ترجمة مختصرة للشيخ العالم مبارك الميلي..رحمه الله
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
اسمه ونسبه ونسبته ولقبه:([1])
هو الشيخ مبارك بن محمد بن رابح الهلالي الميلي الجزائريّ، ولقب أسرته: براهيمي.
ينحدر من أولاد مبارك بن حباس من الأثبج، العرب الهلاليِّين، وهم من القبائل العربية القليلة في نواحي جِيجَل.
مولده:
ولد بتاريخ 25 ماي سنة 1895م، وقيل: سنة 1898م، الموافق ليوم 4 من المحرم سنة 1316هـ، في قرية مَشتَة الرمامن التي تقع ببلدية غبالة، بدائرة السطارة، في الشَّرق الجزائري.
نشأته وتكوينه العلمي:
نشأ الشيخ مبارك الميلي يتيمًا، فقد توفِّي أبوه وعمره أربعُ سنين، وبُعيد وفاة والده توفِّيَت أمُّه تركيّة بنت أحمد بن فرحات حمروش وذلك سنة 1902م، فكفله جدُّه رابح الذي توفِّي سنة 1908م، ثمَّ كفله عمّاه عَلَّاوة وأحمد.
وبدأ الشيخ تعليمه بأولاد مبارك بالميلية تحت رعاية الشيخ أحمد بن الطاهر مزهود حتى أتمَّ حفظ القرآن. ثم انتقل إلى مدينة ميلة وكانت آنذاك حاضرة علميَّة كبيرة تستقطب طلاب حفظ القرآن بصدر رحب وكرم مشكور، فواصل تعليمه بها بجامع سيدي عَزُّوز على يد الشيخ المعلِّم محمد بن معنصر الميلي لمدة أربع سنوات، ولم يتجاوز عندها السن الثانية عَشرة. ثم في سنة 1918م توجّه إلى مدينة قسنطينة عاصمة الشرق الجزائري؛ إذ التحق بالجامع الأخضر ليتابع تعلُّمه على يد الإمام عبد الحميد بن باديس، وهناك وجد بغيته في دروس الأستاذ الحيّة، وتلقَّى منه الأفكار الإصلاحية بحماس وإيمان، فكان من أنجب تلاميذه ومن الجادّين المجتهدين الراغبين في التحصيل، فأعجب به أستاذه وأحبَّه كثيرًا وقرَّبه إليه. وبعد ذلك رحل إلى جامع الزيتونة بتونس، وأخذ عن جلّة رجال العلم والمعرفة به، منهم: الشيخ محمد النخلي القيرواني، والشيخ محمد الصادق النيفر، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور، والشيخ بَلَّحْسَن النجار، والأستاذ محمد بن القاضي وغيرهم، وظلَّ هناك حتى تحصَّل على شهادة العالمية سنة 1924م.
ثناء العلماء عليه:
1- قال فيه الشيخ أبو يعلى الزّواوي رحمه الله: “صديقنا العلَّامة المؤرّخ، ابن تيميةَ عصرَه، محارب الإشراك والبدع”.
2- وقال الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله: “أخي مبارك، من أحيا نفسًا واحدة فكأنّما أحيا النّاس جميعا، فكيف بمن أحيا أمّة كاملة؟! أحيا ماضيَها وحاضرها، وحياتهما عند أبنائها حياة مستقبلها، فليس والله كفاء عملك أن تشكرك الأفراد، ولكن كفاؤه أن تشكرك الأجيال، وإذا كان هذا في الجيل المعاصر قليلا، فسيكون في الأجيال الغابرة كثيرًا، وتلك سنّة الله في عظماء الأمم ونوابغها، ولن تجد لسنة الله تبديلا”.
3- وقال العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله تعالى: “حياةٌ كلّها جدّ وعمل، وحي كلّه فكر وعلم، وعمر كلّه درس وتحصيل، وشباب كلّه تلقٍّ واستفادة، وكهولة كلّها إنتاج وإفادة، ونفس كلّها ضميرٌ وواجبٌ، وروح كلها ذكاء وعقل، وعقل كلّه رأي وبصيرة، وبصيرة كلّها نور وإشراق، ومجموعة خلال سديدة وأعمال مفيدة قلَّ أن اجتمعت في رجل من رجال النهضات، فإذا اجتمعت هيأت لصاحبها مكانه من قيادة الجيل، ومهّدت له مقعده من زعامة النهضة، ذلكم مبارك الميلي الذي فقدته الجزائر من ثلاث سنين؛ ففقدت بفقده مؤرخها الحريص على تجلية تاريخها المغمور، وإنارة جوانبه المظلمة، ووصل عراه المنفصمة، وفقدته المحافل الإصلاحية؛ ففقدت منه عالِمًا بالسلفية الحقة عاملًا بها، صحيح الإدراك لفقه الكتاب والسنّة، واسع الاطلاع على النصوص والفهوم، دقيق الفهم لها والتمييز بينها والتطبيق لكلياتها، وفقدته دواوين الكتابة؛ ففقدت كاتبًا فحل الأسلوب، جزل العبارة، لبقًا بتوزيع الألفاظ على المعاني، طبقة ممتازة في دقة التصوير والإحاطة بالأطراف وضبط الموضوع والملك لعنانة، وفقدته مجالس النظر والرأي؛ ففقدت مدرهًا لا يبارى في سوق الحُجّة وحضور البديهة وسداد الرميّة والصلابة في الحق والوقوف عند حدوده، وفقدته جمعية العلماء؛ ففقدت ركنًا باذخًا من أركانها، لا كلًّا ولا وَكلًا، بل نهّاضًا بالعبء، مضطلعًا بما حُمّل من واجب، لا تؤتى الجمعية من الثغر الذي تكل إليه سدّه، ولا تخشى الخصم الذي تسند إليه مراسه، وفقدت بفقده عَلَمًا كانت تستضيء برأيه في المشكلات، فلا يرى الرأي في معضلة إلا جاء مثل فلق الصبح”. ثم قال: “يشهد كل من عرف مباركًا وذاكره أو ناظره أو سأله في شيء مما يتذاكر فيه الناس أو يتناظرون أو يسأل فيه جاهله عالمه أو جاذبه الحديث في أحوال الأمم ووقائع التاريخ وعوارض الاجتماع أنه يخاطب منه عالِمًا أيّ عالم، وأنه يناظر منه فحل عراك وجدل حكاك، وأنه يساجل منه بحرًا لا تخاض لجته وحبرًا لا تدحض حجته، وأنه يرجع منه إلى عقل متين ورأي رصين ودليل لا يضلّ ومنطق لا يختل، وقريحة خصبة وذهن صيود وطبع مشبوب وألمعيّة كشافة. هكذا عرفنا مباركًا، وبهذا شهدنا، وهكذا عرفه من يُوثق بمعرفتهم ويُرتاح إلى إنصافهم ويُطمأنّ إلى شهادتهم، لا نختلف في هذا”.
4- وقال الشّيخ العربي التبسي -رحمه الله- في تقديمه لكتاب الشّرك ومظاهره: “فنهض بهذا الفرض الكفائي الأستاذ المحقّق مؤرّخ الجزائر الشّيخ مبارك الميلي، أمين مال جمعيّة العلماء، وجمع رسالة تحت عنوان: رسالة الشّرك ومظاهره، خدم بها الإسلام ونصر بها السنّة، وقاوم بها العوائد الضالّة والخرافات المفسدة للعقول”.
5- وقال الأستاذ المؤرّخ أحمد توفيق المدني رحمه الله تعالى: “لقد كان من رجالنا المعدودين، وكان من بُناة قوميّتنا المذكورين، وكان من الذين خلّدوا أسماءهم بأعمالهم الجليلة وجهادهم الموفق في صفحات التاريخ الوطني الحافل الثري”. وقال: “كان -رحمه الله- أوّل من عرفت في القطر الجزائري من رجال العمل الصحيح والوطنية الحقة”. وقال: “وأُقسم أنني ما عملت مع أحد عملًا أحبّ إلي وأمتع لنفسي-إذا استثنيت سني الجهاد ضمن الحزب الدستوري التونسي- من عملي ذلك خلال تلك الفترة القصيرة إلى جانب مبارك الميلي. ولقد رأيت فيه يومئذ خلالًا جَعَلَتْه في نظري نموذج المؤرخ الصادق، وهذه شهادة أؤديها للمعاصرين وللأجيال: صبر على البحث، وعلوّ في التحقيق والتدقيق، ومهارة منقطعة النظير في المقابلة بين النصوص، ونظرة صائبة في استجلاء الغوامض، وحكم صادق في أسباب الحوادث ونتائجها، ومهارة في الترتيب والتبويب، وحسن سبك يجعل التاريخ كلّه كالسلسلة المفرغة”. وقال: “إن قرّر مسألة فبقوَّةٍ وإيمانٍ واقتناع، وإن جادل فبالتي هي أحسن، وإن خالفَك في الرأي فمِن غير عناد أو تعصُّب، وإن حاضر أو سامر فالدرُّ المنثور وأنهار من عسل مصفّى، كلّ ذلك في تواضعٍ محمود وخلق كريم وأريحيَّةٍ فاضلة وشهامة وشمم بلغا درجة الكمال”. وقال: “كنت أُكِنُّ لمبارك الميلي العلّامة الجليل احترامًا عظيمًا، وتقديرًا كبيرًا، وحبًّا جمًّا، إنّه الرّجل المثالي الحرّ الأبيّ، الّذي وضع حياته كلّها -منذ رجع من الزيتونة عالما جليلا- في خدمة دينه وشعبه، مدرّسًا ومحاضرًا، ومفكّرًا عميقًا، ومرشدًا نصوحًا. كان نحلة منتجة لا تراها إلا ساعية وراء رحيق زهرة، أو واضعة مع جماعتها عسلا شهيا”.
6- وقال الشيخ أحمد حماني رحمه الله تعالى: “العلّامة الجليل الشيخ مبارك بن محمد الميلي رحمه الله، أكبر تلاميذ الأستاذ ابن باديس ومدرسته علمًا وفضلًا وكفاءة، وأحد علماء الجزائر وبناة نهضتها العربية الإصلاحية الأفذاذ، وأوّل من ألّف للجزائر باللغة العربية والعاطفة الوطنية تاريخًا قوميًّا وطنيًّا نفيسًا”. وقال: “وكان قلمه شديدا في حرب الضّلالات والبدع والخرافات، ودجل بعض المنتسبين إلى التصوّف، وخصوصًا دعاة الحلول ووحدة الوجود، لبُعدِهم عن الحقّ في القول والاعتقاد والسّلوك”.
7- وقال تلميذه الشيخ أبو بكر الأغواطي رحمه الله تعالى: “عرفنا من الأستاذ مبارك الميلي -رحمه الله- صفات قلَّ بيننا اليوم من يتَّصف بها، وهي التي جعلت منه علمًا من أعلام نهضتنا، ورجلًا من خيرة رجالنا، تلك هي حبّ العمل والجدّ فيه، وتحمل الأعباء والمصابرة على تحقيق أهداف عليا، وكلها ترجع إلى متانة خلقه وصدق عزيمته وسداد تقديره ومحكم تدبيره”.
8- وهذا أمير البيان شكيب أرسلان -رحمه الله تعالى- بعدما اطّلع على كتاب الشيخ الميلي: تاريخ الجزائر، قال في رسالة وجّهها إلى الشّيخ الطيب العقبي: “وأمّا تاريخ الجزائر للشيخ مبارك الميلي فوالله ما كنت أظن في الجزائر من يفري هذا الفري، ولقد أعجبت به كثيرًا”.
دعوته وجهاده:
الشيخ مبارك الميلي من أشهر رجال الإصلاح بالقطر الجزائري، فقد نشط في أثناء الاحتلال الفرنسي للجزائر، وكان عضوًا بارزًا في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وتتميَّز أفكاره ومبادئه بالدعوة إلى إقامة التوحيد ومحاربة الشعوذة والخرافة ومظاهر الشرك والبدع.
فبعد تحصيله على شهادة التطويع بجامع الزيتونة رجع إلى وطنه ليتولّى مهمّة التربية والتعليم والدعوة إلى الله تعالى، فشرع بعد تخرجه مباشرة يعلِّم بمكتب سيدي بومعزة وسيدي فتح الله بقسنطينة، وتصدَّى لإحياء روح الهوية الإسلاميَّة في البنين والبنات، وأنار عقولهم بما آتاه الله من العلم والحكمة.
وكان مع الشيخ مسوَّدة قانون أساسيّ ليحثَّ الطلاب وأهل العلم على إنشاء مطبعة كبرى تطبع المخطوطات، وتنشر الجرائد والمجلات؛ لتحيا أمّته حياة عمليّة لا نظريّة، ووجد أستاذه عبد الحميد قد بعث بقلمه صيحة مدوِّية في أرجاء الوطن، داعية إلى الخلاص من ربقة الشرك والتحرر من أغلال العبودية للبدع، فأصدر جريدة “المنتقد” ثم أخرج بعدها “الشهاب” الأسبوعي، وظلَّ كذلك يكافح وحده إلى أن رفع الشيخ مبارك الميلي قلمه وانضوى تحت لواء أستاذه يؤازره ويناصره، فكان -رحمه الله- يشارك في تحريرهما، ويسهم في تحبير المقالات النافعة لهما بإمضائه الصريح مرة، وبإمضاء “بيضاوي” مرّة أخرى.
وفي سنة 1927م انتقل إلى الأغواط بدعوة من أهلها، فوجد منهم الإقبال العظيم، والتفَّت حوله ثلة من الشباب نفخ فيهم روح العلم الصّحيح والتّفكير الحر، وقضى في هذه البلدة سبع سنوات أسس فيها “مدرسة الشبيبه”، وهي من أولى المدارس العصرية النادرة في ذلك الوقت، هدفها تعليم أبناء الجزائر بمناهج عصرية متحررة من سطوة الطرقية المتخلفة التي دخلت عليها الشعوذة والخرافات السائدة في ذلك الوقت، فأعجب سكان المدينة بمناهجه التجديدية الإصلاحية في التعليم، وبدأ تأثيره يتنامى بين السكان، حيث لاقى ترحيبًا وتلهّفًا في الأخذ بأفكاره التي تدعو إلى إصلاح المجتمع والتحرُّر من قيود الشعوذة والخرافات السائدة بين أوساط أهل العلم في ذلك العصر وترك الطرق الصوفية التي اعتبرها عبئًا ثقيلًا وعائقًا في طريق النهوض والتقدم. وقد تخرج من هذه المدرسة ثلة من الطلبة كان لهم فيما بعد دور بارز في الحركة الإصلاحية ومن أشهرهم: الشيخ أبو بكر الحاج عيسى الأغواطي، والشيخ أحمد بن أبي زيد قصيبة، والشيخ أحمد شطة بن التهامي.
كما قام الشيخ أيضًا بتأسيس أوّل نادٍ رياضيٍّ بالمدينة، بالإضافة إلى “الجمعية الخيرية لإسعاف الفقراء والمساكين والأيتام”، فكان لها أثر إيجابيّ في ميدان البرّ والإحسان.
وكان له دروس ليليّة في الوعظ والإرشاد يلقيها بالمسجد على عامة الناس؛ مما كان له الأثر البالغ في النفوس، وكذلك كان يخرج إلى مدينة الجلفة شمالًا ومدينة بوسعادة شرقًا ومدينة آفلو غربًا لإلقاء مثل تلك الدروس من حين إلى آخر على أهلها، فيدعوهم للإصلاح والتمسك بالكتاب والسنة ونفض غبار الجهل والكسل ومحاربة البدعة في الدين.
لقد أنشأ الشيخ -رحمه الله- في الأغواط حركة علمية قوية، وَسَيَّر منها البعثات الدراسية نحو جامع الزيتونة على غرار ما كان يفعل أستاذه ابن باديس؛ الأمر الذي أزعج سلطات الاحتلال الفرنسي وبعض شيوخ الطرق الصوفية، فأمرته الإدارة الفرنسية بمغادرة المدينة بعد سبع سنوات من إقامته بها، فتوجه بعدها إلى مدينة بوسعادة، لكنه لم يكد يبدأ نشاطه التوعوي حتى لاقى نفس المصير بالطرد من المدينة، فعاد بعدها إلى موطن الصِّبا مدينة ميلة، فأنشأ فيها جامعًا عظيمًا كان خطيبه والواعظ والمرشد فيه، ومدرسة “الحياة” التي أشرف على سير التعليم فيها، و”نادي الإصلاح” الذي يحاضر فيه.
وفي سنة 1931م أسِّست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فانتخب الشيخ مبارك عضوًا في مجلس إدارتها وأمينًا لماليتها. وفي أكتوبر سنة 1937م أُسندت إليه -رحمه الله تعالى- رئاسة تحرير جريدة “البصائر” الأسبوعية بعد أن تخلى عنها الشيخ الطيب العقبي رحمه الله، فاضطلع بالمهمّة وقام بواجبه أحسن قيام رغم مرض السكري الذي أنهك قواه، إلى أن قررت جمعية العلماء السكوت في سنة 1939م، فتوقَّفت جريدة “البصائر” عن الصدور.
وعندما توفّي الشيخ عبد الحميد بن باديس في أبريل سنة 1940م خلفه الشيخ مبارك الميلي في إدارة شؤون الجامع الأخضر بقسنطينة والإشراف على الدروس. وكان الشيخ يقوم بعدة رحلات عبر القطر الجزائري لتفقد شُعَب جمعية العلماء الجزائريين، وسافر أيضا إلى فرنسا في سنة 1938م في مهمَّة علميَّة واستشفائية، والتقى خلالها برجال الإصلاح ومندوبي جمعية العلماء في فرنسا، وعلى رأسهم الشيخ سعيد صالحي والشيخ سعيد البيباني والشيخ محمد الزاهي.
آثاره العلمية:
على الرغم من عمر الشيخ الميلي القصير (47 عامًا) وملازمة المرض له واشتغاله بالإصلاح والدعوة إلى الله تعالى وبناء الرجال، إلا أنه خلف سِفْرين نافعين:
الأوّل: تاريخ الجزائر في القديم والحديث، في جزأين، ولم يتمَّه بل توقف عند ابتداء الدور العثماني، وهو كتاب حافل، أثنى عليه غير واحد، منهم شيخه العلامة ابن باديس رحمه الله الذي بعث إليه برسالة جاء فيها: “وقفت على الجزء الأول من كتابك: تاريخ الجزائر في القديم والحديث، فقلت: لو سميته: حياة الجزائر لكان بذلك خليقًا، فهو أوّل كتاب صوّر الجزائر في لغة الضاد صورة تامة سويّة، بعدما كانت تلك الصورة أشلاء متفرقة هنا وهناك. وقد نفختَ في تلك الصورة من روح إيمانك الديني والوطني ما سيبقيها حيّة على وجه الدهر، تحفظ اسمك تاجًا لها في سماء العُلا، وتخطّه بيمينها في كتاب الخالدين”.
الثاني: رسالة الشرك ومظاهره، وهو كتابٌ في غاية النفاسة في بابه، فريدٌ في موضوعه، لم ينسج على منواله، وقد أقرّ المجلس الإداري لجمعية العلماء ما اشتمل عليه، ودعا المسلمين إلى دراسته والعمل بما فيه، وحرّر هذا التقرير كاتبها العام الشيخ العربي التبسي -رحمه الله تعالى- بقلمه، فعدها “في أوليات الرسائل أو الكتب المؤلفة في نصر السنن وإماتة البدع، تقرّ بها عين السنة والسنيِّين، وينشرح لها صدور المؤمنين، وتكون نكبة على أولئك الغاشين للإسلام والمسلمين من جهلة المسلمين، ومن أحمرة المستعمرين الذين يجدون من هذه البدع أكبر عون لهم على استعباد الأمم، فيتخذون هذه البدع التي ينسبها البدعيّون إلى الدين الإسلامي مخدّرًا يخدّرون بها عقول الجماهير، وإذا تخدّرت العقول وأصبحت تروج عليها الأوهام وجدت الأجواء التي يرجوها غلاة المستعمرين للأمم المصابة برؤساء دينيّين أو دنيويين يغشّون أممهم ويتاجرون فيها”.
كما ترك الشيخ -رحمه الله تعالى- مجموعة من المقالات القيّمة والبحوث النافعة والتعليقات البديعة في جرائد جمعية العلماء ومجلاتها، كـ: “المنتقد” و”الشهاب”، و”البصائر” وغيرها مما لو جمع لكان مُصَنَّفًا جليلًا.
وبالإضافة إلى كل ذلك كان له رسائل خاصة بينه وبين الشباب، وقد أربت على مائتي رسالة، منها الأخوية الودية، ومنها العلمية ذات الوزن في التحقيق والتدقيق، ومنها الأدبية الرائعة، والتاريخية التي تشير إلى وثائق خاصة في عهد من العهود، أو تثير تساؤلات حول شخصية فذة أو عبقرية.
وفاته:
بعد خروج الشيخ مبارك -رحمه الله- من مدينة الأغواط حوالي سنة 1933م ابتلي بداء عضال ومرض مزمن مضني، أنهك قواه ونغّص عليه حياته، ألا وهو داء السكري، وقد حاول الشيخ علاجه غير مرّة في الجزائر وخارجها، فسافر من أجله إلى فيشي بفرنسا، لكن سرعان ما عاوده المرض واشتدَّ به، خصوصًا عند سماعه بخبر وفاة شيخه وأعزّ صحبه ورفيق نِضاله ودربه الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس في 16 إبريل 1940م، قال -رحمه الله- عن ذلك: “عندما سمعت لدَى وصولي إلى قسنطينة بموته شعرتُ أن الدورة الدموية أصبحت تسير في عكس الاتجاه المعهود، وعرفت في الحين أن داء السكر قد عاودني، وأنه لن يفارقني حتى يقضي عليّ”، إلى أن وافته المنية في يوم 24 صفر سنة 1364هـ، الموافق لـ: 9 فبراير سنة 1945م.
وشيّعت جنازته من الغد في موكب مهيب، بحضور آلاف عديدة من محبّيه وأصدقائه وزملائه، ورَدوا من سائر الجهات، وفي مقدمتهم العلّامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله تعالى، ودفن في مقبرة الميلة رحمه الله تعالى، ورثاه جمع من أهل العلم والفضل.
من كلماته الإصلاحية:
1- قال -رحمه الله- مبيِّنًا خطورة الشرك: “إنَّ حقّ الله على عباده أن يعبدوه لا يشركوا به شيئًا، وإن نسبة الشرك من التوحيد نسبة الليل من النهار والعمى من الإِبصار، يعرض للأمم الموحِّدة كما يعرض الظّلام للضياء، ويطرأ عليها كما تطرأ الأسقام على الأجسام، غير أنَّ الظلام باعث لنوم الأبصار لإِفادة الراحة للأشباح، أما الشرك فعلّة لنوم البصائر، الموجب لشقاء الأرواح. وإذا كان حفظ الصحة بالغذاء والدواء، فإن حفظ التوحيد بالعلم والدعوة، ولا يحفظ التوحيد علمٌ كعلم الكتاب والسنة، ولا تُجلِّي الشرك دعوة كالدعوة بأسلوبهما”([2]).
2- وقال مبيِّنًا أثر إهمال الدعوة بالكتاب والسنة: “قد مرَّت أعصر أَهمل جلّ العلماء فيها شأن الدعوة، أو حادوا فيها عن أسلوب القرآن والحديث؛ فجهل جمهور المسلمين عقائد الإِسلام، أو خفي عليهم ما ينافيها، وطال عليهم الأمد، فطرأ عليهم ما طرأ على الأمم قبلهم من عقائد زائفة وبدع سائدة، حتى ظنوا الإِسلام جنسية تتمشَّى مع الأنساب، لا أنه عقائد وآداب تنال بالتلقين والاكتساب؛ فإن منَّ الله عليهم بمن يتلو عليهم الكتاب ويعظهم بآياته كانوا أشبه حالًا بالذين وصفهم الله بقوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [الحج: 172]، بل كم سطوا وبفسادهم اغتبطُوا!”([3]).
3- وقال مبيِّنًا محاسن بيان الشرك وتعريته: “إذا كان الاحتياج إلى معرفة الشرك شديدًا كان تعريف الناس به أمرًا لازمًا أكيدًا، وإذا كان الباعث على هذا التعريف إقامة العقيدة فهو من النصيحة المفيدة الحميدة، وليس الإِرشاد إلى الخير النافع بأولى من التنبيه على الباطل الضار، بل كلاهما غرض حسن وسَنن، لا يعدل عنه الساعون في خير سُنن، وهذا ما حمل المصلحين المجددين على الاهتمام بدعوة المسلمين إلى إقامة التوحيد وتخليصه من خيالات المشركين”([4]).
4- وقال مبيِّنًا آثار الشرك الضارة على المجتمع: “إن كنت باحثًا في علل انحطاط الأمم فلن تجد كالشرك أدل على ظلمة القلوب وسفه الأحلام وفساد الأخلاق، ولن تجد كهذه النقائص أضرّ بالاتحاد وأدرّ للفوضى وأذلّ للشعوب، وإن كنت باحثًا عن أسباب الرقي فلن تجد كالتوحيد أطهر للقلوب وأرشد للعقول وأقوم للأخلاق، ولن تجد كهذه الأسس أحفظ للحياة وأضمن للسيادة وأقوى على حمل منار المدنية الطاهرة، وإن نظرة في حياة العرب قبل البعثة لتؤيد ما أضفناه إلى الشرك من علل ونتائج، وإن وقفة على حياتهم بعد البعثة لتبعث على التصديق بما أنطناه بالتوحيد من أسباب وثمرات، وإن تلك النظرة وهاته الوقفة لمفتاحان لسر حياة المسلمين بعد عصر النبوة، وكل من قارن بين حياتنا اليوم وحياة جيراننا من غير ملتنا استيقن أن وسائل الشرك قد وجدت في المسلمين منذ أمد، وأن نتائجه قد ظهرت عليهم، فلا تخفى على أحد”([5]).
5- وقال مبيِّنًا براءة رجال الإصلاح من التكفير: “ما نحن إلا وُعّاظ مرشدون، ولم ندَّع أننا حكَّام منفِّذون، ومعاملتنا للناس ترفع كل التباس؛ فتجدنا نصلي خلف من يتقدم للإِمامة، ونسلم على من لقينا، وندفن في المقابر العامة، من غير منع لأي مسلم منها، ونشتري اللحم مِمَّنْ يشهد الشهادتين، كل ذلك من غير بحث عن كونه من المسترشدين بإرشادنا أم من الخصوم الطاعنين علينا، ما لم تتبين لنا مشاقته لما جاء به الرسول الكريم صَلى الله عَلَيه وسلَّم. فهذه شواهد واقعية على أننا لا نحكم على معين بالشرك، وغرضنا من الخوض في حديث الشرك تحذير المسلمين منه لا الحكم عليهم به تعيينًا”([6]).
6- وقال متحدِّثا عن انتشار مظاهر الشرك في الأمة: “لقد فشا في المسلمين دعاءُ غير الله على شدَّة إنكار كتابهم له وتحذير نبيِّهم منه، حتى صار الجهلة ومن قرُب منهم يؤثِرونه على دعاء الله وحده”([7]).
7- وقال واصفًا الدجالين الذين يمارسون أعمال السحر: “تجد بعض المنتسبين إلى بيوت الصلاح أو دور الطرق الصوفية -وما أكثرهم!- يدجّلون على بُله العوام بمخاريق سحرية، يوهمونهم بها أنهم ذوو كرامات وأولو تصرف في الروحانيات، وترى بعض من تعلموا القراءة والكتابة يكبّون على شمس المعارف للبوني، يأخذون منها أقوالًا وأعمالًا مبنية على علم الحروف المنظور فيه إلى طبائع الكواكب المزعوم أنها الحاكمة في هذا العالم، فيعتقدون اعتقاد الكلدان، ويلبسون لباس أهل القرآن، كل ذلك لينعتوا بالحكمة، ويشار إليهم بتطويع ملوك الجان”([8]).
8- وقال مشيدًا بجهود علماء الإسلام ومبيِّنًا أنَّ دعوة الكتاب والسنة لا تنافي الاستفادة من العلماء: “نحن لا ندَّعي الاجتهاد، ولا نتنقَّص أئمَّة الدين المهتدين، بل نحترمهم، ونعترف لهم بالفضيلة؛ لكونهم سبقونا بالإِيمان، ومهَّدوا لنا طريق الاتباع بسنِّهم لنا صناعة التأليف وأصول التعليم، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10]… ومن اعتقد في إحياء الكتاب والسنة والأنس بهما موتًا لتصانيف المتقدمين وهجرانًا لها فقد اعتقد أنها منافية لهما، وأن بينها وبينهما ما بين الضرتين (رضا هذي يحرك سخط هذي)، ثم آثرها وهي الفرع عليهما وهما الأصل، وتلك غباوة مغبتها شقاوة. ونحن لا نرى منافاة بين تفهم الكتاب والسنة ودراسة مؤلفات العلماء، وليست الدعوة إليهما تزهيدًا في تراثنا من أسلافنا، بل هي حثٌّ على الانتفاع بذلك التراث القيّم؛ لأن الناظر فيهما يحتاج إلى النظر فيما كتب عليهما وما استنبط منهما وما هو وسيلة إليهما، وقد يتعرف بذلك إلى علوم كونية مجملة فيهما، هذا إلى تحصيل ملكة البيان من أسلوبهما، وإحياء طريقتهما في الهداية، فتكون الدعوة إليهما دعوة إلى الأصل والفرع معًا، أما الدعوة إلى كتب الفقه مثلًا خاصةً -كما يريد المعارضون- فهي دعوة إلى الفرع وإهمال للأصل، والنهم الذي لا يشبع من طلب العلم لا يتسع لنهمه غير الكتاب والسنة، والقهم غير الشهوان لا يجمل به أن يقيد قدرة غيره بعجزه، ولا يزينه أن يتخذ من ضعفه مقياسًا لقوة القوي، والمكابر يتمثل له بقول الشاعر:
قَدْ تُنْكِرُ الْعَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ وَيُنْكِرُ الْفَمُ طَعْمَ الْمَاءِ مِنْ سَقَمِ
وكيف يكون النظر في الكتاب والسنة اجتهادًا وجل المفسرين والمحدثين مشهورون بالانتماء إلى مذاهب الأئمة الأقدمين؟! وإذا سلموا من النبز بهذه الدعوة فكيف يرمى بها من قصاراه فهم كلامهم وتفهيمه للناس؟!”([9]).
9- وقال مبيِّنًا هديَ الصحابة الكرام في حماية جناب التوحيد: “وقد علمتَ الحكم في البناء على القبور وحكمتَه، وأجمع الصحابة على العمل به، فلم يَبنوا على الأمكنة التي جلس فيها الرسول في أسفاره إلى الحج والعمرة والغزو، وهم عالمون بها، وشديدو الحبِّ له، ولم ينوطوا بشجرة الرضوان ولا غيرها خيوطًا وخرقًا، ولا وضعوا تحتها مباخر ومصابيح، ولا قبَّلوا غير الحجر الأسود أو تمسحوا بشيء من غير أركان البيت، بل نهى أمير المؤمنين ومحدَّث هذه الأمة عمر بن الخطاب عن تعمد العدول إلى مواضع سجوده صَلى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في طريق المدينة إلى مكة، وقطع شجرة الرضوان، وبيَّن وجه تقبيله للحجر الأسود… أين أنتم من هذا يا من اتخذتم من القبور والمزارات أوثانًا مودة بينكم في الحياة الدنيا، وشيدتم عليها القصور، ورفعتم القباب، وأشركتموها برب الأرباب وجاوزتم ذلك تكثيرًا لمظاهر الشرك؛ فبنيتم على [غير] القبور، واتخذتم من شجر البطم والسدر وغيرهما ذات أنواط تعلقون به الخرق والخيوط، وتسرجون له الأضواء، وتعطرونه بالمباخير والرياحين، وجاوزتم ذلك إغراقًا في الشرك إلى الصخور الضخمة والأودية الموحشة، واستبدلتم بالتبرك المسنون تبرككم المبتدع المأفون؟! ها قد أوضحنا لكم ما في الزيارة من رشد وغي؛ فكونوا من عباد الله الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ولا تكونوا ممن حقت عليهم كلمة الله: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف: 146]”([10]).
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر لترجمته: تاريخ الجزائر في القديم والحديث للشيخ مبارك بن محمد الميلي، قدم له نجله محمد الميلي، آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي (3/ 39-43)، جريدة البصائر، العدد (26) من السلسلة الثانية -عدد خاص بذكرى وفاة الشيخ مبارك الميلي-، جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وأثرها الإصلاحي في الجزائر للدكتور أحمد الخطيب، صراع بين السنة والبدعة للشيخ أحمد حماني، معجم أعلام الجزائر من صدر الإسلام حتى العصر الحديث لعادل نويهض، أعلام الإصلاح في الجزائر، نهضة الجزائر الحديثة وثورتها المباركة، كلاهما لمحمد علي دبوز، موقع: نبراس الحق، للشيخ عبد الحليم توميات.
([3]) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.