الشريفُ عَون الرَّفيق ومواقفُه من العقيدة السلفية (2)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
رابعًا: مواقفُ الشريف عون من البدع والخرافات في مكة:
من الأعمال الجليلة التي قام بها الشريف عون، ويَستدلُّ بها بعض المؤرخين على قربه من السلفية الوهابية: قيامُه بواجب إنكار المنكرات منَ البدع والخرافات المنتشِرة في زمنه.
ومِن أبرز البدَع التي أنكَرها الشريف عون الرفيق:
1- هدم القباب والمباني على القبور والمزارات:
فقد وفَّق الله أمير مكة الشريف عون الرفيق إلى قبول الدعوة الإصلاحية التي دعا إليها الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، بفضل الله ثمَّ بفضل داعية التوحيد الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى (ت 1329هـ) رحمه الله، الذي كلَّمه بخصوص هدم القباب والمباني التي على القُبور والمزارات، وشرحَ له أن هذا مخالفٌ للإسلام، وأنه غلوٌّ وتعظيمٌ للأموات، يُسبِّب فتنةً للأحياء وبثِّ الاعتقادات الفاسدة فيهم، فما كان من الشريف عون إلا أن أمرَ بهدم القباب التي على القبور، عدا قُبَّة القبر المنسوب إلى خديجة رضي الله عنها، والقبر المنسوب إلى حواء في جُدَّة، فأبقاهما درءًا للفتنة([1]).
ولم يهدم الشريف عونٌ القباب التي على قبور الهواشم، يقول محمد رفيع: إن الشريف عونَ الرفيق أبقى على قباب قبور الهواشم، وقد كان مزار قبر السيدة خديجة رضي الله عنها مفتوحًا دائمًا للزيارة، وكان له سادِن مخصوص، وتزداد العناية بالسّرج في ليلة الحادي عشر من كل شهر؛ لأنه يصادف.. ما أدري: أهي ليلة الوفاة، أم ليلة الولادة؟ وفي ليلة الحادي عشر من الشهر المحقّق لديهم مولدها تزداد السُّرُج، ويسمّونها الليلة الكبيرة، ويأتي باعة الحلويات التي سبق وصفُها، ويقيمون على حافة الطرق دكاكًا ينصبون عليها حلواهم، ويأتي أيضًا باعة بعض المأكولات الخفيفة، ويتكاثر الزوار في تلك الليلة، وتقام على ما يوجد من فسحات حول المقابر حلقات ما يدعونه بالذكر، وبعض الدهماء والعوام يأتون بعائلاتهم وأولادهم، ويبيتون تلك الليلة بين المقابر، ولا تسأل عمّا يأتيه هذا الخليط من النساء والأولاد من استهانة بحرمة المقابر ووطئها والتبول حولها، فإذا انقضت الليلة عاد كل شيء إلى سابق عهده، وهذه العادة أبطلها الشريف الحسين بن علي، فقد منع المبيت وباعة الحلوى، واقتصر الأمر على الزيارة فقط.
ولما استولى جيش الإخوان وفي أول دخوله مكة هدم القباب وأزال أثرها، ولما كان كثير من حجاج الأقطار الإسلامية لهم تعلُّق بمثل هذه الأمور رأت الحكومة الحاضرة سدًّا للذريعة أن تحجر القسم الذي فيه قبور الهواشم وقبر عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، ومنعت الدفن فيه إلا بإذن([2]).
وأما ما يتعلق بالقبر المنسوب إلى حواء عليها السلام، فقد ذكر المؤرخ البتنوني أن توقف الشريف عون من هدم قبته كان بسبب منع الدول الغرْبية الكافرة له، حيث يقول: (لَما قصد الشريف عون الرفيق هدم قبَّتها فيما هَدَمَ من قباب الصالحين بمكة وغيرها قام في وجهه قناصل الدول، وحالوا بينه وبينها)([3])، وقالوا له: (لك ما تشاء في الأولياء، ولكن حواء أم للناس أجمعين، ونحن نحتج على هدم مقامها)، فاقتنع الشريف عون بما قالوا، وترك هدم ذلك القبر([4]).
والحق أنَّ بقاء مثل هذه المواضع المكذوبة وإبقاء القباب عليها هو من أسباب بقاء الشرك والبدع وانتشار وسائلهما.
ومن القباب والمباني الموجودة على القبور المقدسة التي أمر الشريف عون الرفيق بهدمها: قبر عبد الله بن الزبير، ومحل الشيخ الفاسي، والشيخ الرشيدي، والسيد العيدروس، الكائنين في المعلاة على قبورهم؛ لأن المحل أخذ فراغًا كبيرًا من المقبرة، ثم أمر بتكسير جميع التوابيت التي على القبور؛ لأنها من البدع، وقد أمر بهدم قبر الشيخ هارون الكائن في درب الشبيكة تجاه بيت أبي العز([5]).
وبالرجوع إلى كتاب تاريخ مكّة للغازي المسمى: “إفادة الأنام” نجده يعبّر عن الحوادث المماثلة لهذه الصور بقوله: (كان على قبره بناء هدم في زمن الشريف عون في سنة كذا..).
ومن ذلك قوله عند ذكر بعض القبور:
1- قبر العارف بالله الشيخ عمر العرابي، المتوفّى سنة ثمانمائة وسبع وعشرين، ودفن بالمعلاة بالشعب الأول منها.
قال الغازي: (وكان على قبره بناء هُدم في زمن الشريف عون سنة 1321هـ)([6]).
2- قبر عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.
كان موته فجأة ليلة الثاني عشر من جمادى الأولى سنة ثمان وخمسين في نومة نامها في جبل بأسفل مكة قريبًا منها، وقيل: على نحو عشرة أميال من مكة، ثم حمل على أعناق الرجال ودفن بمكة.
وقبره يعرف بالمعلاة، وهو على يمين الذاهب إلى قبر خديجة رضي الله عنها.
قال الغازي: (كان عليه بناء هدم في زمن الشريف عون سنة 1321هـ)([7]).
3- قبر عبد الله بن الزبير.
مات شهيدًا رضي الله عنه، قتل عند باب الكعبة، قتله الحجاج الثقفي لما بويع بالخلافة سنة اثنين وسبعين، ودفنت جثته بالمعلاة، وأما رأسه فأرسل بها الحجاج إلى عبد الملك بن مروان، وقصته مشهورة في كتب السير، وقبره مشهور في شعبة النور.
قال الغازي: (كان عليه بناء هدم في زمن الشريف عون سنة 1321هـ)([8]).
4- قبر الشيخ حسين بن إبراهيم بن حسين بن عامر، المغربي الأصل.
مفتي المالكية بمكة المكرمة، صاحب الفضل الشهير والقدر الكبير، متبحرًا في العلوم العقلية والنقلية.
توفي بمكة المشرفة سنة ألف ومائتين واثنتين وتسعين، ودفن بالمعلاة.
قال الغازي: (كان على قبره بناء هدم في زمن الشريف عون في سنة 1321هـ)([9]).
5- قبر محمود بن إبراهيم بن أدهم.
دفن بمكة بأول جرول، وكان على قبره قبة قد هدمت في زمن الشريف عون سنة 1321هـ([10]).
2- توسيع باب غار ثور لإنهاء بدعة استمرّت لعدّة قرون:
خرافة: “من لم يدخل غار ثور فليس ابن أبيه”!
اشتهر لدى الناس منذ القرن السابع الهجري خرافة عجيبة في غار جبل ثور، سرت لعدة قرون، وهي: أن من لم يدخل منه فليس ابن أبيه! والقصد كما قال المؤرخون: من احتبس فيه لا يكون ابن أبيه.
والمقصود بالدخول: الدخول من الباب الضيق الذي لا يسع إلا شخصًا واحدًا. والضحية في الغالب: الشخص السمين!
قال العبدري: (وكذلك حكى من جهلهم وضلالهم ما هو مستمر إلى الآن في جبل ثور، في الغار الذي دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر حين هاجرا من مكة، وذلك أنه غار له بابان في حجر صلد، وأحدهما ضيق أقل من شبرين، فيتكلفون النفوذ فيه، وشاع من جهلهم أم من لم ينفذ فيه فهو ولد زنى، وتقرَّر ذلك في معتقدهم الفاسد، فلا تزال الفضيحة تعلق بهم من ذلك، والعقلاء منهم يتجنبونه؛ لأنه من غصَّ فيه ولم ينفذ منه يحكمون عليه بما تقدم)([11]).
وقال ابن بطوطة (ت 779هـ): (والناس يقصدون زيارة هذا الغار المبارك، فيرومون دخوله من الباب الذي دخله منه النبي صلى الله عليه وسلم تسليما، تبرّكًا بذلك، فمنهم من يتأتى له، ومنهم من لا يتأتى له، وينشب فيه حتى يتناول بالجذب العنيف، ومن الناس من يصلّي أمامه ولا يدخله، وأهل تلك البلاد يقولون: إنه من كان لرشدة قدر على دخوله، ومن كان لزنية لم يقدر على دخوله! ولهذا يتحاماه كثير من الناس؛ لأنه مخجل فاضح!)([12]).
وقال القرشي (ت 854هـ): بعض الناس انحبس به لما ولج، فلم يقدر أن يخرج ولا يدخل، ومكث على ذلك قريبًا من ليلة حتى راحوا إليه الحجّارون، ووسعوا عنه، وقطعوا عنه الحجر من الجوانب، فانفتح حتى اتسع الموضع([13]).
وذكر القطب الحنفي في القرن العاشر: أن الناس قد تعوقوا فيه قديمًا وحديثًا، وقد حبس فيه بحضرتنا ناس، وأخذ لهم الحجّارون من مكة فقطعوا عنهم، وتكرر ذلك كثيرًا في كل عصر، ومع ذلك لا يتسع كثيرًا، بل يتعوَّق الناس فيه؛ للجهل بكيفية الدخول، خصوصًا إذا كان بطنًا سمينًا([14]).
متى انتهت هذه الخرافة؟
هناك أكثر من محاولة في الإنكار على هذه الخرافة الشنيعة، من ذلك:
ما قام به تَغْرِي بَرْمَش لما جاور بمكة في سنة 810 هـ، أو قبلها بقليل، أو بعدها بقليل، فقد سد الباب الضيق من الغار الذي بجبل ثور بأسفل مكة، لكون كثير ممن يريد دخوله من بابه الضيق انحبس فيه لما ولج فيه، وانتقد عليه ذلك كثيرًا شمس الدين محمد الخوارزمي المعروف بالمعيد -إمام الحنفية بالمسجد الحرام-، ومنعه من الأخذ عنه حتى يزيل ما سده، ويحدث توبة بسبب ذلك([15]).
وبعد هذه الحادثة بأربعة قرون، وعند تولي الشريف عون الإمارة سنة 1299هـ كان من أعماله: أن أمر بتوسيع هذا الباب الضيق إزالةً لتلك الأوهام، وبذلك يكون قد قضى على تلك الأفكار المغلوطة تجاه هذا الغار، وقد لقي استنكارًا من بعض أهل عصره الذين أرادوا أن تبقى أماكن الآثار كما هي دون تدخل من أحد؛ حفاظًا على تاريخ الأمة!([16]).
ولا ندري أنعجب من هذه الخرافة أم ممن يصدِّقها؟! وكيف استمرت طيلة هذه القرون دون أن يكون هناك اهتمام حقيقي بوأدها؟!
3- إبطاله عادة قراءة البردة والهمزيَّة في مناسبة حفل الزفاف:
قصيدةُ البُردَة والهمزية كلتاهما للبُوصِيري من القَصائد الشَّهيرة في المديح النبويِّ، ويعتني بهما أهلُ التَّصوُّفِ، وقد اشتَهَر البُوصيريُّ بشِعرِه في المدائحِ النبويَّة، وهو مِن أرْقَى الشِّعر وأجودِه لولا غُلوٌّ فيه. وقد كانت قراءة البردة والهمزية منتشرة في عدة مناسبات في مكة، منها: مناسبة حفل الزفاف، فأحيانًا يكتفى بالبردة، وأحيانًا يكتفى بالهمزيّة، وقد أبطلت هذه العادة سنة 1316هـ بأمر من الشريف عون([17]).
4- تحذيره من إلباس الأولاد الحُجُب والتمائم من الفضّة وقيامه بإغلاق ورش صناعة المسابح، حيث ظلّت هذه الصناعة ممنوعة بمكة طيلة حقبة حكمه([18]).
5- منعه حِلَق الصوفيَّة من ممارسة البدع والخرافات:
ومن ذلك ما جاء في ترجمة الشيخ إبراهيم بن حمد الجاسر (ت 1329هـ)([19]).
جاء في تاريخ علماء نجد: (والدليل الثالث على صحة معتقده أنه دخل المسجد الحرام أيام الحكم العثماني، فوجد حلق الصوفية تمارس بدعها وخرافاتها، فلم تمنعه غربته ولا إقرار حكومة البلاد لهذه الأعمال من أن يسطو عليهم بعصاه ضربا حتى فرقهم. فرفع أمره إلى أمير مكة المكرمة الشريف عون، فلما حضر وحقَّق معه وعرف أن الصواب مع الشيخ فمنع هذه الأعمال البدعية)([20]).
6- منعه لجملة من البدع عام 1316هـ:
قال أحمد أمين: (وقد منع سعادة سيدنا من المسجد الحرام جملة بدع، منها أن الناس تغالوا في فكوك الريق، فصار الأغنياء ينزلون تباسي كبار، مشتملة على سنبوسك ومربيات وحلاوات، ويعزمون عليها أصحابهم، ويتأخر الإمام عن الصلاة أكثر من خمس دقائق، وكذلك الخبزية من الأغوات، ومن تحتهم يتفاخرون بذلك، فتأتي تباسيهم صفوفا، وبعض الناس من التغالي اقتصر في بيته، ولم يصل المغرب في المسجد بسبب ذلك، وأمر سعادة سيدنا الأئمة بأنهم حال ما ينزل المؤذن من المنارة يقيمون الصلاة، ولا أحد من الناس يجتمعون على أكل، بل مقدار ما يأكل لقمة أو لقمتين، أو يشرب الزمزم، فيقوم إلى الصلاة، ومنع سعادة سيدنا المسحر، ورفع جميع السبل والأزيار الكبار المصنوع (كذا) عليها الصناديق الكبار، التي تأخذ قدرا كبيرا من المسجد الحرام، ومنع الزمازمة أن يدخلوا عند النساء بالزمزم، وكذلك الفقهاء وكبار المطوفين، وكسر الأزيار والحنفيات التي في بعض الخلاوي؛ لأجل أن يروشوا منها الجاوة وغيرهم، ومنع غير ذلك مما ينكره الناس)([21]).
7- أمره بإعادة بعض ما هدم من البازانات مع القبة التي هدمها الحكماء والتي زعموا أنها تـأتي بالوباء:
قال المؤرخ أحمد أمين معددًا بعض أعمال الشريف عون: (وفي يوم الخامس والعشرين من شهر صفر سنة 1322هـ أمر سعادة سيدنا برد البازانات -الخزانات- التي عند باب أجياد، وباب الوداع والحنفية التي بباب العمرة، مع القبة التي هدمها الحكماء في سنة الوباء الأخير، زعمًا منهم أنها تأتي بالوباء، فحصل من ذلك ضرر كبير، وصار الفقراء ينجسون ببولهم أبواب المسجد الحرام، فحصل الوخم زيادة، فلما شرعوا بردها دعا الناس جميعًا بطول عمر سيدنا، وتوفيقه لفعل الخير)([22]).
الخلاصة:
ما ذكرنا كان بعض ما أنكره الشريف من البدع والخرافات المنتشرة بمكة، مع العلم أنها كانت منتشرة في أوساط الوافدين القادمين إليها من خارجها، وكان تتبُّعها وإزالتها بحاجة إلى دور كبير من علماء البلد الحرام الذين كان عددهم كبيرًا في ذلك العهد، فقد كانت الدروس في المسجد الحرام مكتظة بالمجاورين الذين قدموا من مناطق نائية، وقد ازدادت الحلقات العلمية، وانتشرت في جميع أروقته وساحاته المحيطة بالمطاف، وتعددت الدروس العلمية، واتسعت الحلقات لتشمل أبناء مكة والزائرين لها والمجاورين فيها لطلب العلم.
ولقد بلغ عدد المدرسين في المسجد الحرام سنة 1303هـ (107) مدرسٍ، ثم زادت الحلقات بعد ذلك ووصلت إلى قرابة (120) حلقة، وهذه الحلقات كانت تعقد في سائر الأوقات من الصباح إلى المساء، وخاصة بعد الصلوات الخمس، يقول الأستاذ محمد عمر: (وهذا عدا ما يقام من دروس في المسجد بعد كل صلاة والصلوات الخمس، فقد كان عدد غير قليل من علماء مكة وبعض العلماء المجاورين يقومون بالتدريس فيه -حسبة لوجه الله وتبرعًا منهم-، فما تجد حصوة أو رواقًا ليس فيه حلقة من حلقات الدروس الدينية واللغوية وغيرهما)([23]).
بل وصل عدد الخطباء والأئمّة في عام 1300هـ إلى (120) إمام وخطيب.
وجاء في الحوادث المكية: أن عدد أئمة الأحناف خمسة وسبعون، وأئمة الشافعية خمسة وعشرون، وأئمة المالكية عشرون، وأئمة الحنابلة خمسة، فتم العدد مائةً وعشرين([24]).
هذا العدد الكبير من العلماء والخطباء والأئمة لم يكن دورهم محوريًّا حول قضية إنكار البدع والخرافات؛ إلا أن بقاءها لم يكن دليلًا على سماح الشريف عون لها بذلك، بل إن الشريف عونًا نفسه كان يشارك في بعضها؛ كالاحتفالات الموسمية.
فقد ذكر أحمد أمين أنه في يوم الحادي عشر من شهر ربيع الأول سنة 1302هـ أمر سعادة سيدنا والوالي بتزيين البلدة المكرمة، إعلانًا بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، وأسرجت المنائر وأماكن الحكام، وأمروا جميع الصنائع بأن يحضروا فوانيس من باب سيدنا علي رضى الله عنه، إلى موضع مولد النبي صلى الله عليه وسلم، إلى بيت سعادة سيدنا، فعلقت الفوانيس مقدار ثلاثة آلاف فانوس، صفين من هنا ومن هنا، وجميع أهالي القشاشية، فرشوا قدام بيوتهم، وكذلك سيدنا، سرج قدام بيته، والوالي أيضا سرجة كبيرة، وأطلقت المدافع في الخمسة الأوقات، وصارت ليلة عظيمة)([25]).
خامسًا: مما قيل في عقيدة الشريف عون الرفيق:
يقول المستشرق سنوك هورخرونيه عن الشريف عون: (ومن خلال تعاملي الشخصي مع الشريف تولَّد لديَّ انطباعٌ بأنه يفي بالحدِّ الأدنى المطلوب من تعاليم الإسلام، أما ما يشاع عن اعتقاده بالخرافات فيبدو أنَّ شيئًا منها لديه، وحاله في هذا حال كثير من رجالنا الأوروبيين المعاصرين الذين يعتقدون بالأرواح، ولا تخرج خرافات الشريف عن هذا)([26]).
ومما قيل في عقيدة الشريف عون كذلك: أنه كان شيعيًّا؛ فالشيعة كانوا يظنون أنه ينتمي إليهم. وقد كان الشيخ باقر التستري([27]) مقربًا من الشريف عون الرفيق، يفد عليه ويقضي الأعوام عنده، وكان هذا الشيخ واثقًا من تشيع الشريف عون([28]).
ويستدلُّ الشيعة على تشيّع الشريف عون بعدة أمور، منها: أنه أبطل مظاهر الفرح التي اعتاد عليها أهل الحجاز في يوم عاشوراء، ومنها أنه نظم قصيدة طويلة في رثاء فاطمة الزهراء وذم من آذاها، وألقاها بنفسه على الحجاج في الحرم عام 1322هـ.
والواقع أن هذه القصيدة اشتهرت لدى الشيعة في العراق، وما زال قراء التعزية يتلونها في مجالسهم الحسينية، وهم يردِّدون منها البيت التالي بوجه خاص:
بنت من؟ أمّ من؟ حليلة من؟ ويل لمن سـنّ ظلمَها وآذاهـا([29])
ويصف الشريفَ عونًا أحدُ الذين خالطوه وعرفوه بقوله: (إنه كان يجاري كل طائفة بأكمل ما عندهم؛ حتى يستطلع ما في خواطرهم، وينفذ فيهم سياسته وإرادته، ويستجمع من كل ذلك قلوب الطوائف الإسلامية قريبها وبعيدها، حيث كان الشريف عون الرفيق عالِمًا بارعًا في الفنون، متضلِّعًا في أكثر العلوم، لا يدخل عليه عالم إلا ويخرج معتقدًا أنه دونَ علم الشريف، وكانت كلُّ طائفة من المسلمين تحجّ وتعتقد أن أمير الحرمين أحد أفراد طائفتها”([30]).
تلك السياسة الغريبة التي سار عليها الشريف عون الرفيق كان لا بد وأن يرضى عنها قوم ويغضَب منها آخرون، حيث كان العامة -في الغالب- راضين عن تلك السياسة، ومعجبين بها، أما الخاصة فكانوا ناقمين عليها([31]).
وكان الشريف عون الرفيق يميل إلى الرفاهية بجميع أنواعها، حيث كان يجمع حوله الكثير من المطربين والطبالين([32])، كما استقدم أتوموبيلا([33]) من أوروبا، كان يركبها في طريق الطائف، وكانت سيارة الشريف عون الرفيق هي أوَّل سيارة دخلت الحجاز([34])، بل الجزيرة العربية بأسرها، وما شاعت إلا بعد موته بنحو ثلاثين سنة([35]).
ختامًا:
بعد هذا التطواف حول تاريخ السلفية في مكة في عهد الشريف عون وجدنا أن عصره قد شهد انفتاحًا على المذهب العقدي السلفي، بخلاف الحقبة التي كانت قبله ومن جاؤوا بعده من الأمراء، ويتجلَّى ذلك في أمور، منها:
– تقريبه للعلماء ذوي التوجه السلفي، ومن أبرزهم: الشيخ أحمد بن عيسى النجدي رحمه الله.
– سماحه بنشر العقيدة السلفية في مكة وتدريسها في المسجد الحرام.
– إنكاره لكثير من البدع والخرافات السائدة في مكة، ومن أهمها: هدم القباب والمباني على القبور والمزارات.
والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) انظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون (1/ 140).
([2]) انظر: مكة في القرن الرابع عشر (ص: 128-129).
([3]) الرحلة الحجازية (ص: 15).
([4]) انظر: مكة في القرن الرابع عشر (ص: 126).
([5]) انظر: الحوادث المكية، حوادث سنة 1317هـ.
([9]) انظر: إفادة الأنام (2/ 242).
([10]) تنزيل الرحمات على من مات (1/ 70)، ضمن حوادث سنة 162هـ.
([12]) رحلة ابن بطوطة (1/ 385).
([13]) البحر العميق (3/ 296-297).
([15]) العقد الثمين، للفاسي (3/ 255).
([16]) انظر: التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم (2/ 395).
([17]) انظر: الحوادث المكيّة، أحداث سنة 1316هـ.
([18]) انظر: مكة في القرن الرابع عشر، لرفيع (ص: 239)، الحضارم في الحجاز، لخالد حسن سعيد (ص: 240-241).
([19]) الشيخ إبراهيم بن حمد بن جاسر، ولد في بلدة بريدة ونشأ فيها وقرأ على علمائها، وأدرك في العلوم لا سيما في التفسير والحديث واللغة العربية، واشتهر أمره وذاع صيته حتى عد من كبار علماء نجد، ثارت بعض الخلافات بينه وبين آل سليم، اتهمه بعضهم بتساهله في توحيد الألوهية ولكنه كذب مفترى. من تلاميذه: الشيخ عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي، والشيخ عبد العزيز بن عقيل وغيرهما، توفي بعد عودته من العراق سنة 1329هـ. انظر: تسهيل السابلة (3/ 1767-1768).
([20]) علماء نجد خلال ستة قرون (1/ 103-104).
([21]) الحوادث المكيّة، أحداث سنة 1316هـ.
([22]) الحوادث المكيّة، أحداث سنة 1322ه.
([23]) انظر: سالنامه ولاية الحجاز، ع (2)، سنة 1303هـ، (ص: 71-74)، مكة في القرن الرابع عشر (ص: 312).
([24]) انظر: الحوادث المكيّة، أحداث سنة 1300هـ. وينبه إلى أن الأعداد التي ذكرها يكون مجموعها مائة وخمسة وعشرين.
([25]) الحوادث المكيّة، أحداث سنة 1302هـ.
([26]) صفحات من تاريخ مكة (1/ 318).
([27]) باقر التستري هو: باقر بن غلام علي التستري النجفي، عالم فقيه، أديب من علماء الشيعة، جاور بمكة، توفي سنة 1327هـ. انظر: معجم المؤلفين، عمر رضا كحالة (1/ 421).
([28]) لمحات اجتماعيّة من تاريخ العراق، علي الوردي (6/ 44).
([29]) المرجع سابق (6/ 44-45).
([32]) الرحلات الحجازية، محمد صادق (ص: 362-363)، الرحلة الحجازية، للبتنوني (ص: 80).
([33]) أي: سيارة. تاريخ الأشراف، عاتق البلادي (3/ 593).
([34]) التاريخ القويم (2/ 213)، الرحلة الحجازية، للبتنوني (ص: 80)، تاريخ الأشراف (3/ 604).
([35]) تاريخ الأشراف (3/ 604)، وانظر: الشريف عون وعلاقته بالدولة العثمانية وولاتها في الحجاز، رسالة ماجستير.