الجمعة - 20 جمادى الأول 1446 هـ - 22 نوفمبر 2024 م

فِيَلَةُ العقليّاتِ عوامل الانصراف عن الحجج العقلية

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

المقَدّمَة:

جلس إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس (179هـ) في المسجد النبوي كعادته يروي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والطلاب حوله يستمعون، فإذا بصائح يصيح: جاء للمدينة فيل عظيم -ولم تكن في المدينة فيلة لأنها ليست موطنًا لها-، فهرع الطلبة كلهم ليروا الفيل وتركوا الإمام مالكًا‼

بيد أن تلميذًا من أولئك التلاميذ بقي جالسًا منصتًا لدرس الإمام مالك ولم يقم، ألا وهو يحيى بن يحيى الليثي، فسأله الإمام مالك: لم لم تخرج معهم؟ هل رأيت الفيل قبل ذلك؟ فقال يحيى: إنما رحلت لأرى مالكًا لا لأرى الفيل. فأعجب به مالك، وسأله: من أنت؟ وأين بلدك؟ ثم لم يزل بعد مكرمًا له([1]).

ولو نقبنا في هذه القصة وحللنا جزئيَّاتها وجدنا الصَّارف للطلبة عن العلم الشرعي أمورًا كثيرة، وإن كان الفيل الوافد من الخارج هو أبرز تلك الصَّوارف عن العلم الشرعي، فلو كان لهؤلاء الطلبة غاية محدَّدة وواضحة لفعلوا ما فعل الإمام يحيى الليثي والتزموا الدرس، وغالبًا ما تكون الصوارف الخارجية الدخيلة التي تدخل على المسلمين من خارج مكانهم -كما هو حال الفيل- فتنتها أشد وبليتها أعظم، وكذلك نجد أن من الناس من يصد عن العلم والخير بنشر الصوارف عنهما وإذاعتها، سواء قصد هذا الصد أو أراد الجد.

هذه وغيرها من العبر تمليها علينا قصة الفيل تلك، فإن الفيل يتمثَّل في حالات كثيرة ليصرف العباد عن الوحي وحججه وبراهينه.

ويا سبحان الله! تكاد تكون تلك العوامل الصارفة التي تحدثنا عنها هي ذاتها عوامل الانصراف عن العقليات الشرعية إن لم تكن شبهها، بدءًا بالافتتان بمناهج دخيلة وغلو فيها وانصراف عن الوحي وتفريط من أهله فيه، وعدم الرجوع إليه للاهتداء والتبصُّر، وغياب الغاية والأصل والمنهج الذي يجب على ناصر الدين وحججه سلوكه، فينصر أعداء الدين وهو يظن أنه ينصر الدين، وما بين ناشر لتلك المناهج الدخيلة وناعق بها ومنصت، سواء قصد إذاعتها أو لم يقصد، وسواء عرف أثرها على الوحي وحججه أو لم يعرف.

إن الدلائل العقلية والمهارات البرهانية في الوحي وفي حياة السلف حينما نتفقدها نجد أنها شامة في جبين الحجج والبينات، وغرة في وسط البراهين والدلالات، فهي أقواها وأسهلها، وأعلاها وأوضحها، ولكن لا يكاد يهنأ عقلك بهذا البهاء والجمال حتى تسمع أن أهل السنة يوصمون بالجمود والتخلف والحرفية، وتكال لهم الدعاوى وتوزَّع عليهم الطعنات بأنهم لا مكان للعقل في منهجهم، بل هو مهمَّشٌ موضوعٌ في قائمة المهملات إن لم يكن في سلَّة المحذوفات، وطاوعهم من طاوعهم من داخل الصف، وزعم أن السلف لم يُعملوا عقولهم بل اكتفوا بمجرد التسليم دون حجج أو برهنة ولا دلائل ولا بينة، وكأن دينهم أسطوريّ الولادة والمنشأ، خرافيُّ الأدلَّة والمحتوى كغيرهم.

بين هذا وذاك يطفو على السطح تساؤل: هل عزف أهل السنة بالفعل عن العقليات الشرعية؟ ما أسباب هذا العزوف إن وجد؟ وما أهمّ العوامل التي نحت بهم إلى هذا الجانب؟

ستحاول هذه الورقة الإجابة عن هذه التساؤلات من خلال المطالب التالية.

أهمية العقليات الشرعية ووفرتها:

على عكس ما هو الشائع والسائد، يتَّسم المنهج السنِّي ويتميز عن غيره من المناهج ببنيانه المعرفيِّ المتكامل حسًّا وعقلًا، فهو يعتمدهما جميعًا ويعتبرهما وسائل للمعرفة، ويعتمد كل المصادر المعرفيَّة؛ سواءً البصرية كالكون المشاهد، أو السمعيَّة كالوحي المنزَّل على نبي الإسلام، وهو لا يفتأ ينبه العقول ويدعو إلى إعمالها في كل تلك المصادر ليتبيَّن الحقّ ويبطل الباطل.

ليس هذا فحسب، بل “قد وردت مادة العقل في القرآن تسعًا وخمسين مرة، كلها يفيد أن انتفاء العقل مذمَّة، هذا سوى ذكر مرادفاته؛ كالألباب والأحلام والحِجر، وذكر أعماله؛ كالتفكر والتذكر والتدبر والنظر والاعتبار والفقه والعلم، فهذه الأعمال العقلية لا تكاد تخلو من ذكرها سورة من كتاب الله تعالى، ويرد ذكرها على أنها أوصاف مدح وكمال للمتصف بها، وأن انتفاءها أو نقصانها مذمّة شرعية، وهذا يدل دون شك على رفع الإسلام من شأن العقل وتكريمه له واحتفائه به، كيف لا وقد جعله مناطًا للتكليف وشرطًا لقيام الحجة؟!”([2]).

ومن هنا فإن الوحي مليءٌ بالعقليات القويَّة والواضحة المقنعة في آن؛ وهو ما يجعلها مكتفية بذاتها في البرهنة والتبيان، ومستغنية عن غيرها من الأفكار والأديان.

فالعقليات الشرعية تفُوقُ كل ما يُخيَّل إلى الإنسان من دلائل وعقليات، وتمتاز بمَيزات وخصائص لا تكاد تقاربها فيها غيرها فضلًا عن أن تساميها، فهي سماوية إلهية المصدر، فطرية يقينية في المظهر والمخبر، جزئياتها منسوجة من واقع البشر؛ ولذا بدت سهلة واضحة مقنعة بالمختصر، تروي القلب وتقضي وطر العقل وكل وطر، ما استمسك بها مناظر إلا انتصر، ولا تدبرها عاقل إلا انبهر، ولا معاند إلا اندحر، لا تبقي مترددًا ولا شاكًّا ولا تذر، ولكن انصرف عنه سواد المتعلِّمة فضلًا عن عامَّة البشر.

فالوحي لم يترك شيئًا من الحق إلا بيَّنه، ولا باطلًا إلا حذَّر منه، سواء في باب الأخبار أو باب المعقولات، وسواء في المسائل أو في الدلائل، “وإذا تأمل الفاضل غاية ما يذكره المتكلمون والفلاسفة من الطرق العقلية وجد الصواب منها يعود إلى بعض ما ذكر في القرآن من الطرق العقلية بأفصح عبارة وأوجزها، وفي طرق القرآن من تمام البيان والتحقيق ما لا يوجد عندهم مثله، قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33]”([3]).

والوحي المبين وأتباعه من السلف الصالحين ضربوا في كل نوع من أنواع العقليات بسهم، وكان لهم في كل مسلك من مسالكه القِدح المعلى، سواء في باب تقرير الحق أو في باب إبطال الباطل، كالقياسات والتقسيمات والمعارضات، ولهم في ذلك قصص وأيام، وتكفي مطالعة واحدة بتمعُّن وتدبر لكتبهم التي ورد فيها ذلك، ككتاب الحيدة للإمام عبد العزيز الكناني المكي، وكتاب الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد بن حنبل، والتبصير في معالم الدين لأبي جعفر الطبري، والإبانة لابن بطة العكبري، وغيرها.

ولكن حديثنا في هذه الورقة عن الفيلة المشغلة أو العوامل التي تسبَّبت في انصراف الناس عن تلك العقليات حتى ساد بينهم اتهام أهل السنة بالبلادة وقلة الفهم وبالجمود والنصية.

أهم عوامل إزاحة العقليات الشرعية عن الأنظار:

كثيرة هي العوامل التي أسهمت في الانصراف عن العقليات الشرعية وعن التفكر فيها والتيقن بقضاياها والعمل بمقتضاها، ولكنها في الغالب تدور حول الانشغال عن الوحي الإلهي والقرآن والسنة بغيره من دراسات فكرية وعلمية دخيلة أو ثانوية، ويجنح إلى ذلك غالبًا من كان مفرِطًا في اتجاه من الاتجاهات أو مفرِّطًا في آخر، أو الانشغال عنه بممارسات سلوكية مستقاة من غيره، أو الإعراض عنه سواء عن مجرد القراءة للوحي أو التدبر والتفكر فيه وفي عقلياته وحججه وبراهينه، ولننتقل إلى تفصيل هذه العوامل:

الانشغال بترجمة الكتب الأجنبية ودراسة أفكارها عن الوحي:

ظهرت الترجمة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث أمر صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت رضي الله عنه بتعلم لغة يهود ليتَّقي شرهم؛ فتعلمها رضي الله عنه في سبعة أيام([4])، ومثَّل التوسعُ في الفتوحات الإسلامية دورًا هامًّا ودافعًا قويًّا للتوسع في ترجمة العلوم والمعارف الأجنبية والاستفادة منها، فقد أولى الخلفاء المسلمون اهتمامًا وعناية بالترجمة، ومن أشهر ذلك إنشاء الخليفة المأمون بيت الحكمة في بغداد، وقد انتخب لها المترجمين، وأغدق عليهم الأموال، وأجزل لهم العطايا والمكرمات جراء ترجمتهم للكتب، واعتُمدت كمشروع رسمي في الدولة العباسية، فأقبل عليها المقبلون، وانشغلوا بها عن الوحي وعلومه، ومع أنه شهدت الحضارة الإسلامية تقدُّمًا وازهارًا بالفعل في شتى الميادين والمجالات العلمية سواء العقلية أو الحسية التجريبية أو السلوكية، وهذا نشاط طبيعي محمود لا غبار عليه، إلا أنه ظهر للعيان انصراف الناس عن العقليات الشرعية بعد حركة الترجمة هذه، وترجمة الكتب والعلوم في ذاتها جائزة لا حرج فيها، ولكن الإشكال يكمن في انتقال الشبهات الفكرية واللوثات العقدية والانشغال عن العلوم الإلهية والوحي الرباني بها، كما قد وضَّح ذلك ابن تيمية -رحمه الله تعالى- حيث يقول: “وهذا ينبه أيضا على مراد السلف والأئمة بذم الكلام وأهله: إذ ذلك يتناول لمن استدل بالأدلة الفاسدة أو استدل على المقالات الباطلة، فأما من قال الحق الذي أذن الله فيه حكما ودليلًا فهو من أهل العلم والإيمان، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم ليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك وكانت المعاني صحيحة، كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعرفهم، فإن هذا جائز حسن للحاجة، وإنما كرهه الأئمة إذا لم يحتج إليه، ولهذا قال النبي لأم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص وكانت صغيرة ولدت بأرض الحبشة؛ لأن أباها كان من المهاجرين إليها، فقال لها: «يا أم خالد، هذا سناه»([5])، والسنا بلسان الحبشة الحسن؛ لأنها كانت من أهل هذه اللغة. وكذلك يترجم القرآن والحديث لمن يحتاج إلى تفهيمه إياه بالترجمة، وكذلك يقرأ المسلم ما يحتاج إليه من كتب الأمم وكلامهم بلغتهم ويترجمها بالعربية، كما أمر النبي زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود ليقرأ له ويكتب له ذلك حيث لم يأمن من اليهود عليه”([6]).

فقد انتفعت الأمة الإسلامية بالترجمة في جوانب كثيرة من جوانب العلم كعلم الطب والفيزياء والكيمياء والفلك، ولكن من القوم من خلط الحابل بالنابل، وجمع الخبيث مع الطيب، وافتتن بالعلوم الفلسفية.

الانشغال بالفلسفة اليونانية والرد عليها بعد مشروع ترجمتها:

سبق أن بيَّنَّا أن مشروع الترجمة في العصر العباسي كان له أثره في ازدهار الميادين العلمية، ولكن لم تكد تهنأ الأمة بذلك حتى طعنت في خاصرتها بذلك المشروع نفسه، فقد كان ممن اهتم بالعلوم المترجمة من خلط بين الحق والباطل، وافتتن بالفلسفات اليونانية في الإلهيات والغيبيات مما هو في منأى عن العقل البشري المجرد، ولم يكتف بمجرد تقليده لأولئك في هذه الجوانب التي ليست من العقل في شيء، بل أضحى يفضِّل تلك العلوم على علوم الوحي الإلهي! ويفضِّل علم أولئك على علم علَّام الغيوب سبحانه! وأشغل نفسه وأشغل الأمة بها عن الوحي وعن عقلياته وأخباره، ولا شك أن ذلك كان من أهم العوامل الصارفة عن العقليات الشرعية، فكم من عالم قد فُتن بآثار الفلسفة اليونانية ومخلَّفاتها وشغل بها عن العقليات الشرعية! وكم من عالم قد شغل بالرد عليهم وفهم دقائقهم وقضاياهم! وكم من طالب علم قد فتن بأقوالهم وتعمَّق فيها بحجة الرد عليها!

وزاد الطين بلة أن بعض الخلفاء اعتنق تلك الأفكار الفلسفية اليونانية المخالفة والمناقضة للدين الإسلامي، واتخذ من المعتنقين للفلسفة اليونانية حاشية له يجالسهم ويقربهم، والتي تجلَّت في صورة المعتزلة القائلين بخلق القرآن، وأقنعوا بها المأمون فاعتنقها.

وصار في داخل البيت الإسلامي ما يُعرف بالتيار الكلامي، والذي كان يجعل من علم أصول الدين شعارًا وعلم الكلام المذموم دثارًا، وهو بذلك يناهض ويناقض أهل الحديث وأهل السنة والجماعة، فأضحى علم الكلام مكرَّمًا أهله وذووه، وعلم الوحي والحديث والسنة يضيق عليه الخناق كل مرة.

وهذا ولا شك من أكبر العوامل الصارفة عن العقليات الشرعية، وعن القرآن والوحي عامة، فإن هؤلاء لا هم الذين استفادوا من العقليات القرآنية وانتفعوا ببراهينها وحججها، ولا هم تركوها لغيرهم من الناس لينتفعوا بها، فتركوا الناس عطشى؛ فلا هم استسقوا، ولا تركوا غيرهم يستسقون، والله المستعان.

فرض السلطة لمناهج وعقليات مناقضة للوحي ومعارضة له:

كما ذكرنا سابقًا اعتُمدت الترجمة كمشروع رسمي في الدولة العباسية، واعتنقت أصولها وقواعدها التي سمَّته أصول الدين، ولكن لم يزل الإشكال هيِّنًا حتى أرسل المأمون إلى الأمصار لامتحان العلماء، وأجبرهم على القول بخلق القرآن، وفرض على الناس ما اعتنقه واعتقده، وهنا عظم الخطب واشتد الكرب على علماء الإسلام أجمعين، فكم من العلماء قد قتل، وكم منهم قد ضيق عليه وأجبر على التورية، وكم منهم من استسلم للأمر وقال ما أراد الخليفة، ومن ذلك قصة المحنة العظمى التي جرت للإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في فتنة خلق القرآن، فإن الإمام أحمد كان ممن امتحن حين أرسل المأمون إلى نائبه بالعراق بذلك، ولما لم يجد استجابة من العلماء لذلك أرسل إليه المأمون يأمره بضرب عنق بعضهم وتقييد آخرين وحملهم إليه، ولما رأى الناس ذلك أجاب أكثرهم إلى ما أراد المأمون، وورَّى آخرون، ولكن بَذَّ اثنان من العلماء ونهضوا لقول كلمة الحق وهما: الإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن نوح النيسابوري، فحُملا مقيدين إلى الخليفة، إلا أن الثاني مات وهو في الطريق، ويُذكر أن الإمام أحمد قد دعا ربَّه ألَّا يريه وجه المأمون، وبالفعل مات المأمون والإمام في الطريق، ولكن تولَّى بعده المعتصم، وتولى القضاء رأس المعتزلة ابن أبي دؤاد، وحُبس الإمام أحمد قرابة سنتين، عذِّب فيها وضرب، مع أنهم حين طلبوه للمناظرة والنقاش ردَّ حججهم واستخدم في كثير منها العقليات الشرعية والمهارات العقلية، ومات المعتصم والإمام في الحبس، ثم واصل الواثق ما كان عليه سابقُه حتى تبيَّن له الحق، وأخرج الإمام أحمد من السجن، وأكرمه ورفع منزلته([7]).

هذه إحدى تجليات فرض السلطة لمناهج مخالفة للمنهج القرآني وإشغال الناس بها عن العقليات الشرعية، فهذا نموذج واحد وقد توالت النماذج من قبل ومن بعد على هذا المنوال، والتاريخ مليء بأمثالها من القصص.

غلو المتكلمين في العقليات اليونانية:

أصول القضايا البدعية التي افترقت عليها الأمة بدأت بانحرافات صغيرة، ومن ثم تُواصل الشرخ في المنهج الإسلامي فتكبر وتكبر حتى تشقَّ لنفسها طريقًا، والإسلام في طريق غيره؛ تمامًا كحال كرة الثلج تبدأ صغيرة لا يُأبه لها، وينتهي شرُّها إن ووجهت في أول أمرها، ولكن إن تساهل الناس في أمرها ولم يهتمّوا بها تعاظمت حتى قتلت البشر وقوَّضت البنيان؛ ولذا نجد النبي صلى الله عليه وسلم يبادر بمنع أولئك النفر الذين غلوا وتشدَّدوا في العبادة وقال قائلهم: والله لا آكل اللحم ولا أتزوج النساء والله أقوم ولا أنام([8]).

ومن هنا يظهر ضرورة التنبُّه المبكِّر لمشكلة الغلو والتطرف، والتي كثيرًا ما كانت سبب الانحراف عن الجادة في غالب الميادين سواء العلمية الفكرية أو العملية السلوكية. ويظهر هذا جليًّا في حال المتكلمين الذين كانوا من أهم العوامل في إبعاد العقليات الشرعية عن النوادي العلمية والمنصات الشرعية ذاتها؛ إذ منهم بدأ الغلو فيما ابتدعوه وسمَّوه بالعقل، وكانت ردات الفعل لها نصيبها في صنع الحدث.

بدأ المشروع الكلامي بنتوءات صغيرة، حيث إن السلف والصحابة كانوا على قول واحد في المعتقد لا يختلفون فيه، ثم ظهر القول في القدر أول ما ظهر، ثم القول بخلق القرآن على يد الجعد، وظهرت المعتزلة الأولى مع اعتزال واصل بن عطاء، وغير ذلك من الأقوال، حتى جاء الجهم وجمع أرجاس أولئك، ووضع الأدران في ثوب شخصه ونشرها بين الناس.

فبظهور الجهم بن صفوان تحول علم الكلام من طور الإنشاء إلى طور أكثر تناسقًا، بل إلى طور الظاهرة، وذلك للأثر السيئ الذي تركه الجهم بن صفوان في الفرق الإسلامية المختلفة، حتى تأثرت هذه الفرق به في قليل أو كثير من أصوله، ولا سيما في الصفات، بل حتى المنتسبون للسنة من أهل الكلام، فهم على أصوله في كثير من أصول الاعتقاد([9]).

وزاد الأمر سوءًا حركة ترجمة كتب الفلسفة اليونانية والعناية بها؛ بغرض الاستفادة من علومها ومعارفها، ولكن ظهر في القوم من جعل ما في هذه الكتب من الفلسفة شعاره ومن جدلياتها دثاره، ثم ما لبثوا أن ألبسوه لباس العلوم الإسلامية، وراحوا يبحثون له عما يتناسب مع قياساته.

وتفاقمت الأمور ووصل بهم غلوهم أن جعلوا تلك العلوم الفلسفية هي المسائل العقلية البرهانية، ثم زعموا كون العقل حاكمًا وفيصلًا فيما يثبت وينفى من الشرع، فما وافق منها عقولهم قبلوه لأنه وافق عقولهم، وكل نص يتعارض ظاهره مع عقلياتهم تلك فإن مصيره التأويل أو التفويض([10])، يقول أبو منصور البغدادي: “فإن روى الراوي ما يحيله العقل، ولم يحتمل تأويلًا صحيحًا، فخبره مردود… وإن كان ما رواه الثقة يروع ظاهره في العقول، ولكنه يحتمل تأويلًا يوافق قضايا العقول قبلنا روايته، وتأولناه على موافقة العقول”([11]).

وتكاثرت الآثار المبنية على غلوهم في العقل؛ فتارةً يعلنون ضرورة النظر العقلي في وجود الله تعالى بالطريقة الكلامية، بل جعلوه أول الواجبات، وصدروا بها كتبهم، وحينًا يرمون من لا ينهج نهجهم ويسلك طريقتهم بالجمود وقلة العقل وضعف الذهن والبلادة، وأخرى يخلعون على الفلاسفة اليونانيين ألقاب العقل والعلم والبرهنة، وأما نصوص الوحي فهي عندهم خطابية ولا تحوي شيئًا من البرهان بزعمهم.

وأحيانًا أوجبوا تعلمها حتى زعموا أن من لا يعرفها لا يوثق بعلمه، وأنها هي معيار العلوم، وأقحموا طرائقها في كل علم من العلوم الإسلامية، وما زال طلبة العلم يعانون من هذا الإقحام حتى اليوم!!

وتارة زعموا أن إيمان المؤمن لا يصح إلا بطريقتهم العقلية ومسلكهم في النظر!!

إلى غير ذلك من تهميشهم للوحي ووصمه بالخطابية وعدم البرهانية، وأنه ظني الدلالة، وأنه خطاب العامة دون الخاصة، فالخاصة لهم علم الكلام علم أهل العقول والذكاء!!

توهين المتكلمين للوحي عامة وعقلياته الشرعية:

لا يخفى هذا الأمر على قارئ أو باحث يعرف الكتب الكلامية الجافة، وما تعانيه تلك الكتب من الجفاء والنفرة عن الوحي عامة سواء القرآن الكريم أو السنة النبوية، والتي قد تتجاوز مئات الصفحات دون أن يرد فيها ذكر لآية قرآنية أو سنة نبوية، وإن شئت فتصفَّح أي كتاب من كتب العقيدة التي ألفها المتكلمون ولاحظ ذلك بنفسك، لن تجد من ذلك شيئًا إلا نادرًا، وغالبًا ما يكون ذلك بعدما ينتهي المؤلف من تقرير قضيته وانتهاء مسألته، يأتي ليطوِّع الوحي على حسب ما يقرر ويقعِّد، فهم إن أوردوا نصوص الوحي أوردوها بعد الانتهاء من تأصيلاتهم العقلية، يوردونها ليعضِّدوا بها ما بنته عقولهم من أفكار.

وكيف لهم أن يعتمدوا على نصوص الوحي وهم يعتقدون أن دلالتها ظنية، وأنها تتقاصر عن إفادة شيءٍ من اليقين؟! وكيف يعتمدون على النصوص وهم يقولون بعدم إمكان الاستدلال بها على العقائد؟!([12]).

ولذا فإن كثيرًا منهم لا يأبه أن يصم الوحي بأنه فرع عن العقل وتابع له، يقول القاضي عبد الجبار وهو يرد على من يثبت الصفات بالوحي: “والأصل في الجواب عن ذلك أن يقال لهم: أولا: إن الاستدلال بالسمع على هذه المسألة غير ممكن؛ لأن صحة السمع موقوفة عليها… وهل هذا إلا استدلال بالفرع على الأصل؟!”([13])، وما قانون الرازي الذي حكم فيه بتقديم العقل على الوحي عنا ببعيد. هذا فضلًا عمَّن زعم بأن ظواهر نصوص الوحي هي أصول الكفر والضلال!([14]).

ويعتبر هذا التوهين للوحي من أهم عوامل انصراف الناس عن الوحي وعقلياته([15]).

دعوى المتكلمين عدم كفاية الوحي وأنه ظني الدلالة خال من البرهان:

لا يفتأ غالب أهل الكلام يصمون الوحي ونصوصه بأنها مجرد أخبار ظنية كما ذكرنا؛ ولذا فهم يرون أنها في منأى عن العلوم العقلية والحجج والبراهين، وإنما هي مجرد نصوص وألفاظ لا تحمل شيئًا من العقليات، وبلا شك كان لهذه الدعوى وترديدها أثره في اعتقاد جمود الوحي وعدم وجود شيء من اليقينيات والحجج فيه، حتى قال قائلهم بأن العقل هو الذي زكَّى الشرع وأعطاه الأهلية، ولعلنا نتطرق لبعض النصوص التي تؤكد ما نقول:

يقول الغزالي: “كل ما دل العقل فيه على أحد الجانبين فليس للتعارض فيه مجال؛ إذ الأدلة العقلية يستحيل نسخها وتكاذبها، فإن ورد دليل سمعي على خلاف العقل، فإما أن لا يكون متواترًا فيعلم أنه غير صحيح، وإما أن يكون متواترًا فيكون مؤولًا، ولا يكون متعارضًا، وأما نص متواتر لا يحتمل الخطأ والتأويل وهو على خلاف دليل العقل فذلك محال؛ لأن دليل العقل لا يقبل الفسخ والبطلان”([16]).

ولذا لا يستغرب من افتعالهم المعارضة بين الشرع والعقل على أساس أن الشرع لا عقل فيه، وأن العقل هو العمدة في الباب، والذي كان حاضرًا عند الغزالي ثم جاء الرازي وقعَّده فقال: “اعلم أن الدلائل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء، ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك، فهناك لا يخلو الحال من أحد أمور أربعة:

إما أن يصدق مقتضى العقل والنقل، فيلزم تصديق النقيضين وهو محال.

وإما أن نبطلهما، فيلزم تكذيب النقيضين وهو محال.

وإما أن تكذب الظواهر النقلية وتصدق الظواهر العقلية.

وإما أن تصدق الظواهر النقلية وتكذب الظواهر العقلية، وذلك باطل؛ لأنه لا يمكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية إلا إذا عرفنا بالدلائل العقلية إثبات الصانع وصفاته وكيفية دلالة المعجزة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وظهور المعجزات على يد محمد صلى الله عليه وسلم، ولو صار القدح في الدلائل العقلية القطعية صار العقل متهمًا غير مقبول القول، ولو كان كذلك لخرج عن أن يكون مقبول القول في هذه الأصول. وإذا لم تثبت هذه الأصول خرجت الدلائل النقلية عن كونها مفيدة.

فثبت أن القدح في العقل لتصحيح النقل يفضي إلى القدح في العقل والنقل معًا، وإنه باطل.

ولما بطلت الأقسام الأربعة لم يبق إلا أن يقطع بمقتضى الدلائل العقلية القاطعة بأن هذه الدلائل النقلية إما أن يقال: إنها غير صحيحة، أو يقال: إنها صحيحة إلا أن المراد منها غير ظواهرها، ثم إن جوزنا التأويل اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل، وإن لم نجوز التأويل فوضنا العلم بها إلى الله تعالى. فهذا هو القانون الكلي المرجوع إليه في جميع المتشابهات، وبالله التوفيق”([17]).

ولعدم وجود الحجية أو العقلانية في الوحي -بزعمهم-، فإنهم يرون أنه غير كافٍ لقبوله حتى يعلم انتفاء المعارض العقلي عنه، يقول الرازي: “الدليل اللفظي لا يفيد اليقين إلا عند تيقُّن أمور عشرة… وعدم المعارض العقلي الذي لو كان لرجح عليه، إذ ترجيح النقل على العقل يقتضى القدح في العقل، المستلزم للقدح في النقل؛ لافتقاره إليه، وإذا كان المنتج ظنِّيًّا فما بالك بالنتيجة؟!”([18])، ويقول الإيجي عن نصوص الوحي: “في إفادتها لليقين في العقليات نظر؛ لأنه مبني على أنه هل يحصل بمجردها الجزم بعدم المعارض العقلي؟ وهل للقرينة مدخل في ذلك؟ وهما مما لا يمكن الجزم بأحد طرفيه”([19]).

ونشر الكلاميِّين لهذه الدعوى وانتشارها بين الناس أورث اعتقادًا بخلوِّ الوحي عن العقل وعن الحجج والبراهين العقلية، مع أن واقع النصوص على عكس ذلك تمامًا؛ إذ المتكلمون أطلقوها على الوحي دون أن يميّزوا بين ما فيه من العقليات وما فيه من الأخبار المجردة، بل حشروها جميعًا في بوتقة الخطابيات، وزعموا أنها هي المناسبة لمستوى العوامّ وحالهم، وأما متَّقدو الذهن والعباقرة فلا تقام الحجة عليهم بمثلها، وإنما بالبراهين الكلامية والفلسفية الأرسطية ونحوها!!([20]).

وكان الدافع الذي دفع المتكلمين إلى مثل هذا الموقف هو “ظنّهم أن المعقول يناقض ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم أو ظاهر ما أخبر به الرسول…”([21]).

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: “إن أدلة القرآن والسنة التي يسميها هؤلاء الأدلة اللفظية نوعان:

أحدهما: يدل بمجرّد الخبر.

والثاني: يدل بطريق التنبيه والإرشاد على الدليل العقلي، والقرآن مملوء من ذكر الأدلة العقلية التي هي آيات الله الدالة عليه وعلى ربوبيته ووحدانيته وعلمه وقدرته وحكمته ورحمته، فآياته العيانية المشهودة في خلقه تدلّ على صدق النوع الأول وهو مجرد الخبر، فلم يتجرد إخباره سبحانه عن آيات تدلّ على صدقها، بل قد بين لعباده في كتابه من البراهين الدالة على صدقه وصدق رسوله ما فيه شفاء وهدى وكفاية، فقول القائل: إن تلك الأدلة لا تفيد اليقين؛ إن أراد به النوع المتضمن لذكر الأدلة العقلية العيانية فهذا من أعظم البهت والوقاحة والمكابرة؛ فإن آيات الله التي جعلها أدلة وحججًا على وجوده ووحدانيته وصفات كماله إن لم تفد يقينا لم يفد دليل بمدلول أبدًا، وإن أراد به النوع الأول الدال بمجرد الخبر فقد أقام سبحانه الأدلة القطعية والبراهين اليقينية على ثبوته، فلم يحل عباده فيه على خبر مجرد لا يستفيدون ثبوته إلا من الخبر نفسه دون الدليل الدال على صدق الخبر.

وهذا غير الدليل العام الدال على صدقه فيما أخبر به، بل هو الأدلة المتعددة الدالة على التوحيد وإثبات الصفات والنبوات والمعاد وأصول الإيمان، فلا تجد كتابًا قد تضمَّن من البراهين والأدلة العقلية على هذه المطالب ما تضمنه القرآن، فأدلته لفظية عقلية، فإن لم يفد اليقين فبِأيِّ حَدِيث بَعدَ اللَّهِ وَآياتِه يُؤمِنونَ؟!”([22]).

دعوى أن علم الكلام خاصّة أولي الذكاء والعقول:

يظهر هذا جليًّا من عنوان مرجع مهمٍّ من مراجع المتكلمين وهو كتاب “إلجام العوام عن علم الكلام” للغزالي، والذي افتتحه بدعوى مفادُها أن اعتقاد اتصاف الله بما أخبر الله به من الصفات هو ما يقول به الرعاع والجهال ممن لا يفهمون ولا يعقلون، فيقول رحمه الله: “فقد سألتني عن الأخبار الموهمة للتشبيه عند الرعاع والجهال من الحشوية الضلال، حيث اعتقدوا في الله وصفاته وما يتعالى ويتقدس عنه من الصورة واليد والقدم والنزول والانتقال والجلوس على العرش والاستقرار، وما يجري مجراه مما أخذوه من ظواهر الأخبار وصورها…”([23]).

 والغزالي في هذا الكتاب يقرر أن على من لم يرزق العقل والذكاء أن يقتصر على النصوص؛ إذ هي خالية من العقليات والحجج والبراهين؛ لأنها خطاب العامة، وأما من كان على العكس فعليه الخوض في العقليات، والتي هي المسائل الكلامية والفلسفية!!

فإن الوحي عندهم شأنه شأن الأمور الخطابية التي تعتمد على الإقناع بالعواطف، بعكس الكلام والفلسفة فإن بابها باب البرهانيات التي تعتمد على الأدلة العقلية والحجج البرهانية.

والعجيب أنه أورد على نفسه سائلًا: إن العامي وغيره ممن يجب عليه الإيمان بالله تعالى لا بد له من الأدلة والبراهين التي تدفعه إلى ذلك! وأجاب بأن الإيمان بالبراهين والحجج لا يحصل في كل عصر إلا لواحد أو اثنين!! بل قد يخلو العصر منه!! وأما عامة الناس فالإيمان بالله وما أشبهه من العقائد فيأخذونه بالسماع وقرائن صدقه غالبًا!!

فأدلة القرآن بزعمهم تناسب العوام دون أرباب العقول وأولي النهى!! وأما عامة الناس فعليهم الفهم الظاهر للوحي دون التعمق فيه ولا الغوص في مراميه!!([24]).

“والذي يحكم بخلو الشريعة من الحجاج العقلي لا يخلو من أحد حالين:

إما أن يكون جاهلًا بقدر الشريعة وحقيقة ما تضمنه نصوصها من أنواع الدلائل، وهذا أخف الحالين، وإما أن يكون مكذّبًا معاندًا يعرف الحق وينكره للعلة التي بينها الله تعالى في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 56]”([25]).

فكان هذا القول له أثره في صد الناس عن العقليات الشرعية والدلائل الإلهية، كما كان له أثره أيضًا في البعد عن سبيل الله في السلوك والعمل، فمنهجهم الفكري لم يخرج لنا أجيالًا توحِّد الله بالعبادة وتلجأ إليه في الشدائد، بل على العكس من ذلك، فقد انتشرت البدع والشركيات والتعلق بغير الله من السادة ومن القبور والأضرحة، والوسائل البدعية التي لا حقيقة لها، والركون إلى الدنيا والرضا بواقع حالهم، دون السعي في إصلاح حال دينهم ودنياهم وملاحقة الأمم ومنافستها لتكون كلمة الله هي العليا كما أمر الله.

هذا ما تشهد له عصور التاريخ التي ساد فيها الفكر الكلاميّ.

جعل المتكلّمين نصوص الوحي تابعة لعقلياتهم الفلسفية:

قد يجادل المجادل بأن ما سبق من القول بعدم اعتماد المتكلمين على الوحي غير صحيح؛ إذ هم يوردون الآيات والنصوص ليستدلوا بها على المسائل العقدية التي يقررونها، كما فعل الرازي مع قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76]؛ حيث استنبط منها “أن إبراهيم عليه السلام استدلَّ بأفول الكوكب على أنه لا يجوز أن يكون ربًّا له وخالقًا له”([26])، وأن المقصود بالأفول الحركة والتغير، وذلك استدلال بدليل حدوث الأجسام الكلامي الشهير، وكذلك غيره من علماء الكلام يستدلون بالنصوص.

ولكن الواقع أن المتكلّمين لا ينطلقون من قواعد التفسير المعروفة وأصولها المقرَّرة في مظانها ليتوصَّلوا بها إلى معاني الآيات والنصوص الشرعية، ولا يقارنون نصوص القرآن بعضها ببعض ليعرفوا مقصود القرآن، ولا يبحثون عن أمثالها في السنة ولا في أقوال السلف.

ليس هذا واقع حالهم، ولكنهم يستخلصون نظرياتهم وفرضياتهم العقلية من كلام معلميهم ومؤسسيهم، ويبنون على نصوصهم قواعدهم ومسائلهم، ثم إن جاء في نصّ شرعيّ ما وافق تلك التي يسمونها عقليَّات قد يتبرعون ببيان ذلك؛ لأن نصوص أولئك المعلمين والفلاسفة برهانية بعكس نصوص الوحي!! بل لا ينفكُّون عن ليِّ أعناق تلك النصوص والبحث في غرائب اللغة لتوافق أغراضهم تلك، وتكلُّفهم في هذا ظاهر.

واقرأ إن شئت هذا في كلام الرازي نفسه؛ حيث قرر أن العقل هو الأصل الذي يُرجع إليه، ويرد كل شيء يخالفه ولو كان من الوحي، ثم بين طريقته في التعامل مع الوحي فقال: “إما أن يقال: إنها غير صحيحة، أو يقال: إنها صحيحة إلا أن المراد منها غير ظواهرها، ثم إن جوزنا التأويل اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل، وإن لم نجوز التأويل فوضنا العلم بها إلى الله تعالى”([27]).

ودليل حدوث الأجسام دليل مشهور عند المتكلمين في إثبات وجود الله، وهم من أحدثوه، ولم يعرف ذلك الدليل عن أحد قبلهم، وهو ما لا يجدون له نصًّا من السلف -رضوان الله عليهم- فضلًا عن الوحي.

وإن لم يكن هذا فليأت من ينكره بقول واحد عن السلف يدّعون أن معنى الأفول هو الحركة والتغير، وأنى له ذلك والعلماء متفقون على أن معنى الأفول الاحتجاب والمغيب؟! فعليه اتفق أهل اللغة والتفسير([28]).

إذن، فالرازي وغيره من المتكلمين إنما يستقون قواعدهم ويبنون أصولهم من أقوال الفلاسفة اليونانيّين، ثم إن وجدوا في القرآن ما يتشبَّثون به فعلوا، والله المستعان.

وما حالهم إلا كحال الذين أمرهم الله تعالى بالنفقة فامتنعوا وشحُّوا بأموالهم، ثم طفقوا يبحثون عن متكَأ يعتضدون به على فعلهم ذاك، فذهبوا يقولون: إن الله هو الذي أفقر الفقير وليست لنا قدرة على تغيير ما أراد الله!! قال الله تعالى في شأنهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يس: 47].

وفي مثل هؤلاء يقول ابن الجوزي رحمه الله: “فجاء أقوام، فأظهروا التزهّد، وابتكروا طريقة زيّنها لهم الهوى، ثم تطلّبوا لها الدليل، وإنما ينبغي للإنسان أن يتبع الدليل، لا أن يتبع طريقًا ويتطلب دليلها!”([29]).

ولعلي أترك القول للإمام الشاطبي في هذه المسألة حيث يقول رحمه الله تعالى: “البدع ضلالة، والمبتدع ضال ومضلّ… بخلاف سائر المعاصي، فإنها لم توصف في الغالب بوصف الضلالة إلا أن تكون بدعة أو شبه البدعة… وذلك أن الضلال والضلالة ضد الهدى والهداية… فتقول: هديته الطريق… وضدّه الضلال، وهو الخروج عن الطريق… لأنه التبس عليه الأمر، ولم يكن له هاد يهديه، وهو الدليل.

فصاحب البدعة لما غلب عليه الهوى مع الجهل بطريق السنة توهّم أن ما ظهر له بعقله هو الطريق القويم دون غيره، فمضى عليه، فحاد بسببه عن الطريق المستقيم، فهو ضال من حيث ظن أنه راكب للجادة، كالمار بالليل على الجادة وليس له دليل يهديه يوشك أن يضل عنها، فيقع في مَتلَفَةٍ، وإن كان بزعمه يتحرى قصدها.

فالمبتدع من هذه الأمة إنما ضل في أدلتها حيث أخذها مأخذ الهوى والشهوة، لا مأخذ الانقياد تحت أحكام الله. وهذا هو الفرق بين المبتدع وغيره؛ لأن المبتدع جعل الهوى أول مطالبه، وأخذ الأدلة بالتّبع، ومن شأن الأدلة أنها جارية على كلام العرب، ومن شأن كلامها الاحتراز فيه بالظواهر، فقلما تجد فيه نصًّا لا يحتمل حسبما قرّره من تقدم في غير هذا العلم، وكل ظاهر يمكن فيه أن يصرف عن مقتضاه في الظاهر المقصود، ويتأوّل على غير ما قصد فيه. فإذا انضمّ إلى ذلك الجهل بأصول الشريعة وعدم الاضطلاع بمقاصدها، كان الأمر أشد وأقرب إلى التحريف والخروج عن مقاصد الشرع. فكان المبتدع أعرق في الخروج عن السنة، وأمكن في ضلال البدعة، فإذا غلب الهوى أمكن انقياد ألفاظ الأدلة إلى ما أراد منها.

والدليل على ذلك أنك لا تجد مبتدعًا ممن يُنسب إلى الملة إلا وهو يستشهد على بدعته بدليل شرعي، فينزله على ما وافق عقله وشهوته، وهو أمر ثابت في الحكمة الأزلية التي لا مرد لها، قال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26]”([30]).

تنفير الناس عن العقليات السلفية بوصمها بما هو مناقض للعقل:

من أهم العوامل التي أثرت في صرف العقول عن العقليات الشرعية: وصم أهل السنة بالجمود والحشوية، والتاريخ الإسلامي مليء بأمثال هؤلاء ممن كان ينفر عن الحق بتسميته بأسماء موحشة وتضمينها معاني شفافة لا حقيقة لها، وتشويه صورة أهله تبعًا لذلك، وهذا بالفعل ما حصل لأهل العقليات الشرعية حيث لا يكاد يخلو كتاب من كتب المتكلمين إلا ويصمون فيه أهل السنة الذين أعملوا العقليات الشرعية بالجمود والحرفية والحشوية وقلة الفهم وبلادة الذهن.

ومن ذلك نبز الزمخشري لأهل السنة باسم الحشوية؛ لأنهم الذين يقولون بمغفرة الله لأهل الكبائر إذا شاء الله تعالى، وأنهم في ذلك كاليهود الذين حكى الله عنهم قولهم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [آل عمران: 24].

قال الزمخشري: “ذلِكَ التولي والإعراض بسبب تسهيلهم على أنفسهم أمر العقاب وطمعهم في الخروج من النار بعد أيام قلائل كما طمعت المجبرة والحشوية”([31]).

والأمثلة في هذا كثيرة.

غلو الصوفية في الخرافة على حساب العقليات:

كحال المتكلمين بدأ التصوف بنتوءات صغيرة لا يأبه لها كذلك، حتى اكتمل مسلكًا مستقلًا عن منهج السلف رضوان الله عليهم، وبوادر الانحراف بدأت بالميل إلى العبادة والغلو فيها دون العناية بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم ومنهج السلف الصالح، فكان في البصرة من عُرفوا بالعبادة، وبنيت لهم أماكن خاصة يجلسون فيها للعبادة، وصار فيهم نوع من الغلو في ذلك؛ كأن يغشى على العابد من شدة خشوعه وتدبره عند سماع القرآن، وقد أنكرها بعضهم وبعضهم استحسنها، يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: “وإنما كان مبادئ هذه الأمور في التابعين من عِباد البصرة، فإنه كان فيهم من يُغشى عليه إذا سمع القرآن، ومنهم من يموت كأبي جهير الضرير وزرارة بن أوفى قاضي البصرة. وكذلك صار في شيوخ الصوفية من يعرض له من الفناء والسكر ما يضعف معه تمييزه حتى يقول في تلك الحال من الأقوال ما إذا صحا عرف أنه غالطٌ فيه، كما يحكى نحو ذلك عن مثل أبي يزيد وأبي الحسين النوري وأبي بكر الشبلي وأمثالهم”([32]).

ولكن هذه النتوءات التي حصلت لم تكن محمودة العاقبة، فقد تفاقمت حتى شكلت شرخًا كبيرًا، واستقلت بمنهج خاص بعيد عن المنهج الإسلامي.

فمن فكر أمثال هؤلاء انتشرت المحدثات وتفشَّت البدع والخرافات، وأصبح في الأمة ما يعرف بالتصوف، واستشرى الغلو في هؤلاء العُبّاد أو الصالحين حتى ألَّهوهم، وراحوا يختلقون لأنفسهم أو تُختلق لهم الكرامات الخيالية لكل واحد منهم حتى لا يكاد يخلو ولي من كرامة!! وساء الحال حتى إنهم كانوا يتشبَّثون بأي شيءٍ لترويج الأكاذيب والخرافات؛ كاعتماد قصص الرؤى والهواتف في بناء العقائد والتصورات، فلا يكاد يوجد كتاب من كتبهم إلا وفيه قصة وليٍّ رأى منامًا أو هاتفه أحد وأعطاه وِردًا عليه الأجر الفلاني وهكذا. ومن خوفهم من ظهورها للعلن ومخالفتهم للشرع وللوحي اتخذ بعضهم من التفسير الباطني جسرًا للتخلص من هاويات الخرافات، فكان على الناس أن يسلِّموا للوليِّ بكل ما يقول وبكل ما يفعل وإن شرب الخمر وإن قتل، وإن فعل الفاحشة على مرأى من الناس؛ لأنها من الأسرار التي يصل إليها الإنسان إذا بلغ مرحلة الولاية!!

ومما مهَّد الطريق للخرافة والغلو فيها أنهم أذاعوا فكر الجبر والاستسلام للواقع؛ إذ هو مقدر ومكتوب من عند الله، ولا يملك أحد تغيير ما قدَّره الله! هذا إذا لم يعتقدوا أن المقدِّر هو الولي المقبور منذ سنين، أو القاطن في مكان يحول بينه وبينه مفاوز ومسافات طوال!!([33]).

وهذا الغلو في الخرافات ليس أمرًا حديثًا، بل قد أدرك الإمام الشافعي رحمه الله تعالى شيئًا من ذلك كما يروى عنه: “لو أن رجلًا تصوَّف أول النهار لا يأتي الظهر حتى يصير أحمق”، وروي عنه أيضا أنه قَال: “مَا لزم أحد الصوفية أربعين يومًا فعاد عقله إليه أبدًا”([34]).

هذا وهو في القرن الثاني، وأما القرون المتأخرة فقد تطاير الشرر وتفاقم الخطب حتى قال الشيخ ابن باديس رحمه الله تعالى: “لقد سيطرت الطرق الصوفية على الفكر الإسلامي والمجتمع المغربي في القرن التاسع عشر سيطرة مذهلة، فبلغ عدد الزوايا في الجزائر 349 زاوية، وعدد المريدين أو الإخوان 295000، والفقهاء الذين عرفوا بمعارضتهم الصوفية أصبحوا بدورهم طرقيين، فساد الظلام، وخيم الجمود، وكثرت البدع، واستسلم الناس للقدر… وهذه الظاهرة الاجتماعية أدت إلى تعطيل الفكر وشل جميع الطاقات الاجتماعية الأخرى”([35]).

وهكذا انتشرت الخرافة وساد الجهل وشلت أدوات الفكر والمعرفة، وأعدموا العقل ودفنوه في مزابل خرافاتهم، واعتمدوا على ما يمليه الولي، فأنى للعقليات الشرعية أن تظهر؟!

يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى وهو يشرح هذا الواقع بين الصوفية والمتكلمين: “والناس لهم في طلب العلم والدين طريقان مبتدعان وطريق شرعي، فالطريق الشرعي هو النظر فيما جاء به الرسول والاستدلال بأدلته، والعمل بموجبها، فلا بد من علم بما جاء به وعمل به، لا يكفي أحدهما.

وهذا الطريق متضمن للأدلة العقلية والبراهين اليقينية؛ فإن الرسول بين بالبراهين العقلية ما يتوقف السمع عليه، والرسل بينوا للناس العقليات التي يحتاجون إليها، كما ضرب الله في القرآن من كل مثل، وهذا هو الصراط المستقيم الذي أمر الله عباده أن يسألوه هدايته.

وأما الطريقان المبتدعان: فأحدهما: طريق أهل الكلام البدعي والرأي البدعي؛ فإن هذا فيه باطل كثير، وكثير من أهله يفرطون فيما أمر الله به ورسوله من الأعمال، فيبقى هؤلاء في فساد علم وفساد عمل، وهؤلاء منحرفون إلى اليهودية الباطلة.

والثاني: طريق أهل الرياضة والتصوف والعبادة البدعية، وهؤلاء منحرفون إلى النصرانية الباطلة؛ فإن هؤلاء يقولون: إذا صفى الإنسان نفسه على الوجه الذي يذكرونه فاضت عليه العلوم بلا تعلم، وكثير من هؤلاء تكون عبادته مبتدعة، بل مخالفة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فيبقون في فساد من جهة العمل، وفساد من نقص العلم، حيث لم يعرفوا ما جاء به الرسول، وكثيرًا ما يقع من هؤلاء وهؤلاء، وتقدح كل طائفة في الأخرى، وينتحل كل منهم اتباع الرسول… وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه على طريقة أهل البدع من أهل الكلام والرأي، ولا على طريقة أهل البدع من أهل العبادة والتصوف، بل كان على ما بعثه الله من الكتاب والحكمة”([36]).

ذم بعض أهل السنة للنظر العقلي مطلقًا كردة فعل على المتكلمين:

زلة العالم ليست كزلة غيره، وهذا ما نجده حين نتكلم هنا عمَّن كان سببًا من داخل البيت السُّني، فمن أهل السنة من شارك غيره في تنحية العقليات الشرعية عن الأنظار، وأولئك هم الذين غلوا في الإنكار على المتكلمين فيما ابتدعوه من العقليات، بيد أنهم وافقوا المتكلمين في القول بأن الوحي أخبار لا عقليات فيه، فاقتصروا على التذكير والبيان لمسألة التسليم للنصوص والاعتصام بها، وسمَّوا كتبهم بما يوحي بذلك كأصول السنة وأصول الشريعة، وأغفلوا بيان غناء الوحي بالعقليات الكثيرة، فضلًا عن احتوائه أصول كل ما يستدل به المتكلمون من العقليات الصحيحة، والأدهى والأمر أن منهم من كان يستند إلى نصوص ضعيفة لا خطام لها ولا زمام، ومنهم من كان يستدل بالوحي ولكن في غير محله.

ومن صفا له النص وثبت واستدل به على المسألة المرادة استدل بحروفه دون ما يحويه من العقليات والمهارات الاستدلالية، فأُغفلت العقليات الشرعية ولم تبرز في محاوراتهم وكتبهم، واحتجُّوا بأن الإيمان بالرسول قد استقر أمره وانتهى وقت نقاشه، فلا حاجة لبيان دلائله واستخدام العقل في ذلك ولا في أمثاله من المسائل العقدية؛ كوجود الخالق ووحدانيته وربوبيته، ودلائل الإيمان باليوم الآخر.

فإذا رأى أهل الكلام وعامة الناس حالهم ظنوا أن هذا هو مذهب السلف، وأن الدين ليس فيه سوى التسليم والإذعان دونما حجة أو سلطان، وأن الوحي خال من الحجج والمهارات العقلية والمسالك الاستدلالية، وغلوا لذلك في عقلياتهم وفلسفاتهم، وابتعدوا عن نصوص الوحي ودلالاته، وجهَّلوا من اقتصر على الوحي ممَّن خالفهم.

وقد بيَّن ابن تيمية رحمه الله تعالى هذه القضية أيما بيان حيث قال: “أصول الدين الحق الذي أنزل الله به كتابه وأرسل به رسوله -وهي الأدلة والبراهين والآيات الدالة على ذلك- قد بينها الرسول أحسن بيان، وأنه دل الناس وهداهم إلى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية التي بها يعلمون المطالب الإلهية، وبها يعلمون إثبات ربوبية الله ووحدانيته وصفاته وصدق رسوله والمعاد وغير ذلك مما يحتاج إلى معرفته بالأدلة العقلية، بل وما يمكن بيانه بالأدلة العقلية وإن كان لا يحتاج إليها؛ فإن كثيرا من الأمور تعرف بالخبر الصادق، ومع هذا فالرسول بين الأدلة العقلية الدالة عليها؛ فجمع بين الطريقين: السمعي والعقلي.

وبينا أن دلالة الكتاب والسنة على أصول الدين ليست بمجرد الخبر؛ كما تظنه طائفة من الغالطين من أهل الكلام والحديث والفقهاء والصوفية وغيرهم، بل الكتاب والسنة دلا الخلق وهدياهم إلى الآيات والبراهين والأدلة المبينة لأصول الدين، وهؤلاء الغالطون الذين أعرضوا عما في القرآن من الدلائل العقلية والبراهين اليقينية صاروا إذا صنفوا في أصول الدين أحزابا: حزب يقدمون في كتبهم الكلام في النظر… والحزب الثاني عرفوا أن هذا الكلام مبتدع وهو مستلزم مخالفة الكتاب والسنة، وعنه ينشأ القول بأن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، وليس فوق العرش ونحو ذلك من بدع الجهمية، فصنفوا كتبًا قدموا فيها ما يدل على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة من القرآن والحديث وكلام السلف، وذكروا أشياء صحيحة، لكنهم قد يخلطون الآثار صحيحها بضعيفها، وقد يستدلون بما لا يدل على المطلوب. وأيضا فهم إنما يستدلون بالقرآن من جهة إخباره لا من جهة دلالته، فلا يذكرون ما فيه من الأدلة على إثبات الربوبية والوحدانية والنبوة والمعاد، وأنه قد بين الأدلة العقلية الدالة على ذلك؛ ولهذا سموا كتبهم أصول السنة والشريعة ونحو ذلك، وجعلوا الإيمان بالرسول قد استقر فلا يحتاج أن يبين الأدلة الدالة عليه، فذمهم أولئك ونسبوهم إلى الجهل؛ إذ لم يذكروا الأصول الدالة على صدق الرسول، وهؤلاء ينسبون أولئك إلى البدعة بل إلى الكفر؛ لكونهم أصلوا أصولا تخالف ما قاله الرسول. والطائفتان يلحقهما الملام؛ لكونهما أعرضتا عن الأصول التي بينها الله بكتابه، فإنها أصول الدين وأدلته وآياته، فلما أعرض عنها الطائفتان وقع بينهما العداوة؛ كما قال الله تعالى: {فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 14]”([37]).

إذن، حاصل القول أن كل واحدة من الطائفتين غلت في جانب وفضَّلته على غيره دون التمييز بين ما فيه من حق وباطل، فصار إعمال العقل ومهاراته ومسالك العمل به مذمومًا عند هؤلاء، مع أن “العقل قد مدحه الله في القرآن في غير آية، لكن لَمّا أحدث قومٌ من الكلام المبتدَع المخالِف للكتاب والسنّة -بل وهو في نفس الأمر مخالفٌ للمعقول- وصاروا يُسمّون ذلك عقليّات وأصولَ دين وكلامًا في أصول الدين صار من عَرَفَ أنّهم مبتدعة ضُلال في ذلك ينفر عن جنس المعقول والرأي والقياس والكلام والجدل، فإذا رأى من يتكلّم بهذا الجنس اعتقده مبتدِعًا مبطلًا، وهؤلاء وهؤلاء أدخلوا في مسمى الشرع والعقل ما هو محمود وما هو مذموم، كما أنّ هؤلاء لما رأوا أنّ جنس المنتسبين إلى السنّة والشرع والحديث قد أخطؤوا في مواضع، وخالفوا فيها صريح المعقول -وهم يقولون: إنّ السنّة جاءت بذلك- صار هؤلاء ينفرون عن جنس ما يُستدلّ في الأصول بالشرع والسنّة، ويُسمّونهم حشويّة وعامّة. وكلّ من هؤلاء وهؤلاء أدخلوا في مسمّى الشرع والعقل والسمع ما هو محمود ومذموم.

ثمّ هؤلاء قبلوا من مسمّى الشرع والسنّة عندهم محموده ومذمومه، وخالفوا مسمّى العقل محموده ومذمومه، وأولئك قبلوا مسمّى العقل عندهم محموده ومذمومه، وخالفوا مسمّى الشرع محموده ومذمومه.

والواجب على المؤمن المتبصر هنا البيان والتفصيل والاستفسار، وبيان الفرقان بين الحق والباطل؛ فإنّ ذلك يوجب التصديق بما جاء به الشرع المنزّل والسنّة الغرّاء، وهو المعقول الحقّ، وهو الكلام الصدق، وهو الجدل بالتي هي أحسن، ويُوجب ردّ ما أُدخل في الشرع والسنّة وليس منها، وردّ ما سُمّي معقولًا وهو باطل؛ وسُمّي كلامًا صدقًا وهو كذب، وسُمّي جدلًا بالتي هي أحسن وهو جدل بالباطل بغير علم”([38]).

إذن، علمنا مما سبق أن السلف -رضوان الله عليهم وعلى من تبعهم بإحسان- “ما جهلوا هذه العلوم الضرورية والمعارف الأولية التي لا يخلو مكلف من معرفتها، وإن كانوا ما حفظوا اصطلاح أهل العقول في مجرد أسمائها الاصطلاحية، ولو كانوا ممن يجهل جليات العقليات ما صح منهم استنباط الخفيات في الفقهيات، فإليهم المنتهى في الذكاء وصفاء الأذهان ومعرفة البرهان وحفظ السنة والقرآن، ولكن العبارات مختلفة منها: لغوية، واصطلاحية، وفصيحة، وركيكة، وبسيطة، ووجيزة، وحقيقة، ومجاز، وعامة، وخاصة، وعامة يراد بها الخصوص، وخاصة يراد بها العموم، وجميع ذلك عربي شهير مستعمل كثير، بل اللغات عربية وعجمية، ومعربة وملحونة، ولكل أهل فن عرف واصطلاح، كما ذلك لكل أهل زمن وبلد”([39]).

“فأهل الحديث والأثر وأتباع السنن والسلف: الذين ينهون عن الخوض في علم الكلام، ولا يحتجون على مذهبهم إلا بما عرفته عقولهم من غير تقليد مما علمه الله تعالى رسله وسائر عباده من الأدلة وكيفية الاستدلال، ولا ينظرون إلا فيما أمرهم أن ينظروا فيه، كما أن طلبة علم النظر يتعلمون من كتب شيوخهم من غير تقليد، فكذلك أهل الأثر ينظرون من غير تقليد في كتاب الله، ويستدلون بذلك، وبما جرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وسلف الأمة المجمع على صلاحهم من الاستدلال به على الله تعالى، وعلى نبوة أنبيائه…

فهؤلاء كتابهم القرآن، وتفسيرُهم الأخبارُ والآثار، ولا يكاد يوجد لهم كتاب في العقيدة، فإن وجد فالذي فيه إنما هو بمعنى الوصية المحضة بالرجوع إلى الكتاب والسنة، وهم لا يعنون بالرجوع إليهما نفي النظر وترك العقل والاستدلال البتة، وقد صرحوا بالنظر والاستدلال العقلي…

وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27]: أي: بمجرد ما دعوتهم استجابوا لك من غير نظر. وهذا الذي ذموهم به هو عين ما يمدحون به؛ فإن الحق الظاهر لا يحتاج إلى روية ولا فكر ولا نظر، بل يجب اتباعه والانقياد إليه متى ظهر، وإنما ينكرون من علم النظر أمرين:

أحدهما: القول بأن النظر فيما أمر الله تعالى بالنظر فيه وجرت به عادة السلف غير مفيد للعلم إلا أن يرد إلى ما ابتدع من طريق المتكلمين، بل هو عندهم كاف شاف، وإن خالف طرائق المتكلمين.

وثانيهما: أنهم ينكرون القول بتعين طرائق المنطقيين والمتكلمين للمعرفة، وتجهيل من لم يعرفها وتكفيره… وعلى هذه الطريقة كان أئمة العترة القدماء، وأئمة الفقهاء الأربعة، وجماهير حفاط الحديث، وأئمة الفقه والتفسير وعلوم الشريعة؛ ولذلك لا نجد لهم في علم الكلام ذكرا بنفي ولا بإثبات”([40]).

ظهور طائفة اكتفت بالذم لكل من سبق دون الإقبال على الأدلة القرآنية:

سبق أن تكلَّمنا عن إفراط المتكلمين في باب العقل، وجعلهم إياه حاكمًا على الشرع وفيصلًا في القضايا والمسائل، ثم تطرَّقنا للطائفة المقابلة لها والمفرِّطة في الأدلة العقلية عامَّة سواء الصوفية أو من قصَّر في ذلك من أهل السنة.

بيد أنه ظهرت طائفة لم يكونوا لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، لما عرفوا ضلال كل طائفة منهما أعرضوا عنهما جميعًا وذموهما، ولكنها اكتفت بالذم فقط دون أن تجعل لنفسها موقفًا واضحًا من الأدلة العقلية القرآنية، فهم انتقدوا المفْرِطين والمفَرِّطين ولكنهم لم يتخذوا موقفًا صحيحًا من الوحي، بل أعرضوا عن الاستدلال به وبيان عقلياته وأخباره، فلا هي التي استقت الأدلة العقلية من القرآن، ولا هي التي اهتمت باستنباطها من السنة، فلم تتخذ من القرآن كتابًا يتدبَّر، ولا في دلائله ومسائله دلالة أو مدَّكَرًا، ولا من عقلياته موقفًا معتبرًا، والله سبحانه وتعالى ذمَّ في كتابه من أعرض عنه وأثَّمهم.

يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: “وحزب ثالث: قد عرف تفريط هؤلاء وتعدي أولئك وبدعتهم، فذمهم وذم طالب العلم الذكي الذي اشتاقت نفسه إلى معرفة الأدلة والخروج عن التقليد إذا سلك طريقهم، وقال: إن طريقهم ضارة وأن السلف لم يسلكوها ونحو ذلك مما يقتضي ذمها، وهو كلام صحيح، لكنه إنما يدل على أمر مجمل لا تتبين دلالته على المطلوب، بل قد يعتقد طريق المتكلمين مع قوله: إنه بدعة، ولا يفتح أبواب الأدلة التي ذكرها الله في القرآن التي تبين أن ما جاء به الرسول حق، ويخرج الذكي بمعرفتها عن التقليد وعن الضلال والبدعة والجهل. فهؤلاء أضل بفرقهم؛ لأنهم لم يتدبروا القرآن، وأعرضوا عن آيات الله التي بينها بكتابه كما يعرض من يعرض عن آيات الله المخلوقة قال الله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105]… والمقصود أن هؤلاء الغالطين الذين أعرضوا عما في القرآن من الدلائل العقلية والبراهين اليقينية لا يذكرون النظر والدليل والعلم الذي جاء به الرسول، والقرآن مملوء من ذلك، والمتكلمون يعترفون بأن في القرآن من الأدلة العقلية الدالة على أصول الدين ما فيه، لكنهم يسلكون طرقا أخر كطريق الأعراض، ومنهم من يظن أن هذه طريق إبراهيم الخليل، وهو غالط”([41]).

 ومن هؤلاء من تسول له الشياطين التفريط في تدبر القرآن؛ بحجة التورع عن التقول على القرآن، كما يذكر ابن هبيرة رحمه الله: “من مكايد الشيطان: تنفيره عباد الله من تدبر القرآن؛ لعلمه أن الهدى واقع عند التدبر، فيقول: هذه مخاطرة، حتى يقول الإنسان: أنا لا أتكلم في القرآن تورعًا”([42]).

فالتدبر والتفكر في القرآن وحججه وبيناته هو الغاية كما يقول الإمام القرطبي: “فالواجب على من خصه الله بحفظ كتابه أن يتلوه حق تلاوته، ويتدبر حقائق عبارته، ويتفهم عجائبه، ويتبين غرائبه، قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]، وقال الله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، جعلنا الله ممن يرعاه حق رعايته، ويتدبره حق تدبره، ويقوم بقسطه، ويفي بشرطه، ولا يلتمس الهدى في غيره”([43]).

وقد ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (من كان يحب أن يعلم أنه يحب الله عز وجل فليعرض نفسه على القرآن؛ فإن أحب القرآن فهو يحب الله عز وجل، فإنما القرآن كلام الله عز وجل)([44]) .

ولا شك أن الشيطان من أحرص ما يكون على إبعاد بني آدم عن تدبر القرآن والتفكر في آياته وحججه وبيناته، يقول ابن القيم رحمه الله: “الشيطان يجلب على القارئ بخيله ورجله، حتى يشغله عن المقصود بالقرآن، وهو تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد به المتكلم به سبحانه، فيحرص بجهده على أن يحول بين قلبه وبين مقصود القرآن، فلا يكمل انتفاع القارئ به، فأمر عند الشروع أن يستعيذ بالله عز وجل منه”([45]).

تأثر بعض أهل السنة بالمتكلمين ورد النصوص بالعقل:

كما أنه وجد في داخل البيت السُّني من تأثر بالمفَرِّطين في باب العقل، فكذلك وُجد من تأثر بالمفْرِطين، فصار منهم من يردُّ النصوص بدعوى أن العقل يحيلها، وكان لهؤلاء أثرهم بلا شك في الغلو في العقل والابتعاد عمَّا في النصوص الشرعية من عقليات؛ وسبب ذلك أن مقصودهم وغايتهم كان هو العلم وطريقه هو العقل، فغلوا فيه وعظَّموه، وهذا ما لمح إليه ابن تيمية رحمه الله تعالى إذ يقول: “لكن المسرفون فيه [أي: العقل] قضوا بوجوب أشياء وجوازها وامتناعها لحجج عقلية بزعمهم اعتقدوها حقا، وهي باطل، وعارضوا بها النبوات وما جاءت به، والمعرضون عنه صدقوا بأشياء باطلة، ودخلوا في أحوال وأعمال فاسدة، وخرجوا عن التمييز الذي فضل الله به بني آدم على غيرهم. وقد يقترب من كل من الطائفتين بعض أهل الحديث، تارة بعزل العقل عن محل ولايته، وتارة بمعارضة السنن به. فهذا الانحراف الذي بين الحرفية والصوتية في العقل التمييزي بمنزلة الانحراف الذي بينهم في الوجد القلبي؛ فإن الصوتية صدقوا وعظموه وأسرفوا فيه حتى جعلوه هو الميزان وهو الغاية كما يفعل أولئك في العقل، والحرفية أعرضت عن ذلك وطعنت فيه ولم تعده من صفات الكمال. وسبب ذلك أن أهل الحرف لما كان مطلوبهم العلم وبابه هو العقل، وأهل الصوت لما كان مطلوبهم العمل وبابه الحب: صار كل فريق يعظم ما يتعلق به ويذم الآخر، مع أنه لا بد من علم وعمل: عقل علمي وعمل ذهني وحب، تمييز وحركة، قال وحال، حرف وصوت. وكلاهما إذا كان موزونا بالكتاب والسنة كان هو الصراط المستقيم، والحمد لله رب العالمين”([46]).

إشغال كتب العقائد بالعقليات البدعية، وانعدام العقليات الشرعية:

لا يكاد يخفى على أحد ما ملئت به كتب أهل السنة من مناقشات للكلاميين في عقلياتهم، نقضًا وردًّا لها، وإبطالًا وتفنيدًا، ولا يكاد يذكر العقل ومسائله حتى يذكر أهل الكلام، وهو ما يوحي بطريقة غير مباشرة أن أهل الكلام هم أهل العقل والحجج والبراهين دون أهل السنة، مع أنهم إنما انتحلوه انتحالًا، وينبغي أن ينازعوا في انتحالهم ذلك، ولا يسلم لهم ما يدعونه. ويكتمل هذا الإشكال في كثير من كتب أهل السنة، خاصة تلك التي تطيل النفس في مناقشة المتكلمين وعقلياتهم، وتسرد أقوالهم وتشقيقاتهم وتدقيقاتهم، وترد عليها، ثم هي لا تتطرق لما في الوحي من عقليات، وما فيه من حجج وبرهانيات، وإن تطرقت تطرقت دون تفصيل مواز لتفصيل القول في الرد على المتكلمين.

فيبقى راسخًا في ذهن طلبة العلم وأهله ما أوحى إليهم كثرة مناقشات المتكلمين ودوام إيراد العقل عند ذكرهم من أن أهل الكلام هم أهل العقل، وهذا العامل من أهم العوامل التي ينبغي على أهل العلم التنبه لها ومعالجتها.

عدم إبراز العقليات الشرعية السلفية:

على غرار ما سبق ذكره من إشغال كتب أهل السنة بمناقشة العقليات البدعية الكلامية وردها، يحسن بأهل السنة أن يبرزوا العقليات الشرعية، ويبينوا تفاصيلها ونصوص الوحي فيها وأقوال العلماء وأهل التفسير حولها، وإعمال السلف لها، وقصصهم وأيامهم ومناظراتهم بتلك العقليات والمهارات والبيّنات.

يقول الدكتور مصطفى حلمي: “الدراسات الكلامية التقليدية أولت عنايتها للفرق المنشقة عن أهل القرون الأولى كالخوارج والشيعة والقدرية والجهمية، كما تعمقت وتوسعت في عرض المذهبين الكبيرين: الاعتزالي والأشعري، ولم تلتفت للنتاج العقلي للمحدثين والفقهاء بالقدر الكافي الذي يسمح بإبراز مواقفهم من أصول الدين ومنهجهم في النقاش والرد على مخالفيهم، مع العلم بأنهم كانوا يستندون إلى أدلة عقلية وبراهين منطقية قائمة على تفسير الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والاسترشاد أيضًا بفهم الأوائل الذين كانوا أكثر علمًا ودراية بأسرار اللغة العربية وأسباب النزول ودقائق العقائد المتصلة بأصول الدين.

وفي ضوء هذه الحقيقة نرى أن طريقة أهل الحديث والسنة تحتاج إلى نظرة إنصاف وتقدير، حيث شاعت الفكرة التي تصفهم بأنهم (نصيون) وليسوا (عقليين)، فضلًا عن أوصاف أخرى تشاع عنهم خطأ، كوصفهم بالجمود وما إلى ذلك من صفات شوهت صورتهم في أذهان الخاصة والعامة”([47]).

المبالغة والانشغال بالعلوم الثانوية عن تدبر القرآن وبراهينه:

أنزل الله القرآن حجَّةً للعالمين، وبلاغًا للناس أجمعين، وإمامًا يؤتمُّ به، وفيصلًا وحاكمًا؛ قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} [الرعد: 37]، وهاديًا للبشرية جمعاء إلى الحق والهدى والصراط المستقيم، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإسراء: 9، 10]، وهدى وشفاء ورحمة للمؤمنين؛ {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44]، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]، ونذيرًا للناس من عذاب يوم القيامة كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ} [الشورى: 7].

فالقرآن {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [فصلت: 2، 3]، جعل الله فيه البشارة لمن تدبر آياته وحججه ومسائله وآمن به وعمل به، والنذارة لمن أعرض عنه وانشغل بغيره، قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [الأحقاف: 12].

والمقصود الأعظم منه حصول التقوى والاتعاظ والتذكر بعد التدبر والتفكر في آياته؛ قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 27، 28].

ومن أنواع الانشغال عن القرآن الكريم الانشغال بمعرفة وجوه القراءة ووجوه الإعراب وتفاصيلها وقائليها دون الالتفات إلى مراد الله تعالى، وإلى معاني القرآن ومسائله وأحكامه وحكمه، وأكرم برجل جمع بينهما!

ومثله التشقيق والتقعير في المخارج وفي صفات الحروف عن حقيقة القرآن، ومثله أيضًا الانشغال بتحسين الصوت وإجادة الأداء الصوتي ومراعاة النغم.

يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: “وأمّا في باب فهم القرآن فهو دائم التفكّر في معانيه والتدبر لألفاظه واستغنائه بمعاني القرآن وحكمه عن غيره من كلام الناس، وإذا سمع شيئًا من كلام الناس وعلومهم عرضه على القرآن، فإن شهد له بالتزكية قبله، وإلا رده، وإن لم يشهد له بقبول ولا رد وقفه وهمته عاكفة على مراد ربه من كلامه، ولا يجعل همته فيما حجب به أكثر الناس من العلوم عن حقائق القرآن، إما بالوسوسة في خروج حروفه وترقيقها وتفخيمها وإمالتها والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط وغير ذلك، فإن هذا حائل للقلوب قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه… وكذلك مراعاة النغم وتحسين الصوت، وكذلك تتبع وجوه الإعراب واستخراج التأويلات المستكرهة التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالبيان، وكذلك صرف الذهن إلى حكاية أقوال الناس ونتائج أفكارهم”([48]).

المبالغة في التقليد على حساب الوحي وعقلياته:

لم يكن الغلو في يوم من الأيام خيرًا، ولا جاء يومًا بخير، بل هو مفتتح البلايا والمشكلات، فتعظيم العلماء وتوقيرهم والاهتمام بدراسة أقوالهم وآرائهم بعد الاطلاع على الوحي هو ما يركِّز عليه المنهج الصحيح، ولكن شذّ عن هذا أناس وقلبوا القضية، فجعلوا قول العالم أو الإمام هو الأصل، وجعلوا يلوون أعناق النّصوص القرآنية والحديثية لتتوافق مع أقوال الأئمّة، والأدهى والأمر أن يكون هذا الذي يُلوى من أجله أعناق النصوص كافرًا لا يمت للإسلام بصلة كما حصل مع بعض الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام، وهذا بلا شكّ من الصوارف عن فهم مراد الله تعالى من القرآن وعن العقليات القرآنية والحجج والبراهين الشرعية، يقول ابن تيمية وهو يسرد الصوارف عن ذلك: “وكذلك تأويل القرآن على قول من قلد دينه أو مذهبه، فهو يتعسف بكل طريق حتى يجعل القرآن تبعًا لمذهبه وتقوية لقول إمامه، وكل محجوبون بما لديهم عن فهم مراد الله من كلامه في كثير من ذلك أو أكثره”([49]).

فـ”الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل، ويتدبر معناه، ويعقل ويعرف برهانه ودليله، إما العقلي وإما الخبري السمعي، ويعرف دلالة القرآن على هذا وهذا، وتجعل أقوال الناس التي قد توافقه وتخالفه متشابهة مجملة، فيقال لأصحاب هذه الألفاظ: يحتمل كذا وكذا، ويحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما يوافق خبر الرسول قبل، وإن أرادوا بها ما يخالفه رد”([50]).

الخاتمة:

قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} الآية [يونس: 58]. “ففضل الله ورحمته القرآن والإيمان، من فرح به فقد فرح بأعظم مفروح به، ومن فرح بغيره فقد ظلم نفسه ووضع الفرح في غير موضعه. فإذا استقرَّ في القلب وتمكن فيه العلم بكفايته لعبده ورحمته له وحلمه عنده وبره به وإحسانه إليه على الدوام أوجب له الفرح والسرور أعظم من فرح كل محب بكل محبوب سواه. فلا يزال مترقّيًا في درجات العلو والارتفاع بحسب رقيه في هذه المعارف… فهو دائم التفكر في معانيه والتدبر لألفاظه واستغنائه بمعاني القرآن وحكمه عن غيره من كلام الناس”([51]).

مع أنه من العسير جدًّا الاستقامة على سبيل الجادة والإمساك بالعصا من منتصفه في الأمور التي يتجاذبها طرفا الغلو والجفاء؛ ولذا نجد الوحي يكرر الأمر بالاستقامة في غير ما موضع؛ كقوله سبحانه وتعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا} [هود: 112].

فمن أراد البذل لرفعة دين الله والذود عن الوحي: حججه وبراهينه وعقلياته وأخباره، فعليه بالجد والبذل وعدم الالتفات إلى الصوارف، ولا شك سيرفعه الله تعالى ويبلغه مراده.

أوَتَذكر -أخي القارئ- يحيى بن يحيى الليثي، ذلك الذي بدأنا به ورقتنا هذه؟! أوَتعلم ماذا كانت عاقبة التزامه وصبره على العلم الشرعي وعدم التفاته إلى الصوارف؟!

نعم، لقد كانت رواية يحيى بن يحيى الليثي للموطّأ هي المشهورة والمنقولة بعد إلى الناس، رغم أن الليثي في الأصل من المغرب، فهو أندلسي قرطبي، وإنما رحل إلى الإمام مالك -رحمهما الله- في أواخر أيامه، قال أبو عمر بن عبد البر: “قدم يحيى بن يحيى الأندلس بعلم كثير، فعادت فتيا الأندلس بعد عيسى بن دينار الفقيه عليه، وانتهى السلطان والعامة إلى رأيه، وكان فقيهًا، حسن الرأي”([52]).

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ـــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) ينظر: سير أعلام النبلاء (10/ 521).

([2]) الأدلة العقلية النقلية، د. سعود العريفي (ص: 39).

([3]) شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (1/ 76).

([4]) علقه البخاري بصيغة الجزم (7195)، وأخرجه أبو داود (3645)، والترمذي (2715) وقال: “هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير هذا الوجه عن زيد بن ثابت”.

([5]) صحيح البخاري (5823).

([6]) مجموع الفتاوى (3/ 306) بتصرف يسير.

([7]) ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (5/ 554)، البداية والنهاية لابن كثير (14/ 207).

([8]) أخرجه البخاري (4776)، ومسلم (5).

([9]) ينظر: الفروق في العقيدة بين أهل السنة والأشاعرة، لصادق عبده السفياني (ص: 47 وما بعدها).

([10]) ينظر: منهج المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة، د. سليمان الغصن (ص: 506).

([11]) أصول الدين (ص: 23).

([12]) ينظر: شرح الأصول الخمسة، للقاضي عبد الجبار (ص: 226)، غاية المرام، للآمدي (ص: 174)، أصول الدين، للرازي (ص: 24)، أساس التقديس (ص: 234 وما بعدها).

([13]) شرح الأصول الخمسة (ص: 226).

([14]) ينظر: حاشية الصاوي على الجلالين (3/ 9).

([15]) ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (19/ 159 وما بعدها).

([16]) المستصفى (2/ 137 وما بعدها).

([17]) أساس التقديس (ص: 220 وما بعدها).

([18]) محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين (ص: 51).

([19]) المواقف في علم الكلام (ص: 40).

([20]) ينظر: إلجام العوام للغزالي (ص: 79 وما بعدها).

([21]) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (16/ 442).

([22]) الصواعق المرسلة (2/ 793 وما بعدها).

([23]) مقدمة كتاب إلجام العوام.

([24]) ينظر: إلجام العوام (ص 79 وما بعدها).

([25]) الأدلة العقلية النقلية، د. سعود العريفي (ص: 148).

([26]) مفاتيح الغيب للرازي (13/ 42).

([27]) أساس التقديس (ص: 220 وما بعدها).

([28]) ينظر: شرح حديث النزول، لابن تيمية (ص: 423)، وللاستزادة ينظر: درء التعارض (1/ 109 وما بعدها).

([29]) صيد الخاطر (ص: 41).

([30]) الاعتصام، تحقيق: الشقير ورفاقه (1/ 233-236).

([31]) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 349).

([32]) مجموع الفتاوى (10/ 220).

([33]) وللاستزادة ينظر الرابط:

https://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=163250

([34]) ينظر: تلبيس إبليس (ص: 327).

([35]) ينظر: آثار ابن باديس (1/ 18).

([36]) منهاج السنة النبوية (5/ 428).

([37]) مجموع الفتاوى (19/ 159 وما بعدها).

([38]) النبوات لابن تيمية (1/ 330).

([39]) العواصم والقواصم، لابن الوزير (4/ 347).

([40]) العواصم والقواصم، لابن الوزير (3/ 332).

([41]) مجموع الفتاوى (19/ 162 وما بعدها).

([42]) ينظر: ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب (2/ 156).

([43]) تفسير القرطبي (1/ 2).

([44]) ينظر: السنة لعبد الله بن أحمد (1/ 148).

([45]) إغاثة اللهفان (1/ 93).

([46]) مجموع الفتاوى (3/ 339).

([47]) مقدمة كتاب منهج علماء الحديث والسنة في أصول الدين.

([48]) مجموع الفتاوى (16/ 49 وما بعدها).

([49]) مجموع الفتاوى (16/ 49).

([50]) مجموع الفتاوى (13/ 145).

([51]) مجموع الفتاوى (16/ 49 وما بعدها).

([52]) سير أعلام النبلاء، ط. الرسالة (10/ 522).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

صيانة الشريعة لحق الحياة وحقوق القتلى، ودفع إشكال حول حديث قاتل المئة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: إنّ أهلَ الأهواء حين لا يجدون إشكالًا حقيقيًّا أو تناقضًا -كما قد يُتوهَّم- أقاموا سوق الأَشْكَلة، وافترضوا هم إشكالا هشًّا أو مُتخيَّلًا، ونحن نهتبل فرصة ورود هذا الإشكال لنقرر فيه ولنثبت ونبرز تلك الصفحة البيضاء لصون الدماء ورعاية حقّ الحياة وحقوق القتلى، سدًّا لأبواب الغواية والإضلال المشرَعَة، وإن […]

برهان الأخلاق ودلالته على وجود الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ قضيةَ الاستدلال على وجود الله تعالى، وأنه الربّ الذي لا ربّ سواه، وأنه المعبود الذي استحقَّ جميع أنواع العبادة قضية ضرورية في حياة البشر؛ ولذا فطر الله سبحانه وتعالى الخلق كلَّهم على معرفتها، وجعل معرفته سبحانه وتعالى أمرًا ضروريًّا فطريًّا شديدَ العمق في وجدان الإنسان وفي عقله. […]

التوظيف العلماني للقرائن.. المنهجية العلمية في مواجهة العبث الفكري الهدّام

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة     مقدمة: حاول أصحاب الفكر الحداثي ومراكزُهم توظيفَ بعض القضايا الأصولية في الترويج لقضاياهم العلمانية الهادفة لتقويض الشريعة، وترويج الفكر التاريخي في تفسير النصّ، ونسبية الحقيقة، وفتح النص على كلّ المعاني، وتحميل النص الشرعي شططَهم الفكري وزيفَهم المروَّج له، ومن ذلك محاولتُهم اجترار القواعد الأصولية التي يظنون فيها […]

بين عُذوبة الأعمال القلبية وعَذاب القسوة والمادية.. إطلالة على أهمية أعمال القلوب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: تعاظمت وطغت المادية اليوم على حياة المسلمين حتى إن قلب الإنسان لا يكاد يحس بطعم الحياة وطعم العبادة إلا وتأتيه القسوة من كل مكان، فكثيرا ما تصطفُّ الجوارح بين يدي الله للصلاة ولا يحضر القلب في ذلك الصف إلا قليلا. والقلب وإن كان بحاجة ماسة إلى تعاهُدٍ […]

الإسهامات العلمية لعلماء نجد في علم الحديث.. واقع يتجاوز الشائعات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا يخلو زمن من الأزمان من الاهتمام بالعلوم وطلبها وتعليمها، فتنشط الحركة التعليمية وتزدهر، وربما نشط علم معين على بقية العلوم نتيجة لاحتياج الناس إليه، أو خوفًا من اندثاره. وقد اهتم علماء منطقة نجد في حقبهم التاريخية المختلفة بعلوم الشريعة، يتعلمونها ويعلِّمونها ويرحلون لطلبها وينسخون كتبها، فكان أول […]

عرض وتعريف بكتاب: المسائل العقدية التي خالف فيها بعضُ الحنابلة اعتقاد السّلف.. أسبابُها، ومظاهرُها، والموقف منها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة تمهيد: من رحمة الله عز وجل بهذه الأمة أن جعلها أمةً معصومة؛ لا تجتمع على ضلالة، فهي معصومة بكلِّيّتها من الانحراف والوقوع في الزّلل والخطأ، أمّا أفراد العلماء فلم يضمن لهم العِصمة، وهذا من حكمته سبحانه ومن رحمته بالأُمّة وبالعالـِم كذلك، وزلّة العالـِم لا تنقص من قدره، فإنه ما […]

قياس الغائب على الشاهد.. هل هي قاعِدةٌ تَيْمِيَّة؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   القياس بمفهومه العام يُقصد به: إعطاء حُكم شيء لشيء آخر لاشتراكهما في عِلته([1])، وهو بهذا المعنى مفهوم أصولي فقهي جرى عليه العمل لدى كافة الأئمة المجتهدين -عدا أهل الظاهر- طريقا لاستنباط الأحكام الشرعية العملية من مصادرها المعتبرة([2])، وقد استعار الأشاعرة معنى هذا الأصل لإثبات الأحكام العقدية المتعلقة بالله […]

فَقْدُ زيدِ بنِ ثابتٍ لآيات من القرآن عند جمع المصحف (إشكال وبيان)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: القرآن الكريم وحي الله تعالى لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، المعجزة الخالدة، تتأمله العقول والأفهام، وتَتَعرَّفُه المدارك البشرية في كل الأزمان، وحجته قائمة، وتقف عندها القدرة البشرية، فتعجز عن الإتيان بمثلها، وتحمل من أنار الله بصيرته على الإذعان والتسليم والإيمان والاطمئنان. فهو دستور الخالق لإصلاح الخلق، وقانون […]

إرث الجهم والجهميّة .. قراءة في الإعلاء المعاصر للفكر الجهمي ومحاولات توظيفه

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إذا كان لكلِّ ساقطة لاقطة، ولكل سلعة كاسدة يومًا سوقٌ؛ فإن ريح (الجهم) ساقطة وجدت لها لاقطة، مستفيدة منها ومستمدّة، ورافعة لها ومُعليَة، وفي زماننا الحاضر نجد محاولاتِ بعثٍ لأفكارٍ منبوذة ضالّة تواترت جهود السلف على ذمّها وقدحها، والحط منها ومن معتنقها وناشرها([1]). وقد يتعجَّب البعض أَنَّى لهذا […]

شبهات العقلانيين حول حديث: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا يزال العقلانيون يحكِّمون كلامَ الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم إلى عقولهم القاصرة، فينكِرون بذلك السنةَ النبوية ويردُّونها، ومن جملة تشغيباتهم في ذلك شبهاتُهم المثارَة حول حديث: «الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم» الذي يعتبرونه مجردَ مجاز أو رمزية للإشارة إلى سُرعة وقوع الإنسان في الهوى […]

شُبهة في فهم حديث الثقلين.. وهل ترك أهل السنة العترة واتَّبعوا الأئمة الأربعة؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة حديث الثقلين يعتبر من أهمّ سرديات الخطاب الديني عند الشيعة بكافّة طوائفهم، وهو حديث معروف عند أهل العلم، تمسَّك بها طوائف الشيعة وفق عادة تلك الطوائف من الاجتزاء في فهم الإسلام، وعدم قراءة الإسلام قراءة صحيحة وفق منظورٍ شمولي. ولقد ورد الحديث بعدد من الألفاظ، أصحها ما رواه مسلم […]

المهدي بين الحقيقة والخرافة والرد على دعاوى المشككين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ»([1]). ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بالأمه أنه أخبر بأمور كثيرة واقعة بعده، وهي من الغيب الذي أطلعه الله عليه، وهو صلى الله عليه وسلم لا […]

قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان الإيمان منوطًا بالثريا، لتناوله رجال من فارس) شبهة وجواب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  يقول بعض المنتصرين لإيران: لا إشكالَ عند أحدٍ من أهل العلم أنّ العربَ وغيرَهم من المسلمين في عصرنا قد أعرَضوا وتولَّوا عن الإسلام، وبذلك يكون وقع فعلُ الشرط: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ}، ويبقى جوابه، وهو الوعد الإلهيُّ باستبدال الفرس بهم، كما لا إشكال عند المنصفين أن هذا الوعدَ الإلهيَّ بدأ يتحقَّق([1]). […]

دعوى العلمانيين أن علماء الإسلام يكفرون العباقرة والمفكرين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة عرفت الحضارة الإسلامية ازدهارًا كبيرًا في كافة الأصعدة العلمية والاجتماعية والثقافية والفكرية، ولقد كان للإسلام اللبنة الأولى لهذه الانطلاقة من خلال مبادئه التي تحثّ على العلم والمعرفة والتفكر في الكون، والعمل إلى آخر نفَسٍ للإنسان، حتى أوصى الإنسان أنَّه إذا قامت عليه الساعة وفي يده فسيلة فليغرسها. ولقد كان […]

حديث: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ» شبهة ونقاش

من أكثر الإشكالات التي يمكن أن تؤثِّرَ على الشباب وتفكيرهم: الشبهات المتعلِّقة بالغيب والقدر، فهما بابان مهمّان يحرص أعداء الدين على الدخول منهما إلى قلوب المسلمين وعقولهم لزرع الشبهات التي كثيرًا ما تصادف هوى في النفس، فيتبعها فئام من المسلمين. وفي هذا المقال عرضٌ ونقاشٌ لشبهة واردة على حديثٍ من أحاديث النبي صلى الله عليه […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017