الجمعة - 25 ربيع الآخر 1447 هـ - 17 أكتوبر 2025 م

ملخص في معنى (الظاهر) في نصوص الصفات

A A

تنازع الناسُ في الألفاظ ودلالتها على المراد، ونظرًا لأن القرآن نزل بلسان عربيٍّ مبين لزمَ حملُه على المعهود من هذا اللسان، فأحيانا يرد اللفظ في لغة العرب ويراد به ظاهره، وأحيانا يرد ويراد به غير ذلك، ويعرف ذلك بالسياق، أو من القرائن، ومما يدل عليه التركيب. وقد كان من أعظم الأبواب التي دخل منها الباطل على كثير من المخالفين للمنهج القويم اعتمادُ علوم أجنبيةٍ على الشرع، أعلت من شأن اللفظ المفرد على حساب التركيب، ودقَّقت في المعاني التي لم يقصد الشارع التدقيق فيها، والتدقيق فيها خروج عن معهود اللسان وأسلوب القرآن.

وكان من بين هذه المسائل التي طالتها يد التأويل وأُعملت فيها الفنون المختلفة المجانفة للشرع مسألة الأسماء والصفات، فقد ادعى الناس فيها دعوى كثيرة، في المراد من ذلك الظاهر، فساروا الناس في ذلك على طريقتين:

الطريق الأولى: طريق السلف وهو: اعتماد الظاهر فيها، واعتبار أن معناها الظاهر مقصود للشارع، وهو المعنى اللائق بالله سبحانه، ولا يوهم تشبيهًا، بل هو متحدِّد بإضافته إلى الله عز وجل، وبه يزول الاشتراك المدَّعى.

الطريق الثاني: طريق جمهور المتكلِّمين وهو: اعتقاد أن ظاهر تلك النصوص غير مراد لله سبحانه وتعالى، ومن ثمَّ وجب تأويلها أو تفويضها مع اعتقاد نفي الظاهر.

ولم يختلف جميع هؤلاء على معنى الظاهر، لكنهم اختلفوا فيما يفهم منه هل هو لائق بالله أم لا، والحقّ الذي عليه السلف ونطق به العلماء هو اعتقاد ظواهر النصوص، واعتماد ما دلت عليه، مع نفي التشبيه.

والظاهر هو: المعنى المتبادر إلى الذهن من الكلمة عند تجرّدها عن القرائن اللفظية أو الحالية، ولا يجوز العدول عنه إلى غيره، فالحقيقة ظاهر في مقابل المجاز، ولا يجوز دعوى المجاز في كلام الله تعالى إلا بدليل أو قرينة ظاهرة تصرف الكلام عن ظاهره، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: “آمنت بما جاء عن الله، وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، على مراد رسول الله”([1])، ويقول أبو الحسن الأشعري: “فإن قال قائل: ما أنكرتم أن يكون قوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71] وقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] على المجاز؟ قيل له: حكم كلام الله تعالى أن يكون على ظاهره وحقيقته، ولا يخرج الشيء عن ظاهره إلى المجاز إلا بحجة. ألا ترون أنه إذا كان ظاهر الكلام العموم، فإذا ورد بلفظ العموم والمراد به الخصوص فليس هو على حقيقة الظاهر، وليس يجوز أن يعدل بما ظاهره العموم عن العموم بغير حجة، كذلك قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} على ظاهره أو حقيقته من إثبات اليدَين، ولا يجوز أن يعدل به عن ظاهر اليدين إلى ما ادَّعاه خصومنا إلا بحجة. ولو جاز ذلك لجاز لمدَّع أن يدَّعي أن ما ظاهره العموم فهو على الخصوص وما ظاهره الخصوص فهو على العموم بغير حجة، وإذا لم يجز هذا لمدَّعيه بغير برهان لم يجز لكم ما ادَّعيتموه أنه مجاز أن يكون مجازًا بغير حجة، بل واجب أن يكون قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} إثبات يدين لله تعالى في الحقيقة غير نعمتين؛ إذا كانت النعمتان لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول قائلهم: فعلت بيديّ، وهو يعني النعمتين”([2]).

ونفس المعنى أكَّده الغزالي -رحمه الله-، وأكَّد على أن التمسك بالظاهر هو السبيل الأسلم حيث يقول: “الحق فيه الاتباع، والكفّ عن تغيير الظواهر رأسًا، والحذر من إبداء تصريح بتأويل لم يصرّح به الصحابة رضوان الله عنهم، وحسم باب السؤال رأسًا، والزجر عن الخوض في الكلام والبحث واتّباع ما تشابه من الكتاب والسنة”([3]).

ومحلّ الاستشهاد بكلام الغزالي هو دعوته للوقوف مع الظاهر، ونفي التأويل، ولا يرد على هذا تفويضه، فالتفويض إذا كان موقفًا للشَّخص لا إشكال فيه، وإنما الإشكال أن يكون منهجًا وموقفًا تُلزم به الأمّة؛ وإلا فإن العالم قد يعتبر بعضَ آيات الأحكام أو الصّفات متشابهةً في حقِّه؛ لشبهة عرضت عليه، فيتوقُّف فيما لم يظهر له حتى يتبيَّن، لكن الذي يعاب هو المجازفة ومطالبة الأمة بالتوقف وإلزامها بالجهل بصفات الباري جل وعلا.

وقد صور شيخ الإسلام ابن تيمة -رحمه الله- موقف السلف من الظاهر بعبارة مختصرةٍ حيث قال: “فمذهب السلف -رضوان الله عليهم- إثبات الصفات، وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية عنها”([4]).

فالظاهر في الصفات هو المعنى المتبادر إلى الذهن الذي يفهمه صاحب اللسان من وضع الكلمة أو من تركيبها، ولا يجوز العدول عنه إلا بدليل، وهذا الدليل إما أن يكون شرعيًّا، فلا بدَّ من دليل يبيِّن المعنى المراد بدل الظاهر، والدليل هو قرينة السياق أو التقييد أو التخصيص وغيرها من الأمور التي يقيَّد بها، وإما أن يكون عقليًّا فلا بد أن يكون بدهيًّا معلوما للمخاطب وقت الخطاب لا مولَّدًا حادثًا بعده، وما سوى ذلك فهو تكلُّف وخروج بالقرآن عن معهوده في الخطاب، فإن الظواهر في باب الأخبار إذا لم تكن مقصودة للشارع فإنه يلزم من ذلك أن الشارع لم يكن قاصدًا للبيان في أعظم أبواب الدين، ولم يأت بما يوجب العلم في ذلك، ويزيل الشبهة ويقطع لسان المعاند، وهذا إزراء بالشرع والعقل، وردٌّ لهما معا، فإن العقل يشهد بأن النص جاء للهدَى والبيان، وأنه شفَى الصدور فيما حارت فيه من أمر الغيب بالأخبار أو بتبيين أن التسليم هو الطريق الصحيح لتناول قضية معينة، فأخبار الله عز وجل حق وصدق، ومحال عليه سبحانه أن يبين الأحكام الشرعية أكمل بيان ثم يتكلَّم في أعظم أبواب الدين بالألغاز أو بما ليس على ظاهره.

ـــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) ينظر: العرش للذهبي (1/ 11).

([2]) الإبانة عن أصول الديانة (ص: 140).

([3]) فيصل التفرقة (ص: 27).

([4]) الفتاوى (4/ 6).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

قواعد علمية للتعامل مع قضية الإمام أبي حنيفة رحمه الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من القضايا التي عملت على إثراء التراث الفقهي الإسلامي: قضية الخلاف بين مدرسة أهل الرأي وأهل الحديث، وهذا وإن كان يُرى من جانبه الإيجابي، إلا أنه تمخَّض عن جوانب سلبية أيضًا، فاحتدام الصراع بين الفريقين مع ما كان يرجّحه أبو حنيفة من مذهب الإرجاء نتج عنه روايات كثيرة […]

كيف نُؤمِن بعذاب القبر مع عدم إدراكنا له بحواسِّنا؟

مقدمة: إن الإيمان بعذاب القبر من أصول أهل السنة والجماعة، وقد خالفهم في ذلك من خالفهم من الخوارج والقدرية، ومن ينكر الشرائع والمعاد من الفلاسفة والملاحدة. وجاءت في الدلالة على ذلك آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: {ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُواْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ} [غافر: 46]. وقد تواترت الأحاديث […]

موقف الحنابلةِ من الفكر الأشعريِّ من خلال “طبقات الحنابلة” و”ذيله”

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: تحتوي كتبُ التراجم العامّة والخاصّة على مضمَرَاتٍ ودفائنَ من العلم، فهي مظنَّةٌ لمسائلَ من فنون من المعرفة مختلفة، تتجاوز ما يتعلَّق بالمترجم له، خاصَّة ما تعلَّق بطبقات فقهاء مذهب ما، والتي تعدُّ جزءًا من مصادر تاريخ المذهب، يُذكر فيها ظهوره وتطوُّره، وأعلامه ومؤلفاته، وأفكاره ومواقفه، ومن المواقف التي […]

مسألة التحسين والتقبيح العقليين بين أهل السنة والمتكلمين -الجزء الثالث- (أخطاء المخالفين في محل الإجماع)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الفصل الثالث: أخطاء المخالفين في محل الإجماع: ذكر الرازي ومن تبعه أن إطلاق الحسن والقبح بمعنى الملاءمة والمنافرة وبمعنى الكمال والنقصان محلّ إجماع بينهم وبين المعتزلة، كما تقدّم كلامه. فأما الإطلاق الأول وهو كون الشيء ملائمًا للطبع أو منافرًا: فقد مثَّلُوا لذلك بإنقاذِ الغَرقى واتهامِ الأبرياء، وبحسن الشيء الحلو […]

مسألة التحسين والتقبيح العقليين بين أهل السنة والمتكلمين -الجزء الثاني- (أخطاء المخالفين في محل النزاع)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الفصل الثاني: أخطاء المخالفين في محل النزاع: ابتكر الفخر الرازيُّ تحريرًا لمحل الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة في المسألة فقال في (المحصل): “مسألة: الحُسنُ والقبح‌ قد يُراد بهما ملاءمةُ الطبع ومنافرَتُه، وكون‌ُ الشي‌ء صفةَ كمال أو نقصان، وهما بهذين المعنيين عقليان. وقد يُراد بهما كونُ الفعل موجبًا للثوابِ والعقابِ والمدحِ […]

ترجمة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ (1362  – 1447هـ)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة اسمه ونسبه([1]): هو سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. مولده ونشأته: وُلِد سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ رحمه الله بمدينة مكة المكرمة في الثالث من شهر ذي الحجة عام 1362هـ. وقد […]

مسألة التحسين والتقبيح العقليين بين أهل السنة والمتكلمين -الجزء الأول- (تحرير القول في مسألة)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ مسألةَ التحسين والتقبيح العقليين من المسائل الجليلة التي اختلفت فيها الأنظار، وتنازعت فيها الفرق على ممرّ الأعصار، وكان لكل طائفةٍ من الصواب والزلل بقدر ما كُتب لها. ولهذه المسألة تعلّق كبير بمسائلَ وأصولٍ عقدية، فهي فرع عن مسألة التعليل والحكمة، ومسألة التعليل والحكمة فرع عن إثبات الصفات […]

جُهود الشيخ صالح بن أحمد الْمُصَوَّعي في نشر الدعوة السلفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الشيخ صالح بن أحمد الْمُصَوَّعي من العلماء البارزين في القرن الرابع عشر الهجري، وقد برزت جهوده في خدمة الإسلام والمسلمين. وقد تأثر رحمه الله بالمنهج السلفي، وبذل جهودًا كبيرة في نشر هذا المنهج وتوعية الناس بأهميته، كما عمل على نبذ البدع وتصحيح المفاهيم الخاطئة التي قد تنشأ في […]

وصفُ القرآنِ بالقدم عند الحنابلة.. قراءة تحليلية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يُعدّ مصطلح (القِدَم) من أكثر الألفاظ التي أثارت جدلًا بين المتكلمين والفلاسفة من جهة، وبين طوائف من أهل الحديث والحنابلة من جهة أخرى، لا سيما عند الحديث عن كلام الله تعالى، وكون القرآن غير مخلوق. وقد أطلق بعض متأخري الحنابلة -في سياق الرد على المعتزلة والجهمية- وصف (القديم) […]

التطبيقات الخاطئة لنصوص الشريعة وأثرها على قضايا الاعتقاد

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من الأمور المقرَّرة عند أهل العلم أنه ليس كل ما يُعلم يقال، والعامة إنما يُدعون للأمور الواضحة من الكتاب والسنة، بخلاف دقائق المسائل، سواء أكانت من المسائل الخبرية، أم من المسائل العملية، وما يسع الناس جهله ولا يكلفون بعلمه أمر نسبيٌّ يختلف باختلاف الناس، وهو في دائرة العامة […]

الصحابة في كتاب (الروض الأنف) لأبي القاسم السهيلي الأندلسي (581هـ) -وصف وتحليل-

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يحرص مركز سلف للبحوث والدراسات على توفية “السلف” من الصحابة ومنِ اتبعهم بإحسان في القرون الأولى حقَّهم من الدراسات والأبحاث الجادة والعميقة الهادفة، وينال الصحابةَ من ذلك حظٌّ يناسب مقامهم وقدرهم، ومن ذلك هذه الورقة العلمية المتعلقة بالصحابة في (الروض الأنف) لأبي القاسم السهيلي الأندلسي رحمه الله، ولهذه […]

معنى الكرسي ورد الشبهات حوله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يُعَدُّ كرسيُّ الله تعالى من القضايا العقدية العظيمة التي ورد ذكرُها في القرآن الكريم وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نال اهتمام العلماء والمفسرين نظرًا لما يترتب عليه من دلالات تتعلّق بجلال الله سبحانه وكمال صفاته. فقد جاء ذكره في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} […]

لماذا لا يُبيح الإسلامُ تعدُّد الأزواج كما يُبيح تعدُّد الزوجات؟

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (إنَّ النِّكَاحَ فِي الجاهلية كان على أربع أَنْحَاءٍ: فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ: يَخْطُبُ الرجل إلى الرجل وليته أوابنته، فَيُصْدِقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا. وَنِكَاحٌ آخَرُ: كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا أَرْسِلِي إِلَى فُلَانٍ ‌فَاسْتَبْضِعِي ‌مِنْهُ، وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلَا يَمَسُّهَا أَبَدًا، حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي […]

مركزية السنة النبوية في دعوة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ الدعوةَ الإصلاحية السلفيَّة الحديثة ترتكِز على عدّة أسُس بُنيت عليها، ومن أبرز هذه الأسُس السنةُ النبوية التي كانت هدفًا ووسيلة في آنٍ واحد، حيث إن دعوةَ الإصلاح تهدف إلى الرجوع إلى ما كان عليه السلف من التزام الهدي النبوي من جهة، وإلى تقرير أن السنة النبوية الصحيحة […]

الحكم على عقيدة الأشاعرة بالفساد هل يلزم منه التكفير؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا شك أن الحكم على الناس فيما اختلفوا فيه يُعَدّ من الأمور العظيمة التي يتهيَّبها أهل الديانة ويحذرها أهل المروءة؛ لما في ذلك من تتبع الزلات، والخوض أحيانا في أمور لا تعني الإنسانَ، وويل ثم ويل لمن خاض في ذلك وهو لا يقصد صيانة دين، ولا تعليم شرع، […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017