السَّلَفُ والمَهَارَاتُ العَقلِيَّةُ .. السَّبرُ والتَّقسِيمُ أُنمُوذجًا
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
المقَـــدّمَــــــة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد:
Anamnesis)) هي أول عملية يقوم بها الطبيب حين يقابل المريض، وتعني علم مقابلة المريض وتشخيص المرض، أي: كيف يقابل الطبيب المريض ويكتشف علته ويشخصه؟
إذن دعونا نتربع على بوصلة تفكير الطبيب، ونكشف عن منهجه في التشخيص والوصول للمرض.
يقول الطبيب: نسأل المريض أول ما نسأل عن معلوماته الشخصية، عن اسمه وعمره وجنسيته.
فإذا انتهينا من معرفة شخصيته بدأنا بجمع الفروض والاحتمالات واختبارها، فنسأله:
ما الذي تعاني منه؟
فيجيب -مثلا-: عندي سعال شديد (كحة شديدة).
من متى بدأت الكحة؟
من أسبوع.
هل تعاني من أعراضٍ أخرى؟
نعم، عندي حمى (حرارة).
فالأعراض التي عند المريض حتى الآن هي الحرارة والكحة الشديدة.
وإلى هنا يوجد في ذهن الطبيب احتمال إصابته بأمراض متعددة منها: زكام طبيعي، الدرن، سرطان الرئة، التهاب الرئة، الربو، أو فيروس كورونا.
ولكلِّ مرض من هذه الأمراض أعراض أخرى مصاحبة، فيواصل الأسئلة ليستبعد الفروض الخاطئة، ويصل إلى الفرض الصحيح، فيسأله:
هل تدخن؟
فإن كان الجواب: نعم بشراهة، فهنا عندنا احتمال إصابته بمرض سرطان الرئة، فيكمل معه الأسئلة ويفحصه ويعالجه.
وإن كان الجواب: لا، فيبحث عن الأعراض الأخرى، فمثلًا يسأله:
هل يصاحب الحرارة شيء؟
نعم، أتعرق خاصة في الليل.
هل هناك تغير في وزنك؟
نعم نقصت 5 كيلو في أسبوع.
وهنا يتأكد احتمال إصابته بمرض الدرن.
ويمكن سؤاله عن وجود تاريخ المرض مثل: هل يوجد أحد عنده مرض الدرن؟
هل تناول أدوية معينة في فترة الكحة مثل دواء كحة وزكام؟
فعند عدم وجود مفعول للدواء واستمرار الكحة تزيد من احتمالية وجود مرض الدرن.
ولا بد من السؤال عن الأمراض المزمنة والدائمة، وسجلِّه المرضي، وحال مخالطيه.
وهكذا يختبر الطبيب الفروض والاحتمالات، ويستبعد الخاطئ منها، فإذا تأكد لنا هذا الاحتمال، ننتقل إلى تشخيص عينات من جسمه وتحليلها وفحصها، وهي فحص الدم وفحص اللعاب وفحص الأنسجة الرئوية بالأشعة.
فإن ظهرت علامات الدرن -وهو تآكل بعض الأنسجة في الرئة- يتأكد أنه يعاني من الدرن، ثم يبدأ العلاج.
إن الطبيب في عمله السابق يعتمد على مهارة عقلية، وهي مهارة اختبار الفروض أو الاحتمالات كما يسمَّى، وهي ذاتها يعمل بها المحقّق عند وجود أكثر من سيناريو لوقوع الجريمة، ومثله يفعل غالب مهندسي الصيانة كمهندس السيارات والأجهزة التقنية إذا حصل عطل وبدأ يبحث عن سببه استعمل هذه المهارة.
ولو رجعنا إلى الماضي وفتشنا فيه بحثًا عن جذور هذه المهارة العقلية لوجدناها فطرية، ووجدنا علماء الإسلام أعملوها ونظَّروا لها واحتجُّوا بها، وكان الوحي الإلهي قدوتهم في فعلهم ذاك.
فمهارة اختبار الافتراضات والاحتمالات هي ذاتها مهارة السبر والتقسيم في الجذور، وإن كان بينهما نقاط التقاء وافتراق.
المهمّ من كل ذلك أن هذه المهارة العقلية دلَّ عليها الوحي، واستعملها السلف في بناء أدلّتهم وصياغة حججهم، بل كانت السبب الأعظم في إلجام المنحرفين عن الصراط المستقيم من المعتزلة وغيرهم، وكبح جماح المحنة التاريخيّة العظمى محنة خلق القرآن.
ومن هنا فإن هذه الورقة تحاول وضع هذه المهارة تحت المجهر؛ لنعرف مدى إعمال السلف لهذه المهارة العقلية خاصة، ومدى إعمالهم للأدلة العقلية عمومًا، فيظهر الحقّ ويدمغ الباطل وأهله الذين يزعمون أن السلف لا نتاج عقليّ عندهم.
يقول الدكتور مصطفى حلمي: “الدراسات الكلامية التقليدية أولَت عنايتها للفرق المنشقة عن أهل القرون الأولى كالخوارج والشيعة والقدرية والجهمية، كما تعمقت وتوسعت في عرض المذهبين الكبيرين: الاعتزالي والأشعري، ولم تلتفت للنتاج العقلي للمحدثين والفقهاء بالقدر الكافي الذي يسمح بإبراز مواقفهم من أصول الدين، ومنهجهم في النقاش والرد على مخالفيهم، مع العلم بأنهم كانوا يستندون إلى أدلة عقلية وبراهين منطقية قائمة على تفسير الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والاسترشاد أيضًا بفهم الأوائل الذين كانوا أكثر علمًا ودراية بأسرار اللغة العربية وأسباب النزول ودقائق العقائد المتصلة بأصول الدين.
وفي ضوء هذه الحقيقة نرى أن طريقة أهل الحديث والسنة تحتاج إلى نظرة إنصاف وتقدير؛ حيث شاعت الفكرة التي تصفهم بأنهم (نصيون) وليسوا (عقليين)، فضلًا عن أوصاف أخرى تشاع عنهم خطأ كوصفهم بالجمود، وما إلى ذلك من صفات شوهت صورهم في أذهان الخاصة والعامة”([1]).
مفهوم السبر والتقسيم:
يُقصد بالسَّبر في اللغة: اختبار الشيء واستخراج كنهه، يقال: اسبر لي ما عنده، أي: اعلمه، ومنه المسبار: آلة اختبار غور الجرح ليقتص بمثله([2]).
ويُقصد بالتَّقسيم: تجزئة الشيء، بأنْ يقال: الشيء إمَّا كذا، وإمَّا كذا([3]).
هذا هو معنى هاتين المفردتين في اللغة، وأما في الاصطلاح فقد تنوَّعت عبارات العلماء في تعريفه بسبب تنوُّع الفنون التي استُعملت فيه، وحسب ما يَعرِفه صاحب التعريف، وحسب المجال الذي يطبِّقه فيه؛ فإن “هذا الاستدلال [أي: السبر والتقسيم] يحصل من العلم بأحوال الشيء وملزومها ولوازمها، وإذا تصورته الفطرة عبَّرت عنه بأنواع من العبارات، وصورته في أنواع من صور الأدلة، لا يختص شيء من ذلك بصورة معينة أو طريقة محددة”([4]).
ولكن لعلنا نقتصر هنا على ما يوضِّح المقصود دون الخوض في التفاصيل، ولنبدأ بتعريف كل كلمة منهما على حدة عند الأصوليِّين:
فالتَّقسيم في اصطلاح الأصوليين: هو حصر الأوصاف الموجودة في الأصل التي يظنّ صلاحيتها للعلّة ابتداءً، فيقال: العلّة إمَّا كذا وإمَّا كذا([5]).
والسَّبر اصطلاحًا: اختبار الوصف هل يصلح للعلّيّة أم لا، وينتج عن ذلك إبطال الباطل منها واختيار الصالح([6]).
وأما تعريفهما لَقبًا فله إطلاقان عند أهل الأصول:
1- أن يقصد به مسلك خاص من مسالك العلّة وهو: استنباط علة الحكم الشرعي، ومن تعريفاته: “حصر الأوصاف التي توجد في الأصل المقيس عليه، والتي تصلح للعلّيّة في بادئ الرأي، ثم اختبارها بإبطال ما لا يصلح بطريقة، فيتعيّن الباقي للعلّيّة”([7]).
2- أن يقصد به طريقة من طرق الاستدلال، وهو أشمل وأعم نفعًا، كما أنه متفقٌ في أصل بنائه مع ما عند الجدليين والمناطقة والكلاميين، وهو مقصودنا في هذه الورقة، ومن أشمل تعريفاته ما عرفه به القاضي أبو يعلى ونقله ابن تيمية عنه رحمهما الله، وهو قوله : “أن يكون في المسألة قسمان أو أكثر، فيدل المستدلّ على إبطال الجميع إلا واحدًا منها ليحكم بصحته، ولا يطالب بالدلالة على صحته بأكثر مما ذكره”([8]).
وعرَّفه ابن حزم بقوله: “رابعها [أي الأدلة]: أقسام تبطل كلها إلا واحدًا، فيصح ذلك الواحد… أو يكون قوله يقتضي أقسامًا كلها فاسد، فهو قول فاسد”([9]).
وقد حرَّر الشيخ الشنقيطي -رحمه الله- القول في هذا الدليل، وبيَّن شموله لكثير من المسائل والقضايا وعظم نفعه بالإطلاق الثاني، يقول رحمه الله: “وضابط هذا الدليل العظيم أنه متركّب من أصلين:
أحدهما: حصر أوصاف المحلّ بطريق من طرق الحصر، وهو المعبر عنه بالتقسيم عند الأصوليين والجدليين، وبالشرطي المنفصل عند المنطقيين.
والثاني: هو اختبار تلك الأوصاف المحصورة، وإبطال ما هو باطل منها، وإبقاء ما هو صحيح منها… وهذا الأخير هو المعبر عنه عند الأصوليين بالسبر، وعند الجدليين بالترديد، وعند المنطقيين بالاستثناء في الشرطي المنفصل”([10]).
إلى أن قال: “واعلم أن المنطقيين والأصوليين والجدليين كل منهم يستعملون هذا الدليل في غرض ليس هو غرض الآخر من استعماله، إلا أن استعماله عند الجدليين أعم من استعماله عند المنطقيين والأصوليين؛ فمقصود الجدليين من هذا الدليل معرفة الصحيح والباطل من أوصاف محل النزاع”([11]).
ولعل هذا الشمول في استعمال هذه المهارة الاستدلالية العقلية يرجع إلى أنها مهارة فطرية إلى جانب كونها مهارة عقلية، فهي مستخدمة لدى كلِّ إنسان ولو كان بليدًا في ذهنه، ألا ترى أن الكهرباء لو انقطعت عن إنسان في البيت بدأ يبحث عن العلل والاحتمالات؛ كوجود التماس، أو عطل في الفاصل، أو عبث من أحد الأطفال، أو زيادة الحمولة على الكهرباء، أو انقطاع كابل الكهرباء، أو عطل في الفاصل الرئيس، أو فصل من الشركة المشغِّلة، أو فصل من المولد الرئيس… إلى غير ذلك من الاحتمالات.
ثم يبدأ باستبعاد الاحتمالات البعيدة أو الخاطئة فطرة، مثل: فصل الكهرباء من المولِّد الرئيس لوجود الكهرباء في كل بيوت الحيّ، وعبث أطفال لعدم وجود أطفال في البيت، وهكذا حتى يصل للسبب الحقيقيّ الذي أدى إلى فصل الكهرباء.
فالسبر والتقسيم إذن من المهارات العقلية الفطرية التي أنعم الله بها على كل إنسان.
شروط السبر والتقسيم:
يشترط في هذه العملية شروطٌ يذكرها العلماء في كتبهم وإن كان بينهم خلاف في تحديدها وتعدادها، ولكن سنقتصر هنا على ذكرها دون الخوض في تفاصيل النقد طلبًا للاختصار، فمنها:
1- أن يقوم على أساس واحد، أي: على حيثيّة وجهة ينطلق منها التقسيم، وهذه الحيثية قد يستنبطها المقسِّم فتكون تابعة لفهمه، وقد تكون ظاهرة ضرورية.
2- استيفاء جميع الأقسام، بحيث يكون جامعًا لجميع الأقسام، مانعًا من دخول غيرها فيها.
3- أن يكون كل قسم مباينًا لما سواه من الأقسام.
4- أن يكون كل قسم أخصَّ مطلقًا من المقسَّم.
5- أن يكون كل قسم داخلًا تحت المقسَّم مباشرة([12]).
السبر والتقسيم في الوحي:
أوّلًا: السبر والتقسيم في القرآن الكريم:
ما أشبه الوحي بواحة خضراء! ففي الجنة ما يشبع الحاجات الإنسانية مما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين، وفيها متاع للآكلين ومتاع للشاربين ومتاع للناظرين، وكذلك في الوحي ما يشبع الحاجات الروحية ويروي العطش العقلي مما تتوق إليه العقول وتستلذُّ به الألباب، ففيها الحجج الباهرات وفيها العقليات والمهارات.
1- وفيما يخصّ مهارتنا التي نتحدث عنها -وهي مهارة السبر والتقسيم- ورد في الوحي الإلهي إعمالها والمحاجَّة بها، فمن أحكم الآيات وأفصحها والتي أعملت هذه المهارة قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35]، فهذه الآية التي لها القدم الأولى في الاستدلال على ربوبية الله سبحانه -وعلى وجوده من باب أولى- أُعملت فيها هذه المهارة الحجاجية القوية، ففيها مخاطبة للألباب ودعوة للتفكر في وجودهم وأصل خلقهم، ولا يخلو ذلك من ثلاثة احتمالات: فإنهم إما أن يكونوا خُلقوا من غير شيء، أي: من العدم، وإما أن يكونوا خلقوا أنفسهم بأنفسهم، وإما أن يكون هناك خالقٌ من غيرهم خلقهم، فهذه هي الاحتمالات المفترضة ولا رابع لها.
وبهذا نكون انتهينا من المرحلة الأولى لهذه المهارة العقلية، ألا وهو التقسيم، وننتقل بعده إلى سبر هذه الاحتمالات وإبطال الباطل وإحقاق الحق.
فأما الاحتمال الأول وهو: أن يكون الإنسان خلق من العدم، أي: بدون خالق أصلًا، فالعدم ليس بشيء حتى يوجد شيئًا، ثم يستحيل أن يكونوا وجدوا دون أن يكون لهم موجد خالق.
وأما الاحتمال الثاني وهو: أن يكون الإنسان أوجد نفسه بنفسه، فهذا لا يقوله عاقل يحترم عقله، وبطلانه ضروري في النفوس؛ كيف والإنسان وهو في أحسن مراحل الفتوة لا يمكنه استحداث شيء في نفسه، فضلًا عن أن يهب الوجود لغيره، فضلًا عن أن يفعل ذلك وهو معدوم لا يملك الوجود لنفسه؟!
إذا بطل هذان فالاحتمال الثالث والأخير هو أنه أوجده غيره، وهذا هو الاحتمال الممكن عقلًا والمقبول فطرةً. ولكن في هذا الاحتمال احتمالان:
فإما أن يكون هذا الخالق أيضًا وجوده ممكن فيحتاج إلى غيره، ثم الآخر يمكن أن يكون مثله محتاجًا إلى خالق غيره، ولا يمكن أن تستمر سلسلة الخالقين؛ لأنه يؤدي إلى عدم حدوث شيء وهو ممتنع، بل لا بد أن تنتهي المخلوقات إلى خالقٍ خلقه وخلق السماوات والأرضين، وجوده من نفسه، غير مفتقر إلى غيره، لا يسبقه عدم، ولا يلحقه فناء، وهو الاحتمال الثاني، وهذا لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى الذي خلق السماوات والأرض، وخلق الكون، والذي وصف نفسه بقوله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3].
فعند السبر العقلي تبطل كل الاحتمالات التي تفترض إلهًا غير الله سبحانه وتعالى؛ ويبقى الاحتمال الحق الأوحد هو إثبات ربوبية الله سبحانه وتعالى وتفرّده بذلك، وهو ما يستلزم عبادته والخضوع له سبحانه وتعالى.
ولذا دُهش القرشي الفصيح حين سمع هذا البرهان العقلي المتين الذي طال بنا المقام في شرحه في أوجز عبارة حيث قال سبحانه وتعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35]، وذاك القرشي هو جبير بن مطعم رضي الله عنه، فقد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة المغرب، فقال: (كاد قلبي أن يطير)([13])، “وكان سماعه هذه الآية من هذه السورة من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك”([14]).
2- هذه قصة جبير بن مطعم رضي الله عنه مع مهارة السبر والتقسيم العقلية، وأما قصة العاص بن وائل السهمي ومحاجَّته في دعواه فهي من أقوى وأبلغ ما يظهر فيها حذق القرآن في هذه المهارة، وذلك أنه كان عليه دين لخباب بن الأرت رضي الله عنه، فطلب منه قضاء الدين، فأبى ذلك وقال: والله، لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقال خباب: والله، لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث، فقال العاص: فإذا أنا متّ ثم بُعثت كما تقول جئتني ولي مال وولد!! فجاء الوحي الإلهي محاجًّا له في دعواه تلك مستعملًا السبر والتقسيم.
فأما التقسيم والحصر فإن مستند العاص في دعواه تلك إما أن يكون هو اطلاعه على اللوح المحفوظ وعلمه الغيب، وإمَّا أن يكون بموجبِ عهدٍ أعطاه إياه مالك يوم الدين ومن له الحكم في الأولى والآخرة، وإما أن يكون تدجيلًا وبهتًا وافتراء وقولًا بلا علم، هذه هي الحالات الثلاث، ولا رابع لها.
وإذا تأمَّلنا هذه الاحتمالات وسبرناها وجدنا الآتي:
فأما كونه يعلم الغيب فهو ما لا يقبله ذو فطرة يعلم بشريَّته وحالته، وأما دعوى معاهدته لله فهو لا دليل عليه ويكذِّبه واقعه وسيرته، ولذلك اكتفى القرآن الكريم بالاستفهام الإنكاري لنقض هذين الاحتمالين، وترَك العاقل وعقله ولبّه وفطنته ليتوصَّل إلى الاحتمال الثالث الذي لا رابع له، وهو أنه ادَّعى هذه الدعوى إفكًا وافتراءً دون علم أو حجة أو كتاب منير.
قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم: 77 -80].
3- وهذه المهارة بهذه الاحتمالات يستعملها القرآن في إبطال الافتراءات التي يتزعَّمها الأفاكون فيما يتعلق باليوم الآخر، فقد زعم اليهود أنهم لن يمكثوا في النار سوى أيام معدودة إذا دخلوها في الحياة الآخرة، ثم يخرجون منها، فناقشهم القرآن الكريم في هذه الدعوى وأبطلها بطريقة السبر والتقسيم.
فأما التقسيم فإن برهانهم في دعواهم تلك لا يخلو من أحد ثلاثة براهين، إما أن يكونوا قد اطلعوا على اللوح المحفوظ أو يعلمون الغيب، أو يكونوا قد أعطوا ميثاقًا وعهدًا من عند الله بذلك، أو يكونوا أفَّاكين دجَّالين في دعواهم متقوِّلين على الله بلا علم، ولا رابع في القضية.
وحين ننظر إليها بعين المسبار البرهاني العقلي نجد أن الاحتمال الأول لا يدَّعيه اليهود أنفسهم؛ إذ يعلمون أن علم الغيب محصورٌ في حق الله تعالى، فلا يعلم الغيب أحد في السماوات ولا في الأرض، وأما الاحتمال الثاني -وهو ما لهم في زعمه متنفَّس- وهو أن تكون دعواهم مبنية على ميثاقٍ وعهدٍ من الله تعالى، فعليهم إذن أن يظهروا ويبرزوا عهدهم وميثاقهم ذلك، وإلا فالشواهد والبراهين قائمةٌ على أنهم لم يلتزموا بما أنزل الله إليهم لينالوا جزاء ذلك، وينفذ العهد الذي بينهم وبين الله إن كان، فضلًا عن أن يلتزموا بغيره من العهود، بل هم أهل الخيانة والغدر، ولو أنهم التزموا بما عاهدوا الله به لوفَّاهم، فإن الله لا يخلف الميعاد، ولكنهم خانوا وخالفوا؛ ولذا عقَّب المولى سبحانه باستبعاد وفاءهم بالعهد في هذه الآية، هذا إن كان عندهم عهد، وأخبر أن دعواهم دجلٌ وكذب وتقوُّل على الله بلا علم، وأكَّد أن من كان مثل اليهود من الكفرة والمشركين مخلدين في النار أبد الآبدين.
قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 80-82].
4- ومن المواضع التي تظهر فيها براعة القرآن في هذه المهارة العقلية تلك الآيات التي حصرت كل أمر هو مظنَّة جلب نفع أو دفع ضر فيما يتعلق بالآلهة التي تعبد من دون الله، فإن منح حقوق الإلهية لشيء ما لا يكون في الأصل إلا لما يتصرّف في النفع والضر، سواء كانت بيده جميع مفاتيح النفع والضر، أو كان يملك بعض منافذها، والله سبحانه وتعالى نفى أن يكون لما يُعبد من دونه أيُّ باب من أبواب النفع أو الضر، وبين أنه هو المالك لذلك، المتفرّد بالملك، فنفى أن يكون لهم استقلال بامتلاك ذرة من ذرات الكون، فضلًا عن امتلاك جزء منه، فضلًا عن امتلاكه كله، فهم “لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض؛ من خير ولا شر، ولا ضر ولا نفع، فكيف يكون إلهًا من كان كذلك؟!”([15]). ثم أخبر أنهم لا شركة لهم في الملك ولا صوريًّا، فليس لهم في الملك شيء قليلًا أو كثيرًا، استقلالًا أو شراكة، مقسومًا أو مشاعًا.
فإذا انتفى الملك استقلالًا أو شراكة بقي أن يُنظر هل كانت لهذه الآلهة من معونة في الربوبية والخلق والتدبير، وهل كان لجاهها من سبيل في الشفاعة وإيجاد نفع أو ضر للعبد واستحقاق تلك الآلهة للعبادة، فأما أن تكون لهم يد ومعونة في خلق شيء أو تدبيره فلا شيء من ذلك واقع؛ إذ هي من خصائص الربوبية لله سبحانه وتعالى، وبقيت القضية الأخيرة التي للإنسان فيها تسبُّبٌ في النفع والضر وهي الشفاعة، والتي يتمسَّك بها من يعبد غير الله تعالى، ولكن الله سبحانه وتعالى أخبر أنها خاصَّة بأوليائه وأهل عبادته، وأنها لا تنفع من أشرك به شيئًا، فقطع سبحانه على المشرك كل حجة وبرهان يمكنه الاتكاء عليها أو حتى الاستئناس بها، وأثبت استحقاقه سبحانه للعبادة، وتفرُّده بالخلق والملك والتدبير، فلا يمكن أن يكون لمشركٍ بالله أو ظالمٍ في العبادة برهان ولا حجة في شركه كما أخبر سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117].
إذن التقسيم هنا في هذه الآيات جاء على أربعة أمور هي: الربوبية استقلالًا، والشركة في الربوبية، والمعونة على الربوبية، والشفاعة عند الرب.
وعند سبرها يظهر جليًّا أنه ليس في واحدة منها متكأ أو متمسَّك أو متشبَّث يتشبّثون به، فأما الأولى فليس لهم أي نوع من أنواع الملك الاستقلالي، وأما الثانية فالله لا شريك له سبحانه وتعالى في ربوبيته، وأما الثالثة فالله سبحانه وتعالى له كمال القدرة والقوة فلا معين له ولا نصير ولا ظهير، وأما الشفاعة فإنها لا تكون إلا بإذنه سبحانه، “والله لا يأذن لأحد من أوليائه في الشفاعة لأحد من الكفرة به، وأنتم أهل كفر به أيها المشركون، فكيف تعبدون من تعبدونه من دون الله زعمًا منكم أنكم تعبدونه ليقرِّبكم إلى الله زلفى، وليشفع لكم عند ربكم”([16]).
ولنترك القول للقرآن يبرز لنا جلالته وبلاغته في عرض هذه الحجَّة الباهرة حيث يقول سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22، 23].
5- كانت تلك الآيات في نقض كلِّ حجة للمشركين بالله سبحانه وتعالى في عبادته، وكذلك وردت آيات أخر مثلها في قضايا العبادة، ولا شك أن من أهم قضايا العبادة الدعاء؛ إذ الدعاء مخ العبادة.
فدوافع الداعي إلى دعائه لا تخرج عن أمور؛ كاستحقاق المدعو وكماله وجلاله، أو استجابته لذلك الدعاء سواء في الدنيا أو في الآخرة، ولا دافع بعد هذه الدوافع.
وقد احتج الله سبحانه وتعالى على من يشرك به غيره في الدعاء والابتهال أنه لا حجة له في دعائه، وأنه لا يملك شيئًا من تلك الدوافع، بل الله سبحانه له الملك والخلق والتدبير، قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13، 14].
واستعمال حجة السبر والتقسيم في هذه الآية ظاهر، فأما التقسيم فلا تخلو الأمور الدافعة إلى الدعاء من أحد ثلاثة، وهي: كمال المدعو في الربوبية، امتلاك المدعو استجابة الدعاء في الدنيا، امتلاك المدعو استجابة الدعاء في الآخرة.
ولو أردنا سبرها فإن واحدة منها لا تقوم حجة أو دافعًا يدفع الإنسان إلى دعاء غير الله تعالى، فالكمال المطلق في الملك والخلق والتدبير ليس إلا لله، والنفع والضر في الدنيا بيد الله سبحانه وتعالى وحده، كما أنها في الآخرة بيد الله سبحانه وحده.
فلا يبقى للدَّاعي إلا الإله الحق الواحد الأحد، مجيب دعوة المضطرين، ومفرج كروب المكروبين، سبحانه من عظيم راحم.
6- ومن الآيات التي استُعمل فيها هذا الأسلوب البرهاني قول الله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 143، 144].
ففي هذه الآيات يناقش القرآن الكريم أولئك الذين حرَّموا ما أحلَّ الله بلا منطق ولا عقل، بل مجرد انصياع وراء أهوائهم ورغباتهم وخضوع لأصنامهم وشياطينهم، وناقشهم الله سبحانه وتعالى وحاجَّهم على ذلك بالسبر والتقسيم، فبيَّن سبحانه وتعالى أن التحريم لا بد أن تكون له علة أو يكون تعبُّديًّا، ولا شيء من الأمرين يستقيم لهم، فلا علّة ظاهرة لديكم، ولا كتاب من الله بأيديكم تستندون إليه في تحريمه.
ولتتبيَّن حالات التقسيم التي أوردها القرآن على وجه الدقّة نفصِّلها بعد أن أجملنا؛ فإن التحريم كما ذكرنا إما أن يكون لعلة، وإما أن يكون تعبُّديًّا لا علة له.
فأما الأول وهو كونه معلَّلًا فله حالات: إما أن تكون علته الذكورة، وإما أن تكون علته الأنوثة، وإما أن تكون العلة التخلّق في الرحم واشتماله عليهما.
ولنرجع إلى كلّ علة من هذه العلل لفحصها وسبرها؛ لنجد أنها جميعًا باطلة؛ فأما العلة الأولى وهي الذكورة فإن اعتمادها يقتضي تحريم كل ذكر، ولكنهم لا يقرون بهذا ولا يعملون به، بل يحرمون بعض الذكور دون بعض، فدل ذلك على بطلان التعليل بالذكورة لقادح النقض الذي هو عدم الاطِّراد.
وأما العلة الثانية وهي الأنوثة، فكذلك اعتمادها يقتضي تحريم كل أنثى؛ وهم لا يعمِّمون التحريم على كل أنثى، فبطلت هذه العلة أيضًا لعدم اطِّرادها.
وأما العلة الثالثة وهي التخلق في الرحم واشتماله عليهما، فذلك يقتضي تحريم الذكر والأنثى وتحريم الأنعام جملةً، وهو ما لا يستغنون عنه، بل هم لها مالكون، فمنها ركوبهم ومنها يأكلون، ولهم فيها منافع ومشارب، فبطل إذن القول بأن العلة التخلق في الرحم.
فإذا كان باب التعليل لم يسعفهم بشيء في فعلهم الشنيع وتحريمهم ما أحل الله، فهل يمكنهم أن يقولوا بأن القضية تعبُّدية ولا نحتاج إلى تعليلها؟!
لم يغب هذا الاحتمال أو هذا الافتراض عن القرآن الكريم؛ ولذلك أخبر أن ذلك له حالتان:
إما أن يكونوا قد رأوا الله تعالى عيانًا فوصَّاهم الله تعالى بذلك، وهذا ما لا يتجرؤون أن يتزعَّموه إلا قليلًا.
وإما أن يكون عندهم أثرة من علم وشيء مما أوحي إلى أنبيائهم، وحينها لا بد من حجَّة وبرهان وكتاب يثبت صحَّة ما يزعمون، وليس عندهم شيء من ذلك.
لننتهي إلى الحقيقة المؤكَّدة بعد هذه العملية العقلية الحجاجية، وهو أنهم كذبة يكذبون على الله ويتَّبعون أهواءهم، فيحرِّمون ما تريد أهوائهم تحريمه والعكس، وأنه لا حجة لهم في ذلك.
وقد انتهى القرآن من مناقشتها في كلمة واحدة على عادته حيث قال: {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} [الأنعام: 144].
ثانيًا: السبر والتقسيم في السنة النبويَّة:
وقد أعملت هذه المهارة أيضًا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة، ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة، لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، ليس لها ريح وطعمها مر))([17]).
فهنا بيَّن النبي عليه الصلاة والسلام للمؤمنين فضل قارئ القرآن على غيره، وأنه لا يفوقه أحد، فمن يُظهر الإيمان هو بين هذه الحالات الأربع: إما أن يكون مؤمنًا ظاهرًا وباطنًا وقارئًا للقرآن، وإما أن يكون مؤمنًا ظاهرًا وباطنًا ولا يقرأ القرآن، وإما أن يكون منافقًا مؤمنًا في الظاهر ويقرأ القرآن، وإما أن يكون منافقًا مؤمنًا في الظاهر ولا يقرأ القرآن.
وأفضل هذه الحالات ولا شك هي الحالة التي قدَّمها النبي صلى الله عليه وسلم وشبَّهها بحال الأترجة في طيب رائحتها وطيب مطعمها، وهي جمع الإيمان مع قراءة القرآن.
السبر والتقسيم عند السلف:
على منوال الوحي سار السلف رضوان الله عليهم أجمعين، فقد كان القرآن دستور حياتهم ومرجع أخلاقهم وأعمالهم، وقبل أعمالهم آمالهم وأفكارهم وأمانيهم، فله رفعوا وبه ارتفعوا، ومنه تعلموا وبه علموا، حتى إن طرق تفكيرهم وبناء حججهم وبراهينهم استلهموها من الوحي الإلهي.
ولما كانت مهارة السبر والتقسيم مهارة حجاجية قرآنية كان للسلف الصالح السبق في مضمارها، وبلغوا أوج البيان والحجيَّة والبرهانيَّة في أدلتهم، وأفحموا من أفحموا ممَّن ناقشهم.
1- ومن استعمالاتهم لهذه المهارة العقلية ما قاله الصحابي الجليل علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين روجع في قتاله مع معاوية رضي الله عنهم أجمعين: (لله درُّ مقام قامه سعد بن مالك وعبد الله بن عمر؛ إن كان بِرًّا إن أجره لعظيم، وإن كان إثمًا إن خطأه ليسير)([18]).
فهنا استعمل علي بن أبي طالب رضي الله عنه السبر والتقسيم؛ حيث جعل عاقبة فعل ذينك الصحابيين رضي الله عنهما بين حالتين لا ثالث لهما:
إما أن يكون عملهما صالحًا فيؤجران عليه، وأجرهما في ذلك العمل عظيم.
وإما أن يكون عملهما غير صالح بل هما مخطئان في فعلهما، فإثم هذا الخطأ يسير.
ونوقن بعد هذه العملية العقلية أن موقف هذين الصحابيين كان خيرًا من غيرهما، وأن اعتزال الفتنة خير من الخوض فيها.
2- واستعمال هذه المهارة الحجاجية في هذا المثال ذاته ورد أيضًا عن عمرو بن العاص حيث قال: (لله در بني عمرو بن مالك؛ لئن كان تخلفهم عن هذا الأمر خيرًا كان خيرًا مبرورا، ولئن كان ذنبًا كان ذنبا مغفورًا)([19]).
3- ومن تلك المواضع التي يبرز فيها حذقهم ومهارتهم في السبر والتقسيم ما يروى عن الإمام مالك بن أنس أو الإمام محمد بن إدريس الشافعي في مناظرة القدرية القائلين بأن العبد خالق فعله: “ناظروا القدرية بالعلم؛ فإن أقروا به خُصموا، وإن جحدوه كفروا”([20]).
فالقدري -الذي يزعم أن العبد خالق فعله وأن الله لا يخلق فعل العبد- إن سئل عن علم الله تعالى بما يزعم أن العبد يخلقه فليس له إلا أحد جوابين:
إما أن ينكر علم الله تعالى، وهو ثابت بالنصوص المتضافرة، وإنكاره كفر.
وإما أن يثبت علم الله تعالى، فحينئذٍ يكون السؤال: هل وقع الفعل على وفق المعلوم أم غير موافق له، والثاني باطل ضرورة، وأما الأول فقوله به إقرار منه بالقدر ومناقضة لما ادعاه من خلق العبد لفعله.
فمآله إن أثبت علم الله تعالى أن يثبت مشيئته وخلقه سبحانه وتعالى.
4- ومن المواقف التي برز حذقهم ومهارتهم في السبر والتقسيم تقسيم الإمام محمد بن إدريس الشافعي -رحمه الله- للسنة، مبيِّنًا أهمية السنة والحاجة إليها، وأنها كالحاجة إلى القرآن، وذلك ببيان حال السنة مع القرآن، فبيَّن أنها لا تخلو من أحد ثلاثة أحوال: إما أن تكون مؤكدة لما في القرآن، وإما أن تكون مبينة لما أجمل في القرآن، وإما أن تكون مؤسسة حكما سكت عنه القرآن.
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: “فلم أعلم من أهل العلم مخالفًا في أن سُنن النبي من ثلاثة وجوه، فاجتمعوا منها على وجهين. والوجهان يجْتَمِعان ويتفرَّعان: أحدهما: ما أنزل الله فيه نص كتاب، فبَيَّنَ رسول الله مثلَ ما نصَّ الكتاب، والآخر: مما أنزل الله فيه جملةَ كتاب، فبيَّن عن الله معنى ما أراد؛ وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما. والوجه الثالث: ما سنَّ رسول الله فيما ليس فيه نص كتاب”([21]).
5- ومن استعمالاته لهذه المهارة العقلية ما ورد من أنه كان في جلسة يتناقش فيها مع محمد بن الحسن الشيباني في قضية المفاضلة بين الإمامين أبي حنيفة ومالك رحمهم الله أجمعين.
فقال محمد بن الحسن: أيهما أعلم: صاحبنا أو صاحبكم؟ [يعني: أبا حنيفة ومالكا].
فقال الشافعي: على الإنصاف؟ قال: نعم.
وعندئذ انتقل الشافعي إلى قريحته وأبرز مهارته في السبر والتقسيم، فإن العلم في أربعة أشياء لا خامس لها، وهي: القرآن والسنة وأقوال الصحابة والقياس.
فهذا تقسيمه للعلم؛ ولذا جعل يسبر كل واحدة منها بسؤال الإمام الشيباني.
فقال له: فأنشدك الله، من أعلم بالقرآن: صاحبنا أو صاحبكم؟
قال الشيباني: صاحبكم، يعني مالكًا.
قال الشافعي: فمن أعلم بالسنة: صاحبنا أو صاحبكم؟
قال الشيباني: اللهم صاحبكم.
قلت: فأنشدك الله، من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمتقدمين: صاحبنا أو صاحبكم؟
قال الشيباني: صاحبكم.
قال الشافعي: قلت: فلم يبق إلا القياس، والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء، فمن لم يعرف الأصول على أيِّ شيء يقيس؟!([22]).
6- وهذا أبو الحسن عبد العزيز بن يحيى الكناني المكي (ت 240هـ) ناقش الجهميَّ بشر المريسي في مسألة خلق القرآن، وذلك في مجلس المأمون، ولما اصطلى بنار حجج الوحي وبراهينه لم يصبر على قوتها، ولم يقو على ردِّ برهانيَّتها، بل جنح إلى التغبيش واللّغو، واكتفى بقوله: “يا أمير المؤمنين، عندي أشياء كثيرة إلا أنه يقول بنص التنزيل، وأنا أقول بالنظر والقياس، فليدع مطالبتي بنص التنزيل ويناظرني بغيره، فإن لم يدع قوله ويرجع عنه ويقول بقولي ويقر بخلق القرآن الساعة فدمي حلال”([23]).
فذهب يتَّهم السلف بالحشوية والحرفية والجمود وعدم الفهم وعدم امتلاكهم للمهارات العقلية التي يزعم أنها خالصة لأمثاله، والحمد لله أنه اعترف بعدم خبرته ودرايته بالوحي -على عكس حال غيره من المضلّين- عندما أفحم بها ولم يحر جوابًا، وكم مرة يسأل وليس له إلا الحيدة حتى عُرفت المناظرة بالحيدة، ولكنه بدأ يشوّش وينادي بأنه سيغلبه إن كانت المناظرة عقلية؛ ظنًّا منه أن الكناني وأمثاله من السلف ضعيف في مهاراته العقلية، خافتٌ نوره في الحجاجات البرهانية -كما يظن كثير من الناس-، ولكن ذلك ما ردَّ عليه الكناني -رحمه الله- ردًّا عمليًّا قاسيًا حيث طلب من الخليفة أن يأذن له بمناظرته عقليًّا، ثم أفحمه، وكان مآله إلى الحيدة في الحجاج العقلي كما كان هو أيضًا مآله في الحجاج القرآني.
يقول الإمام الكناني -رحمه الله- فقلت له: “أتسألني أم أسألك؟ فقال: سل أنت، فطمع فيَّ هو وجميع أصحابه، وتوهَّموا أني إذا خرجت عن التنزيل لم أحسن أن أتكلم بشيء غيره.
فقلت: تقول: إن كلام الله مخلوق؟ فقال: إن القرآن مخلوق.
فقلت له: يلزمك واحدة من ثلاث؛ لا بد أن تقول: إن الله عز وجل خلق القرآن -وهو عندي أنا كلامه- في نفسه، أو خلقه في غيره، أو خلقه قائمًا بذاته ونفسه، فقل ما عندك”([24]).
فهنا قد انتهى الإمام من التقسيم للقضية، فإن كلام الله سبحانه وتعالى لا بد وأن يكون واحدًا من ثلاث حالات، إما يكون قائمًا بذاته سبحانه وتعالى، وهذا هو الواقع وهو الصحيح، ولكنه متناقض مع ما يدَّعيه بشر من القول بأنه مخلوق؛ لأن ذات الله لا يمكن أن يكون فيها مخلوقًا، وإما أن يكون منفصلًا عنه وحينئذٍ له حالتان: إما أن يكون كلامًا في غيره، وإما أن يكون كلامًا قائمًا بنفسه، ولا رابع، فهذا إعمال للتقسيم كما ترى وحصر لجميع الأوصاف الممكنة.
ولما عرف بشر بطلان الحالتين الأخيرتين وتناقض الأول مع ما يدعيه من خلق القرآن، حاد عن الجواب عما سُئل وقال: “أقول إنه مخلوق وإنه خلقه كما خلق الأشياء كلها.
فقلت [الكناني]: يا أمير المؤمنين، تركنا القرآن والسنن والأخبار عند هربه منها، وناظرناه بالقياس والكلام لما ادعاه، وذكر أنه يقيم الحجة عليَّ به، وإني أقرّ معه بخلق القرآن، فقد رجع بشر إلى الحيدة عن الجواب، وانقطع الكلام، فإن كان يريد مناظرتي على أنه يجيبني عما أسأله عنه وإلا فأمير المؤمنين أعلى عينا في ما يراه في صرفي، فإنما يريد بشر أن يقع معه من لا يفهم فيحيد عن دينه، ويحتج عليه بما لا يعقله فتظهر حجته عليه، فيبيح بذلك دمه.
قال [الكناني]: فأقبل عليه المأمون فقال: أجب عبد العزيز عما سألك، فقد ترك قوله ومذهبه، وناظرك على مذهبك وما ادَّعيت أنك تحسنه وتقيم الحجة به عليه.
فقال بشر: قد أجبته ولكنه يتعنتّ. فقال له المأمون: يأبى عليك عبد العزيز إلا أن تقول واحدة من ثلاث.
قال: هذا شرّ من مطالبته بالتنزيل، ما عندي غيرها أجبت به”([25]).
فطلب الخليفة من الكناني أن يبيِّن له هذا الدليل العقلي وهذه المهارة التي حاجَّ بها، ففصَّل له عملية السبر والتقسيم التي أعملها فقال: “يلزمك في هذا القول [خلق القرآن] واحدة من ثلاث لا بد منها؛ أن تقول: إن الله خلق كلامه في نفسه، أو خلقه في غيره، أو خلقه قائما بذاته [وبهذا قد انتهى من التقسيم ثم انتقل إلى سبرها].
فإن قال: إن الله خلق كلامه في نفسه، فهذا محال لا يجد السبيل إلى القول به من قياس ولا نظر معقول؛ لأن الله عز وجل لا يكون مكانًا للحوادث، ولا يكون فيه شيء مخلوق، ولا يكون ناقصًا فيزيد فيه شيء مخلوق، ولا يكون ناقصًا فيزيد فيه شيء إذا خلقه، تعالى الله عن ذلك وجلَّ وتعاظم.
وإن قال: خلقه في غيره، فيلزمه في النظر والقياس أن كل كلام خلقه الله في غيره هو كلام الله لا يقدر أن يفرق بينهما، فيجعل الشِّعر كلامًا لله تعالى، ويجعل قول الكفر والفحش وكل قول ذمَّه الله وذمَّ قائله كلامًا لله عز وجل، وهذا محال، لا يجد السبيل إليه ولا إلى القول به؛ لظهور الشناعة والفضيحة على قائله، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
وإن قال: خلقه قائمًا بنفسه وذاته، وهذا هو المحال الباطل الذي لا يجد إلى القول به سبيلًا في قياس ولا نظر ولا معقول؛ لأنه لا يكون الكلام إلا من متكلِّم، كما لا تكون الإرادة إلا من مريد، ولا العلم إلا من عالم، ولا القدرة إلا من قادر، ولا رُئي ولا يُرى كلام قط قائم بنفسه يتكلم بذاته، وهذا ما لا يُعقل ولا يُعرف ولا يثبت في نظر ولا قياس ولا غير ذلك.
فلما استحال من هذه الجهات أن يكون مخلوقًا ثبت أنه صفة لله عز وجل، وصفات الله عزو جل كلها غير مخلوقة، فبطل قول بشر -يا أمير المؤمنين- من جهة النظر كما بطل من جهة القرآن والتنزيل”([26]).
7- وكان لهذه المهارة العقلية حضورها في محاورات الإمام عبد العزيز الكناني المكي ونقاشاته، وليست هذه هي المرة الأولى التي عمل فيها السبر والتقسيم ليحاجَّ المخالفين لأهل السنة، بل أبطل أكثر من حجّة بنفس الدليل، كما فعله حين استدلّ بشر المريسي الجهمي على خلق القرآن بقول الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3]، وزعم أن (جعل) في القرآن خاصَّة وفي اللّغة العربية عمومًا لا تأتي إلا بمعنى: خلق.
فنقَض الإمام عبد العزيز الكناني -رحمه الله- هذا القول وهذا الحصر، واستعمل في نقضه مهارة السبر والتقسيم لمعنى (جعل) في اللغة وفي آيات القرآن، وبيَّن استحالة كون (جعل) في جميع الآيات بمعنى (خلق).
يقول رحمه الله تعالى: “إن (جعل) في كتاب الله عز وجل يحتمل معنيين عند العرب: معنى خلق، ومعنى صيَّر غير خلق”.
وبهذا انتهى من عملية التقسيم، ثم اتجه إلى السبر، ووضَّح طريقة التمييز بين المعنيين وعلامات كلٍّ، قال رحمه الله: “فلما كان (خَلَق) حرفًا محكمًا لا يحتمل معنى غير الخلق، ولم يكن من صناعة العباد، لم يتعبد الله به العباد فيقول لهم: اخلقوا أو لا تخلقوا؛ إذ كان الخلق ليس من صناعة المخلوقين، وكان من شغل الخالق سبحانه وتعالى.
ولما كان (جعل) على معنى صيَّر لا على معنى الخلق، خاطب الله به العباد بالأمر والنهي، فقال: اجعلوا ولا تجعلوا.
ولما كان (جعل) كلمة تحتمل معنيين، معنى خلق ومعنى صير، لم يدع الله في ذلك اشتباهًا على خلقه ولبسًا على عباده، فيلحد الملحدون في ذلك، ويشبهون على خلقه -كما فعل بشر وأصحابه- حتى جعل على كل كلمة عَلمًا ودليلًا فرَّق به بين الجعل الذي يكون على معنى الخلق، وبين الجعل الذي يكون على معنى التصيير:
فأما الجعل الذي هو على معنى الخلق فإن الله عز وجل جعله من القول المفصل وأنزل القرآن به مفصَّلا وهو بيان لقوم يفقهون. والقول المفصل يستغني به السامع إذا أخبر به قَبل أن توصل الكلمة بغيرها من الكلام؛ إذ كانت قائمة بذاتها تدلّ على معناها، فمن ذلك قول الله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1]، فسواء عند العرب قال: (وجعل)، أو قال: (وخلق)؛ لأنها قد علمت أنه أراد بهذا جعل الخلق؛ لأنه أنزل من القول المفصل، وقال عز وجل: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72]، فعقلت العرب عنه أن معنى هذا: وخلق لكم إذ كان قولا مفصلا…
وأما جعل الذي هو بمعنى التصيير الذي هو غير خلق، فإن الله عز وجل أنزله من القول الموصل الذي لا يدري المخاطب به حتى تصل الكلمة بالكلمة التي بعدها فيعلم ما أراد بها، وإن تركها مفصّلة لم يصلها بغيرها من الكلام لم يعقل السامع لها ما أراد بها، ولم يفهمها، ولم يقف على معنى ما عنى بها حتى يصلها بغيرها.
فمن ذلك قول الله عز وجل: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [ص: 26]، فلو قال: (إنا جعلناك) ولم يصلها بما بعدها لم يعقل داود عليه السلام ولا أحد ممن سمع هذا الخطاب ما أراد الله به، ولا ما عنى بقوله؛ لأنه خاطبه بهذا القول وهو مخلوق، فلما وصلها بـ(خليفة في الأرض) عقل داود وكل من سمع هذا الخطاب ما أراد الله بقوله وما عنى به، وكذلك حين قال الله عز وجل لأم موسى: {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7]، فلو لم يصل (جاعلوه) بـ(المرسلين) لم تعقل أم موسى ما خاطبها به ولا ما عنى بقوله… ومثل هذا كثير في القرآن جدًّا يا أمير المؤمنين… فأرجع أنا وبشر -يا أمير المؤمنين- لما اختلفنا فيه من قول الله عز وجل: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3] إلى سنة الله في كتابه في الجَعلَين جميعًا، وإلى سنة العرب أيضا وما تتعارفه وتتعامل به، فإن كان من القول الموصل فهو كما قلت أنا: إن الله جعله قرآنا عربيا بأن صيرّه عربيًّا، أي: أنزله بلغة العرب ولسانها، ولم يصيره أعجميًّا فينزله بلغة العجم، وإن كان من القول المفصل فهو كما قال ولن يجد ذلك أبدا…”([27]).
فأفحم بشر ولم يحر جوابًا، بل انتقل كعادة أمثاله إلى التشويش والتشغيب بمسألة غير محل النقاش.
8- ومن أعظم المواقف التي تركتها لنا هذه المهارة العقلية وإعمال السلف لها: ما ورد أنه كان هو الصَّاد والموهن للمحنة العظمى على المسلمين في عقائدهم، ألا وهي محنة خلق القرآن الشهيرة، فقد استفحل شرها وعظم نيرها وقتل فيها من قتل وعذِّب من عذِّب واستجاب من استجاب وورَّى من ورَّى، حتى إن إمام أهل السنة والجماعة لم يسلم من نَير تلك المحنة العظيمة، وناله ما ناله من الضرب والتعذيب.
وكان أول ما نخر بكيان هذه المحنة وكبح جماحها مهارة السبر والتقسيم، فقد ذكر الخطيب البغدادي بسنده عن ابن الواثق أنه قال: “كان أبي إذا أراد أن يقتل رجلًا أحضرنا ذلك المجلس، فأتى بشيخ مخضوب مقيد، فقال أبي: ائذنوا لأبي عبد الله وأصحابه -يعني: ابن أبي دؤاد-، قال: فأدخل الشيخ في مصلاه، قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال له: لا سلّم الله عليك، فقال: يا أمير المؤمنين، بئس ما أدَّبك مؤدِّبك، قال الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]، والله ما حييتني بها ولا بأحسن منها، فقال ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين، الرجل متكلم، فقال له: كلِّمه، فقال: يا شيخ، ما تقول في القرآن، قال الشيخ: لم تنصفني، يعني ولي السؤال، فقال له: سل، فقال له الشيخ: ما تقول في القرآن؟ فقال: مخلوق، فقال: هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء الراشدون أم شيء لم يعلموه؟ فقال: شيء لم يعلموه، فقال: سبحان الله! شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا الخلفاء الراشدون علمته أنت؟! قال: فخجل، فقال: أقلني والمسألة بحالها، قال: نعم، قال: ما تقول في القرآن؟ فقال: مخلوق، فقال: هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء الراشدون أم لم يعلموه؟ فقال: علموه ولم يدعوا الناس إليه، قال: أفلا وسعك ما وسعهم؟! قال: ثم قام أبي فدخل مجلس الخلوة واستلقى على قفاه ووضع إحدى رجليه على الأخرى وهو يقول: هذا شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا الخلفاء الراشدون علمته أنت؟! سبحان الله! شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء الراشدون ولم يدعوا الناس إليه؟! أفلا وسعك ما وسعهم؟! ثم دعا عمارًا الحاجب، فأمر أن يرفع عنه القيود ويعطيه أربع مائة دينار ويأذن له في الرجوع، وسقط من عينه ابن أبي دؤاد. ولم يمتحن بعد ذلك أحدا”([28]).
فهذا الشيخ استعمل هذه المهارة العقلية في ردِّ القول بخلق القرآن، فأخبره أن موقف النبي صلى الله عليه وسلم والسلف لا يخلو من احتمالين:
الاحتمال الأول: أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم والسلف علموه، والثاني: أنهم لم يعلموه، ولا احتمال ثالث بعدهما.
ثم إن افترضنا أنهم علموه، فإما أن يكونوا دعوا إليه أو لا، ولا احتمال ثالث بعدهما.
ومعلوم أن الاحتمال الأول، وهو دعوى معرفة النبي صلى الله عليه وسلم والسلف به لا يقول به أحد، فوجب أنهم لم يعلموه إذن، فإن كان وسعهم ألا يعلموه أفلا يسع من بعدهم؟! فدعوى هؤلاء المضلين العلمَ بها مع عدم علم النبي صلى الله عليه وسلم والسلف بها ضلال.
ثم إن افترضنا أنهم علموه، فهل دعوا إليه؟
كذلك لا يقول به أحد، فثبت أنهم لم يدعوا إليه، فدعوة هؤلاء المضلين إليها مع ترك النبي صلى الله عليه وسلم والسلف ضلال، بل كان يسعهم ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم والسلف من بعده.
“فكان هذا الدّليل العظيم أول مصدر تاريخي لضعف هذه المحنة الكبرى، حتى أزالها الله بالكلية على يد المتوكل رحمه الله، وفي هذا منقبة تاريخية عظيمة لهذا الدليل المذكور”([29]).
9- وقد استخدم هذه المهارة بهذا المثال السابق نفسه الإمام أبو عبد الله عبيد الله بن محمد العُكْبَري المعروف بابن بَطَّة العكبري (ت 387هـ) في الإبانة([30]).
10- ومن استعمالات الإمام أحمد -رحمه الله- لهذه المهارة العقلية مع من ادَّعى أن الله في كل مكان قوله: “وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أن الله في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، فقل: أليس الله كان ولا شيء؟”([31]).
وهنا بدأ الإمام رحمه الله تعالى بالسبر والتقسيم، فأما التقسيم فإن الجواب لا يخلو من احتمالين، وهما الإثبات أو النفي، والأول ثابتٌ بنصِّ قول النبي صلى الله عليه وسلم أن الله خلق الخلق بعد أن لم يكن شيء؛ ولذا اعتمده واستبعد الثاني، ثم هذا الإثبات له احتمالان لا ثالث لها، وهما:
إما أن يكون خلق المخلوقات في نفسه.
وإما أن يكون خلقهم خارجًا عن نفسه. وهذا الثاني لا يخلو من حالتين:
إما أن يقول: دخل فيهم بعد أن كان خارجًا عنهم.
أو يقول: خلقهم خارجًا عن نفسه ثم لم يدخل فيهم.
والإمام أحمد رحمه الله سبر هذه الاحتمالات جميعًا وناقشها، وبيَّن أن دعواهم أن الله تعالى في كل مكان لا يمكن أن تتفق مع أيِّ احتمال من هذه الاحتمالات لو أثبت خلق الله للمخلوقات بعد أن لم تكن.
يقول رحمه الله تعالى: “فقل له: حين خلق الشيء، خلقه في نفسه أو خارجًا من نفسه؟ فإنه يصير إلى ثلاثة أقوال، لا بد له من واحد منها.
إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه كفر حين زعم أن الجن والإنس والشياطين في نفسه.
إن قال: خلقهم خارجًا من نفسه ثم دخل فيهم؛ كان هذا كفرًا أيضًا حين زعم أنه دخل في كل مكان وحشٍّ قذر رديء.
وإن قال: خلقهم خارجًا عن نفسه، ثم لم يدخل فيهم؛ رجع عن قوله كله أجمع، وهو قول أهل السنة”([32]).
10- ولقوة هذه الحجة في هذا المثال نجد أن السلف تتابعوا على استعماله، سواء الإمام الكناني في احتجاجه على المريسي، أو الإمام أحمد في مناقشته للجهمية، وكذلك من بعده، ومنهم الإمام ابن بَطَّة العكبري (ت 387هـ)، فقد استخدم هذه المهارة ذاتها في الرد على الشبهة نفسها، وفد فصَّلها أكثر، فابتدأ بالتقسيم وفرز الاحتمالات، يقول رحمه الله تعالى: “ويقال للجهمي: أليس قد كان الله ولا خلق؟! فيقول: نعم، فيقال له: فحين خلق الخلق أين خلقهم وقد زعمت أنه لا يخلو منه مكان: أخلقهم في نفسه، أو خارجا من نفسه؟”.
وإلى هنا فقد انتهى من التقسيم وعرض كل الاحتمالات الممكنة، ثم بعد ذلك انتقل إلى سبر هذه الاحتمالات وبيان تهافت دعوى من ادَّعى أن الله في كل مكان، يقول رحمه الله تعالى: “فعندها يتبين لك كفر الجهمي، وأنه لا حيلة له في الجواب؛ لأنه إن قال: خلق الخلق في نفسه كفر وزعم أن الله خلق الجن والإنس والأبالسة والشياطين والقردة والخنازير والأقذار والأنتان في نفسه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وإن زعم أنه خلقهم خارجًا من نفسه فقد اعترف أن ها هنا أمكنة قد خلت منه”([33]).
ونلاحظ هنا نقطة الاختلاف بين استدلال الإمام أحمد وبين استدلال الإمام العكبَري؛ فإن الإمام العكبري اكتفى بالنقض بمجرد إقرار المبتدع بخلق الله شيئًا خارجًا عن نفسه، وهو ما يثبت وجود تباين بينه وبين خلقه، بينما الإمام أحمد رحمه الله تعالى فصَّل فيها وبيَّن أنه بعد قوله بأنه خلقه خارجًا عن نفسه إما أن يكون دخل فيها كما هو قول الحلولية، أو لم يدخل وهو قول أهل السنة، ولا ثالث.
11- ومن المواضع التي برز فيها استعمال الإمام أحمد رحمه الله لهذه المهارة العقلية: مناقشته لمنكري صفة العلم لله تعالى، حيث بيَّن أن المنكر للعلم إذا نوقش بما أخبر الله به أنه يعلم تفاصيل كل شيء محدَث، فيعلم تفاصيل كل زرع وكل ثمرة وكل حمل ونتاج وكل شيء، فلا يخلو المنكر لعلم الله تعالى من حالتين أمام هذه النصوص، وبهذا بدأ التقسيم والسبر معًا لكل احتمال:
فإما أن ينكر علم الله تعالى بها، وهو مناقضةٌ لما في القرآن، وهو كفر بلا شك.
وإما أن يثبت ما في القرآن ويزعم أنه علم حدث بعد جهل، وقبحُه وبطلانه أوضح من أن يحتاج إلى بيان.
وإما أن يثبت علم الله بكل شيء، وأنه يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، ويرجع عن قوله ويقول بقول أهل السنة.
يقول رحمه الله تعالى: “إذا أردت أن تعلم الجهمي لا يقر بعلم الله فقل له: الله يقول: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255]، وقال: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166]، وقال: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود: 14]، وقال: {وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} [فصلت: 47].
فيقال له: تقرّ بعلم الله هذا الذي أوقفك عليه بالأعلام والدلالات أم لا؟… فإن قال: ليس له علم؛ كفر.
وإن قال: لله علم محدث؛ كفر حين زعم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يعلم حتى أحدث له علمًا فعلم.
فإن قال: لله علم وليس مخلوقًا ولا محدثًا؛ رجع عن قوله كله، وقال بقول أهل السنة”([34]).
12- وأيضًا، برزت براعة الإمام أحمد في هذه المهارة العقلية حين ناقش من قال بأن الله في كل مكان بقضية المماسة والمباينة، حيث ذكر أنهم بين حالتين:
إما أن يقرُّوا بأن الله تعالى مباين للخلق، وحينئذٍ رجعوا عن قولهم من حيث لا يشعرون.
وإما أن يقولوا بأن الله تعالى مماسٌّ للخلق، وهذا ما لا يحتاج إلى التفصيل في إبطاله.
يقول رحمه الله: “فلما ظهرت الحجة على الجهمي بما ادعى على الله أنه مع خلقه قال: هو في كل شيء غير مماس لشيء ولا مباين منه.
فقلنا: إذا كان غير مباين أليس هو مماسًّا؟ قال: لا.
قلنا: فكيف يكون في كل شيء غير مماس لشيء ولا مباين؟! فلم يحسن الجواب”([35]).
13- ومن استعمالاته لهذه المهارة: نقضه لقول من قال: إن اسم الله في القرآن اسم مخلوق بأن مدّعي هذه الدعوى بين احتمالين لو سئل عن اسم الله تعالى قبل أن يخلق هذا:
فإمّا أن يقول بأن له اسمًا قبله، وهو ما لا يستطيع البرهنة عليه بنقل أو بعقل.
وإما أن يقول بأنه لم يكن له اسم ثم صار بعد أن لم يكن، فهذا وصف لله تعالى بالنقص، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، فمثله مثل من يقول بأنه سبحانه حدث له العلم والقدرة والقوة بعد أن لم تكن!!
يقول رحمه الله تعالى: “وزعمت الجهمية أن الله -جل ثناؤه- في القرآن إنما هو اسم مخلوق، فقلنا: قبل أن يخلق هذا الاسم، ما كان اسمه؟ قالوا: لم يكن له اسم.
فقلنا: وكذلك قبل أن يخلق العلم أكان جاهلا لا يعلم حتى يخلق لنفسه علمًا، وكان لا نور له حتى يخلق لنفسه نورًا، وكان لا قدرة له حتى يخلق لنفسه قدرة؟!
فعلم الخبيث أن الله قد فضحه، وأبدى عورته حين زعم أن الله -جل ثناؤه- في القرآن إنما هو اسم مخلوق”([36]).
14- وإمام المفسرين أبو جعفر الطبري (ت 310هـ) -رحمه الله- قد أدلى بدلوه في هذه المهارة العقلية، وتابع الإمام الكناني، وفعل ما فعل من الاحتجاج على من قال بخلق القرآن حيث يقول: “والصواب في ذلك من القول عندنا قول من قال: ليس بخالقٍ ولا مخلوقٍ؛ لأن الكلام لا يجوز أن يكون كلامًا إلا لمتكلم؛ لأنه ليس بجسمٍ فيقوم بذاته قيام الأجسام بأنفسها.
فمعلومٌ إذ كان ذلك كذلك أنه غير جائز أن يكون خالقًا؛ بل الواجب إذ كان ذلك كذلك أن يكون كلامًا للخالق، وإذ كان كلامًا للخالق، وبطل أن يكون خالقًا، لم يكن أن يكون مخلوقًا؛ لأنه لا يقوم بذاته، وأنه صفةٌ والصفات لا تقوم بأنفسها، وإنما تقوم بالموصوف بها، كالألوان والطعوم والأراييح والشم، لا يقوم شيءٌ من ذلك بذاته ونفسه، وإنما يقوم بالموصوف به، فكذلك الكلام صفةٌ من الصفات، لا تقوم إلا بالموصوف بها.
وإذ كان ذلك كذلك صحَّ أنه غير جائزٍ أن يكون صفةً للمخلوق والموصوف بها الخالق؛ لأنه لو جاز أن يكون صفةً لمخلوقٍ والموصوف بها الخالق، جاز أن يكون كل صفةٍ لمخلوقٍ فالموصوف بها الخالق، فيكون إذ كان المخلوق موصوفًا بالألوان والطعوم والأراييح والشم والحركة والسكون أن يكون الموصوف بالألوان وسائر الصفات التي ذكرنا الخالق دون المخلوق، في اجتماع جميع الموحدين من أهل القبلة وغيرهم على فساد هذا القول ما يوضح فساد القول بأن يكون الكلام الذي هو موصوفٌ به رب العزة كلامًا لغيره.
فإذا فسد ذلك وصحَّ أنه كلامٌ له، وكان قد تبيَّن ما أوضحنا قبل أن الكلام صفةٌ لا تقوم إلا بالموصوف بما صحّ أنه صفةٌ للخالق، وإذ كان ذلك كذلك صح أنه غير مخلوق.
ومن أبى ما قلنا في ذلك قيل له: أخبرنا عن الكلام الذي وصفت أن القديم به متكلمٌ مخلوقٌ، أخلقه إذ كان عنده مخلوقًا في ذاته، أم في غيره، أم قائمٌ بنفسه؟
فإن زعم خلقه في ذاته، فقد أوجب أن تكون ذاته محلًا للخلق، وذلك عند الجميع كفرٌ.
وإن زعم أنه خلقه قائمٌ بنفسه، قيل له: أفيجوز أن يخلق لونًا قائمًا بنفسه وطعمًا وذواقًا؟ فإن قال: لا، قيل له: فما الفرق بينك وبين من أجاز ما أبيتَ من قيام الألوان والطعوم بأنفسها، وأنكر ما أجزت من قيام الكلام بنفسه؟! ثم يسأل الفرق بين ذلك، ولا فرق.
وإن قال: بل خلقه قائمًا بغيره، قيل له: فخلقه قائمٌ بغيره وهو صفةٌ له؟! فإن قال: بلى، قيل له: أفيجوز أن يخلق لونًا في غيره فيكون هو المتلون، كما خلق كلامًا في غيره فكان هو المتكلم به، وكذلك يخلق حركةً في غيره فيكون هو المتحرك بها؟! فإن أبى ذلك سئل الفرق.
وإن أجاز ذلك أوجب أن يكون -تعالى ذكره- إذا خلق حركةً في غيره فهو المتحرك، وإذا خلق لونًا في غيره فهو المتلون به، وذلك عندنا وعندهم كفرٌ وجهلٌ.
وفي فساد هذه المعاني التي وصفنا الدلالة الواضحة إذ كان لا وجه لخلق الأشياء إلا بعض هذه الوجوه صح أن كلام الله صفةٌ له، غير خالق ولا مخلوقٍ، وأن معاني الخلق عنه منفيةٌ”([37]).
15- وتظهر براعة الإمام الطبري -رحمه الله تعالى- في هذه المهارة العقلية في مواضع كثيرة غير هذا الموضع، مثل ردِّه على منكري عذاب القبر، حيث استخدم في الرد عليهم السبر والتقسيم، وبيَّن أن علة تكذيبهم لا يخلو من حالات:
إما أن يكون إنكارهم ذلك لأنه غير ممكن عقلًا؛ فيقال لهم: بل أنتم تثبتون الإمكان العقلي لما هو مثله؛ كوجود الحياة في جسم مع عدم الحس.
وإما أن يكون إنكارهم ذلك مع قولهم بإمكانه عقلًا أنهم لم يشاهدوا مثله في الدنيا، فيرد عليهم بأنهم يصدِّقون بأمور هي غير مشاهدة في الدنيا؛ كوجود الحياة في جسم قد أحرقته النار.
وإما أن ينكروا ذلك مع إقرارهم بإمكانيته عقلًا وعدم وجوده واقعًا مع كونهم يؤمنون بغيره مما هو مثله، وهو محض مكابرة.
يقول الإمام أبو جعفر الطبري: “ويقال لمن أنكر ذلك: أتجيزون أن يحدث الله حياةً في جسمٍ ويعدمه الحس؟ فإن أنكروا ذلك قيل لهم: وما المعنى الذي دعاكم إلى الإنكار لذلك؟
فإن زعموا أن الذي دعاهم إلى ذلك هو أن الحياة علةٌ للحس وسببٌ له، وغير جائزٍ أن يوجد سبب شيءٍ ويعدم مسببه، وأوجبوا أن يكون المبرسم والمغمى عليه يحسّان الآلام في حال زوال أفهامهما. فيقال لهم: أتنكرون جواز فقد الآلام واللذات مع وجود الحياة؟
فإن أنكروا جواز ذلك، وقالوا: لا يكون حيٌّ إلا من يألم ويلذ، قلنا لهم: أفتحيلون أن يكون حيًّا إلا مطيعًا أو عاصيًا أو فاعلًا أو تاركًا؟ فإن قالوا: نعم. خرجوا من حد المناظرة لدفعهم الموجود المحسوس؛ وذلك أن الأطفال والمجانين موجودون أحياءٌ لا مطيعين ولا عاصين، وأن المغمى عليه والمبرسم لا فاعلٌ ولا تاركٌ اختيارًا.
وإن قالوا: بل لا نحيل ذلك ونقول: جائزٌ وجود حيٍّ، لا مطيعًا ولا عاصيًا، ولا فاعلًا ولا تاركًا، قيل لهم: فأجيزونا وجود حيٍّ لا حاسٍّ ولا مدرك كما أجزتم وجوده لا فاعلًا ولا تاركًا.
فإن أبوا سئلوا الفرق بينهما، وإن أجازوا وجود حيٍّ لا حاسٍّ ولا مدركٍ قيل لهم: فإذ كان جائزًا عندكم وجود حيٍّ لا حاسٍّ ولا مدركٍ فقد جاز وجود الحياة في جسمٍ، وارتفاع الحس عندكم منه.
فإذا جاز ذلك عندكم فما أنكرتم من وجود الحسّ في جسمٍ مع ارتفاع الحياة منه؟! ويسألون الفرق بين ذلك.
ويقال لهم: أليس من قولكم: إنه جائزٌ وجود الحياة في جسمٍ وفقد العلم منه في حالٍ واحدةٍ؟! فإن قالوا: نعم، قيل لهم: فما أنكرتم من وجود العلم في جسمٍ مع فقد الحياة؟ وهل بينكم وبين من أنكر وجود الحياة في جسمٍ مع فقد العلم، فأجازوا وجود العلم مع فقد الحياة؟!
فإن قالوا: الفرق بيننا وبينه أنا لم نجد عالمًا إلا حيًّا، وقد نجد حيًّا لا عالمًا، قيل لهم: أَوَكل ما لم تشاهدوه أو تعاينوه أو مثله فغير جائز كونه عندكم؟! فإن قالوا: نعم، قيل لهم: أفشاهدتم جسمًا حيًّا له حياةٌ لا تفارقه الحياة بالاحتراق بالنار؟! فإن زعموا أنهم قد شاهدوا ذلك وعاينوه، أكذبتهم المشاهدة مع ادعائهم ما لا يخفى كذبهم فيه.
وإن زعموا أنهم لم يعاينوا ذلك ولن يشاهدوه، قيل لهم: أفتقرّون بأن ذلك كائنٌ أم تنكرونه؟ فإن زعموا أنهم ينكرونه خرجوا من ملة الإسلام بتكذيبهم محكم القرآن؛ وذلك أن الله -تعالى ذكره- قال فيه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36].
فإن قالوا: بل نقر بأن ذلك كائنٌ، قيل لهم: فما أنكرتم من جواز وجود العلم وحس الألم واللذة مع فقد الحياة؟ وإن لم تكونوا شاهدتم ولا عاينتم عالمًا ولا حاسًّا إلا حيًّا له حياةٌ، كما جاز عندكم وجود الحياة في جسمٍ تحرقه النار، وإن لم تكونوا عاينتم جسمًا تتعاقبه الحياة مع احتراقه بالنار.
فإن قالوا: إنما أجزنا ما أجزنا من بقاء الحياة في الجسم الذي تحرقه النار في حال إحراقه النار تصديقًا منا بخبر الله -جل ثناؤه-، قيل لهم: فصدقتم بخبر الله -جل ثناؤه- بما هو ممكنٌ في العقول كونه أو بما هو غير ممكن فيها كونه؟
فإن زعموا أنهم أجازوا ما هو غير ممكنٍ في العقول كونه زعموا أن خبر الله عز وجل بذلك تكذِّب به العقول وترفع صحته، وذلك بالله كفرٌ عندنا وعندهم. ولا إخالهم يقولون ذلك.
فإن زعموا أنه -تعالى ذكره- أخبر من ذلك بما تصدقه العقول، قيل لهم: فإذ كان خبره بذلك خبرًا يصدقه العقل -وإن لم تكونوا عاينتم مثله- فأجيزوا كذلك أن عذاب الله -تعالى ذكره- ألمًا ولذةً وعلمًا في جسمٍ لا حياة فيه وإن لم تكونوا عاينتم مثله فيما شاهدتم، ولا صح بذلك عندكم خبرٌ عن الله -تعالى ذكره- أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم، كما كان غير محال عندكم في العقل وجود الحياة في جسمٍ قد أحرقته النار قبل مجيء الخبر به، وإن كان الخبر قد حقَّق صحة كون ذلك حتى يصحّ به عندكم خبرٌ من الله أو من رسوله عليه الصلاة والسلام”([38]).
16- ومن أوجه استعماله لها استدلاله على زيادة الإيمان ونقصانه بحال المؤمنين وأنهم أحد ثلاثة؛ وهنا التقسيم.
فهم إما مقصر ظالم لنفسه، وإما مقتصد في منزلة متوسّطة بين السابقين والمتأخرين، وإما مجتهد سابق بالخيرات له في كل باب من أبواب الفضائل سهم.
فالناس في شعب الإيمان على مراتب ودرجات، ثم انتقل إلى سبر هذه الحالات الثلاث، وبيان الزيادة والنقصان فيهم.
يقول رحمه الله: “وإذا كان ذلك كذلك، وكان لا شك أن الناس متفاضلون في الأعمال: مقصرٌ وآخر مقتصد مجتهد ومن هو أشد منه اجتهادًا؛ كان معلومًا أن المقصر أنقص إيمانًا من المقتصد، وأن المقتصد أزيد منه إيمانًا، وأن المجتهد أزيد إيمانًا من المقتصد والمقصر، وأنهما أنقص منه إيمانًا؛ إذ كان جميع فرائض الله كما قلنا قبل.
فكل عاملٍ فمقصّر عن الكمال، فلا أحد إلا وهو ناقص الإيمان غير كامله؛ لأنه لو كمل لأحدٍ منهم كمالًا تجوز له الشهادة به، لجازت الشهادة له بالجنة؛ لأن من أدى جميع فرائض الله فلم يبق عليه منها شيءٌ، واجتنب جميع معاصيه فلم يأت منها شيئًا ثم مات على ذلك، فلا شك أنه من أهل الجنة؛ ولذلك قال عبد الله ابن مسعود في الذي قيل له: إنه قال: إني مؤمنٌ: (ألا قال: إني من أهل الجنة؟!)؛ لأن اسم الإيمان بالإطلاق إنما هو للكمال، ومن كان كاملًا كان من أهل الجنة، غير أن إيمان بعضهم أزيد من إيمان بعضٍ، وإيمان بعضٍ أنقص من إيمان بعض؛ فالزيادة فيه بزيادة العبد بالقيام باللازم له من ذلك”([39]).
17- وفي أول طلب في القرآن استخدم الإمام الطبري -رحمه الله- هذه المهارة العقلية، فحينما جاء إلى قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] ناقش من زعم أن معناها: زدنا هداية؛ بأن مآل هذا القول لا يخرج عن حالين: إما أن يكون المقصود زيادة في البيان، وإما زيادة في المعونة والتوفيق.
وقد سبر -رحمه الله- مآلات هذا القول، فقال: “وقد زعم بعضهم أن تأويل قوله: {اهْدِنَا}: زدْنا هدايةً، وليس يخلُو هذا القولُ من أحد أمرين: إما أن يكون ظنَّ قائلُه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أُمِر بمسألة الزيادة في البيان، أو الزيادةَ في المعونة والتوفيق. فإن كان ظن أنه أُمِر بمسألة رَبِّه الزيادة في البيان فذلك ما لا وجه له؛ لأن الله -جلّ ثناؤه- لا يكلِّف عبدًا فرضًا من فرائضه إلا بعد تبيينه له وإقامةِ الحجة عليه به. ولو كان مَعنى ذلك معنى مسألتِه البيانَ لكانَ قد أمِر أن يدعو ربَّه أن يبين له ما فَرض عليه، وذلك من الدعاء خَلفٌ، لأنه لا يفرض فرضًا إلا مبيَّنًا لمن فرضَه عليه.
أو يكون أمِر أن يدعوَ ربَّه أن يفرض عليه الفرائضَ التي لم يفرضْها، وفي فساد وَجه مسألة العبد ربَّه ذلك ما يوضِّح عن أن معنى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] غير معنى: بيِّن لنا فرائضَك وحدودَك.
أو يكون ظنّ أنه أمِر بمسألة ربه الزيادةَ في المعونة والتوفيق، فإن كان ذلك كذلك فلن تخلوَ مسألتُه تلك الزيادةَ من أن تكون مسألةً للزيادة في المعونة على ما قد مضى من عمله، أو على ما يحدُث. وفي ارتفاع حاجةِ العبد إلى المعونة على ما قد تقضَّى من عمله ما يُعلِمُ أنّ معنى مسألة تلك الزيادة إنما هو مسألتُه الزيادةَ لما يحدث من عمله.
وإذْ كانَ ذلك كذلك صارَ الأمر إلى ما وصفنا وقلنا في ذلك من أنه مسألة العبد ربَّه التوفيقَ لأداء ما كُلِّف من فرائضه فيما يَستقبل من عُمُره.
وفي صحة ذلك فسادُ قول أهل القدَر الزاعمين أنّ كل مأمور بأمرٍ أو مكلَّف فرضًا فقد أعطي من المعونة عليه ما قد ارتفعت معه في ذلك الفرض حاجتُه إلى ربِّه؛ لأنه لو كان الأمرُ على ما قالوا في ذلك لبطَلَ معنى قول الله جل ثناؤه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 5، 6]”([40]).
الخاتمة:
ختامًا، فقد تجلَّى ولاح ما كان عليه السلف -رحمهم الله- من استعمال العقل، وإعماله في تقريراتهم وحواراتهم ومناظراتهم وردودهم، وكان الوحي الإلهي هو من دلَّهم عليه وأرشدهم إلى مناهجه الصحيحة ومسالكه السليمة، ورأينا الأمثلة الواقعية من حياتهم العلمية على إعمالهم للمهارات العقلية والسبر والتقسيم بخاصة، فقد كانوا بحقّ أقوى الناس برهانًا وأمتنهم حجة وأصفاهم قريحة، وما حالهم ومنهجهم إلا كورد أزهر، كلَّما قلَّبتها زادتك من نفحاتها، {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17].
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) مقدمة كتاب: منهج علماء الحديث والسنة في أصول الدين.
([2]) ينظر: مادة (سبر) في لسان العرب، القاموس المحيط، تاج العروس.
([3]) ينظر: مادة (قسم) في لسان العرب، القاموس المحيط، تاج العروس.
([4]) الرد على المنطقيين (ص: 206).
([5]) ينظر: نهاية السول للإسنوي (4/ 129)، التقرير والتحبير لابن أمير الحاج (3/ 195)، حاشية التفتازاني على شرح العضد (2/ 236)، المذكرة في أصول الفقه للشنقيطي (ص: 257).
([6]) ينظر: نهاية السول للإسنوي (4/ 129)، التقرير والتحبير لابن أمير الحاج (3/ 195)، حاشية التفتازاني على شرح العضد (2/ 236)، البلبل للطوفي (ص: 161)، نثر الورود للشنقيطي (2/ 485).
([7]) ينظر: مختصر ابن الحاجب (3/ 102)، أصول ابن مفلح (3/ 1268)، شرح الكوكب المنير (4/ 142)، شرح الكوكب الساطع (2/ 397).
([8]) العدة (4/ 1415)، وقد نقل ابن تيمية هذا التعريف عن القاضي بلفظ مقارب، ينظر: المسودة (ص: 426).
([9]) الإحكام لابن حزم (5/ 99)، وانظر: الإشارات الإلهية للطوفي (2/ 297)، تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل للباقلاني (ص: 31 وما بعدها)، الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص: 12)، ومن الرسائل التي ينصح بها للاستزادة في المسألة رسالة الدكتور سعيد بن متعب القحطاني بعنوان: السبر والتقسيم وأثره في التقعيد الأصولي، وقد أفدت منها.
([10]) أضواء البيان للشنقيطي (3/ 492).
([11]) أضواء البيان للشنقيطي (3/ 494 وما بعدها) بتصرف يسير.
([12]) ينظر: آداب البحث والمناظرة للشنقيطي (2/ 12 وما بعدها)، والقواعد الفقهية للباحسين (86 وما بعدها)، الاستقراء وأثره في القواعد الأصولية والفقهية للطيب السنوسي (194 وما بعدها).
([14]) تفسير ابن كثير، ت. سلامة (7/ 437).
([15]) جامع البيان، ت. شاكر (20/ 394).
([16]) جامع البيان، ت. شاكر (20/ 395).
([18]) ينظر: مجموع الفتاوى (4/ 440).
([19]) ينظر: العزلة للخطابي (ص: 14).
([20]) ينظر: مجموع الفتاوى (23/ 349)، طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 151).
([22]) ينظر: آداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم الرازي (ص: 119).
([23]) الحيدة والاعتذار في الرد على من قال بخلق القرآن (ص: 81).
([24]) الحيدة والاعتذار في الرد على من قال بخلق القرآن (ص: 82).
([25]) الحيدة والاعتذار في الرد على من قال بخلق القرآن (ص: 82).
([26]) الحيدة والاعتذار في الرد على من قال بخلق القرآن (ص: 83).
([27]) الحيدة والاعتذار في الرد على من قال بخلق القرآن (ص: 69 وما بعدها).
([28]) ينظر: تاريخ بغداد (5/ 233)، وقد نقلها عنه ابن كثير في البداية والنهاية، ط. هجر (14/ 367)، قال الشنقيطي في أضواء البيان (3/ 503): “وعلى كل حال، فهذه القصة لم تزل مشهورة عند العلماء، صحيحة الاحتجاج، فيها إلقام الخصم الحجر”.
([29]) أضواء البيان للشنقيطي (3/ 504).
([30]) الإبانة الكبرى لابن بطة (7/ 141).
([31]) الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 155).
([32]) الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 155 وما بعدها).
([33]) الإبانة الكبرى لابن بطة (7/ 140 وما بعدها).
([34]) الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 157).
([35]) الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 159 وما بعدها).
([36]) الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 162 وما بعدها).
([37]) التبصير في معالم الدين (ص: 201).
([38]) التبصير في معالم الدين (ص: 207).