذم ما فيها من ألغاز وصعوبات، فقال: “فكيف يمكن لعاقل أن يُلزم المُكلف القادر على الفهم أن يعرف ويفهم مراد قول الفقيه، ويوجب عليه العمل به، مع ما فيه من أمثال هذه الصعوبات، ولا يُجيز له أن يفهم الآية القرآنية والأحاديث النبوية فهمًا صحيحًا ويعمل بها؟! مع أن ذلك مخالف لإجماع الأمة كلهم، مناقض لصريح كلامهم”([32]).
ويقول ابن عاشور ذامًّا الجمود على حواشي المتأخرين: “أصبح المُبتكر عرضة للنكاية أو الاضطهاد، وقد حدث أن تلميذًا فيما مضى اعترض على مسألة، فقيل له: نصَّ عليها الأشموني، فقال: وما هو الأشموني؟ فرُفع لمن له نظر، فضربه ضربًا شديدًا”. ثم يتعجب ابن عاشور قائلًا: “والعجيب أن من يشعر منهم بخلل الأحوال وخطر التزام المسير على النهج المُتَّبع، فيدعوه نصحه إلى إيقاظهم، يجد قبل كل شيء طوائف تنسبه إلى سوء المقصد، وتُناظره بأن هذا النهج قد أوصل أسلافنا إلى أعلى مُرتقى النجاح”([33]).
ويذم الطاهر بن عاشور الجمود على طريقة المتأخرين قائلًا: “وقف بنا المسير، وضاقت التآليف واختلطت العلوم، وأصبحنا نتابع ما وجدنا غير شاعرين ألِحُسْنٍ اتبعناه، أم لقُبح نبذناه، وتبدلت العصور وتقدمت العلوم وطارت الأمم، ونحن قعيدو علومنا وكتبنا، كلما أحسسنا بنبأة التقدم والرقي وتغيير الأحوال استمسكنا بقديمنا، وصفدنا أبوابنا، فإنك لتنظر الرجل -وهو ابن القرن الرابع عشر- فتحسه في معارفه وعلمه وتفكيره من أهل القرن التاسع أو العاشر، مما هو معلول لوقوف تقدّم التآليف عند الحد الذي تركه الواقفون”([34]).
المغالطة السابعة: علم المنطق داخل في كل العلوم، وطالب العلم لن يفهم كتب التراث إلا بعلم المنطق:
ثمة اعتراضٌ ساقه أصحاب تلك الدعوات التي تدعو إلى إلزام الطالب بتعلم علم المنطق، وحاصله أن كتب التراث كلها من فقه ونحو وصرف وأصول -لا سيما أصول الفقه- قد انتشرت فيها المادة المنطقية، فعسيرٌ على الطالب أن يفهم مراد المُصنفين إلا بتعلم علم المنطق.
وهذا الاعتراض يبدو وجيهًا للوهلة الأولى، إلا أنه عند التحقيق نجده مبنيًّا على مغالطات نجيب عنها فيما يلي:
أولًا: نجيب المخالف بجواب الشيخ الأصولي مولود السريري -وهو من الموثوق بهم عند المُخالف- حينما جاءه سؤال: هل يجب على طالب العلم دراسة علم المنطق لفهم أصول الفقه؟
فأجاب: “علاقة الأصول بالمنطق قليلة، وما يُحتاج إليه هو بعض المبادئ المنطقية اليسيرة التي تُفهَم بها المصطلحات، ويمكن أن تكون معدودة في عشر مسائل فقط، ولا حاجة للغوص في المنطق، وعلم المنطق اليوم مادة أكل الدهر عليها وشرب، فلا ينبغي أن يُكثِر الإنسان منه دون أن يَعلَم موقعه من العلوم في عصرنا”([35]).
وقول المعاصرين بوجوب تعلم المنطق على طالب العلم وإلا ما فهم كتب التراث هو قول الغلاة والجهال، يقول ابن تيمية: “ومن المعلوم أن القول بوجوبه قول غلاته وجهال أصحابه. ونفس الحذاق منهم لا يلتزمون قوانينه في كل علومهم، بل يعرضون عنها”([36]).
والعلماء الذين أدخلوا مادة منطقية في كتب الشريعة تخيَّروا من المنطق قواعد سهلة ويسيرة، وهي التي رأوها صالحة للتطبيق، وهي قواعد مشروحة بذاتها وبالسياقات الفقهية التي أرادوها، فلا تحتاج إلى كتب وسيطة لفهمها، من جنس الفقيه الذي يستدعي (علم الفلك) في مسألةٍ مخصوصة ليُوظفها في مسألة فقهية، ولا يلزم من ذلك أن يدرس طالبُ العلم علمَ الفلك والأبراج كاملًا، وكالفقيه الذي يستدعي مسألةً من (الطب)، ثم يستلّ المراد منها لتوظيفها في السياق الفقهي؛ ولا يُريد من ذلك أن يدرس طلابه علم الطب بالضرورة، بل العالِم الذي يستدعي ذلك يشرح مقصوده في نفس الكتاب.
بل إن الطالب لو درس علم المنطق كله لخرج عن مقصود الأصوليين؛ وذلك لأنه يدرس المنطق كعلمٍ مُستقل -بصحيحه وسقيمه- ومنزوع عن أي تطبيقٍ شرعي؛ مما يُشتت ذهنه عن المقاصد الأساسية للفقهاء والأصوليين.
ثانيًا: ليس المنطق كله فاسدًا، بل منه قواعد عقلية كليَّة يتفق عليها الناس، فمثلًا لو قلنا محمدٌ أكبر سنًّا من علي، وعلي أكبر من إبراهيم؛ فالنتيجة المنطقية: أن محمدًا أكبر سنًّا من إبراهيم، والقصد من المثال السابق: أن المنطق منه قواعد كلية اتفق عليها جميع الناس غبيُّهم وذكيُّهم، ومنه قواعد أخرى اتفق عليها العقلاء والأذكياء، وقد تخفى على العوام سهوًا إلا إذا نُبّهوا، لكن هذا القسم موجود عند أذكياء العالم حتى ممن لم يدرسوا المنطق، من المهندسين والأطباء من المجوس والمصريين القدماء وغيرهم، وواضعو العلوم الإسلامية كالخليل بن أحمد وسيبويه والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم كان لديهم قواعد عقلية أيضًا مُستقاة من أصول الشريعة وقريحة العرب الصافية. وأما القسم الأكبر من علم المنطق -لا سيما فيما له علاقة بالوجود والحدود والماهيات والتصورات والقياس وغير ذلك- فهو خاص بنظرة أرسطو وأتباعه.
ثالثًا: أن الأئمة الذين حرَّموا تعلم المنطق أو القراءة فيه -مثل السيوطي والباجي وابن العربي والشاطبي وابن الصلاح وغيرهم كثير- لم يجهلوا أن كتب المسلمين قد دخلها علم المنطق، ومع ذلك حرَّموه، ولم يلتفتوا إلى هذا العذر؛ وذلك لأن كتب العلم درجات، والكتب التي دخلتها مادة منطقية هي كتب مخصوصة ومعروفة، ومن السهل أن يتجنبها الإنسان، أو أن يأخذ منها زبدتها وما يحتاج إليه بقدر الحاجة.
ولقد ذم ابن الصلاح صنيع الغزالي في مزجه أصول الفقه بعلم المنطق، يقول ابن الصلاح رحمه الله في ترجمة الغزالي: “فكيف غَفَل الغزالي عن حال شيخه إمام الحرمين ومن قبله من كل إمام هو له مُقدِّم، ولمحلِّه في تحقيق الحقائق رافع ومعظم، ثم لم يرفع أحدٌ منهم بـالمنطق رأسًا ولا بنى عليه في شيء من تصرفاته أُسًّا؟! ولقد أتى بخلطه المنطق بأصول الفقه بدعةً عظُم شؤمها على المتفقهة حتى كثر فيهم بعد ذلك المتفلسفة، والله المستعان”([37]).
بل حتى ابن رشد الأندلسي -شارح منطق أرسطو- قد ذم صنيع الغزالي، حيث يقول: “وأبو حامد قدم قبل ذلك مقدمة منطقية زعم أنه أداه إلى القول في ذلك نظر المتكلمين في هذه الصناعة في أمور ما منطقية، كنظرهم في حد العلم وغير ذلك. ونحن فلنترك كل شيء إلى موضعه، فإنّ من رام أن يتعلم أشياء أكثر من واحد في وقت واحد لم يمكنه أن يتعلم ولا واحدا منها”([38]).
ومثلَه يذمّ العلامة الطوفي -إمام أصوليي الحنابلة- هذا الصنيع قائلًا: “كثير من الأعاجم تتوفر دواعيهم على المنطق والفلسفة والكلام، فيتسلطون به على أصول الفقه، إما عن قصد، أو استتباع لتلك العلوم العقلية، ولهذا جاء كلامهم فيه عريًّا عن الشواهد الفقهية المقربة للفهم على المشتغلين، ممزوجا بالفلسفة، حتى إن بعضهم تكلف إلحاق المنطق بأوائل كتب أصول الفقه، لغلبته عليه. واحتج بأنه من مواده، كما ذكر في صدر هذا الشرح، فتركوا ما ينبغي، وذكروا ما لا ينبغي”([39]).
وأخيرًا.. هذه كانت آخر تلك التعقبات والاستدراكات، التي تكلمنا عنها بنوع إسهاب، لكثرة اغترار الشباب بها، وعلى أهل العلم التنتبه لمثل هذه الأخطاء، حتى يؤتي العلم ثماره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) معيد النعم ومبيد النقم (ص: 64).
([2]) طبقات الشافعية (8/ 111).
([4]) صون المنطق والكلام (ص: 34).
([5]) نجاة الخلف في اعتقاد السلف (ص: 45).
([6]) الرحلة العياشية (ص: 573).
([8]) التحبير شرح التحبير (1/ 1311).
([9]) شرح الكوكب المنير (1/ 163).
([10]) الذخر الحرير بشرح مختصر التحرير (ص: 268-269).
([11]) تحفة الوصول إلى علم الأصول على مذهب أهل السنة والجماعة (ص: 106-107).
([12]) أقاويل الثقات (ص: ١٣٦).
([13]) العين والأثر (ص: 68-69).
([15]) وينظر ورقة علمية منشورة في موقع مركز سلف بعنوان: (المعتمد العقدي عند الحنابلة.. دعوى ونقاش).
([16]) منح الجليل شرح مختصر خليل (3/ 63).
([17]) الإشارة إلى مذهب أهل الحق (ص: 12).
([18]) العين والأثر في عقائد أهل الأثر (ص: 26).
([19]) مجموع الفتاوى (7/ 334).
([20]) تنبيه الرجل العاقل (1/ 349).
([21]) البداية والنهاية (14/ 27).
([22]) من فيديو بعنوان: العثيمين هو المُنظِّر الأصلي للوهابية المعاصرة:
https://www.youtube.com/watch?v=F5p5LhchKTo
([23]) ينظر: المنهل العذب الروي في ترجمة قطب الأولياء النووي، للحافظ السخاوي (ص: 78).
([24]) أي: رجوع ابن قدامة عن اختصارها لما راجعه بعض الحنابلة، وحذفها من مقدمة كتابه.
([25]) شرح مختصر الروضة (1/ 83).
([26]) انظر: لوامع الأنوار (ص: 133-137).
([27]) شرح تائية ابن تيمية (ص: 307).
([28]) شرح تائية ابن تيمية (ص: 308).
([29]) وقد جمعت إحدى الباحثات تعقبات المطيعي على (نهاية السول) في رسالة ماجيستير بعنوان: (التعقبات الأصولية للإمام المطيعي في حاشيته على نهاية السول.. مباحث الأحكام أنموذجًا)، جامعة العلوم الإسلامية، جامعة الموصل.
([30]) لوامع الأنوار (ص: 285).
([31]) مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى (1/ 283).
([32]) رسالة في بيان الكتب التي يُعول عليها (ص: 34).
([33]) أليس الصبح بقريب (ص: 180).
([34]) أليس الصبح بقريب (ص: 161).
([35]) من إجابات الشيخ على اليوتيوب بعنوان علاقة: علم المنطق بأصول الفقه، على الرابط:
https://www.youtube.com/watch?v=x5I245Zkccs
([37]) طبقات الفقهاء الشافعية (1/ 254).