
وصفُ القرآنِ بالقدم عند الحنابلة.. قراءة تحليلية
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
https://salafcenter.org/wp-content/uploads/2025/09/وصف-القرآن-بالقدم-عند-الحنابلة.-قراءة-تحليلية.pdf
مقدمة:
يُعدّ مصطلح (القِدَم) من أكثر الألفاظ التي أثارت جدلًا بين المتكلمين والفلاسفة من جهة، وبين طوائف من أهل الحديث والحنابلة من جهة أخرى، لا سيما عند الحديث عن كلام الله تعالى، وكون القرآن غير مخلوق. وقد أطلق بعض متأخري الحنابلة -في سياق الرد على المعتزلة والجهمية- وصف (القديم) على القرآن الكريم، مما أثار حفيظة بعض المتكلمين، وجعلهم يتّهمون هؤلاء الأئمة بوجود قديم غير الله تعالى، وهو ما يُعدّ عندهم من لوازم القول بتعدّد القدماء. بالإضافة إلى اللوازم الفاسدة من أن الله تعالى يُكلِّم أنبياءه ورسله في الأزل قبل أن يخلقهم.
ومصطلح (القِدَم) نفسه ليس بلفظ شرعي، بل هو من الألفاظ المحدثة التي لم يستعملها السلف، وقد ميّز الفلاسفة والمتكلمون المتأخرون بين أنواع متعددة للقدم: كالقدم الذاتي، والقدم الزماني، والقدم الإضافي. وإذا تأمّلنا بعض إطلاقات الحنابلة للفظ “قديم” على القرآن، وجدنا أنها لا تنسجم دائمًا مع معنى القِدَم الذاتي، بل تُفهم في كثير من الأحيان في إطار القِدَم الإضافي، أي: التقدُّم الزماني على غيره، لا بمعنى الأزلية الذاتية التي لا أوّل لها، كما هو المعنى الذي يثبته المتكلمون للقديم المطلَق.
لذا رأينا في مركز سلف للبحوث والدراسات تحريرَ استعمال مصطلح (القديم) في استعمالات بعض الحنابلة، ونبيّن كيف أن تحرير هذه المسألة يرفع كثيرًا من الإشكالات في فهم كلام بعض الأئمة، ويحول دون إساءة تأويل مرادهم، ويؤكد في الوقت ذاته أهميةَ تحرير المصطلحات عند النظر في الخلافات العقدية بين المدارس الإسلامية.
مركز سلف للبحوث والدراسات
أولًا: إثبات أهل الحديث للأفعال الاختيارية:
بادئ ذي بدء ينبغي وقبل الولوج إلى إشكالية استعمال مصطلح (القديم)، ينبغي أن نُبيِّن أولًا أن السلف الصالح كانوا يثبتون صفات الأفعال الاختيارية، وأن إثباتهم لها على معنى التجدد والقيام بالذات.
وحجّة إثبات الصفات الاختيارية العقل والنقل، فهما يتضافران في إثبات أن لله أفعالًا يختار فعلها في وقت دون وقت، فهي متجددة لا بمعنى أنها مخلوقة فيه سبحانه، بل بمعنى وقوعها بحسب المشيئة والإرادة. فالسماء مثلًا لم تكن موجودة ثم خُلقت، أي: وُجد فعل خلق السماء بعد أن لم يكن. وكذلك كلام الله لموسى عليه السلام كان في وقت معين، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143]، فلم يكن كلامُه سابقًا عليه. ومثل ذلك في حديث الشفاعة: «إنّ ربي قد غضب اليومَ غضبًا لم يغضَب قبله مثلَه، ولن يغضبَ بعده مثله»([1])، وهو نصٌّ صريح في تجدّد الغضبِ الإلهي.
فمن أثبت لله صفات الكمال لزمه القولُ بأن له قدرةً ومشيئةً وإرادةً حقيقيةً، يترتب عليها تجدُّدُ الفعل، دون أن يعني ذلك التغير أو الحدوث المخلوق الذي ينفيه الجميع عن الله تعالى.
ولما كانت هذه القضيةُ من الوضوح والمعلوم بالاضطرار من عقائد السلف، فقد جعل نعيم بن حماد الفاصلَ ما بين الحي والميت هو الفعل، قال الإمام البخاري: «ولقد بيَّن نعيم بن حماد أن كلام الرب ليس بخلق، وأن العرب لا تعرف الحيّ من الميت إلا بالفعل، فمن كان له فعل فهو حي، ومن لم يكن له فعل فهو ميت، وأن أفعال العباد مخلوقة، فضُيق عليه حتى مضى لسبيله، وتوجَّع أهل العلم لما نزل به، وفي اتفاق المسلمين دليل على أن نعيمًا ومن نحا نحوه ليس بمفارق ولا مبتدع»([2])، وقال البخاري: «ففعل الله صفة الله، والمفعول غيره من الخلق»([3])، وقال أيضًا: «وقالت الجهمية: الخلق هو المخلوق، وقال أهل العلم: التخليق فعلُ الله»([4]).
بل أجاز البخاري وصف كلام الله بالحدث، فقال: «وأنَّ حدَثه لا يشبه حدثَ المخلوقين»([5]).
وقال أيضًا: «باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرها من الخلائق، وهو فعل الرب عز وجل وأمره، فالرب بصفاته وفعله وأمره وكلامه، وهو الخالق المكوِّن غيرُ مخلوق، وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكوَّن»([6]).
وقال ابنُ جرير الطبري: «وإن قال لنا قائل: أخبرنا عن استواء الله -جل ثناؤه- إلى السماء، كان قبل خلق السماء أم بعده؟ قيل: بعده، وقبل أن يسوّيهن سبع سماوات»([7]).
فهذا ابن جرير سأل: متى كان الاستواء؟ ثم أجاب بتحديد وقت مُعين محصور بين (بعد) و(قبل): بعد خلق السماء وقبل أن يسوّيهن سبع سماوات، ولا ينتظم هذا إلا على الفعل الاختياري بشكلٍ واضح وصريح لا لبس فيه ولا غموض، ولا ينتظم على القول القائل بأنه دائمًا مستوٍ على عرشه.
ولما انتشرت شبهة الكلابية صرح بعض العلماء بخلاف مذهبهم، قال الحافظ ابن عبد البر ردًّا على الكلابية: «وفي قول الله عز وجل: ﴿فلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ﴾ [الأعراف: 143] دلالة واضحة أنه لم يكن قبل ذلك متجليًا للجبل»([8])، وقال ابن أبي زيد القيرواني: «وأنه يجيء يوم القيامة بعد أن لم يكن جائيًا والملَك صفًّا صفًّا»([9]).
وقد أشار أبو إسماعيل الأنصاري إلى هذا في «مناقب أحمد بن حنبل»، ومما قاله: «وجاءت طائفة فقالت: لا يتكلم بعدما تكلم، فيكون كلامه حادثًا.. فطار لتلك الفتنة ذلك الإمام أبو بكر -يعني ابن خزيمة-، فلم يزل يصيح بتشويهها، ويصنّف في ردها كأنه منذر جيش، حتى دوّن في الدفاتر، وتمكن في السرائر، ولقن في الكتاتيب، ونقش في المحاريب: إن الله متكلّم، إن شاء الله تكلم، وإن شاء سكت، فجزى الله ذلك الإمام وأولئك النفر الغرّ عن نصرة دينه وتوقير نبيه خيرًا»([10]).
ومما نلاحظه أن الهروي استنكر قول الكلابية: إن تجدّد الكلام يلزم منه الحدوثُ؛ لأنه لا يجوز تكذيبُ الشرع بعقليات المتكلّمين، بل الواجب أن تؤمن بما جاء به القرآن والسنة كما هو.
ويمكن أن نقسم مذاهب المسلمين في صفات الأفعال إلى ثلاثة مذاهب رئيسة:
1- مذهب الأشعرية: أن فعل الله مخلوق منفصل عنه.
2- مذهب الكلابية والسالمية وبعض الحنابلة: أن الأفعال قديمة لا تتعلق بالمشيئة.
3- المذهب الصحيح (السلف وجمهور أهل الحديث): أن أفعال الله متجدّدة غير مخلوقة.
ويُبين ابن تَيميَّة أن جمهور الحنابلة وأهل الحديث هم من الصنف الثالث قائلًا: «وكثير من الحنبلية، وأكثر أهل الحديث، ومن اتبعهم من الفقهاء والصوفية وجمهور المسلمين، وأكثر كلام السلف ومن حكى مذهبهم حتى الأشعري، يدل على هذا القول أن هذه الصفات الفعلية ونحوها المضافة إلى الله قسم ثالث، ليست من المخلوقات المنفصلة عنه، وليست بمنزلة الذات والصفات القديمة الواجبة التي لا تتعلّق بها مشيئته، لا بأنواعها ولا بأعيانها. وقد يقول هؤلاء: إنه يتكلم إذا شاء، ويسكت إذا شاء، ولم يزل متكلمًا، بمعنى: أنه لم يزل يتكلم إذا شاء، ويسكت إذا شاء، وكلامه منه ليس مخلوقًا. وكذلك يقولون: وإن كان له مشيئة قديمة فهو يريد إذا شاء، ويغضب ويمقت. ويقر هؤلاء أو أكثرهم ما جاء من النصوص على ظاهره مثل قوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [السجدة: 4] أنه استوى عليه بعد أن لم يكن مستويًا عليه، وأنه يدنو إلى عباده ويقرب منهم، وينزل إلى سماء الدنيا ويجيء يوم القيامة بعد أن لم يكن جائيًا»([11]).
ثانيًا: اضطراب استعمال مصطلح (القديم) في كلام بعض أهل الحديث والحنابلة:
انقسم أصحاب الإمام أحمد بن حنبل بشأن الكلام بالمشيئة إلى فريقين: فريق يُثبت الفعل الاختياري وهم جمهور الحنابلة، وهؤلاء يثبتون تجدُّدَ الكلام تبعًا لمشيئته، وفريق ينفيه ويقول بقدم الكلام المعين، ويجعل الحروف لازمة لذات الله أزلًا، لا يتجدّد منها شيء.
وقد أشار ابن حجر العسقلاني إلى هذا الانقسام صراحة، فقال: «وافترق أصحاب أحمد فرقتين، فمنهم من قال: كلامه لازم لذاته، والحروف والأصوات مقترنة لا متعاقبة، ويسمع كلامه من شاء. وأكثرهم: أنه يتكلم بما شاء إذا شاء، وأنه نادى موسى حين كلمه، ولم يكن ناداه من قبل»([12]).
وعلى الرغم من نقل الحافظ ابن حجر أن أكثر أصحاب أحمد يثبتون الفعل الاختياري (أي: التجدّد في صفة الكلام)، إلا أن مثبتةَ الفعل الاختياري لم يكونوا دائمًـا على يقين في مسألة القرآن تحديدًا؛ فقد أطلق بعض أئمة الحنابلة وصف “القديم” على القرآن الكريم، على نحوٍ قد يُفهم منه إثباتُ صفة القدم بمعناها الخاص بالله عز وجل، لما استقر في مصطلح المتكلمين من أن “القديم” هو الموجود الذي لا أول لوجوده، أي: الذي لم يُسبق بعدم، ولا بغيرٍ، وهو ما لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى.
ويظهر هذا من قول الحسن بن حامد -وهو جريء في الإثبات-: «ومما يجب الإيمان به أن الله يتكلم، وأن كلامه قديم، وأنه لم يزل متكلمًا في كل أوقاته بذلك موصوفًا، وكلامه قديم غير محدث، كالعلم والقدرة، وقد يجيء على المذهب أن الكلام صفة متكلم لم يزل موصوفا بذلك، ومتكلمًا كلما شاء وإذا شاء»([13]).
وكلام ابن حامد مشكل؛ لأن ظاهره الميل إلى القول الأول، مع حكايته للقول الثاني دون ترجيح. ثم يضطرب في موضع آخر ويقول: «ولا خلاف عن أبي عبد الله أن الله كان متكلما بالقرآن قبل أن يخلق الخلق، وإذا شاء أنزل كلامه، وإذا شاء لم يُنزله»([14]).
على أن القاضي أبا يعلى -الذي هو تلميذه وأعلم الناس بأقواله- نقل عنه أنه يلتزم الفعل الاختياري في كل الأفعال حتى في صفة الكلام، فقال عنه: «… وإن كان هذا الاستواء لم يكن موصوفًا به في القِدم، وكذلك نقول: تكلم بحرف وصوت، وإن كان هذا يوجب الحدث في صفاتنا ولا يوجبه في حقه»([15]).
وهنا ابن حامد يجعل الاستواء ليس قديمًا أزليًّا، ثم يقيسه على الحرف والصوت، بمعنى أن الحرف والصوت ليس قديمًا أزليًّا، ووضح أن كونه ليس قديمًا: لا يوجب حدث المخلوقين.
وبمثله يقول اللالكائي: «سياق ما رُوي عن النبي مما يدل أن القرآن من صفات ذاته القديمة»([16]). ووجه الإشكال هنا تصريحه بكون القرآن من صفات الذات القديمة، مع أن كونه كلامًا معينًا متعلقًا بالمشيئة يُنافي هذا الإطلاق.
وقريبٌ منهم يقول قوام السنة الأصبهاني: «فإن احتجوا بقوله تعالى: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ﴾ [الأنبياء: 2]، فالجواب: محدَث التنزيل؛ لأن الله تعالى تكلم به في القِدم، فلما بعث محمدًا أنزله عليه»([17]). ووجه الإشكال هو قول الأصبهاني: (لأن الله تعالى تكلم به في القدم).
والتحليل الدقيق لهذا الإطلاق -في ضوء ما قرره الفلاسفة والمتكلمون في أنواع القدم- يُظهر أن مراد هؤلاء العلماء لم يكن “القدم الذاتي”، بل كان إطلاقًا لغويًّا أو إضافيًّا محضًا، لا يحمل لوازم القول بقدم الذات، ولا يستلزم ما نسبه إليهم خصومهم من التشبيه أو إثبات الشريك في القدم.
ثالثًا: شهادات من العلماء على عدم تحقيق الحنابلة لمصطلح (القديم):
قد نبّه إلى اضطراب الحنابلة في هذا المصطلح عددٌ من علماء من مذاهب شتى، ومنهم بعض الحنابلة أنفسُهم:
1- ابن عقيل الحنبلي:
لفت ابن عقيل إلى هذا الخلط المفاهيمي في استعمال مصطلح “قديم”، مبينًا أن استعماله لا يخلو من الجهل بدلالته الدقيقة، يقول: “وأرى الناس في زماننا هذا قد أُغرُوا بلفظة (قديم)، فمهما أرادوا إكرامه قالوا: قديم؛ فإما جهلًا منهم بمعنى القديم، وأنه ما لا أول لوجوده، أو يظن بمعنى عتيق”([18]).
وهذا النص يبرز إدراك ابن عقيل لانفصال مصطلح “القديم” عن معناه الكلامي عند كثير من المنتسبين إلى المذهب الحنبلي، وتأكيده أن استعمالهم للفظ لا يصحّ وأنهم يجهلون معناه، وهو ما يعكس خللًا منهجيًّا في تبنّي مصطلحات الفرق الكلامية.
2- ركن الدين ابن الملاحمي الخوارزمي:
أشار الخوارزمي المعتزلي إلى هذه الظاهرة، منتقدًا ما رآه من استخدام غير دقيق لمصطلح “قديم” من قبل أصحاب الحديث، فقال: “ذهب أصحاب الحديث والحنابلة إلى أن هذا القرآن هو كلام الله تعالى، وأنه قديم غير مخلوق ولا محدث”. ثم أضاف: “قال أصحابنا: إن أكثر أصحاب الحديث لا يُحصّلون معنى القديم، وأنه هو الذي لا أول لوجوده”([19]). وقوله: (لا يحصِّلون معنى القديم) أي: لا يدركون معناه.
وهذا النص يُظهر بوضوح أن المعتزلة لاحظوا تبنّي أهل الحديث لمصطلحات عقدية دون الإحاطة الكاملة بمضامينها الكلامية الدقيقة، مما جعلهم عرضة لتناقضات اصطلاحية، خاصة وأن القول بقدم القرآن إذا أُخذ على إطلاقه يُفضي إلى القول بأزليته الذاتية، وهو ما يتعارض مع إثبات الفعل الاختياري لله تعالى.
وعلى الرغم من أن كثيرًا من محققي أهل الحديث يثبتون لله تعالى صفة الفعل الاختياري المتجدد بمشيئته، فإن محاولة مواجهة المعتزلة بنفي خلق القرآن من خلال استعارة لفظ “القديم” لم تكن دومًا واعية؛ لما تحمله هذه الكلمة من حمولة فلسفية قد تؤدي إلى إشكالات أكبر، كإثبات أزلية القرآن بعينه، وهو ما يستلزم قدم الحروف والأصوات حرفًا حرفًا، وهذا ما لا يقول به كثير من أهل الحديث أنفسهم.
3- أبو عمر الجاحظ:
قد أشار الجاحظ في بعض رسائله إلى أن كثيرًا من أهل الحديث، وإن كانوا يرفضون إطلاق لفظ “الخلق” على القرآن، إلا أن مضمون قولهم يقتضي إثبات الحدوث بمعناه اللغوي، أي: التجدد والوقوع بعد أن لم يكن، لا الحدوث بمعنى الخلق المخلوق.
يقول الجاحظ في رسالته في النابتة: “ثم زعم أكثرهم أنَّ كلام الله حسن وبيِّن، وحُجَّةٌ وبرهان، وأنَّ التَّوراة غير الزَّبور، والزَّبور غير الإنجيل، والإنجيل غير القرآن، والبقرة غير آل عمْران، وأنَّ الله تولَّى تأليفه، وجعله برهانه على صدق رسوله، وأنَّه لو شاء أن يزيد فيه زاد، ولو شاء أن ينقص منه نقص، ولو شاء أن يبدِّله بدَّله، ولو شاء أن ينسخه كلَّه بغيره نسخه، وأنَّه أنزله تنزيلا، وأنَّه فصَّله تفصيلا، وأنَّه بالله كان دون غيره، ولا يقدر عليه إلا هو، غير أنَّ الله مع ذلك كلّه لم يخلقْه. فأعطوه جميع صفات الخلْق ومنعوا اسم الخلق… صَنَعَه وجَعَلَه وقَدَّرَه وأَنزَلَه وفَصَّلَه وأَحدَثَه، ومَنَعوا خَلَقَه!”([20]).
هذه العبارة الأخيرة من الجاحظ تكشف عن إدراكه أنّ أهل الحديث وإن أنكروا لفظ “الخلق”، إلا أنهم قد وصفوا القرآن بأوصاف الحدوث من حيث التنزيل والتفصيل والتقدير، مما يدل على أنهم يقرّون بحدوثه بمعنى التجدد، وإن تحفَّظُوا على تسميته مخلوقًا.
ويقول الجاحظ أيضًا في نفس الرسالة متحدثًا عن أحمد بن حنبل: “والعجب أنَّ الذي منعه بزعمه أنْ يزعم أنَّه مخلوقٌ أنَّه لم يسمع ذلك من سلفه، وهو يعلم أنَّه لم يسمع أيضًا عن سلفه أنّه ليس بمخلوق. وليس ذلك بمهمّ، ولكن لما كان الكلام من الله يقال عندهم على مثل خروج الصَّوت من الجوف، وعلى جهة تقطيع الحروف وإعمال اللِّسان والشَّفتين، وما كان على غير هذه الصُّورة والصِّفة فليس بكلام”([21]).
ويُستفاد من هذا التحليل أن الجاحظ فهم من أقوالهم وتصرفاتهم أنهم قائلون بحدوث الكلام المُعين، أي: تقطيع الحروف حرفًا حرفًا، وهو بذلك يضع يديه على مفارقة لغوية ومنهجية دقيقة في الخطاب العقديّ لأهل الحديث، وهي الجمع بين مفردات الحدوث ومعانيه، وإنكارهم للفظه.
4- ابن برهان البغدادي:
يشير ابن برهان البغدادي الشافعي الأشعري إلى أن أهل الحديث -أو ما يُسميهم بالمشبهة- وهو في معرض دفاعه عنهم وإنصافه لهم: لم ينكروا حقيقة “الحدوث”، وإن تجنبوا إطلاق المصطلح نفسه، ظنًّا منهم أن في ذلك ما يوهم النقص في حق الله تعالى.
يقول ابن برهان: “اعلم أن المشبّهة ما اتفقوا على جحد الضرورة، فإنهم إذا سُئلوا عن الحروف: متى ابتدئ بها؟ ومتى ختمت؟ قالوا: في الوقت الفلاني، وهذا تصريح منهم بالحدوث، وإن استعفوا من إطلاق اسم الحدوث عليها لأنهم ظنوا أن في ذلك نقصًا في حق الله، وهذا عذرهم في المنع سواء صح أو فسد”([22]).
وهذا النص يظهر أنه حتى الأشاعرة فهموا من مذهب أهل الحديث القول بالتجدّد، وأن بعض الحنابلة كانوا يتحاشَون استعمالَ لفظ “الحدوث” خشية ما يوهمه من معاني النقص، مع إقرارهم الضمني بوقوع المعنى نفسه عند توصيفهم للفظ القرآني بأنه ابتدئ في وقت معين، وخُتم في وقت معين، وهو ما يُعدّ إقرارًا بوقوع “حادث” في الزمن.
5- شيخ الإسلام ابن تيمية:
وقد تعمّدنا إرجاء عرض كلام ابن تيمية إلى هذا الموضع التزامًا بالمنهج الموضوعي، ولاعتبار أن كثيرًا من المعاصرين يشككون في اعتماده بوصفه ممثلًا للمذهب الحنبلي.
غير أن ابن تيمية يقدّم قراءة دقيقة لهذا الإشكال الاصطلاحي في تعامل كثير من الحنابلة المتأخرين مع مصطلحي “القديم” و”الحدوث”، حيث يشير إلى أن الخلط بينهم شائع لدى بعضهم، وأن كثيرًا منهم لم يميز بين “القديم النوعي” و”القديم العيني”، ولا بين كونه “غير مخلوق” وكونه “أزليًّا لم يزل”.
يقول ابن تيمية: “وكثير من هؤلاء لا يفهم معنى القديم، بل إذا استفسرته عنه قال: يريد به أنه غير مخلوق، ويقولون: يريد أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ولا ريب أن كلام الله غير مخلوق كما اتفق عليه السلف والأئمة، ولا ريب أن القرآنَ كلَّه كلامُ الله، ليس شيء منه كلامًا لغيره، لا جبريل ولا غيره، والقرآن العربي كلام الله، والله نادى موسى بصوت، وينادي عبادَه يوم القيامة، كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنة، لكن هؤلاء ظنوا أن السلف أرادوا بذلك أن ما ليس بمخلوق يكون قديم العين، وأن الله لا يتكلم بمشيئته وقُدرته، ولم يفرقوا بين قديم النوع وقديم العين”([23]).
ويُتمم هذا المعنى بقوله في موضع آخر: “ومن هؤلاء من يقول: هو قديم ولا يفهم معنى القديم، فإذا سئل عن ذلك قال: هي قديمة في العلم، ولا يعلم أن المخلوقات كالسماء والأرض بهذه المثابة مع أنها مخلوقة، ومنهم من يقول: قديم بمعنى أنه متقدم على غيره، ولا يعرف أن الذين قالوا: إنه مخلوق لا ينازعون في أنه قديم بهذا المعنى، ومنهم من يقول: إن مرادنا بأنه قديم أنه غير مخلوق، ولا يفهم أنه مع ذلك يكون أزليًّا لم يزل، وهؤلاء سمعوا ممن يوافقهم على أنه غير مخلوق قالوا: هو قديم، فوافقوا على أنه قديم ولم يتصوروا ما يقولونه”([24]).
ومجمل كلام ابن تيمية يصبّ في أن الإشكال ليس في المضمون، بل في الاصطلاح، إذ إن بعض المتأخرين حين قالوا: “إن كلام الله قديم”، فهموا من “القدم” مجرد كونه “غير مخلوق” أو “متقدّم على غيره”، لا بالمعنى الفلسفي والكلامي الذي يفيد “القدم الذاتي” و”اللازمنيّة”. ومن ثم فإن هذا الفهم لا يخرجهم بالضرورة عن إقرارهم بأن الله تكلم بكلام حادث بمشيئته في وقت مخصوص، أي: أن الكلام “قديم النوع حادث الآحاد”.
ويبدو هذا الخلط جليًّا في كلام أبي الفرج الشيرازي الحنبلي، حيث قال في معرض رده على الأشاعرة: “وجوابٌ آخر: هو أن حدّ القديم موجود في الكلام مع كونه مرتبًا؛ لأن حدّ القديم ما كان متقدمًا على غيره. والدليل على صحة هذا هو أنهم -يعني: العرب- يقولون: جسرٌ قديم، وبئرٌ قديم لتقدّمه على غيره”([25]).
وهذا الجواب من الشيرازي غير مُجدٍ من جهة المناظرة الكلامية -كما أشار ابن تيمية-؛ إذ إن خصومه من الأشاعرة لا ينازعونه في أن القرآن متقدّم على غيره بهذا المعنى، وإنما النزاع في إمكان أن يتكلّم الله بكلام حادِث بمشيئته، سواء تكلّم به قبل الخلق أو بعد الخلق، فهذه النقطة غير مؤثّرة في البحث لديهم.
رابعًا: مراد بعض الحنابلة من وصف الكلام بالقديم:
لفهم المراد عند هذه الطائفة من الحنابلة بدقة لا بد من العودة إلى أنواع القدم عند المتكلمين:
1- القدم الذاتي: وهو عدم المسبوقية بالغير، أي: أن وجود الشيء لم يُسبق بغيره، ولا كان معلولًا له، فهو قديم بذاته، لا من غيره. وهذا هو ما يُثبَت لله وحده دون سواه. ويقابله “الحدوث الذاتي”، وهو أن يكون وجود الشيء مسبوقًا بغيره، أي: أن يكون مخلوقًا أو مفعولًا من غيره، فلا يكون قائمًا بنفسه، بل محتاجًا إلى موجد خارجي.
2- القدم الزماني: وهو عدم المسبوقية بالعدم، أي: أن الشيء وُجد، ولم يُسبق بعدم، فكان وجوده ممتدًا في الزمان دون بداية. ويقابله “الحدوث الزماني”، وهو أن يكون الشيء قد وُجد بعد أن لم يكن، أي: سبقه العدم.
3- القدم الإضافي: وهو أن يكون وجود الشيء أقدم من غيره، من حيث الزمن فقط، لا من حيث الماهية أو العلية. فيقال: هذا أقدم من ذاك، إذا مضى على وجوده زمن أطول، ولو كان كلاهما مخلوقَين. ويقابله “الحدوث الإضافي”، وهو أن يكون زمن وجود الشيء أقصر من غيره، أو لاحقًا له([26]).
وبالنظر إلى هذا التقسيم يتبيّن أن إطلاق “القدم” من بعض الحنابلة على القرآن -من حيث هو كلام الله غير المخلوق- لا يحمل بالضرورة معنى القدم الذاتي، بل قد يراد به القدم الإضافي، أي: التقدم الزماني على غيره من كلام المخلوقين.
ويؤكّد هذا ما نقلناه عن أبي الفرج الشيرازي الحنبلي: “حدّ القديم ما كان متقدّمًا على غيره. والدليل على صحة هذا، هو أنهم -يعني: العرب- يقولون: جسرٌ قديم، وبئرٌ قديم لتقدمه على غيره”([27]).
وهنا يصف الشيرازي القرآن بأنه متقدّم على غيره، لا بأنه قديم أزلي. ويُفهم من هذا أن وصف “القدم” عند طائفة من الحنابلة كان مضطربًا، ولم يكن اصطلاحًا كلاميًّا على المعنى الفلسفي أو الكلامي للقديم، بل كان استعمالًا عرفيًّا أو إضافيًّا، قصدوا به سبق القرآن لسائر كلام المخلوقين، لا من حيث أنه غير مسبوق البتة.
وهو ما انتقدهم عليه ابن عقيل قائلًا: “وأرى الناس في زماننا هذا قد أُغرُوا بلفظة (قديم)، فمهما أرادوا إكرامه قالوا: قديم؛ فإما جهلًا منهم بمعنى القديم، وأنه ما لا أول لوجوده، أو يظن بمعنى عتيق”([28]).
وأشار إليه أيضًا ابن الملاحمي قائلًا: “قال أصحابنا: أكثر أصحاب الحديث لا يُحصّلون معنى القديم، وأنه هو الذي لا أول لوجوده”([29]).
ويبدو أن هذا الصنف من الأثرية والحنابلة استخدموا لفظ “القديم” لأنهم لم يعرفوا إلا القسمة الثنائية (قديم / مخلوق)، ولم تكن القسمة الثلاثية (قديم / حادث مخلوق / حادث غير مخلوق) منتشرة لديهم، فوقع في كلامهم نوع من الإجمال أو الاشتراك اللفظي. ولهذا قد يصف بعضهم الكلام أو القرآن بأنه “قديم”، أو يقول: إن الله “تكلم به قبل الخلق”، لكنهم لا يمنعون من تجدد الكلام وتعلقه بالمشيئة.
خامسًا: علاء الدين المرداوي يضبط المذهب عند المتأخرين:
بعد حلقة من الاضطراب داخل رواق المذهب الحنبلي تولّى المرداوي ضبط اختيارات المذهب في كتبه المعتمدة، لا سيما كتاب “الإنصاف” الذي صار مرجعًا في تحرير معرفة المعتمد من المذهب.
وفي هذه المسألة تحديدًا ينقل المرداوي تسعة أقوال في صفة الكلام، من ضمنها الرابع وهو القول بأزلية الحرف والصوت، -وهو قول مدرسة القاضي أبي يعلى-، ثم يعرض القول التاسع فيقول: “التاسع: أن يقال: لم يزل الله متكلمًا إذا شاء، ومتى شاء، وكيف شاء، بكلام يقوم به، وهو يتكلَّم بصوت يُسمع، وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يكن الصوت المعين قديمًا، وهذا القول هو المأثور عن أئمة الحديث والسنَّة“. ويعلق على ذلك بقوله: “ومن أعظم القائلين بهذا القول الأخير: الإمام أحمد؛ فإنه قال: لم يزل الله متكلمًا كيف شاء بلا تكييف، وفي لفظ: إذا شاء”([30]).
ويُستفاد من صنيع المرداوي أن اختياره للقول التاسع لا يمكن عزله عن سياق التأثر بالمدرسة التيمية التي أعادت بعث هذا القول بصفته المعبِّر الأصدق عن مذهب السلف، بخلاف القول الرابع الذي كان أقرب إلى صناعة المدرسة الكلامية التي انخرط فيها القاضي أبو يعلى وبعض الحنابلة المتكلّمين، والذي أثبت فيه أزلية الحرف والصوت بصورة مجتمعة.
وما اختاره المرداوي ينسجِم مع ما نقله الحافظ ابن حجر العسقلاني عن جمهور الحنابلة، فقال: «وافترق أصحاب أحمد فرقتين، فمنهم من قال: كلامه لازم لذاته، والحروف والأصوات مقترنة لا متعاقبة، ويسمع كلامه من شاء. وأكثرهم: أنه يتكلم بما شاء إذا شاء، وأنه نادى موسى حين كلمه، ولم يكن ناداه من قبل»([31]).
خاتمة:
وبهذا يظهر أن كثيرًا من الإشكالات التي نُسبت إلى بعض أئمة الحنابلة في باب الصفات أو كلام الله تعالى ترجع إلى عدم تحرير المصطلحات، أو إلى التوسع في إطلاق الألفاظ من غير ضبطها بمعانيها الاصطلاحية المتأخرة. فإطلاق القدم على القرآن -وإن كان موهِمًا لمن لا يعرف مراد قائله- لا يلزم منه القولُ بقدم ذاتيّ أزليّ إلا إن صُرّح بذلك، ولا يُفهم منه نفي الحدوث الزماني أو الذاتي إلا إن تضمّن المعنى الفلسفيّ أو الكلاميّ المتأخر. والواجب في هذه المواضع هو التثبت من مراد المتكلّم، والنظر في لوازم قوله التي يقرّ بها، لا التي يُتوهَّم لزومها بحسب اصطلاحات مخالفة لمذهبه ولسان عصره.
وقد أحسن ابن تيمية ومن وافقه حين قرروا أن كثيرًا من نزاعات الصفات مبناها على الألفاظ المجملة، وأن الرد على الخصم بمجرد ظاهر لفظه قد يُفضي إلى خطأ في الحكم عليه، بل الواجب سؤال القائل عما أراد بقوله، ثم الحكم على المعنى لا على اللفظ المجمل. وإذا تحرر هذا الأصل زال كثير من الخلاف، واتّضح أن الحنابلة في إطلاقهم للفظ “قديم” على القرآن لم يخرجوا عن دائرة أهل السنة، وإنما عبّروا بما فهموه من التقدم أو السبق، لا بما اصطلح عليه المتكلمون من القدم الذاتي الذي لا يصح إلا في حق الله تعالى.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) أخرجه البخاري (4712)، ومسلم (194)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([2]) خلق أفعال العباد (ص: 109).
([3]) خلق أفعال العباد (ص: 112).
([4]) خلق أفعال العباد (ص: 112).
([5]) صحيح البخاري: كتاب التوحيد، بابُ قَوْلِ اللَّهِ تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأنٍ} [الرحمن: 29].
([6]) صحيح البخاري: كتاب التوحيد.
([9]) ينظر: اجتماع الجيوش الإسلامية (ص: 151).
([10]) ينظر: مجموع الفتاوى (6/ 179).
([13]) ينظر: مجموع الفتاوى (6/ 96).
([14]) ينظر: مجموع الفتاوى (3/ 438)، درء التعارض (1/ 275).
([15]) المسائل العقدية من الروايتين والوجهين (ص: 60).
([16]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (ص: 224).
([17]) الحجة في بيان المحجة (ص: 201).
([19]) الفائق في أصول الدين (ص: 179).
([20]) رسائل الجاحظ (2/ 15-16).
([22]) الوصول إلى الأصول (ص: 60-61).
([23]) الرد على الشاذلي (1/ 222).
([24]) مجموع الفتاوى (12/ 323).
([25]) التبصرة في أصول الدين (ص: 94).
([26]) المدخل إلى الأمور العامة، د. أحمد الشاذلي الأزهري (ص: 195-198).
([27]) التبصرة في أصول الدين (ص: 94).
([29]) الفائق في أصول الدين (ص: 179).