هل الأدب مقدَّم على الاتباع؟
يطرحُ كثير من المتصوِّفة هذا السؤال؛ باعتباره من مسائل الخلاف بين العلماء، فمنهم من قال: يقدَّم الامتثال على الأدَب، وفريق آخر قال بتقديم الأدب على الامتثال.
ومن أشهر أدلتهم على ذلك: رجوع أبي بكر عن الإمامة لما أحسَّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد أشار له النبي صلى الله عليه وسلم أنِ امكُث مكانَك، فتأخَّر حتى استوى في الصفّ، وتقدّم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى، ثم انصرف فقال: «يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إِذْ أَمَرْتُكَ؟»، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ([1]).
ومن أدلتهم على ذلك أيضا: امتناعُ عليّ رضي الله عنه عن محو اسم الرسول صلى الله عليه وسلم في وثيقة الحديبية، وقال له: “لاَ وَاللَّهِ، لاَ أَمْحُوكَ أَبَدًا”([2]).
قالوا: فهذا ومثله يدل على أن الأدب مقدَّم على الامتثال.
وصارت هذه القاعدة مدخَلا لكثير من البدع ومخالفة السنّة -فعلا وتركا- وتسويغ البدع؛ ولو خالفت النصوص؛ بحجّة أنها من باب الأدب، وهو ما يقتضي التوضيحَ والبيانَ لمرادِ أهل العلم في ذلك.
فالجواب عن ذلك من عدّة أوجه:
الأول: أن هذه القاعدة لا ذكر لها في كلام الأئمّة المتقدمين من أئمة القرون الثلاثة الخيرية، وإنما وردت في كلام بعض الفقهاء المتأخرين، وأقدمُ من نسب إليه هذا الكلام -بحسب ما وقفتُ عليه- هو العز بن عبد السلام رحمه الله (660هـ) مرجّحًا جواز التسويد للنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وتبعه على ذلك بعض الفقهاء، وخالفهم الأكثر، واستحبّوا الالتزام في الأذكار المأثورة بالوارد دون زيادة.
جاء في الموسوعة الفقهية: “وأما بخصوص زيادة (سيدنا) في الصلاة الإبراهيمية بعد التشهد، فقد ذهب إلى استحباب ذلك بعض الفقهاء المتأخرين، كالعز بن عبد السلام، والرملي، والقليوبي، والشرقاوي من الشافعية، والحصكفي وابن عابدين من الحنفية متابعة للرملي الشافعي، كما صرح باستحبابه النفراوي من المالكية، وقالوا: إن ذلك من قبيل الأدب، ورعاية الأدب خير من الامتثال، كما قال العز بن عبد السلام”([3]).
الثاني: أن الأدب والاتباع أصلان لا يتعارضان؛ لأنّ الشرع أمر بالأدَب مع النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَينَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]، وقال تعالى: {لَّا تَجعَلُواْ دُعَاءَ ٱلرَّسُولِ بَينَكُم كَدُعَاءِ بَعضِكُم بَعضًا} [النور: 62].
فلو فرضنا أنه قد حدَث في بعض الصور تعارضٌ بين الأمر الشرعي وأمر آخر يظهر فيه جانب الأدب، فقيل بتقديم ما روعي فيه جانب الأدب؛ لكان هذا من باب ترجيح بعض الأدلة على بعض، وهذا كله داخل تحت باب الاتباع، ويخضع لما ذكره العلماء في مباحث الترجيح بين الأدلة المتعارضة، وليس تقديما للأدب على الاتباع.
فمثلا في واقعة أبي بكر رضي الله عنه امتثل الصديق لقوله تعالى: {لَا تُقَدِّمُواْ بَينَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ}، وهي تدلّ على عدم جواز التقدّم بين يديه صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك جعل بعض العلماء ما فعله أبو بكر مخصوصًا بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من خصوصياته صلى الله عليه وسلم ألَّا يصلّي به أحدٌ إمامًا.
قال ابن عبد البر رحمه الله: “ولأن الله عز وجل قد أمرهم أن لا يتقدّموا بين يدي الله ورسوله، وهذا على عمومه في الصلاة والفتوى والأمور كلها”([4]).
ونقل السيوطي عن القاضي عياض رحمهما الله أن هذا من باب الخصائص، فقال: “ومن خصائصه فيما حكى القاضي عياض: أنه لا يجوز لأحد أن يؤمه؛ لأنه لا يصح التقدم بين يديه في الصلاة ولا غيرها”([5]).
وأجاب القائلون بذلك على إمامة عبد الرحمن بن عوف بالنبي صلى الله عليه وسلم وعدم تأخره([6]) بأنه قد يقال فيها: “إنها مختصة عن هذا الأصل؛ لبيان حكم القضاء بفعله عليه الصلاة والسلام لمن فاته من الصلاة شيء”([7]).
وليس الغرض هنا مناقشة الحكم الفقهي، فإن ذلك معروف في مظانه في كتب الفقه والحديث، ولكن الغرض المقصود بيان أن الصديق رضي الله عنه هنا لم يهمل الامتثال، بل كان ما فعله -كما قال ابن حزم رحمه الله- هو “غاية التعظيم والطاعة والخضوع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أنكر عليه السلام ذلك عليه”([8]). وكان ترجيحا لدليل على آخر.
الثالث: أن السؤال فاسد من الأساس؛ لأن التعارض المتصور إنما يكون بين الأمر الشرعي والأدب الذي لم يدل عليه دليل شرعي صحيح، وإنما يكون مستحسنًا بالعقول؛ لأنه لو كان الأدب المقصود هو الذي دل عليه الدليل، لما كان السؤال متصورًا كما سبق في الوجه الأول، وعليه فيكون حقيقة السؤال: إذا تعارض الأمر الشرعي مع ما استحسنه البعض تأدبًا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأيهما يقدم؟ وهنا لا يختلف أحد من العلماء في وجوب تقديم الأمر الشرعي، وعدم الالتفات لما استحسنه الناس بعقولهم وأذواقهم، إذا عارض الأمر الشرعي.
فإن قيل: إن العلماء اختلفوا في التسويد، مع كونه لم يرد فيه دليل بعينه، ورجح بعضهم فعله في الصلاة تغليبًا لجانب الأدب!
فالجواب من وجهين:
1- أن كلام العلماء يستدل له لا به، وليس مع من استحسن التسويد حجة يترجح اتباعها، بل أكثر العلماء على عدم استحباب ذلك في الصلاة اتباعًا للمأثور.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: “والمسألة مشهورة في كتب الفقه, والغرض منها أن كل من ذكر هذه المسألة من الفقهاء قاطبة لم يقع في كلام أحد منهم: (سيدنا)، ولو كانت هذه الزيادة مندوبة ما خفيت عليهم كلهم حتى أغفلوها, والخير كله في الاتباع”([9]).
2- أن العلماء القائلين باستحباب ذلك استندوا إلى أدلة عامة، رأوها مناسبة للحكم الذي ذكروه -مع كونها في غير محل النزاع عند أكثر العلماء- إلا أنهم لم يبنوها على مجرد تقديم الأدب على الاتباع.
وممن نبه على ذلك الشوكاني رحمه الله، وله في المسألة بحث لطيف، ناقش فيه هذه القاعدة، يحسن الرجوع إليه([10])، خاصة أن الشوكاني رحمه الله كان قد ذكر كلام العز بن عبد السلام في (نيل الأوطار)([11])، ولم يعقب عليه، وهو ما جعل البعض يعدّه ضمن من قال بجواز ذلك مستندًا على هذه القاعدة.
الرابع: أنه لو طردنا هذه القاعدة للزم منها صور في غاية الفساد، لا يختلف العلماء في بدعيتها وفسادها، فإن كل مبتدع يمكنه أن يمرر بدعته عبر هذه القاعدة.
ولن يتوقف الأمر على التسويد في التشهد الذي اختلف فيه العلماء، بل سينسحب على الأذان، وسائر الأذكار المشروعة، والعبادات، وهي مبنية على التوقيف كما لا يخفى، فقد يستحسن البعض جواز إضافة ألقاب أخرى في الأذان والعبادات، كأن يقال: وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله وخير خلق الله وسيد ولد آدم، ونحو ذلك مما لا يختلف العلماء في بدعيته وبطلانه، فالحقيقة أن طرد هذه القاعدة يعود على الشريعة بالإبطال.
وممن أشار لهذا الوجه المعلمي اليماني رحمه الله فقال ردا على من استدل بهذه القاعدة على التسويد في الصلاة: “ويقال لمن يرى ذلك: وهل ترى أن يزاد ذلك في الأذان؟ فإن قال: نعم، قال ما لم يقله أحد([12])، وجاء ببدعة منكرة خالف بها جميع الأمة، ويرد عليه مع ذلك بما مر وغيره”([13]).
وقد روى الترمذي في سننه: أنَّ رجلًا عطَسَ إلى جنبِ ابنِ عمرَ فقال: الحمدُ للهِ والسلامُ على رسولِ اللهِ، قال ابنُ عمرَ: وأنا أقولُ الحمدُ للهِ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وليسَ هكذا عَلَّمَنَا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، علَّمَنَا أن نقولَ الحمدُ للهِ على كلِّ حالٍ([14]).
وهذا الذي أنكره ابن عمر رضي الله عنهما دليل واضح على أن الأدب هو امتثال الأمر، وعدم الزيادة عليه بمجرد استحسان العقول بأن هذه الزيادة من الأدب.
الخامس: أن العلماء الذين ذكروا هذه القاعدة لم يقصدوا بذلك الأمر الذي يراد به الامتثال وجوبًا أو استحبابًا، وإنما قصدوا الأمر الذي يراد به إكرام المأمور ومراعاة حقه وجانبه، فهذا هو الذي يجري فيه الخلاف المذكور في بعض كتب الفقهاء، لا أنهم قصدوا معارضة السنة النبوية -فعلا أو تركا- بحجة الأدب، فهذا لا يقوله عالم.
قال شمس الأئمة السرخسي الحنفي (483هـ) مجيبًا على من قال باختصاص العمل بالرأي بالصحابة بدليل أنهم عارضوا النص، وذلك لا يجوز لغيرهم اتفاقا، واستدل برجوع أبي بكر وامتناع علي عن محو كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “والجواب أن نقول: هذا الكلام عند التأمل فيه من جنس الطعن عليهم لا بيان الكرامة لهم؛ لأن كرامتهم إنما تكون بطاعة الله وطاعة رسوله، فالسعي لإظهار مخالفةٍ منهم في أمر الله وأمر الرسول يكون طعنًا فيهم، ومعلوم أن رسول الله ما وصفهم بأنهم خير الناس إلا بعد علمه بأنهم أطوعُ الناس له، وأظهر الناس انقيادا لأمره وتعظيما لأحكام الشرع، ولو جاز إثبات مخالفة الأمر بالرأي لهم بطريق الكرامة والاختصاص بناء على الخيرية التي وصفهم بها رسول الله لجاز مثل ذلك لمن بعدهم بناء على ما وصفهم الله به بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية، ولو جاز ذلك في فتاويهم لجاز فيما نقلوا إلينا من أحكام الشرع فتبيَّن أن هذا من جنس الطعن، وأنه لا بد من طلب التأويل فيما كان منهم في صورة الخلاف ظاهرا بما هو تعظيم وموافقة في الحقيقة.
ووجه ذلك بطريق الفقه أن نقول: قد كان من الأمور ما فيه احتمال معنى الرخصة والإكرام، أو معنى العزيمة والإلزام، ففهموا أن ما اقترن به من دلالة الحال أو غيره مما يتبين به أحد المحتملين، ثم رأوا التمسّك بما هو العزيمة أولى لهم من الترخص بالرخصة، وهذا أصل في أحكام الشرع.
وبيان هذا في حديث الصديق، فإن إشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم له بأن يثبتَ في مكانه كان محتملا معنى الإكرام له ومعنى الإلزام، وعلم بدلالة الحال أنه على سبيل الترخّص والإكرام له، فحمد الله تعالى على ذلك، ثم تأخر؛ تمسكا بالعزيمة الثابتة بقوله تعالى: {لَا تُقَدِّمُواْ بَينَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ}، وإليه أشار بقوله: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم… وكذلك حديث علي فإنه أبى أن يمحو ذلك تعظيمًا لرسول الله، وهو العزيمة، وقد علم أن رسول الله ما قصد بما أمر به إلا تتميم الصلح؛ لما رأى فيه من الحظ للمسلمين بفراغ قلوبهم، ولو علم عليّ أن ذلك كان أمرًا بطريق الإلزام لمحاه من ساعته… ثم الرغبة في الصلح مندوب إليه الإمام بشرط أن يكون فيه منفعة للمسلمين، وتمام هذه المنفعة في أن يظهِر الإمام المسامحةَ والمساهلة معهم فيما يطلبون، ويظهر المسلمون القوةَ والشدة في ذلك؛ ليعلم العدو أنهم لا يرغبون في الصلح لضعفهم، فلأجل هذا فعل علي رضي الله عنه ما فعله، وكأنه تأويل قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحزَنُواْ}”([15]).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “وكأن عليًّا فهم أن أمره له بذلك ليس متحتّما، فلذلك امتنع من امتثاله”([16]).
وقال الزرقاني المالكي (1122هـ): “فيه: أن من أكرم بكرامة تخير بين القبول والترك إذا فهم أن الأمر ليس على اللزوم، وكان القرينة التي بينت ذلك لأبي بكر أنه صلى الله عليه وسلم شق الصفوف حتى انتهى إليه، ففهم أن مراده أن يؤم الناس، وأن أمره إياه بالاستمرار في الإمامة من باب الإكرام والتنويه بقدره، فسلك هو طريق الأدب؛ ولذا لم يردَّ صلى الله عليه وسلم اعتذاره”([17]).
فالأمر إذا أريد به الإكرام لا تعدّ المخالفة له معصية، حتى إن الفقهاء اختلفوا في من حلف على غيره يريد إكرامه فلم يمتثل، هل يحنث أم لا؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وكذا لا حنث عليه إذا حلف على غيره ليفعلنّه فخالفه إذا قصد إكرامه لا إلزامه به؛ لأنه كالأمر إذا فهم منه الإكرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر بالوقوف في الصف ولم يقف”([18]).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: “المخالفة للإكرام لا تعدّ معصية؛ فإن أبا بكر خالف النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنه خالفه للإكرام، فلا تكون هذه المخالفة معصية، ونظيرها ما وقع لعلي بن أبي طالب في صلح الحديبية”([19]).
والخلاصة: أن العلماء الذين قالوا بتقديم الأدب على الامتثال قصدوا بالأدب هنا الأدب الذي دل عليه الدليل الشرعي العام أو الخاص، ومقصودهم بالأمر هنا الأمر الذي لم يُرَد به الامتثال، وإنما أريد به إكرام المأمور ورعاية حقّه، فهذا الذي يستحسن أن يقدّم فيه الأدب، وأما الأمر الشرعي المقصود لذاته فهذا يقال فيه: الامتثال هو عين الأدب.
والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) رواه البخاري (684)، ومسلم (421).
([2]) رواه البخاري (3184)، ومسلم (4731).
([3]) الموسوعة الفقهية (11/ 346).
([5]) أنموذج اللبيب في خصائص الحبيب، الفصل الرابع.
([6]) حديث عبد الرحمن بن عوف بالنبي صلى الله عليه وسلم رواه مسلم في صحيحه (274).
([7]) طرح التثريب، للحافظ العراقي (2/ 339).
([9]) ينظر: الفضل المبين للقاسمي (ص: 70، 71)، وصفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للألباني (172-175).
([10]) انظر: الفتح الرباني (11/ 5819).
([12]) في ذلك خلاف مشهور، فأجازه طائفة من متأخري الشافعية والحنفية، انظر: الموسوعة الفقهية (11/ 346).
([13]) آثار المعلمي اليماني (4/ 466).
([14]) سنن الترمذي (2738)، وصححه الألباني في الإرواء (3/ 245).
([15]) أصول السرخسي (2/ 136). وانظر كذلك: كشف الأسرار للبزدوي (3/ 283).
([17]) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية (8/ 522).