أساطِيْنُ المُتَكَلِّمِين و أَدِلَّةُ الشَّرعِ العَقلِيَّة
للمنهج السَّلفي اختصاص عن غيره من المناهج بأنه يعتمد على كلام الله ورسوله في استنباط الدَّلائل كما يعتمد عليه في استنباط المسائل، فإن الله جل وعلا قد أكمل لنا دين الإسلام مسائله ودلائله، وأتم علينا به النعمة، “والرسول صلوات الله عليه وسلامه قد أُرسل بالبينات والهدى؛ وبيَّن الأحكام الخبرية والطلبية، وأدلتها الدالة عليها؛ وبيَّن المسائل والوسائل؛ وبيَّن الدين؛ ما يقال، وما يعمل؛ وبيَّن أصوله التي بها يعلم أنه دين حق”([1]).
وفي هذا يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33].
“ولا يجوز أن يقال: لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم كلام في دلائل الشرع؛ …بل إن هذا من أعظم مطاعن المنافقين في الدين”([2]) قديمًا وحديثًا.
ومن أقبل على عقليات اليونان ومنطقيات الفلاسفة من المتكلمين، وأعرض عن الدلائل الإلهية، ثم رأى الثراء والكمال الدلالي فيها؛ لوقف وقفة انبهار وإجلال لأدلة الشرع العقلية. وهذا ما نجده جليًّا واضحًا في كلام المتكلمين، وهو ما نحن بصدد الحديث عنه هنا.
ولنبدأ بالقاضي الشهير بالاعتزال، ألا وهو القاضي عبد الجبار المعتزلي (415) حيث يقول عن القرآن: “واتفق فيه أيضًا استنباط الأدلة التي توافق العقول، وموافقته ما تضمنه لأحكام العقل على وجه يبهر ذوي العقول ويحيرهم، فإن الله سبحانه بيَّنه على المعاني التي يستخرجها المتكلمون بمعاناة وجهد بألفاظ سهلة قليلة تحتوي على معان كثيرة”([3]).
وهذا أبو الحسن الأشعري (324) إمام الأشعرية الذي ينتسبون إليه، يقول عن أدلة الشرع: “ولم يدَع صلى الله عليه وسلم لسائر من دعاه إلى توحيد الله حاجة إلى غيره ولا لزائغ طعناً عليه، ثم مضى صلى الله عليه وسلم محموداً بعد إقامته الحجة، وتبليغ الرسالة، وأداء الأمانة، والنصيحة لسائر الأمة، حتى لم يحوج أحدًا من أمته البحث عن شيء قد أغفله هو مما ذكره لهم، أو معنى أسره إلى أحد من أمته، بل قد قال صلى الله عليه وسلم في المقام الذي لم ينكتم قوله فيه لاستحالة كتمانه على من حضره، أو طي شيء منه على من شهده: «إني خلفت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي»([4])، ولعمري إن فيهما الشفاء من كل أمر مشكل، والبرء من كل داء معضل، وإن في حراستهما من الباطل – على ما تقدم ذكرنا له – آية لمن نصح نفسه، ودلالة لمن كان الحق قصده، وفيما ذكرنا دلالة على صحة ما استندوا إلى الاستدلال، وقوة لما عرفوا الحق منه، فإذا كان ذلك على ما وصفنا، فقد علمتم بُهت أهل البدع لهم في نسبتهم لهم إلى التقليد، وسوء اختيارهم في المفارقة لهم، والعدول عما كانوا عليه معهم، وبالله التوفيق”([5]).
وذلكم الإمام الغزالي (505) -وهو مَن هو في المتكلمين- يقول: “اعلم أن حاصل ما يشتمل عليه علم الكلام من الأدلة التي يُنتفع بها فالقرآن والأخبار مشتملة عليه، وما خرج عنهما فهو إما مجادلة مذمومة وهي من البدع كما سيأتي بيانه، وإما مشاغبة بالتعلق بمناقضات الفرق لها وتطويل بنقل المقالات التي أكثرها ترَّهات وهذيانات تزدريها الطباع وتمجُّها الأسماع، وبعضها خوض فيما لا يتعلق بالدين…”([6]).
والغزالي من أكثر علماء الكلام الذين اعترفوا بما لأدلة الشرع من فضل ومزية([7])، يقول أيضًا: “ينبغي للخلق أن يعرفوا جلال الله وعظمته بقوله الصادق المعجز، لا بقول المتكلمين: إن الأعراض حادثة… فإن تلك التقسيمات والمقدمات الرسمية تشوش قلوب المؤمنين، لا سيما وهي صادرة من غير ملي بالدين، ولا مضطلع بحمل شريعة سيد المرسلين والأولين والآخرين -صلى الله عليه وعلى آله أجمعين-، والدلالات الشرعية الصادرة عن الله اللطيف الخبير، وعن رسوله البشير النذير، تقنع وتسكِّن النفوس، وتغرس في القلوب الاعتقادات الصحيحة الجازمة، ولقد بعُد عن التوفيق من سلك طريقة المتكلمين، وأعرض عن رب العالمين”([8]) .
ويقول في معرض تعليله عدم ابتداع الصحابة العقليات من أنفسهم مع: “أنهم كانوا محتاجين إلى محاجة اليهود والنصارى في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وإلى إثبات البعث مع منكريه، ثم ما زادوا في القواعد التي هي أمهات العقائد على أدلة القرآن، فمن أقنعه ذلك قبلوه ومن لم يقنع قتلوه، وعدلوا إلى السيف والسنان بعد إنشاء أدلة القرآن، وما ركبوا ظهر اللجاج في وضع المقاييس العقلية، وترتيب المقدمات، وتحرير طريق المجادلة، وتذليل طرقها ومناهجها، كل ذلك لعلمهم بأن ذلك مثار الفتن، ومنبع التشويش، ومن لا يقنعه أدلة القرآن، لا يقنعه إلا السيف والسنان، فما بعد بيان الله بيان”([9]).
ويقول أبو الخطاب الكلوذاني (510) الذي قرر وجوب المعرفة بالعقل، وأنها لا تحصل إلا بالعقل عمَّا جاءت به الرسل من الدلائل: “بل لهم في الأصول أعظم فائدة؛ لأنهم ينبهون العقول الغافلة، ويدلون على المواضع المحتاج إليها في النظر، ليسهل سبيل الوقوف عليها. كما يُسهِّل من يُقرأ عليه الكتاب على المتعلم بأن يدله على الرموز، ويُبيِّن له مواضع الحجة والفائدة، وإن كان ذلك لا يغنيه عن النظر في الكتاب وقراءته.
وأيضاً فإنه بعثهم لتأكيد الحجة، فيؤكدون الحجة على العباد”([10]).
وعلق ابن تيمية رحمه الله على قوله هذا فقال: “فهؤلاء الذين يقولون بوجوب المعرفة بالعقل، وأنها لا تحصل إلا بالعقل، ذكروا أن الرسل بينوا الأدلة العقلية التي يستدل بها الناظر، كما نبهوا الغافل ووكدوا الحجة، إذ كانوا ليسوا بدون من يتعلم الحساب والطب والنجوم والفقه، من كتب المصنفين، لا تقليدًا لهم فيما ذكروه، لكن لأنهم يذكرون من الكلام ما يدله على الأدلة التي يستدل بها بعقله.
فهداية الله لعباده بما أنزله من الكتب، وإرشاده لهم إلى الأدلة المرشدة، والطرق الموصلة، التي يعمل الناظر فيها بعقله ما يؤدي إليه من المعرفة، أعظم من كلام كل متكلم، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم”([11]).
وكذلك وقف فخر الدين الرازي (606) الشهير بأشعريته واشتغاله بالأدلة الفلسفية وقفة إجلال وإكبار لدلائل القرآن حيث يقول: “بل أقرَّ الكل بأنه لا يمكن أن يُزاد في تقرير الدلائل على ما ورد في القرآن”([12]).
ويقول في كتابه “المطالب العالية” بعد أن امتدح دليل الحدوث؛ لكونه يعاضد الحس والخيال، ولإفادته اليقين والجزم، ومع ذلك فهي تحمي الإنسان من التأثر بالشبهات، قال بعد ذلك: “وإذا عرفت هذه الوجوه المقتضية لرجحان هذه الطريقة على سائر الطرق، فنقول: لما كان الأمر كذلك، كانت الكتب الإلهية مملوءة من هذا النوع من الدلائل لا سيما القرآن العظيم، وكذلك فإنك متى أوردت أنواعًا كثيرة من هذه الدلائل طابت القلوب، وخضعت النفوس، وأذعنت الأفكار للإقرار بوجود الإله الحكيم”([13]).
وقال في وصيته كما روى ذلك عنه ابن أبي أصيبعة: “ولقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم؛ لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال بالكلية لله تعالى، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذاك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل في تلك المضايق العميقة والمناهج الخفية …وأقول ديني متابعة محمد سيد المرسلين، وكتابي هو القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما”([14]).
وأخيرًا
إذا كان “جميع الطوائف – حتى أئمة الكلام والفلسفة – معترفون باشتمال ما جاءت به الرسل على الأدلة الدالة على معرفة الله وتصديق رسله“([15])، فحريٌّ بك يا طالب الحق أن تنكبَّ على القرآن والسنة، وتتدبر أحكامه وحكمه، وتتأمل في مبانيه، وتتعمق في معانيه، وتفني الأعمار في طلب الحق منه لا سواه، { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
([1]) النبوات، لابن تيمية (2/ 650).
([2]) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (3/ 294) بتصرف.
([3]) نقلًا عن: ترجيح أساليب القرآن، لابن الوزير (ص16).
([4]) أورده الإمام مالك في الموطأ بلاغاً (معلقاً) غير متصل، رقم (2618)، وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/93) وصححه ووافقه الذهبي، وله أصل في صحيح مسلم (2408) إلا أنه لم يرد فيه ذكر (سنة النبي صلى الله عليه وسلم)، ومع اختلاف العلماء في صحة لفظة (سنتي) إلا أن معناه متواتر بنصوص القرآن وصحيح السنة.
([5]) رسالة إلى أهل الثغر، لأبي الحسن الأشعري (ص: 115).
([6]) إحياء علوم الدين، للغزالي (1/ 22).
([7]) وهو من خير الكلام لولا تخصيصه ذلك بالعوام.
([8]) إلجام العوام عن علم الكلام (ص78 وما بعدها).
([9]) إلجام العوام عن علم الكلام (ص82 وما بعدها).
([10]) التمهيد في أصول الفقه، لأبي الخطاب (4/ 303).
([11]) درء تعارض العقل والنقل (9/ 58 وما بعدها).
([12]) الأربعين في أصول الدين للرازي (2/90).
([13]) المطالب العالية للرازي (1/216).
([14]) عيون الأنباء في طبقات الأطباء، لابن أبي أصيبعة (ص: 467).