موقف القرآن من الكتب المنزلة
لقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بشريعة هي خاتمة الشرائع، كما هو خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، فكانت شريعته مهيمنة على جميع الشرائع، جامعة لمحاسنها، مصدِّقة ومكملة لها، فنبوة النبي وشريعته امتداد لجميع الشرائع السماوية التي قبلها، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على وحدة المصدر في الشرائع، وذلك لكونها جميعا من عند الله سبحانه وتعالى، كما أكد على الاتفاق في الكليات الشرعية، فقال عليه الصلاة والسلام: ((أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات؛ أمهاتهم شتى، ودينهم واحد))([1]).
وكانت مهمة القرآن رد الناس إلى الحق الذي جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، وتبين الحق فيما اختلف فيه بسبب التحريف والتبديل الذي قام به أهل الكتاب في كتبهم، فلا غرو أن يتفق القرآن مع تلك الكتب المنزلة، ويوجد فيه ما يوافق ما بين أيدي أهل الكتاب، وليس ذلك سرقة لمعلومة من قوم، ولا استعانة بعلمهم؛ وإنما هو تأكيد على وحدة المصدر والمرجعية، ويظهر موقف القرآن من الكتب السماوية في شكل أصول وقواعد أكد عليها القرآن منها:
أولا: وجوب الإيمان بجميع الكتب المنزلة:
وهذا الأصل من أصول الإيمان مبثوث في القرآن الكريم، قال تعالى: {وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ} [الشورى: 15]، “أَيْ: آمَنْتُ بِكُتُبِ اللَّهِ كُلِّهَا”([2])، وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير} [البقرة: 285].
ثانيا: التأكيد على وجود نبوة النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الكتب السماوية:
قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} [الأعراف: 157].
وفي البخاري عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله تعالى عنهما قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله ويفتح بها أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا)([3]).
ثالثا: تصديق القرآن لها:
قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولا} [النساء: 47]. والمقصود بالتصديق أنه مؤكد لما عندهم من البشارات بالنبوة وغيرها([4])
معرفة بعض أهل الكتاب لهذا القرآن، وتصديقهم به وإيمانهم به؛ لأنهم عرفوا تصديقه للحق الذي في كتبهم قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَاب} [آل عمران: 199].
قال الضحاك: (وما أنزل إليكم) القرآن. (وما أنزل إليهم) التوراة والإنجيل. وفي التنزيل: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ([5]).
{وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين} [المائدة: 83].
رابعا ثناء الله على الكتب السماوية: فقد وصفها بالهدى والنور والموعظة قال سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} [سورة المائدة:44]. ووعد أهلها بأنهم إن أقاموها تمت لهم النعمة قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُون} [سورة المائدة:66].
خامسا: القرآن مهيمن على هذه الشرائع وناسخ لها: فلا تبقى بعده ولا تقر على حكم مخالف لحكمه، قال سبحانه:{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون} [سورة المائدة:48]. وحال هذه الشرائع بعد القرآن لا يخرج عن ثلاث حالات:
الحالة الأولى: ما ورد الشرع بتصديقه فهو من الشرع.
الحالة الثانية ما كذبه الشرع أو نسخه فلا يعم به مطلقا ولا يعتقد.
الحالة الثالثة: ما سكت عنه الشرع ولا يترتب عليه تكليف فهذا لا بأس بالتحدث به فقد قال عليه الصلاة والسلام: “بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار”([6]) ولا يصدق ولا يكذب([7])
كما ينطلق القرآن من مبدإ أن ما بقي في هذه الكتب على حاله لا يمكن أن يناقض القرآن ولا أن يناقض الكتب السابقة: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِين} [المائدة: 46]. وما وجد من مناقضة، فهو بسبب تلاعب أهل الكتاب به وتحريفهم له، وهنا يأتي الموقف الثاني للقرآن من الكتب السماوية، وهو نفي الدخيل عنها، وتبيين المحرف فيها، قال سبحانه: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِين} [المائدة: 15]. ومما فضحهم فيه وبين تحريفهم قضية الرجم وإنكار صفة النبي صلى الله عليه وسلم([8]).
وكذلك قول النصارى على الله بغير علم في كتابهم ونسبتهم الولد إليه هو مما بينه القرآن، فقال سبحانه: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلا} [النساء: 171].
{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيل} [المائدة: 77].
فهذه سمة بارزة في القرآن ومن تدبرها زال عنه إشكال طال ما دندن حوله المستشرقون وأعداء الدين، ممن لا يرجون لله وقارا فادعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم، أخذ من اليهودية والنصرانية بعض شرائعه، وهذه الشبهة مبنية على زعم أن محمد اكان يقرأ ويكتب حتى يطلع على ما عند هؤلاء أولا، والثانية أن التوافق في بعض الشرائع والتصور دليل الاستفادة وهذا محض كذب لم يستطع أصحابه إقامة دليل ينهض لأن يكون قرينة فضلا عن أن يكون بينة، بل التوافق سببه عدم التحريف في هذه الكتب، فما وافق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الكتب، فهو دليل على أنه بقي على حاله ولم يغير ولم يبدل، وما خالفه فهو دليل التحريف أما دعوى الأخذ فهي قديمة تناولها القرآن بالرد والإبطال، فقال سبحانه في الرد على مدعيها: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِين} [النحل: 103]. وقال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُون} [العنكبوت: 48]. ” والمعنى: ما كنتَ قارئًا قبل الوحي ولا كاتبًا، وهكذا كانت صفته في التوراة والإِنجيل أنَّه أُمِّيٌّ لا يقرأ ولا يكتب، وهذا يدلّ على ان الذي جاء به، من عند الله تعالى. قوله تعالى: إِذًا لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أي: لو كنتَ قارئًا كاتبًا لشكَّ اليهودُ فيكَ ولقالوا: ليست هذه صفته في كتابنا”([9]).
فالقرآن مهيمن على الشرائع مصدق للكتب كاشف للتحريف مزيل للخلاف مبين للحق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، تكلم بحقائقه من يعلم السر في السماوات، ليس للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لغيره أن يُدْخِلَ فيه شيئا ليس منه، ولا أن يتصرف فيه، ولم يدع أحد من أهل الكتاب ممن شهدوا الوحي حتى من الكفار أنه أخذ علما منهم بل كان يبين لهم باطلهم ويبدي ما أخفوا من الحق عن الناس هذا الذي تشهد به الوقائع التاريخية وما سواه دعوى لا يقوم عليها الدليل إلى يوم القيامة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([4]) ينظر تفسير الطبري(8/446) وابن كثير(2/324).
([7]) ينظر تفسير ابن كثير(3/528).