هل يُمكن أن يغفرَ الله تعالى لأبي لهب؟
من المعلوم أن أهل السنة لا يشهَدون لمعيَّن بجنة ولا نار إلا مَن شهد له الوحي بذلك؛ لأن هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، ولكننا نقطع بأن من مات على التوحيد والإيمان فهو من أهل الجنة، ومن مات على الكفر والشرك فهو مخلَّد في النار لا يخرج منها أبدًا، وأدلة ذلك مشهورة معلومة[1].
وممن شهد له القرآن بالنار أبو لهب عبد العُزى بن عبد المطَّلب عمُّ النبي صلى الله عليه وسلم، الذي نزلت سورة في القرآن باسمه تُخبر بعذابه وامرأته في النار.
وقد ذهب بعض المبتدعة من الصوفية وغيرهم في زماننا إلى أنَّ هذا الخبر من باب الوعيد الذي يجوز تخلُّفُه، زاعمًا أنَّ مذهب أهل السنة جواز إخلاف الوعيد بخلاف الوَعد.
والجواب على ذلك من عدّة وجوه:
الوجه الأول:
أن هذا الكلام مخالف لإجماع المسلمين، فلا نعلم أحدًا من المسلمين كافّة -سنّيّهم ومبتدعهم- قال بإمكان نجاة أبي لهب وأن يغفرَ الله له، حتى الشيعة الإمامية مع غلوِّهم المعروف في آل البيت لم نجدهم يقولون هذا، بل في كتبهم وتفاسيرهم[2] يقرون بهلاك أبي لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم.
وقَد زَعمت الشيعة والصوفية أن أبا طالب عمَّ النبي صلى الله عليه وسلم مُؤمن، حتى صنَّف بعضُ الصوفية[3] في ذلك مصنفًا، ينتصر فيه لنجاة أبي طالب، وأنه من أهل الإيمان، واستندَ لأدلّة باطلة، وتكلَّف في ردّ الأدلة الصحيحة الدالة على هلاكه، إلا أنه لم يقل بنجاة أبي لهب، ولا استند على مثل ما استند عليه القائل بإمكان نجاة أبي طالب.
وحتى على القول بفناء النار -مع كونه قولًا باطلًا ومخالفًا لصريح القرآن والسنة وإجماع السلف- إلا أنه لم يقل أحد بدخول هؤلاء الكفار الجنة، وأن الله تعالى يمكن أن يغفرَ لهم.
وهذا كاف في إبطال هذا القول الذي لم يقل به مِن قبله أحدٌ من طوائف المسلمين فيما نعلم.
الوجه الثاني:
أنه ليس كلّ ما يمكن عقلًا يجوز شرعًا، فهناك فرق بين الإمكان العقليّ والإمكان الشرعي. وجعلُ الممكنات العقلية جائزةً شرعًا من أعظم أبواب الضلالة، بل والزندقة وتكذيب القرآن.
فعقلًا يجوز أن يرسل الله تعالى نبيًّا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ويجوز فناء الجنة والنار، وتعذيب النبي وإثابة فرعون، وتحريم النكاح وإباحة الزنا، وغيرها كثير جدًّا من الأمور الممكنة عقلًا، ولكنها مستحيلة شرعًا.
فهي وإن كانت مقدورةً لله تعالى، إلَّا أن الله تعالى أخبر بعدم وقوعها، فيكون وقوعها محالًا شرعًا، استحالةً عرَضِيّة وليست استحالة ذاتية.
وهذا القدر لا خلافَ فيه بين المسلمين كافّة، حتى الفِرق الذين يقولون: لا يجب على الله شيء، وينفون عن أفعاله الحكمة والتعليل -وهم الأشاعرة- بناء على أصلهم في نفي التحسين والتقبيح، فهم وإن كانوا يقولون: يجوز أن يعذِّبَ المطيع ويثيبَ العاصي، إلا أنهم يقولون: إن ذلك شرعًا ممتنع.
قال أبو الحسن الأشعري: “ولا يقبُح منه أن يعذِّب المؤمنين ويُدخِل الكافرين الجنان، وإنما نقول: إنه لا يفعل ذلك؛ لأنه أخبرنا أنه يعاقِب الكافرين، وهو لا يجوز عليه الكذب في خبره”[4].
الوجه الثالث:
أن العلماءَ متَّفقون على عدم جواز تخلُّف الوعيد في حقّ الكفار، وإنما اختلاف الفرق هو في تخلُّف الوعيد في حقِّ عصاة الموحدين، أما في حقّ الكفار فلا، وذلك لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ﴾ [النساء: 48]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ﴾ [المائدة: 72]. فلو جاز العفو عن الكافر ودخوله الجنة لكانت هذه الآيات كذبًا، وهذا محال. وقال تعالى: ﴿كُلٌّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ﴾ [ق: 14].
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله: “هذه الآية الكريمة تدلّ على أن من كذّب الرسل يحقّ عليه العذاب، أي: يتحتّم ويثبت في حقّه ثبوتًا لا يصحّ معه تخلّفه عنه، وهو دليل واضحٌ على أن ما قاله بعض أهل العلم من أن الله يصحّ أن يخلِف وعيده -لأنه قال: إنه لا يخلف وعده، ولم يقل: إنه لا يخلف وعيده، وأن إخلاف الوعيد حسَن لا قبيح، وإنما القبيح هو إخلاف الوعد، وأن الشاعر قال:
وإني وإن أوعَدتُه أو وعَدتُه … لمخلِف إيعادِي ومنجِز موعدي-
لا يصحّ بحال؛ لأن وعيده تعالى للكفّار حقٌّ، ووجب عليهم بتكذيبهم للرسل، كما دل عليه قوله هنا: ﴿كُلٌّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ﴾.
وقد تقرَّر في الأصول أن الفاء من حروف العلّة، كقوله: سها فسجد، أي: لِعلَّة سَهوه، وسَرَق فقُطِعَت يده، أي: لعلة سرقته، ومنه قوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة: 38]، فتكذيبهم الرسلَ علّة صحيحة لكون الوعيد بالعذاب حقّ ووجب عليهم، فدعوى جواز تخلُّفه باطلة بلا شكّ…
والتحقيق: أن المراد بالقول الذي لا يبدَّل لديه هو الوعيد الذي قدَّم به إليهم.
وقوله تعالى في سورة «ص»: ﴿إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ﴾ [ص: 14]، وبهذا تعلم أن الوعيد الذي لا يمتنع إخلافُه هو وعيد عصاة المسلمين بتعذيبهم على كبائر الذنوب؛ لأن الله تعالى أوضح ذلك في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ [النساء: 48]، وهذا في الحقيقة تجاوُز منَ الله عن ذنوب عبادِه المؤمنين العاصين، ولا إشكالَ في ذلك”[5].
وهذا أيضًا لا خلافَ فيه بين جميع فرق الأمة، فأهل السنة متَّفقون على هذا، وكذلك الأشاعرة مع كونهم يقولون: لا يجب على الله شيء، ويجوِّزون عليه إثابةَ العاصي وعقاب الطائع، إلا أنهم يجعلون ذلك ممتنعًا شرعًا كما سبق من كلام الأشعري.
وفي كتاب العقائد النسفية: “والله تعالى لا يغفر أن يشرَك به بإجماع المسلمين، لكنهم اختلفوا في هل يجوز عقلا أم لا؟”[6].
وإذا كان هذا ممتنعًا شرعًا على قول الأشاعرة، فهو أشدّ امتناعًا على قول غيرهم ممن يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين كالمعتزلة الذين يقولون: يجب على الله أن يعاقبَ العاصي ولا يجوز تخلُّف ذلك عقلًا.
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: “أمَّا عُلومُ الوعدِ والوعيدِ فهو: أنَّ اللهَ تعالى وعَد المُطيعينَ بالثَّوابِ، وتوعَّد العُصاةَ بالعِقابِ، وأنَّه يفعَلُ ما وعَد به وتوعَّد عليه لا محالةَ، ولا يجوزُ عليه الخُلفُ والكذِبُ”[7].
وهو كذلك أشدُّ امتناعًا على قول جمهور السلف وأهل السنة القائلين بإثبات الحكمة والتعليل، وأنه تعالى لا يسوِّي بين المؤمنين والمجرمين، وأن ذلك منافٍ لحكمته تعالى: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [القلم: 35، 36]، وقال تعالى: ﴿أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ اجترحوا ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن نجعلَهُم كالذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَوَآءً محياهُم ومَمَاتُهُم سَآءَ مَا يحكمُون* وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [الجاثية: 21، 22].
قال ابن القيم رحمه الله: “فجعل سبحانه ذلك حكمًا سيّئًا، يتعالى ويتقدَّس عن أن يجوز عليه، فضلا عن أن ينسَب إليه”[8].
الوجه الرابع:
أنّ ما ورد في حقّ أبي لهب ليس وعيدًا مطلَقا، بل هو خبرٌ عمَّا سيحدث له؛ ولذا فإن خُلفَه يعني الكذب، والكذب محال في حق الله تعالى.
قال ابن جرير رحمه الله: “قَوْلُهُ: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ [المسد: 1]: دُعَاءٌ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَتَبَّ﴾ فَإِنَّهُ خَبَرٌ. وَيُذْكَرُ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَقَدْ تَبَّ). وَفِي دُخُولِ (قَدْ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ، وَيُمَثَّلُ ذَلِكَ بِقَوْلِ الْقَائِلِ لِآخَرَ: أَهْلَكَكَ اللَّهُ وَقَدْ أَهْلَكَكَ، وَجَعَلَكَ صَالِحًا وَقَدْ جَعَلَكَ”[9].
قال ابن السمعاني: “والصحيح أنه لا يجوز النسخ في الأخبار بوجهٍ ما؛ لأنه يؤدّي إلى دخول الكذب في أخبار الله تعالى وأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لا يجوز”[10]. وهذا قول جماهير الفقهاء والأصوليين.
وذهب بعض الأصوليين إلى جواز نسخ بعض الأخبار التي لا يقتضي نسخُها كذبًا، وذكر ابن تيمية ضابطَ ذلك فقال: “وإن كان مما يصحّ أن يتغيّر ويقع على غير الوجه المخبَر عنه فإنه يصحّ نسخه؛ كالخبر عن زيد بأنه مؤمن أو كافر أو عدل أو فاسق، فهذا يجوز نسخه، فإذا أخبر عن زيد بأنه مؤمن جاز أن يقول بعد ذلك: هو كافر”[11].
وقال أيضا: “فضابط القاضي أن الخبر إن قَبِل التغيير جاز النسخ وإلا فلا، وعلى هذا فيجوز نسخ الوعد والوعيد قبل الفعل كقوله: من بنى هذا الحائط فله درهم. ثم رفع ذلك”[12].
وعليه فإنه حتى على هذا القول لا يدخل فيه جواز أن يغفر الله لأبي لهب؛ لأن الله تعالى أخبر عن عذابه في النار، وذلك بسبب كفره، وهو قد مات على الكفر بإجماع المسلمين، فلا يجوز تخلف هذا الخبر، وإلا كان كذِبا.
الوجه الخامس:
هاهنا سؤال مشهور وهو: هل تكليف أبي لهب بالإيمان من التكليف بالمحال أو بما لا يطاق بناء على أنه إذا لم يمكن تخلُّف هذا الخبر فإن إيمانه مستحيل؟ وبعضهم يقول: كيف يكلَّف أبو لهب بالإيمان بأنه لا يؤمن؟!
والجواب عن ذلك: أن أبا لهب كان قادرًا على الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن القدرة التي هي من مناط التكليف هي سلامة الحواس والعقل، وهذه هي القدرة السابقة على الفعل، وهذه كانت عند أبي لهب، وأما القدرة التي تستلزم وقوع الفعل وهي القدرة المقارنة للفعل فهذه منفيّة عنه وعن سائر الكفار الذين علم الله تعالى في الأزل أنهم يموتون على الكفر، وفي مثل هؤلاء قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰٓ أَبْصَـٰرِهِمْ غِشَـٰوَةٌۭ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌۭ﴾ [البقرة: 6، 7]، وقال تعالى: ﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ﴾ [هود: 20].
قال الطحاوي: “الاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف به المخلوق به فهي مع الفعل، وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوُسع والتمكن وسلامة الآلات فهي قبل الفعل، وبها يتعلق الخطاب”[13].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “تكليف ما لا يطاق ينقسم إلى قسمين
أحدهما: ما لا يطاق للعَجز عنه، كتكليف الزمِن المشيَ وتكليف الإنسان الطيران ونحو ذلك، فهذا غير واقع في الشريعة عند جماهير أهل السنة المثبتين للقدر.
والثاني: ما لا يطاق للاشتغال بضدِّه، كاشتغال الكافر بالكفر، فإنه هو الذي صدّه عن الإيمان، وكالقاعد في حال قعوده، فإن اشتغاله بالقعود يمنعه أن يكون قائما. والإرادة الجازمة لأحد الضدين تنافي إرادة الضدِّ الآخر، وتكليف الكافر الإيمان من هذا الباب. ومثل هذا ليس بقبيح عقلا عند أحد من العقلاء، بل العقلاء متفقون على أمر الإنسان ونهيه بما لا يقدر عليه حال الأمر والنهي لاشتغاله بضده، إذا أمكن أن يترك ذلك الضد ويفعل الضد المأمور به”[14].
وقال ابن القيم رحمه الله: “فإن قيل: فهل يكون الفعل مقدورًا للعبد في حال عدم مشيئة الله له أن يفعله؟ قيل: إن أريد بكونه مقدورًا سلامة آلة العبد التي يتمكَّن بها من الفعل، وصحة أعضائه، ووجود قواه، وتمكينه من أسباب الفعل، وتهيئة طريق فعله، وفتح الطريق له؛ فنعم هو مقدور بهذا الاعتبار، وإن أريد بكونه مقدورًا القدرة المقارِنة للفعل، وهي الموجِبة له، التي إذا وُجِدت لم يتخلَّف عنها الفعلُ، فليس بمقدورٍ بهذا الاعتبار. وتقرير ذلك أن القدرة نوعان:
- قدرة مصَحِّحَة، وهي قدرة الأسباب والشروط وسلامة الآلة، وهي مناط التكليف، وهذه متقدِّمة على الفعل، غيرُ موجِبة له.
- وقدرة مقارنة للفعل مستلزمة له، لا يتخلف الفعل عنها، وهذه ليست شرطًا في التكليف، فلا يتوقف صحته وحسنه عليها، فإيمانُ منْ لم يشأ الله إيمانه وطاعةُ من لم يشأ طاعته مقدورٌ بالاعتبار الأول، غيرُ مقدورٍ بالاعتبار الثاني. وبهذا التحقيق تزول الشبهة في تكليف ما لا يطاق”[15].
وقال العلامة الشنقيطي رحمه الله: “وأما المستحيل لأجل علم الله في الأزل بأنه لا يقع فهو جائزٌ عقلًا، ولا خلاف في التكليف به، فإيمان أبي لهب مثلا كان الله عالمًا في الأزل بأنه لا يقع، كما قال الله تعالى عنه: ﴿سيصلى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ﴾ [المسد: 3]، فوقوعه محال عقلًا لعلِم الله في الأزل بأنه لا يوجد؛ لأنه لو وجد لاستحال العلم بعدَمه جهلًا، وذلك مستحيل في حقّه تعالى، ولكن هذا المستحيل للعلم بعدم وقوعه جائز عقلًا؛ إذ لا يمنع العقل إيمان أبي لهب، ولو كان مستحيلا لما كلفه الله بالإيمان على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فالإمكان عامّ، والدعوة عامّة، والتوفيق خاصّ”[16].
وهذا ليس خاصًّا بأبي لهب، بل عامّ في كلّ الكفار الذين علم الله أنهم يموتون على الكفر، وإنما الذي يخصّ أبا لهب ما قالوه بأنه كان مكلَّفا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن، وأن هذا من التكليف بالمحال.
وهذا الإشكال مشهور في كتب الأصول والعقائد، ويستدلُّ به من يقول بجواز التكليف بما لا يطاق، ويجيب مخالفهم على ذلك بأجوبة، منها:
- أن التكليف ارتفع بعد عِلمه بالعاقبة، فصار كمن عايَن العذاب. ذكره شيخ الشافعية باليمن يحيى بن أبي الخير العمراني[17] (ت: 558هـ) وشيخ الإسلام ابن تيمية[18].
- أنه ليس في الآيات أنه لن يؤمن، فارتفع إشكال الجمع بين النقيضين، ولكن أخبرت الآيات أنه سيصلَى النار، والمؤمن قد يصلى النار بمعاصيه.
- أنه كلّف بالتصديق بالرسول إجمالا؛ لأن الكافر إنما يكلَّف بتفاصيل الدين بعد دخوله الإسلام، أما قبل إسلامه فيكلف بالإسلام المجمل، وليس في ذلك جمع بين النقيضين. ذكره القرافي[19].
- أن الإخبار بدخوله النار معلَّق على موته على الكفر، فإن تغير ذلك جاز تغيّر الخبر؛ لأنه كالمعلق على شرط، وقد سبق نقل بعض أهل العلم جواز نسخ مثل هذه الأخبار، فيكون قوله: ﴿سيصلى ناراً ﴾ أي: إن وافى. ذكره ابن عطية[20].
وكما ترى فإنّ هذا الإشكال متعلِّق بحال حياة أبي لهب، وهل كان مكلفًا أم لا؟ ولا علاقة له بأنه بعد موته قد مات على الكفر، وصدق فيه وعيد الله تعالى، ولذا صارت هذه الآية من علامات صدق النبوة؛ إذ تحقق صدقها.
قال ابن كثير رحمه الله: “وفي هذه السورة معجِزة ظاهرة ودليل واضح على النبوة، فإنه منذ نزل قوله تعالى: ﴿سيصلى ناراً ذات لهب* وامرأته حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد) [المسد: 3-5] فأخبر عنهما بالشّقاء وعدم الإيمان لم يُقَيّض لهما أن يؤمنا ولا واحد منهما، لا باطنا ولا ظاهرا، لا مُسرًّا ولا مُعلنًا، فكان هذا من أقوى الأدلّة الباهرة الباطنة على النبوة الظاهرة”[21].
والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
[1] انظر: شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز (ص: 370).
[2] انظر مثلا: مجمع البيان للطبرسي (10/ 696)، وتفسير البيان للطوسي (11/ 698).
[3] وهو أحمد زيني دحلان، له كتاب: (أسنى المطالب في نجاة أبي طالب)، طبعته دار الإمام النووي بالأردنّ، بتحقيق حسن السقاف.
[4] اللمع (ص: 117).
[5] أضواء البيان (7/ 425).
[6] مجموع الحواشي البهية على شرح العقائد النسفية (ص: 171).
[7] شرح الأصول الخمسة (ص: 135-136).
[8] شفاء العليل (ص: 199).
[9] تفسير الطبري (24/ 714).
[10] قواطع الأدلة (1/ 424).
[11] المسودة (ص: 197).
[12] المسودة (ص: 197).
[13] الطحاوية (ص: 74). وانظر كلام ابن أبي العز في شرح الطحاوية (ص: 499-501).
[14] منهاج السنة (3/ 104-105).
[15] شفاء العليل (ص: 103-104).
[16] أضواء البيان (5/ 522).
[17] الانتصار في الرد على المعتزلة الأشرار (2/ 463).
[18] مجموع الفتاوى (8/ 302).
[19] نفائس الأصول في شرح المحصول (4/ 1564).
[20] نقله عنه القرطبي في تفسيره (3/ 430).
[21] تفسير ابن كثير (8/ 488).