كم نَحْنُ بِحَاجَةٍ إِلَى الأَنْبِيَاءِ وَوَرثَتِهِم؟(17)
للتحميل كملف اضغط هــنــا
المقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد، فقد أضحى الإعلام الجديد في زمننا المعلِّم الأوَّل لكثير من شرائح المجتمع، فأينما قلَّبت النظر وجدت متصفِّحًا لها سواءً في الأجهزة المحمولة (الجوال) أو غيرها، فهذا يشاهد نصيحة أرسلها فلان، وذاك يقرأ مقالة كتبها علان، وآخر يقلِّب صورًا، ورابع يردُّ على قضية، وهكذا.
لم تكن هذه القضيَّة ذا بال لنستفتح بها ورقة علمية، ولكنَّ الأمر الذي أرهقَ المربِّين والمفكِّرين والمعلِّمين أن هذه المواقع غدت منبعًا لبثِّ شبهات وأفكار وآراء تناقض الدِّين وتنقض القيم وتخلخل الأعراف، ومن تلك الأفكار التي تأثَّر بها كثير من الشباب اليوم، التزهيد في الأنبياء، والتهكُّم بميراثهم، والازدراء بورثتهم، والانبهار بتقدُّم الغرب في الصناعة والتكنولوجيا، والسير وراءهم تقليدًا أعمى في كل شئون الحياة!! فصار الأولون يُستدبرون والآخرون يُستقبلون! وظنَّ من ظنَّ منهم أن لا حاجة إلى الأنبياء في عصر التكنولوجيا والتقدُّم كما يزعمون!
ومن هنا كانت هذه الورقة لبيان افتقار البشر إلى النبوة، وضرورتها لحياة البشرية وإلا طُمسوا من الوجود، مع التلميح إلى شيء من أدوارهم العظيمة التي لا يمكن أن يقوم بها غيرهم.
حقيقة المشكلة.
يشغِّب كثير من اللادينيين على أفئدة المؤمنين المتدينين بالتشكيك في حاجة البشرية إلى النبوة وإلى الأنبياء، وأنه أمر تاريخي قديم يمكننا اليوم الاستغناء عنه، في وقت لمع فيه نجم العلم التجريبي والصناعي لدى الغرب، ونعقوا نعاق الغربان أن لا حاجة لهم إلى الأنبياء ولا إلى الوحي بعد نيلهم حفنة من أسرار الكون عن طريق العلم التجريبي!!
وضخًّوا قولهم ذلك في وسائل الإعلام ضخَّا، فكان لذلك أثره على بعض المسلمين المنبهرين بتقدُّمهم الصناعي، وهذا التأثُّر حاصلٌ لدى كثير، وهو وإن لم يصرِّح به بعض النَّاس إلا أن واقع حياتهم وبُعدهم عن ميراث الأنبياء بل والازدراء بها فضلًا عن إغراقهم في الخضوع لأقوال المشكِّكين، ومعارضتهم لكل شيء بالعقل وإن كان ممّا لا يستطاع الوصول إلى مثله إلا بخبر النبوة= يُترجم عن هذا الدَّخن الكامن في النفوس، فأضحى التسليم لقول عالم الطبيعة عقلنة، وغدا التسليم لقول الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم تخلفًا ورجعية، وهكذا بدأ التساؤل يطفو على العقول والأذهان، هل نحن بحاجة إلى الأنبياء؟
هل النبوة مسألة عاطفية افتراضية فحسب؟
قبل كل شيء لا بد أن نوقن بأن الإيمان بالنبوة قائم على أسس عقلية وأدلة منطقية، وليس هو مجرد دعوى عاطفية أو مشاعر روحية أو مسألة افتراضية، وإنما هي قضية منبثقة عن قضية ضرورية بدهية، وهي الإيمان بالخالق سبحانه، فمن أقرَّ بوجود الخالق، لا بد وأن يسلِّم بالنبوة طردًا وعكسًا وإلا كان متناقضًا في عقله متقلبًا في تفكيره.
فإيماننا بالله تعالى وصفاته وكماله يركن إلى طود شامخ، وأدلة متنوعة متضافرة في العقول والفطر والآفاق والأنفس؛ كدليل الخلق والإيجاد ودليل الإتقان والإحكام وأدلة الفطرة كالمقدمات الفطرية والغرائز الفطرية أيضًا والقيم الأخلاقية والإرادة الغائية([1])، وإذا كانت مسألة النبوة معتمدة على الإيمان بوجود الله تعالى، فهل يمكن مناقشة الملاحدة في مسألة النبوة؟
السلَّم الصحيح للنقاش والتحاور هو طرح مسألة وجود الله أوَّلًا، فالقضية الأساسية الجوهرية التي عليها تُبنى القضايا الأخرى هي إثبات وجود الله تعالى وربوبيته، ثم يتفرع بعد ذلك الحديث عن النبوة والرسل وغير ذلك من القضايا الدينية؛ لأن “من لم يعترف بأمر الله لم يعترف بالنبوة قط” كما يقول الغزالي رحمه الله تعالى([2])، ذلك أن “الكلام في النبوة فرع على إثبات الحكمة التي توجب فعل ما تقتضيه الحكمة ويمتنع ما تنفيه” كما يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى ([3])، وقد حرَّر علماء الإسلام هذه المسألة مذ قرون، يقول الإمام الماوردي رحمه الله تعالى: ” لا يصح التعبد ببعثة الرسل إلا بعد معرفة المرسِل”([4])، ويقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى:” ينبغي لك أن تعرف أن المعجزة لا تكون دليلا إلا في حق من عَلم وجود الباري تعالى وأنه قادر عالم مريد موصوف بصفات الكمال حتى يتأتى منه الإرسال والتصديق والتكليف، وإذا لم يعرف الناظر هذه الأمور بأدلة عقلية لم يعرف المعجزة ولم يفده العلم بالتصديق للنبي”([5]).
إذن الإيمان بالنبوة فرع عن الإيمان بالله وبحكمته سبحانه وتعالى، وتوضيح ذلك:
أنَّ مَن آمن بوجود الله سبحانه وتعالى وخَلْقِه الكون، وضَبطِه كل مكوِّن فيه ضبطًا دقيقًا([6]) لا بد وأن يُقرَّ بقدرته المطلقة وإرادته التي لا مُمسك لها، وحكمته البالغة سبحانه وتعالى فهو سبحانه {الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [الأعلى: 1 – 4].
وحينئذٍ فلا مانع يمنع من إمكانية النبوة من حيث قدرته سبحانه، كيف وهو الذي خلق السماوات والأرض ومن فيهما، أليس بقادر على أن يُرسل رَسولًا أو ينبئَ أحدًا من خلقه؟!
ولا من جهة حكمته سبحانه وتعالى؛ إذ لا يستقيم لدى الحُكماء أن يكون خلق هذا الكون عبثًا أو لعبًا، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115، 116]، بل الحكمة تقتضي ألَّا يكون هذا الصنع المتقن إلا لحكمة وغاية نبيلة كما أخبر الله تعالى {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} [الدخان: 38]، وهذه الغاية الشريفة هي عبادته عزَّ وجلَّ، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وتلك هي أنبل غاية وأكمل علاقة بين الخالق ومخلوقيه([7]).
ولكن، كيف السبيل إلى أن يعرف الإنسان هذه الغاية؟!
في واقع الأمر البحث عن الغاية من وجود الإنسان وسؤال: لماذا نحن هنا؟ من أكثر الأسئلة إلحاحًا على النفس البشرية الشغوفة بالاطلاع والبحث عن الغايات، ولطالما أشغل هذا السؤال الفلاسفة وأرَّق المفكِّرين، وكان البحث في هذه القضية على قدم وساق مذ ملايين السنين، ولكن، هل للقدرات البشرية المحدودة إدراك هذه الغاية بنفسها؟
يُكابر بعض الناس في هذه المسلَّمة وفي كون قدراته محدودة بل وفي حدود ضيقة، عجبًا!! أليست أدوات الإنسان المعرفية محدودة؟ أليس سمعه محدودًا؟ فهو لا يسمع إلا في المدى المسموح له بذلك، ثم متى كان بصرُه خارقًا ليدرك به كل المبصرات؟ بل الإنسان لا يرى ببصره إلا في حدود ضيقة وبشروط معروفة، والحال نفسه مع العقل البشري المحدود، نعم فعقل الإنسان محدود بالمجال الذي وُضع له لا يتجاوزه، والولوج بالعقل إلى الأعماق التي لم يُخلق لها يغرقه في أمواج الخرافات والشعوذات، فإذا كانت قدرات الإنسان وملكاته محدودة، ويقرِّر اليوم ما ينقضه غدًا، فكيف له أن يُدرك بنفسه قضية جوهرية مطلقة مثل غاية وجوده وغاية خلق الخلق؟
إذن الإنسان بأدواته المعرفية لا يستطيع الوصول لهذه الغاية وإدراكها، ولكن بعض النَّاس اليوم فُتِن بتقدُّم العلم التجريبي وظنَّ أنه قادر على تجاوز هذه المسألة، ولذا من المشروع هنا أن نتباحث، هل العلم التجريبي يملك أدواتٍ مطلقة أم هو الآخر محدود أيضًا؟
في واقع الأمر لا بد أن يعترف أرباب العلم التجريبي أن علمهم ككل العلوم له حدود يقف عندها، والبحث في الغاية من وجود الإنسان ليست في إطار دراساته؛ إذ العلم التجريبي يُعنى بدراسة الظواهر الكونية وتفسيرها وفقًا لتلك الظواهر، لكن ليس من شأنه البحث في الأسئلة الوجودية الكبرى الشهيرة، والتي من أهمها سؤال: لماذا نحن هنا؟ وما الغاية من وجودنا؟ وإلى أين المصير؟
فالعلم التجريبي لا يستطيع أن يخوض في كل مسألة وإنما له نطاق يبحث فيه، والخروج عن ذلك النطاق يُعد خبطًا وخطَلًا، ولذا فهو في كثير من القضايا يحتاج إلى غيره ولا يمكنه الاكتفاء بنفسه، يقول (جون بولكينجهورن): ” قوانين الفيزياء – كما تعرف عنها الفيزياء الحديثة – لا تملك سمة الاكتفاء الذاتي، ولكن يبدو «بالأخص» أنها تشير لما بعدها للحاجة لمستوى أعلى وأعمق من الوضوح”([8]).
وإذا كان الإنسان بملكاته وأدواته العلمية ومعارفه محدودٌ قاصر، فمن أين له أن يُدرك غاية وجوده؟
دلائل الافتقار إلى النبوة
ليس من الحكمة والعدل أن يُترك الإنسان وأدواته المحدودة ليتيه في بيداء قاحلة، ويصارعَ الآراء المتشعبة والأهواء المتنافرة والعقول المتعاركة بحثًا عن قطرة ماء تُروي تساؤلاته، وتدلُّه على غاية وجوده.
فمن الضَّروري أن يكون للإنسان مصدرٌ لتعليمه هذه الغاية التي خُلق لها، مصدرٌ يتصف بشمول العلم وإحاطته وعدم تأثره بالظروف والأهواء والميول، وليست هذه الصفات المطلقة إلا لله تعالى الذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فكان لا بد من التواصل بين الله والإنسان، وذلك عن طريق رسلٍ يصطفيهم الله تعالى من البشرِ أنفسهم؛ ليكونوا أقرب للاستيعاب والتصديق وليُمثِّلوا النموذج الأرقى لتلك الغاية والقدوة الأمثل في قصدها، فالنبوة إذن ضرورة إنسانية لا مناص للبشر عنها.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا ينكر أحد أن الإنسان مُيِّز عن غيره من المخلوقات بتسخير السماوات والأرض وما بينهما له وأعطيت له الخلافة والسِّيادة في الكون، وهُيِّأت له الأرض يعمرها ويشيِّد فيها الحضارات، وكُرِّم بحمله في البر والبحر، وخَلقه على أكمل صورة، وأعدل خِلقة، أوَيصحُّ في العقل أن يُعتنى به في كل تلك الأمور، ثم لا يُعتنى بإبلاغه غاية وجوده؟!
فلا بد إذن من طريقة يبلُّغهم الله به غاية إيجادهم في الأرض وتلكم هي النبوة.
ولنا في الصناعات الحديثة مثَل، {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60]: انظر إلى أيِّ مصنوع شئت اليوم، ألا ترى كل صانع يرفق صنعته بـ(كتالوج) أو شيء يُوضح غاية ذلك المصنوع وطريقة عمله، ويُعتبر ذلك نوع كمال للصانع، فالله سبحانه أولى بهذا الكمال.
وفي هذا الذي قرَّرناه يقول ابن تيمية رحمه الله: “الرسالة ضرورية للعباد لا بد لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور؟ والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة، وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة، وهو من الأموات، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122]، فهذا وصف المؤمن كان ميتا في ظلمة الجهل فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان وجعل له نورا يمشي به في الناس. وأما الكافر فميت القلب في الظلمات… فإن الله سبحانه جعل الرسل وسائط بينه وبين عباده في تعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم وتكميل ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم وبعثوا جميعا بالدعوة إلى الله وتعريف الطريق الموصل إليه وبيان حالهم بعد الوصول إليه”
ثم ذكر رحمه الله أن الدين ينبني على ثلاثة أصول: التوحيد والشرائع واليوم الآخر ثم قال: ” وعلى هذه الأصول الثلاثة مدار الخلق والأمر والسعادة والفلاح موقوفة عليها ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهة الرسل؛ فإن العقل لا يهتدي إلى تفاصيلها ومعرفة حقائقها وإن كان قد يدرك وجه الضرورة إليها من حيث الجملة كالمريض الذي يدرك وجه الحاجة إلى الطب ومن يداويه ولا يهتدي إلى تفاصيل المرض وتنزيل الدواء عليه. وحاجة العبد إلى الرسالة أعظم بكثير من حاجة المريض إلى الطب؛ فإن آخر ما يقدر بعدم الطبيب موت الأبدان وأما إذا لم يحصل للعبد نور الرسالة وحياتها مات قلبه موتا لا ترجى الحياة معه أبدا أو شقي شقاوة لا سعادة معها أبدا فلا فلاح إلا باتباع الرسول”([9]).
والحاجة إلى النبوة ليست مقتصرة على هذه القضية، بل الإنسان وإن عرف أن عبادة الله تعالى غاية وجوده، يحتاج إلى معرفة الطريقة والمنهج والشرع الذي يُقرِّبه إلى الله؟
هنا يلوح لنا جانبٌ آخر من جوانب الافتقار والحاجة إلى النبوة والوحي، إذ لا سبيل للبشر بقدراتهم وعلومهم معرفة طرق التقرب إلى الله، بل لا يتحصل ذلك إلا عن طريق الأنبياء، وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله: “لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا ينال رضا الله البتة إلا على أيديهم، فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاءوا به، فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأخلاق والأعمال، وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه والعين إلى نورها والروح إلى حياتها”([10]).
والإنسان وإن عُلِّم الغاية والمنهج الذي يسير به إلى ربِّه نظريًّا، فسيبقى مفتقرًا إلى قدوة يقتدي بها ويتعلَّم منها واقعيًّا، وتكون على أكمل الصور الممكنة في الحياة البشرية، ذلك أن الاقتداء والتأسي غريزة بشرية، فتجد الإنسان يرث صفات من يختلط به ويكنُّ له التقدير كالوالدين، والمعلم، والصديق وغيرهما، فنحن بحاجة ماسة لقدوة بلغت الكمال في تحقيق تلك الغاية التي خُلقنا لها، وهؤلاء القدوة هم الأنبياء الذين امتنَّ الله علينا بإرسالهم، يقول سبحانه وتعالى في نبيِّنا محمدٍ عليه الصلاة والسلام: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
وبعد كلِّ هذه الدلائل
لو حلَّقنا بأنظارنا وتفكَّرنا في كائنين: (خالق ومخلوق)، مخلوقٌ أوجده خالقه بعد عدم، وسخَّر له السماوات والأرض وما فيهما، وذلك الخالق له الكمال المطلق في كل أسمائه وصفاته وأفعاله، فقل لي بربك كيف تكون طبيعة العلاقة بينهما إن لم تكن عبودية الأول للآخر؟!
وإن شئتُ قلتُ: هل هناك علاقة للإنسان المخلوق أشرف من هذه العلاقة؟ أليس الإنسان المخلوق أحوج ما يكون إلى التعلُّق بربِّه وخالقه؟
فهذه العلاقة ضرورية بالنسبة للإنسان، وإذا كان كذلك فمن الذي يضع الأنظمة لهذه العلاقة؟ أهو الإنسان نفسه؟
يا سبحان الله!! أرأيت يومًا من الأيام ملكًا من ملوك الدنيا، يضعُ عبيدُه أنظمة ومناهج اللقاءات بينهما والجلوس في المجلس الملكي والكلام والاستئذان والخروج؟!! أم أن الملك هو من يحكم في ذلك؟
وكيف يُخوَّل للإنسان وضع أنظمة العلاقة بينه وبين خالقه وهو قاصرٌ عن إدراك النظام الأكمل لعلاقته مع بني جنسه؟! وكثيرًا ما يقرِّر شيئًا ويقوِّم رأيًا ثم ينقض ما كان يراه بالأمس قويمًا، فإن كان الإنسان عاجزًا عن ضبط علاقته بأقرانه من البشر، فكيف يَضبط علاقته بالله؟!
إذن الإنسان بحاجة ملحَّة إلى التعلُّق بربه الذي ليس في الوجود علاقة أكمل منها وأشرف، وإلى أن يضبطَ له خالقه الأنظمة والمناهج لتلك العلاقة؛ لأنه العليم الحكيم الخبير سبحانه وتعالى، وطريق إدراك ضوابط تلك العلاقة هم الأنبياء والرسل عليهم السلام.
ولكن هذه العلاقة الطبيعية بين الإنسان وخالقه معرَّضة لأن يعتريها ما يشوبها ويعكِّر صفوها؛ لأن الإنسان ليس كسائر المخلوقات، بل هو كثير النسيان كثير الذهول وتحرِّكه الشهوات والميول والنزوات، ويملك إرادة حرَّة يتحرك بها، وأيضًا إبليس قد أخذ على نفسه العهد على إغواء بني آدم وحلف وقال: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16، 17]، فهذه الأمور تتسبَّب في تحريف الإنسان عن مساره الطبيعي، وهنا تأبى الرحمة الإلهية أن تترك الإنسان وغفلته بل يرسل الله سبحانه وتعالى {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].
ولو أن الإنسان لم تكن فيه تلك الصفات التي تحرِّف مساره كحال عامَّة المخلوقات لما احتاج إلى الرسل، ولكن الله كرَّم الإنسان وميَّزه بين خلائقه بأن أعطاه الإرادة الحرَّة حين اختارها، ثم أرسل إليه الرسل وأنزل الكتب يذكروه بذلك العهد والميثاق([11]).
هذه صورة من صور الافتقار إلى النبوة وصلنا إليها بالتفكِّر في حال المخلوق، ولو نظرنا من جهة كمال حكمة الله ورحمته تتجلَّى لنا صورة أخرى.
ذلك أن الحكمة الإلهية تقتضي أن يتفضل الله سبحانه وتعالى بضبط هذه العلاقة وتيسير سبلها للخلق كلهم.
أليس من الكمال لأيِّ مَلِكٍ في الأرض إن كان محبًّا لمملوكيه أن يبيِّن أنظمة العلاقة بينه وبين مملوكيه، وطريقة الكلام والتحية والجلوس والخروج، وما يحبُّ من ذلك وما يكره؟! بل من الحكمة والعدل أن يفعل ذلك؛ ليتعامل معه مملوكيه على ما يريد، ويحاسبهم على ما قرَّر هو أولا.
{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60] سبحانه وتعالى، فالله تعالى أولى بهذا الكمال من المخلوقين، فمن الحكمة أن يبيِّن للناس سبل محبته والتقرب إليه سبحانه وتعالى حتى يلتزموا بها، وكذلك الأمور التي يكرهها حتى يتجنبوها، ويبلغهم إياها البلاغ المبين، الذي لا يفهمه بليدُهم فضلا عن العقلاء.
وهذا فعلًا ما حصل، فالله عزَّ وجل قد وضع هذا المنهج وبلَّغه إلينا بأقرب الوسائل وأنجع الطرق، ألا وهم الأنبياء عليهم السلام الذين هم أرحم وأبلغ وأنصح كما قال تعالى: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33]، وقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
وبهذا نُدرك كيف أن إرسال الرسل رحمةٌ للعالمين، وإشفاقٌ على البشرية وحاجتهم الملحَّة وإلا فسدت السماوات والأرض والكون بأسره، يقول أبو الحسن الندوي: “إن المدنية لا تدين لأي طائفة من طوائف البشر كما تدين لهذه الطائفة الربانية، إنها تدين لها في حياتها وبقائها، وفي شرفها وكرامتها، وفي اعتدالها وسدادها، فلولاهم -صلى الله عليهم وسلم- لغرقت سفينة الإنسانية بما فيها من علوم، وتراث حضاري، وفلسفة، وحكمة، ولتحولت الأجيال البشرية إلى قطعان من السائبة أو الوحوش، لا تعرف ربًا، ولا تعرف دينًا ولا خلقًا، ولا تعرف رحمة ولا محبة، ولا تعرف معنى أسمى وغاية أعلى من العلف والرتع، ومن الماء والكلأ، إن كل ما يوجد في العالم من المعاني الإنسانية الكريمة، والأحاسيس الرقيقة اللطيفة، والأخلاق العالية الفاضلة، والعلوم الصحيحة النافعة، ومن القوة والعزم على محاربة الباطل والفساد، إنما يرجع فضله وينتهي تاريخه إلى وحي السماء، وتعليمات الأنبياء”([12])
أضف إلى ما سبق أن الإنسان سئُول شغوفٌ لمعرفة مصيره بعد هذه الحياة التي يعيشها، وهذا ما نرى كثيرًا من المؤسسات أيًّا كان نشاطها تستغلُّه، فتُبرز قيَمها ولائحة أنظمتها للموظَّف والمستفيد، وتوضِّح لهم وسائل الترقية في العمل والعقوبات المترتبة على المخالفات، ذلك أن الإنسان بحَّاثة عن العواقب والمآلات التي يصير إليها بعد ما يقوم به من جهد وعمل، فإذا كان هذا أيضا نوع كمال في أعمال الخلق، أفلا يكون الخالق أولى بها؟
إذن من تمام الحكمة والعدل أن يُبيَّن للناس الجزاء المترتب على الالتزام بالأنظمة والمناهج التي سنَّها الله تعالى والعكس، حتى يكون الناس أكثر تعلقا بما يقرِّبهم إلى الله سبحانه وتعالى وأبعد عما يغضبه؛ ولأن الإنسان لا محالة سيحاسب على أعماله وطبيعة علاقته بربِّه، وواقفٌ بين يديه في يوم المصير، فمن كمال العدل أن يلج إلى هذه الأهوال وهو على بيِّنة من أمره ويعمل ويسعى فيما يوصله إلى مصيره المبتغى، وبيان تلك العواقب الجزاءات متعذِّر إلا عن طريق الأنبياء والرسل.
وبيان ذلك من تمام النذارة والبشارة وإقامة الحجة فهؤلاء الأنبياء يرسلهم الله {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].
ولنرجع البصر كرة أخرى إلى الإنسان ونتأمل في طبيعة نفسه، هل له أن ينفكَّ عن التعبُّد؟
الشواهد التاريخية والدراسات النفسية والأبحاث الاجتماعية بل وكثيرًا من فروع العلم التجريبي كعلم الجينات والأعصاب والدماغ يقرر اليوم بأن التعبُّد والتديُّن متجذِّر في الإنسان ومتأصِّل في كيانه، فالإنسان متديِّن بطبعه كما أنه مدنيّ بطبعه، وإذا كان كذلك فلا بد من توجيه هذه الخصيصة الإنسانية إلى مسارها، وتوجيهها يكون عن طريق الأنبياء، وإلا خبطَت خبط عشواء، وتداخلت مع الأغراض والأهواء، كما تشهد لذلك واقع الديانات المحرَّفة بين من يعبُد حجرًا أو شجرًا أو حيوانًا حتى إن منهم من يَعبد الفئران وفروج النساء([13]) .
إن لم تقنع بعد بحاجتنا إلى النبوة بل افتقارنا لها، فانظر معي في حالك، ألست متطلعًا إلى الكمال في كل شيء؟ أليس الإنسان مفطورًا على حبِّ الكمال؟ ومتشوِّفًا إليه غاية التشوُّف؟ وكلما ازداد العلو والكمال في شيء ازداد الإنسان به تعلُّقا وإلى معرفته تشوُّفًا.
إذا كنت كذلك فإن الله سبحانه وتعالى له الكمال المطلق في كلِّ شيء في أسمائه وصفاته وأفعاله، فهو أعلى وأشرف ما يمكن أن تعرفَه البشريَّة، فالإنسان متشوّفٌ إلى معرفته غاية التشوُّف، ومتعلِّق به سبحانه وتعالى، ومتطلِّع إلى المصدر الذي كان سببًا في حدوث هذا الكون العظيم والصنع المتقن، وما كانت رحمة الله وعدله ليذرا هذا المطلب الإنساني لتخبُّطات العقل البشري وأدواته القاصرة، بل تقتضي الحكمة والرحمة الإلهية أن يجعل للعلم به والتعلُّق به طريقًا آمنًا ممهَّدًا للوصول إليه سبحانه، وذلكم هو طريق الأنبياء عليهم السلام.
ومما يدلُّ على افتقار الإنسان إلى النبوة أيضًا أن الإنسان أشرف المخلوقات وأكرمها، ويتميَّز بكثير من الخصائص والصفات فهو ذو إرادة حرة، وقصدٍ للكمالات، وبحثٍ عن العلل والغايات، واختلاف المقاصد والغايات وهو يستلزم بالضرورة اختلاف الأعمال والسلوكيات، ولا بد أن يكون فيها الخير والشر والطيب والخبيث والنافع والضار، وحينئذٍ نحتاج إلى ميزان نزن به تلك الأعمال ونحكم عليها؟
هل يستطيع الإنسان بعقله أن يفعل ذلك، أنسينا أن العقل البشري محدود بحدود لا يستطيع تجاوزها، ونحن نحتاج إلى علم مطلق يستوعب كل البشرية كما نحتاج إلى عقل متجرد من الأهواء والأغراض ويتسم بالموضوعية، أيمكن أن يكون في البشر من يتصف بهذه الصفات؟
لا بالطبع، فنحن إذن بحاجة إلى ميزان يضعه ذو علم مطلق وموضوعي يستوعب البشرية ولا تؤثر فيه الظروف والأهواء والأغراض، وهذا لا يكون إلا فيمن له الكمال المطلق سبحانه وتعالى، والاتصال بيننا وبينه متعذّر إلا عن طريق الأنبياء والرسل عليهم السلام.
اقرأ قوله تعالى وقد لخَّص هذا المعنى في جملة واحدة {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، وعلى هذا نص علماء الإسلام، يقول ابن تيمية: “الرسالة ضرورية في إصلاح العبد في معاشه ومعاده فكما أنه لا صلاح له في آخرته إلا باتباع الرسالة فكذلك لا صلاح له في معاشه ودنياه إلا باتباع الرسالة؛ فإن الإنسان مضطر إلى الشرع؛ فإنه بين حركتين: حركة يجلب بها ما ينفعه؛ وحركة يدفع بها ما يضره. والشرع هو النور الذي يبين ما ينفعه وما يضره والشرع نور الله في أرضه وعدله بين عباده وحصنه الذي من دخله كان آمنا. وليس المراد بالشرع التمييز بين الضار والنافع بالحس؛ فإن ذلك يحصل للحيوانات العجم؛ فإن الحمار والجمل يميز به بين الشعير والتراب بل التمييز بين الأفعال التي تضر فاعلها في معاشه ومعاده كنفع الإيمان والتوحيد؛ والعدل والبر والتصدق والإحسان؛ والأمانة والعفة؛ والشجاعة والحلم؛ والصبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصلة الأرحام وبر الوالدين والإحسان إلى المماليك والجار؛ وأداء الحقوق؛ وإخلاص العمل لله والتوكل عليه؛ والاستعانة به والرضا بمواقع القدر به؛ والتسليم لحكمه والانقياد لأمره؛ وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه؛ وخشيته في الغيب والشهادة؛ والتقوى إليه بأداء فرائضه واجتناب محارمه؛ واحتساب الثواب عنده؛ وتصديقه وتصديق رسله في كل ما أخبروا به؛ وطاعته في كل ما أمروا به؛ مما هو نفع وصلاح للعبد في دنياه وآخرته؛ وفي ضد ذلك شقاوته ومضرته في دنياه وآخرته. ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد فمن أعظم نعم الله على عباده وأشرف منة عليهم: أن أرسل إليهم رسله؛ وأنزل عليهم كتبه؛ وبين لهم الصراط المستقيم. ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام والبهائم بل أشر حالا منها فمن قبل رسالة الله واستقام عليها فهو من خير البرية ومن ردها وخرج عنها فهو من شر البرية وأسوأ حالا من الكلب والخنزير والحيوان البهيم. وفي الصحيح من حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير. وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وانتفعوا وزرعوا. وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)([14])“([15]).
الخاتمة
في الختام نؤكِّد أن النبوة ليست مجرَّد مسألة عاطفية، وإنما مبنية على أسس وبراهين عقليَّة، ومتدرِّجة على الإيمان بالله سبحانه وتعالى، فالله ذو الكمال المطلق الخالق لنا ولكوننا ولا بد أن تكون لنا به علاقة سبحانه، والأنبياء هم من يبيِّنون لنا طبيعة هذه العلاقة وطريقتها وعواقبها، فالنبوة إذن مطلب إنسانيٌ ملحٌّ لا مناص للبشر عنه.
وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وآله وصحبه وسلم
([1]) ينظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (3/303)، وللاستزادة عن أدلة وجود الله ينظر: مقالات أدلة وجود الله الصادرة عن مركز سلف للبحوث والداراسات؛ كالمقدمات الأولية http://salafcenter.org/522/، والغرائز http://salafcenter.org/639/، والنزعة الأخلاقية http://salafcenter.org/548/، والإرادة الغائية http://salafcenter.org/647/، والإرادة الحرة http://salafcenter.org/683/ .
([4]) أعلام النبوة للماوردي (ص9).
([5]) الإعلام بما في دين النصارى من الأوهام للقرطبي (ص 239).
([6]) ينظر: مقال (كون مهيأ لاستقبالنا) الصادر عن مركز سلف للبحوث والدراسات.
([7]) ينظر: مقال (إذا كان الله غني عنا فلم يأمرنا بعبادته) والصادر عن مركز سلف للبحوث والدراسات.
([8]) نقلًا عن: الصنع المتقن لمصطفى نصر قديح (ص281)، وينظر: مقال قصور العلم التجريبي الصادر عن مركز سلف للبحوث والدراسات.
([9]) مجموع الفتاوى لابن تيمية (19/ 93).
([10]) زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 69).
([11]) ينظر: مقال الإرادة الحرَّة ووجود الله في موقع مركز سلف للبحوث والدراسات http://salafcenter.org/683/ .
([12]) النبوة والأنبياء في القرآن لأبي الحسن الندوي (ص 39).