من الهرطقة إلى الأصولية…قراءة في فكر جورج طرابيشي (2)
للتحميل كملف pdf اضغط على الأيقونة
الفصل الثاني:بين بولص وطرابيشي
كتب بولص الأنطاكي أسقف صيدا [1]في القرون الوسطى كتاباً بعنوان : ” المنطيقي الدولة خاني المبرهن عن الاعتقاد الصحيح والرأي المستقيم“[2]، وهو كتاب فيه الاحتجاج لدين النصارى بما يحتج به علماء دينهم وفضلاء ملتهم قديماً وحديثاً من الحجج السمعية والعقلية،[3]، والكتاب عمدتهم التي يعتمد عليها علماؤهم في مثل هذا الزمان وقبل هذا الزمان وإن كان قد يزيد بعضهم على بعض بحسب الأحوال فإن هذه الرسالة وجدناهم يعتمدون عليها قبل ذلك ويتناقلها علماؤهم بينهم والنسخ بها موجودة قديمة.[4]، وكتبها بولص الأنطاكي إلى بعض أصدقائه ،وله مصنفات في نصر النصرانية وذكر أنه لما سافر إلى بلاد الروم والقسطنطينية وبلاد الملافطة وبعض أعمال الافرنج ورومية واجتمع بأجلاء أهل تلك الناحية وفاوض أفاضلهم وعلماءهم وقد عظّم هذه الرسالة.[5]، وهذا الكتاب سبب تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية لكتابه الفريد ” الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح “.
وجاء في الفصل الأول من كتاب بولص : أن محمداً- صلى الله عليه وسلم- لم يبعث إليهم بل إلى أهل الجاهلية من العرب وأن في القرآن ما يدل على ذلك والعقل يدل على ذلك [6]،وحسبنا أن نقارن بين ما كتبه الأسقف بولص في القرون الوسطى ، وما كتبه طرابيشي في عصر الحداثة، لنرى كيف تم تعميد الحداثة على يد طرابيشي.
والبداية مع العنوان ، فعند بولص القرون الوسطى : أن محمداًلم يبعث إليهم بل إلى أهل الجاهلية من العرب ،وأن في القرآن ما يدل على ذلك والعقل يدل على ذلك.
وعند طرابيشي الحداثي : الفصل الثاني : من النبي الأمي إلى النبي الأممي.
فجاهلية العرب يقابلهم عند طرابيشي ” الأمّيين العرب “[7]، أما من حيث المنهجية فبولص سيثبت ذلك من القرآن والعقل ، وكذلك زعم طرابيشي .
ولنشرع بذكر ما احتجوا به مقارنة بما ذكره طرابيشي ، كقولهم : أن الكتاب عربي وليس بلساننا حسب ما جاء فيه[8]، واستدلوا بقوله تعالى : } إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ { سورة يوسف(2)، وهذه القضية يناقشها طرابيشي وبذات الأدلة ، فيقول : ( وبما أن تلك الأمة ” الأمية ” التي شاءت لها المشيئة الإلهية أن يتأخر دورها إلى آخر الأمم في تلقي الرسالة، تنطق دون سائر الأمم بالعربية ، فقل كان حتماً أن يكون الرسول المرسل إليها ليبشرها ولينذرها في آن معاً ناطقاً بلسان عربي مبين .[9] )
وجاء في كتاب بولص: ( فلما رأينا هذا علمنا أنه لم يأت إلينا بل إلى جاهلية العرب الذين قال إنه لم يأتهم رسول ولا نذير من قبله، وإنه لا يلزمنا اتباعه لأننا نحن قد أتانا رسل من قبله خاطبونا بألسنتنا وأنذرونا بديننا الذي نحن متمسكون به يومنا هذا وسلموا إلينا التوراة والإنجيل بلغاتنا على ما يشهد لهم هذا الكتاب الذي أتى به هذا الرجل …[10])، وقالوا : (
ونعلم أن الله عدل وليس من عدله أن يطالب يوم القيامة أمة باتباع إنسان لم يأت إليهم ولا وقفوا له على كتاب بلسانهم ولا من جهة داع من قبله.[11])
وبذات المنطق يناقش طرابيشي الحداثي الموضوع فيقول : ( فالله مرسِل الرسل، هو نفسه من يسنُّ اللغة قاعدة مطلقة لتوصيل الرسالة : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ }سورة إبراهيم (4)،)[12] ويقول: ( فليس لمرسل الخطاب أن يطالب متلقي ب ” العقل ” عنه ما لم يخاطبه باللغة التي يستطيع أن يعقل بها ...[13]).
وكما أن طرابيشي يرى أن ادعاء عموم الرسالة المحمدية لم يذكر في القرآن، وإنما على يد أتباع النبي صلى الله عليه وسلم من المحدِثين ، وقريب من ذلك يقوله هؤلاء قبل قرون طويلة، قال ابن تيمية : (إذا عرف هذا فهؤلاء القوم في هذا المقام ادعوا أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يرسل إليهم بل إلى أهل الجاهلية من العرب، فهذه الدعوى على وجهين ، إما أن يقولوا إنه بنفسه لم يدع أنه أرسل إليهم ولكن أمته ادعوا له ذلك ، وإما أن يقولوا إنه ادعى أنه أرسل إليهم وهو كاذب في هذه الدعوى وكلامهم في صدر هذا الكتاب يقتضي الوجه الأول )[14].
وأما المنهجية فهي ذاتها ، فأن ما احتجوا به من الآيات غلطوا في معرفة معناها فتركوا النصوص الكثيرة الصريحة في كتابه التي تبين أنه مرسل إليهم من جنس ما فعلوه في التوراة والإنجيل والزبور وكلام الأنبياء حيث تركوا النصوص الكثيرة الصريحة وتمسكوا بقليل من المتشابه الذي لم يفهموا معناه.[15]
وزعم طرابيشي أنه لا توجد إلا آية واحدة تشير لعالمية الدعوة الإسلامية فيقول : ( فجميع المؤولين الذين أرادوا تحويل النبي ” الأمي” إلى نبي ” أممي “، أي نبي أمم الأرض كافة، وليس فقط نبي الأميّين العرب المرسل بلسانهم منهم وإليهم،ما استطاعوا أن يفوزوا في آي القرآن الستة آلاف ونيف جميعها إلا بآية واحدة هي الآية الثامنة والعشرون من سورة سبأ : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } سورة سبأ(28) ،)[16]، هكذا يقول طرابيشي أنه لا توجد في القرآن الكريم إلا آية واحدة!! ثم أخذ يتلاعب بتفسير الآية حسب هواه وبطريقة انتقائية من كلام المفسرين[17] ، أما ابن تيمية فيقول : ( وفي القرآن من دعوة أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ومن دعوة المشركين وعبدة الأوثان ، وجميع الإنس والجن ما لا يحصى إلا بكلفة، وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام ، فكيف يقال : أنه لم يذكر أنه بعث إلى العرب خاصة ، وهذه دعوته ورسله وجهاده لليهود والنصارى والمجوس بعد المشركين ، وهذه سيرته صلى الله عليه وسلم فيهم ؟ وأيضاً فالكتاب متواتر عنه – وهو القرآن – يذكر فيه دعاءه لأهل الكتاب إلى الإيمان به في مواضع كثيرة جداً. )[18]، ثم ساق الآيات الدالة على ذلك ومنها آية سورة سبأ التي زعم طرابيشي أنها الآية الوحيدة في الموضوع ، وذكر قوله تعالى في سورة الأعراف : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } سورة الأعراف(158) ، ولا شك أن طرابيشي قرأ آية سورة الأعراف ، وهو يعلم مطلق مدلولها لجميع البشر ، ولكنه مارس إقصاءً متعمداً لعقل القارئ ليوهمه أنه لا توجد إلا آية واحدة في إثبات عالمية الدعوة الإسلامية ، ولا شك أن طرابيشي قرأ الآية التي قبلها في سورة الأعراف والتي تنص نصاً على دعوة أهل الكتاب تحديداً ، وإثبات تبشير التوراة والإنجيل بالنبي صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}الأعراف (157)، ومما يدل على تعمد طرابيشي إقصاء آيات سورة الأعراف قوله في تفسير معنى الأمي : ( ومن أصلاً توصيف القرآن في آيتين متتاليتين من سورة الأعراف، 157، 158، للرسول محمد بأنه” النبي الأمي”، أي ذاك الذي بعثه الله” في الأمِّيين” وإلى الأمِّيين.[19]) ، فهو قرأ الآيتين ، ولكنه أخفى أول الآية { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا…}،فوصف الله تعالى أهل التوراة والإنجيل في حال اتباعهم النبي صلى الله عليه وسلم بالمفلحين ، ولكنه أبى الفلاح لنفسه ، وحرّف معنى الآية الواضحة لكي لا يفلح الآخرون ، وللأسف صدقه بعضهم ،وعلى رأسهم القرآنيين[20]– بزعمهم- ، وفات هؤلاء أن ما ذكره طرابيشي يخالف أول ما يخالف القرآن الكريم، ولكن كما قلنا فإن طرابيشي اتخذ من القرآنية المزعومة وسيلة للطعن في القرآن أولاً بطريقة مبطنة ، ثم أخذ بالطعن بعلماء الحديث لأنهم حولوا الإسلام من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث ، والآية صريحة كل الصراحة بدعوة أهل الكتاب وطرابيشي منهم ، وخاصة بعد ردته العكسية من الهرطقة إلى الأصولية ، ولكنه أبى أن يكون من المفلحين.
ومن الآيات التي تخاطب طرابيشي وغيره قوله تعالى : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً (2)} سورة البينة،وقوله تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}سورة الأنبياء:107، لكن طرابيشي أبى رحمة الله تعالى، وحاول إغلاق باب الرحمة عن الآخرين بزعمه أن مثل هذه الآيات لا تعنيه بشيء.
وأما احتجاج طرابيشي وبولص بأن القرآن الكريم أنزل بلسان عربي ، فعليه تكون دعوة النبي صلى الله عليه وسلم خاصة بالعرب، فيقال : والتوراة إنما أنزلت باللسان العبري وحده ، وموسى عليه السلام لم يكن يتكلم إلا بالعبرية، وكذلك المسيح لم يكن يتكلم بالتوراة والإنجيل وغيرهما إلا بالعبرية، وكذلك سائر الكتب لا ينزلها الله إلا بلسان واحد: بلسان الذي أنزلت عليه ولسان قومه الذين يخاطبهم أولاً، ثم بعد ذلك تبلغ الكتب وكلام الأنبياء لسائر الأمم، إما بأن يترجم لمن لا يعرف لسان ذلك الكتاب، وإما بأن يتعلم الناس لسان ذلك الكتاب فيعرفون معانيه.[21]
(والله تعالى قال :{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ }سورة إبراهيم (4) ،لم يقل وما أرسلنا من رسول إلا إلى قومه، لكن لم يرسله إلا بلسان قومه الذين خاطبهم أولا ليبين لقومه فإذا بين لقومه ما أراده حصل بذلك المقصود لهم ولغيرهم، فإن قومه الذين بلغ إليهم أولا يمكنهم أن يبلغوا عنه اللفظ ويمكنهم أن ينقلوا عنه المعنى لمن لا يعرف اللغة ويمكن غيرهم أن يتعلم منهم لسانه فيعرف مراده فالحجة تقوم على الخلق ويحصل لهم الهدى بمن ينقل عن الرسول تارة المعنى وتارة اللفظ ولهذا يجوز نقل حديثه بالمعنى والقرآن يجوز ترجمة معانيه لمن لا يعرف العربية باتفاق العلماء)[22]
–بين يوحنا الدمشقي وجورج الحلبي
جذور طرابيشي الأصولية ضاربة بعمق لأبعد من زمن بولص الأنطاكي ، فهي متصلة بيوحنا الدمشقي [23]، فعندما تقرأ لجورج طرابيشي ابن حلب في الألفية الثالثة عن النبي صلى الله عليه وسلم وخاصة عما يسميه : ب( علاقاته الزوجية ورغائب نفسه الجنسية [24]) وتحليله لقصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من أم المؤمنين زينب بنت جحش – رضي الله عنها- بما يقارب ثلاث صفحات، لا يسعك إلا أن ترجع بالذاكرة إلى القرن الثامن الميلادي لاستحضار ما كتبه يوحنا الدمشقي في هرطقاته المئة ، والتي ذكر منها تلك القصة ليطعن بنبي الإسلام، بل إن طرابيشي فاق قديسه الأول فيتحدث بسخف عن ما أطلق عليه : حبه الأول ، فيذكر أم هانئ – رضي الله عنها – بقوله : ( التي يستفاد من كتب السيرة أنها كانت ” حبه الأول” [25]) !! ،وقال يوحنا الدمشقي تحت عنوان : ( النساء ) : ( فقد كان لمحمد عشير اسمه زيد ، وكان لهذا الرجل امرأة جميلة شغف بها محمد ، وعندما كانا جالسين معاً قال محمد : يا صاح ، لقد أعطاني الله أمراً باتخاذ امرأتك لي . فأجاب زيد : إنك رسول الله فافعل كما قال لك الله واتخذ لك امرأتي،وحتى نباشر القصة منذ بدايتها بأكثر دقة ، قال له محمد : لقد أعطاني الله أمراً بأن تطلق امرأتك ، فطلَقها، وبعد بضعة أيام قال له : لقد أعطاني الله أمراً بأن اتخذها لنفسي، وبعد أن اتخذها و …….معها في هذه الحال ، أصدر هذا القانون : من يرغب في أن يطلق امرأته فليفعل ؛ أما إذا عاد إليها بعد تطليقها فليتزوجها آخر ، إذ ليس مسوغاً في الواقع أن يتخذها ما لم يتزوجها آخر قبل ذلك ، وإذا كان من طلقها أخاً ، فليتزوجها أخوه إن رغب في ذلك [26]) .
وطرابيشي ادعى أن الإسلام تحول من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث ، فكان يلزمه أن يأخذ تفسير الآية الكريمة من سياقها القرآني، قال تعالى : {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} الأحزاب، (37)، فالآية تتحدث عما أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم من إمر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم من زواجه من زينب بعد طلاق زيد بن حارثة له ، وأن سبب ذلك لإبطال ما كان عليه أهل الجاهلية من منع ذلك، وهذا جلي في قوله تعالى { لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا…} ، وجورج يعلم ما تدل عليه كلمة لكي التعليلية، ولكنه ينقض عنوان كتابه : ( من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث )، فيلجأ إلى روايات منقطعة وواهية ، ليحول تفسير الآية من مدلولها القرآني إلى مدلول يتوافق مع أصوليته الطاعنة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فلا فرق بين ماقاله يوحنا الدمشقي وجورج الحلبي!! االلهم إلا الأسلوب الحداثي الذي يصبغه طرابيشي لكتاباته، وبدلاً من الرجوع إلى المصادر الحديثية المعتمدة في الرواية كالصحيحين وغيرهما، يجد ضالته في روايات منقطعة الأسانيد عند الإمام الطبري ، وروايات لا قيمة لها عند ابن سعد من طريق الواقدي الذي اتهمه علماء الحديث ووصفوه بأنه متروك الرواية شديد الضعف، فيقول : ( وسيكون عمادنا الأول في استقصاء مدلول هذه الآيات وظروف نزولها- فضلاً عن الطبري- على ابن سعد الذي أفرد الشطر الأكبر من الجزء الثامن من طبقاته لموضوع ” نساء النبي “ [27])، إذاً عماده الأول الروايات وليس النص القرآىني الواضح في مدلول الآيات ، فمن حوّل طرابيشي من قرآني ينتصر للقرآن وينفي تشريعية السنة ، إلى باحث عن الروايات لفهم القرآن؟!!؟!!، ومن حوّل طرابيشي إلى أهل السير والمغازي وهم كما ينقل عن أهل الأصول (” أضعف خلق الله أركاناً” بأصول الفقه والتفسير .[28]) ، إنها الأصولية المتجذرة في نفس طرابيشي، فهو قرآني متى شاء وروائي متى شاء ، فلا تحركه إلا أصوليته التي ارتد عنها بثوب الحداثة، ثم إن الإمام الطبري أورد رواية واضحة عن زين العابدين بن الحسين – رضي الله عنهما- تبين أن الذي أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم هو ما أمره الله به من الزواج من زينب – رضي الله عنها ، وهذا أقرب للسياق القرآني للحدث ، فلماذا يتعمد طرابيشي إخفاء ذلك إن كان قرآنياً!!
ولماذا يلجأ لمرويات لا قيمة لها تخدش في مقام النبوة وتعارض النص القرآني الذي كان ينتصر له قبل صفحات بل عنون كتابه به!! فيقول : ( ويعطي ابن سعد عن الحادثة مزيداً من التفصيل فيقول : ” جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت زيد بن حارثة يطلبه، ….. فلم يجده ….، وقامت إليه زينب بنت جحش فضلاً- أي متبذلة في ثوب واحد – فأعرض رسول الله عيناه، فقالت : ليس هو ههنا يا رسول الله، فادخل بأبي أنت وأمي. فأبى رسول الله أن يدخل، وإنما عجلت زينب أن تلبس لما قيل لها رسول الله على الباب، فوثبت عجلى، فأعجبت رسول الله، فولى وهو يهمهم بشيئ لا يكاد يفهم منه إلا ربما : سبحان الله العظيم، سبحان مصرف القلوب……، فجاء زيد إلى منزله فأخبرته امرأته أن رسول الله أتى منزله . فقال زيد: ألا قلت له أن يدخل؟ قالت : قد عرضت عليه ذلك فأبى. قال : فسمعت شيئاً؟ قالت : سمعته حين ولى تكلم بكلام لا أفهمه، وسمعته يقول : سبحان الله العظيم، سبحان مصرف القلوب. فجاء زيد حتى أتى رسول الله ، فقال : يا رسول الله بلغني أنك جئت منزلي، فهلا دخلت؟ بأبي وأمي يا رسول الله لعل زينب أعجبتك فأفارقها. فيقول رسول الله: أمسك عليك زوجك، فما استطاع زيد إليها سبيلاً بعد ذلك اليوم، فيأتي إلى رسول الله فيخبره، فيقول رسول الله : أمسك عليك زوجك، فيقول: يا رسول الله أفارقها…..)[29]
ونقول لعل الرواية أعجبت طرابيشي فترك قرآنيته المزعومة من أجلها، فلم ينقدها بحرف واحد بل ذكرها بمنتهى التسليم لما فيها لموافقته هواه للطعن في النبي صلى الله عليه وسلم وبأم المؤمنين وبأخلاق الصحابة الكرام، وهكذا قدّم عقل طرابيشي استقالته أو أقاله طرابيشي لتحقيق مآربه ، فلم يفكر بعقله وهو ينقل هذه الرواية ، فهو فضلاً عن تنازله عن مبدأ قرآنيته التي يحث المسلمين للتمسك بها ، وأن لا ينصرفوا إلى إسلام الحديث ، فهو يتنازل عن أهم مبادئ الحداثة بإعمال العقل ، ولكنها الأصولية الحداثية.
والرواية من حيث السند من طريق محمد بن عمر قال : حدثني عبد الله بن عامر الأسلمي عن محمد بن يحيى بن حبّان قال : “جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم …..الحديث”[30]، ومحمد بن عمر هو الواقدي متهم عند علماء الحديث ، وطرابيشي يعلم ذلك حيث نقل بعد فصول عن علماء الحديث تضعيفهم للواقدي : ( فقد قال عنه البخاري والرازي والنسائي : ” متروك”. وقال عنه الدارقطني: ” ضعيف ” ، وقال ابن عدي : ” أحاديثه غير محفوظة والبلاء منه ” وكان أحمد بن حنبل أشدهم عليه إذ رماه بأنه ” كذاب “. [31]) ، ولكنه هنا تعجبه رواية الواقدي ، والرواية منقطعة الإسناد فمحمد بن يحيى بن حبّان الأنصاري من التابعين ومولده في سنة سبع وأربعين، وزينب بنت جحش – رضي الله عنها- توفيت في عهد عمر – رضي الله عنه ، وأما المتن فهو ظاهر البطلان ولكن طرابيشي استروح ذلك وأقال عقله عن التفكير به لحاجة في هوى نفسه ، فهل يعقل لامرأة عربية قرشية مسلمة صوامة قوامة متصدقة مثل زينب بنت جحش أن تظهر أمام رجل أجنبي عنها بهذا الشكل المتبذل !! وهل يعقل أن رجلاً عربياً مسلماً يسأل رجلاً آخر عن زوجته بعد أن رآها بهذه الهيئة أن يقول له : هل أعجبتك؟!! أين مروءة العرب وغيرتهم !!؟ لماذا لم يُعمل طرابيشي حسه النقدي في تعامله مع هذه الرواية؟!!
إنها الجذور الأصولية ليوحنا الدمشقي التي لم يستطع ابن حلب الطرابيشي أن يتخلى عنها، ولكنه ألبسها ثوب الحداثة ، وغلفها بما زعمه من القرآنية، فانطلت أفكاره على البعض، ولكن أصوليته غلبت قرآنيته ، بل لم تكن دعوته للقرآنية إلا طريقاً لتحقيق أصوليته ، وكذلك حداثويته التي عاشها لعقود يختمها بأصولية تذكرنا بسخرية أخي طرابيشي منه يوم قال: (وتديّنت تديّناً مفرطاً فــي الطور الأوّل من مراهقتي. وكنت أؤدي كلّ واجباتي الدينية بحساسية تثير حتّى سخرية أخي الأصغر منّي.)[32]
- مؤامرة هُشيْم
من المفارقات فيما يكتب طرابيشي الأحكام القطعية التي يصدرها ، و كأنه امتلك الحقيقة المطلقة فيما يكتب ، ليمتلك عقل وقلب القارئ، ورأينا كيف أنه صور لنا أن القرآن الكريم لم يذكر عالمية الإسلام ، فقال : (( فجميع المؤولين الذين أرادوا تحويل النبي ” الأمي” إلى نبي ” أممي “، أي نبي أمم الأرض كافة، وليس فقط نبي الأميّين العرب المرسل بلسانهم منهم وإليهم،ما استطاعوا أن يفوزوا في آي القرآن الستة آلاف ونيف جميعها إلا بآية واحدة هي الآية الثامنة والعشرون من سورة سبأ : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } سورة سبأ(28) ،)[33]، ثم رأينا الآيات الكثيرة التي طواها طرابيشي عن القارئ ليوهمه بحقائقه المطلقة ، ولعبة الأرقام يتقنها طرابيشي في أكثر من موضع، فيرى أن عائشة – رضي الله عنها- : ( وهي الأكثر صحبة للرسول والأكثر حميمية، والتي لم يكن لها شاغل من تجارة أو صفق بالأسواق ، ومع ذلك لم تروِ أو لم يروى على لسانها سوى أقل من خمسين حديثاً . [34])، ومن المعلوم أن مسند عائشة- رضي الله عنها – يزيد عن ألفي حديث، ولكن طرابيشي يتلاعب بالأرقام ليطعن بسعة رواية أبي هريرة – رضي الله عنه- .
وبذات المنهج يمضي طرابيشي في تكذيب الأحاديث الدالة على عالمية الدعوة الإسلامية ، وبمؤامرة من الموالي فيقول : ( والواقع أنه في كتب الحديث وليس في القرآن، تم تحويل النبي الأمي المرسل إلى قومه إلى نبي أممي مرسل إلى الأمم قاطبة. ففي رواية على لسان هُشيم بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :” كان النبي يُيعث إلى قومه خاصة، وبُعثت إلى الناس عامة”[35])
ثم بين طرابيشي في الهامش أن هذا النص من صحيح البخاري ، ثم يذكر رواية مسلم للحديث قائلاً : ( ويستعيد صاحب ثاني الصحيحين الرواية نفسها عن الراوي نفسه ولكن مع تبديل في اللفظ الدال على البعد الأممي للرسالة : ” كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى كل أحمر وأسود “ [36])
ولكن أصولية طرابيشي لا تمنعه من إخفاء رواية أخرى بعد رواية هُشيْم مباشرة تبين أن هُشيماً لم ينفرد في الرواية، ولكن من فعل ذلك في الآيات القرآنية كيف لا يفعلها مع روايات الحديث، فيقول أن هُشيْماً تفرد بتينك الروايتين[37]، ولكن هل تفرد هُشيْمٌ بتينك الروايتين كما زعم طرابيشي؟!!
قال الإمام مسلمٌ قال : (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ سَيَّارٍ، عَنْ يَزِيدَ الْفَقِيرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي، كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى كُلِّ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تُحَلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَيِّبَةً طَهُورًا وَمَسْجِدًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ صَلَّى حَيْثُ كَانَ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ بَيْنَ يَدَيْ مَسِيرَةِ شَهْرٍ، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ»، ثم قال : وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا هُشيْم أخبرنا سيار حدثنا يزيد الفقير أخبرنا جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فذكر نحوه.[38])
ثم بعد حديث جابر- رضي الله عنه – من طريق هُشيْم بحديث واحد، قال الإمام مسلم : وحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ ، قَالُوا : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ ، عَنِ الْعَلَاءِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : ” فُضِّلْتُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ ، أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا ، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً ، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ ” [39]، فتبين أن هُشيْماً لم ينفرد بالرواية كما يقول طرابيشي، فالحديث له طريق آخر من رواية أبي هريرة – رضي الله عنه-، فبطل ما ادعاه أو ما أخفاه!!
ولكن يبقى السؤال لماذا اختار طرابيشي أن ينسب الحديث لهُشيْم دون غيره من الرواة ، وأنت ترى أن هُشيْماً في الطبقة الرابعة بعدالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو يريويه عَنْ سَيَّارٍ، عَنْ يَزِيدَ الْفَقِيرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ…الحديث”، ماذا بين طرابيشي وهُشيْم ؟!!
إنه التكتيك الطرابيشي لأصابة عدة عصافير بحجر واحد.!!
وعصفوره الأول : أن هُشيْماً كان مدلساً، فالطعن فيه من هذا الباب سيمر مرور الكرام على القارئ بفعل قوة قلم طرابيشي المغناطيسية، ورغم أن علماء الحديث هم عدو طرابيشي الأول، لكن لا بأس بالأخذ منهم أو بما يسميه طرابيشي ب” المأثور الرجالي ” نسبة لعلم الرجال الذي أبدعه علماء الحديث ، مما يدل على ورعهم وإنصافهم، فهم لا يجاملون أحداً، لكن كلمة ” مدلس “ و ” التدليس “ ، فتحة شهية طرابيشي للطعن في هُشيم، ولا أظن طرابيشي لا يعلم المعنى الإصطلاحي للكلمة عند المحدِثين، فاستعمل المعنى اللغوي لها، فتدليس هُشيم يعني أن كان يروي عن شيخ ما بواسطة ، فلا يذكر هذه الواسطة إما لضعفه أو لصغر سنه، وإنما يقول عن فلان- وهو صادق في ذلك – ، ولكنه لا يقول : حدثنا أو أخبرنا ، وهذا كذب لا يستجيزه ولو فعله لعده المحدثون من الكاذبين، فلذك اشترط المحدثون على الرواة الثقات المدلسين من أمثال هُشيْم أن يصرحوا بالسماع ممن حدثهم ، فإذا قال : حدثنا أو أخبرنا قُبِل منهم، وهُشيْم إمام ثقة ثبت ولكنه كان يدلس بهذه الطريقة، وطرابيشي عامداً أم غير عامد لم يكمل ما قاله ابن سعد في هُشيْم ، فاجتزأ الشطر الأول الذي يناسبه ، وهو قوله : ( كان ثقة كثير الحديث يدلس كثيراً [40]) ، والذي عند ابن سعد : (هُشَيْم بن بشير،ويكنى أبا معاوية. مولى لبني سليم. وكان ثقة كثير الحديث ثبتًا يدلس كثيرًا. فما قال في حديثه أخبرنا فهو حجة وما لم يقل فيه أخبرنا فليس بشيء.[41])، فلم يذكر طرابيشي كلمة ثبتاً، وهي تدل على مكانته في العلم والضبط فهو ليس بثقة فحسب بل هو ( ثبت )، والأمر الثاني الذي لم يذكره طرابيشي من كلام ابن سعد قوله : (فما قال في حديثه أخبرنا فهو حجة وما لم يقل فيه أخبرنا فليس بشيء.) ، فهذه طريقة التعامل مع رواية المدلسين الثقات من أمثال هُشيْم ، حيث صرح هُشيْم بسماعه الحديث من شيخه سيار كما في رواية مسلم الثانية للحديث، فزالت تهمة التدليس عنه، لكن طرابيشي لما رأى كلمة كثير التدليس طار بها فرحاً ليُدلِس على القارئ ويفهمه أن هُشيْماً : ( كانت آفته الكبرى في الحديث التدليس، إذ كان في الروايات التي يرويها مرفوعة إلى رسول الله يبدل في أسماء سلسلة الإسناد فيضع بدل المجهولين أسماء أعلام مشهورين، وبدل المجروحين أسماء أعلام معدلين.[42])، وهذا الذي ذكره طرابيشي يسمى بتدليس التسوية ، وهذا لا يفعله هُشيْمٌ، فدلّس طرابيشي على القارئ بهذا، وقد يقال أن هذه مسألة متخصصة في علوم الحديث فربما غابت عن طرابيشي ، ولكن طرابيشي نقل بعد فصول عن الإمام ابن الصلاح تعريف الحديث المدلَّس : ( أن يروي المدلس عمن لقيه ما لم يسمعه منه موهماً أنه سمعه منه ، أو عمن عاصره ، ولم يلقه ، موهماً أنه قد لقيه وسمع منه . [43])، فتعمد تحريف معنى التدليس مع علمه به .
وأما العصفور الثاني الذي ظن طرابيشي أنه وقع في فخه ، أن هُشيْماً كان من موالي بني سليم إحدى قبائل العرب ، فالحديث عن عالمية الإسلام يخدم موقعه الاجتماعي بالمساواة بين العرب وغيرهم ، وبين الأسود والأحمر والأبيض، وهذا مبدأ إسلامي يوافق حداثوية طرابيشي فلماذا يتنازل طرابيشي عن مبادئه ، والجواب: أن ذلك يعارض أصوليته التي ادعى أنه ارتد عنها نحو الحداثة، فأصوليته المتأصلة بيوحنا الدمشقي و مروراً ببولص الأنطاكي تأبى ذلك، ثم لإثبات ما ذكره من سلسلة الانقلابات والمؤامرات التي قام بها علماء الحديث لقلب الإسلام من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث ، وبمشاركة الموالي وأصحاب البلاد المفتوحة كما ذكر في هذه المؤامرة ، وحيث أن المحدِثين هم من حولوا النبي الأمي إلى نبي أممي، وحيث أن هُشيْماً مُحدِثاً ومن الموالي ، فهذا أنسب عَيِنة يمكن اختيارها لإثبات نظرية المؤامرة الحديثية على الإسلام، فيقول:( من هذا المنظور حصراً، ليس جزافاً أن نكون توقفنا عند توصيف ابن سعد في طبقاته لهشيم بن بشير بأنه كان ” مولى لبني سليم “. فالغالبية الساحقة من رواة السنة ومن مدوني السنة كانوا من الموالي ، أي من أعاجم البلدان المفتوحة، بدءاً بمصنفي الصحيحين: البخاري و مسلم بن الحجاج . [44])، وأما نتائج هذه المؤامرة الأعجمية على الإسلام فهي ( تطوير سنة نبوية إلهية المصدر لا يكون فيها ” فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى”. فليس أرضى اكبرياء المحكومين- إن كان لا يزال لاسم المفعول هذا من معنى – من أن يكونوا محكومين بتشريع إلهي المصدر، ولا سيما إذا كانوا هم الشركاء الرئيسيين في تشريع هذا التشريع، وعلى هذا النحو فحسب نستطيع أن نفهم تلاقي المصالح بين نخب الفاتحين و نخب البلدان المفتوحة في تأميم الرسول العربي. [45]).، وهذه مخالفة أخرى لما يزعمه طرابيشي من قرآنية جعلها عنواناً لكتابه ، فعدم التفضيل بين الناس إلا بالتقوى قانون قرآني قبل وروده في السنة المطورة – كما زعم- ، وهي دعوة إلهية للتعايش والتعارف بين الشعوب، قال الله تعالى : {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير } الحجرات 13.
وخلاصة القول أن حديث ” كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى كُلِّ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ” حديث صحيح لا مطعن فيه وهو موافق لما جاء في كتاب الله تعالى من عموم الدعوة الإسلامية لجميع البشرية ، وأن هُشيْماً ثقة ثَبْتٌ و صرح بسماعه عن شيخه فزالت تهمة التدليس عنه ، وأنه لم ينفرد به كما قال طرابيشي، وهو يمثل دعوة المساواة ونبذ العنصرية التي جاء بها الإسلام، وليس كما يقول طرابيشي : ( وهكذا، إن حديثاً لم يكن متداولاً ولا معروفاً ، ولا حتى ذا وجود ، وما رواه أحد قبل أن يرويه راويه المنفرد والمشهور بالتدليس في النصف الثاني من القرن الثاني ،( بالنظر إلى أن هُشيْم بن بشير توفي سنة 183 ه )، أمكن له أن ” ينسخ “، أي يبطل حكم نحو من عشرين آية قرآنية تنص متضافرة على أن لكل أمة رسولها، وعلى أن كل رسول لا يبعث إلا إلى قومه، وعلى أن الرسالة القرآنية التي بُعث بها الرسول محمد مشروطة لغوياً بعروبة حاملها وبعروبة الأمة المحمولة إليها، وجغرافياً ب ” أم القرى ومن حولها” من دون أن يكون أصلاً لهذه الرقعة من الأرض من حدٍ آخر سوى عروبة لسان قاطنيها. [46])
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
[1] اختلف في زمانه ، فيرى محقق كتاب الجواب الصحيح أنه عاش في حوالي القرن الثاني عشر الميلادي، انظر : الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ، لابن تيمية ، تحقيق علي بن حسن بن ناصر و عبد العزيز العسكر و حمدان الحمدان ، دار العاصمة ، الرياض ، الطبعة الثانية 1999م، ( 1 / 99). وأما موقع أبرشية صيـدا ودير القمر للروم الملكيين الكاثوليك قال : (حوالي القرن التاسع، يبرز اسم بولس الراهب، أسقف صيدا. ولد في أنطاكية، ثمّ ترهّب، وسيم أسقفًا على مدينة صيدا. وكان عالمًا كبيرًا وترك كتابات كثيرة قيّمة بالّلغة العربيّة. وتوفي في صيدا.) http://melkitesaida.blogspot.com/2007/10/blog-post_1894.html
[2] يرى محقق كتاب الجواب الصحيح ، أن كلمة خان فارسية وتعني المعظم ( 1 / 101) ، وعليه يكون معنى العنوان : كتاب الدولة المعظم والمنطقي الذي يبرهن عن الاعتقاد الصحيح والصراط المستقيم، وأشار المحقق إلى وجود هذه الرسالة برقم ( 1254) من المتحف القبطي ، إلى ورقة رقم (3 ) مع اختلاف يسير في الألفاظ . هامش التحقيق ( 1 / 123)
[3] ألّف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه “الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح” رداً على رسالة بولص الأنطاكي، ووصفها في أول الكتاب، انظر: ( 1/ 98).
[4] انظر : الجواب الصحيح ، ( 1 / 99).
[5] انظر : الجواب الصحيح ، ( 1 /100- 101 ).
[6] انظر : ابن تيمية ، الجواب الصحيح ، ( 1/ 101).
[7] من إسلام القرآن ص 92.
[8] انظر الجواب الصحيح : ( 1/ 121)
[9] من إسلام القرآن ص 91.
[10] انظر : الجواب الصحيح: ( 2 / 86)
[11] انظر : الجواب الصحيح : ( 1 / 123) و ( 2 / 102 ).
[12] من إسلام القرآن ص 91
[13] من إسلام القرآن ص 96.
[14] الجواب الصحيح : ( 1 / 130 ).
[15] انظر : الجواب الصحيح : ( 1 / 124 )
[16] من إسلام القرآن ص 95
[17] من إسلام القرآن ص 95 وما بعدها.
[18] الجواب الصحيح ( 1/ 336- 337)
[19] من إسلام القرآن ص 90.
[20] فقال أحدهم على موقع أهل القرآن : (أعزائي القراء لقد قرأت كتاب الأستاذ جورج طرابيشي ( من إسلام القرءان إلى إسلام الحديث)، فوجدت أنه جدير بالقراءة، لما فيه من مفاتيح للقلوب المقفلة، لكن القلوب الصدئة لا أعتقد أنها تصبر على قراءة هذا الكتاب الذي يترك القارئ حائرا لما فيه من الحق والبيان، فقد بين الأستاذ جورج طرابيشي الأسباب التي حولت الإسلام ( من إسلام القرءان إلى إسلام الحديث)، وهو الشيء الذي جعل المسلمين اتبعوا السبل فتفرقوا شيعا بغيا بينهم بعد ما جاءهم العلم والكتاب المبين.
لذا أنصح بتنزيل الكتاب وقراءته بقلب سليم لعله ينفع أولي الألباب الذين يعقلون. ) بتاريخ 11 / 12 / 2013 م،http://www.ahl-alquran.com/arabic/show_article.php?main_id=11559
[21] انظر : ابن تيمية ، الجواب الصحيح . ( 2/ 52)
[22] الجواب الصحيح : ( 2/ 54- 55 )
[23] وهو : منصور بن سرجون المعروف بيوحنا الدمشقي ( 35ه – 132ه ، 655م – 750م ) كان يعمل لدى الأمويين، راجع تفاصيل حياته : منصور بن سرجون المعروف بالقديس يوحنا الدمشقي ، تأليف : الإكسر خوس جوزف نصر الله ، تعريب : أنطون وهبي، المكتبة البولسية ، بيروت ، الطبعة الأولى 1991م ، وكتاب : يوحنا الدمشقي ( رائد العدوان الفكري على الإسلام) د. علي بن محمد الغامدي ، الطبعة الأولى 1436 ه – 2015م.منشور على الموقع الرسمي للدكتور علي الغامدي http://alghamdiprof.com/ali/.
[24] من إسلام القرآن ص 43.
[25] من إسلام القرآن ص 46.
[26] الهرطقة المئة ، القديس يوحنا الدمشقي ، 1997 م ، دون ذكر لدار النشر، ص 56 – ص 57.
[27] من إسلام القرآن ص 43.
[28] من إسلام القرآن ص 211.
[29] من إسلام القرآن. ص 44- 45.
[30] ابن سعد : أحمد بن منيع بن سعد ، الطبقات الكبرى، تحقيق محمد عطا، بيروت ، دار الكتب العلمية ،الطبعة الأولى ، 1991م ، ( 8/ 80).
[31] من إسلام القرآن ص 213.
[32] طرابيشي : ست محطات في حياتي ، بتاريخ 23 / 2 / 2015 م، موقع الأثير الإلكترونيhttp://www.atheer.om/archives/11257
[33] من إسلام القرآن ص 95
[34] من إسلام القرآن ص 398.
[35] من إسلام القرآن ص 98
[36] من إسلام القرآن ص 99
[37] انظر : من إسلام القرآن ص 99.
[38] صحيح مسلم – كتاب المساجد ومواضع الصلاة – باب : جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، حديث رقم ( 521)
[39] حديث رقم ( 523 ).
[40] من إسلام القرآن ص 99
[41] الطبقات الكبرى : تسمية من نزل بواسط من الفقهاء والمحدثين ، ( 7 / 227 ) ترجمة رقم : ( 3422).
[42] من إسلام القرآن ص 99.
[43] من إسلام القرآن ، هامش ص 199.
[44] من إسلام القرآن ص 101- 102.
[45] من إسلام القرآن ص 106.
[46] من إسلام القرآن ص 100.