حديث: “رنات إبليس” ومناقشة الاستدلال به على صحة الاحتفال بالمولد
يقول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
ومن دقَّة فهم الإمام مالك رحمه الله استنباطُه من هذه الآية الكريمة: أن من ابتدع في دين الله تعالى ما ليس منه فإنه بذلك يتَّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيانة في أداء أمانة الإبلاغ عن الله تعالى؛ فقال رحمه الله: “من أحدث في هذه الأمة اليوم شيئًا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}، فما لم يكن يومئذٍ دينًا لا يكون اليوم دينًا”([1]).
فما إن تُخمَد بدعة ويُردُّ على ما استدلّ به أصحابها مما ظنوه دليلًا إلا وتطل بدعَة أخرى ويزعم أصحابها قيام الدليل عليها، فكم من عالم وداعية ردّوا بالأدلة الصحيحة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي([2]) ومع ذلك نرى بعضهم يعود مستدلًا بما لا يصلح دليلًا على مشروعية الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، وفيما يلي بيان طريقتهم في عرض ما استدلوا به، متبوعًا بتفنيد شبهتهم والجواب عنها.
عرض ما استدلوا به على شرعية المولد:
قال أحدهم: روى الإمام ابن كثير في البداية والنهاية والإمام الحافظ المقدسي وكثير من أهل الصحاح وكثير من الحفاظ وأهل العلم أن الشيطان رنَّ في الكون أربعَ رنات… وذكر منها: رنَّ إبليس عندما ولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم… ثم زعم: أن القائلين ببدعية الاحتفال بالمولد أخذوه من هذا الكلام، وأنَّ شيخهم في ذلك هو إبليس([3]).
تفنيد شبهتهم:
سيتركز الكلام في هذه المقالة -إن شاء الله تعالى- حول الحديث وما استدلّ به قائله؛ وليس من مقاصدها التنبيهُ على الأخطاء المنهجية في كلام صاحب الدعوى، ومنها قوله: “روى الإمام ابن كثير في البداية والنهاية، والإمام الحافظ المقدسي، وكثير من أهل الصحاح، وكثير من الحفاظ وأهل العلم”؛ فإنه لا يخفى على من له أدنى مسكة مِن علم ما تتضمّنه هذه العبارات من الأخطاء العلمية الكثيرة، ومنها على سبيل المثال: أنَّ ما يورده الإمام ابن كثير في كتابه “البداية والنهاية” عاريًا عن السند لا يقال فيه: رواه، وإنما يقال: نقله أو ذكره أو قاله، ونحو ذلك من العبارات، والإمام ابن كثير أورد هذا الكلام بغير سند، فالصواب أن يقال: نقل الإمام ابن كثير أو نحو ذلك، ولا يقال: روى.
ثم من هذا الإمام الحافظ المقدسي؟! ومن أهل الصحاح الذين رووا هذا؟! وبعد البحث والتفتيش لن نجد جوابًا؛ إذ هو كلام مبهم فضفاض، مقصوده إيهام السامع والتغرير به؛ فمثلُه كما قال الله تعالى: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39].
ولتفنيد تلك الشبهة لا بد أولا من بيان الطريقة الصحيحة في الاستدلال -وهي طريقة أهل السنة- ثم مقارنتها بما قام به صاحب الشبهة.
طريقة أهل السنة في الاستدلال:
لا يجوز لقائل أن يستدلّ بكلام وينسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم جزمًا قبل التثبت من صحة سنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا يقول الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله: «الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء»([4]).
لذا كان لزامًا على طالب الحقّ المتجنّب لمتابعة الهوى: أن يبحث أولًا عن صحة نسبة هذا الكلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يتبع ذلك الكلام عن معانيه والأحكام المستفادة منه، وكما قالوا قديمًا: “ثبِّت العرش ثم انقش”.
مدى ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم:
هذا الكلام لا يثبت مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحال، ولم يروَ مسندًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم البتة، لا من طريق صحيح، ولا من طريق ضعيف.
وإنما روي بعض هذا الكلام -على خلاف ما أورده صاحب الشبهة فيما استدل به- عن مجاهد بن جبر رحمه الله أحد التابعين، وقد تنوعت طريقة المصنّفين في نقله:
فبعض المصنفين أسنده عن مجاهد؛ كأبي الشيخ وأبي نعيم الأصبهانيين([5]).
وبعضهم ذكره بدون إسناد؛ حيث نقله الإمام أبو عبد الله القرطبي معزوًّا إلى ابن الأنباري في كتابه “الرد”، والسيوطي في “الدر المنثور”، وذكره الحافظ ابن كثير في كتابه “البداية والنهاية” ضمن أحداث سنة ثلاث ومائة، وفيها توفي مجاهد بن جبر رحمه الله، فذكره ضِمن الآثار التي نقلها عنه، وليس مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم([6]).
وقد اتفق الجميع على لفظه في الجملة، إلا بعض الزيادات غير المؤثرة في المعنى، ومع ذلك سأشير إليها؛ ونظرًا لأن كتاب “البداية والنهاية” هو المرجع الذي ذكره صاحب الشبهة وركَّز عليه فسأورد لفظ الأثر منه:
فعن مجاهد قال: “رنَّ إبليس أربع رنات([7]): حين لُعِن، وحين أُهبِط، وحين بُعث النبي صلى الله عليه وسلم([8])، وحين أنزلت {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}([9])، وأنزلت بالمدينة، وكان يقال: الرَّنة والنَّخرة من الشيطان، فلعن من رَنَّ أو نَخَر”.
وقوله: “رنّ إبليس” أي: صاح: وا ويلاه! والرنة والرنين: المنكر([10]).
وبناء على ذلك: فليس فيما ادعاه حجة؛ إذ من المقرر عند جماهير أهل العلم أن قول التابعي ليس بحجة بمفرده، ولا يستدلّ به([11])؛ ولهذا يقول الإمام أحمد رحمه الله: “فإن لم يأت عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ولا عن أحدٍ من أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلم، نظر في قول التابعين، فأيُّ قولهم كان أشبهَ بالكتاب والسنة أخذ به، وترك ما أحدث الناسُ بعدهم”([12]).
إنما غاية ما يُستفاد من هذا الأثر وقول مجاهد فيه: “حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم”: موافقته لما ثبت في كتاب الله تعالى من منّته على عباده المؤمنين ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]؛ لذا اشتدّ غيظ إبليس لعنهُ الله، فرنَّ وارتفع صوته بالويل والثبور.
وفي قول مجاهد: “الرَّنة والنَّخرة من الشيطان، فلعن من رَنَّ أو نَخَر” موافقةٌ لما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت»([13]).
تحريف أصحاب الشبهة للفظ الأثر:
قام أصحاب تلك الشبهة بتحريف كلمة واحدةٍ في الأثر ليوافق زعمهم؛ حيث أوردوا قول مجاهد هكذا: “رنَّ إبليس حين ولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم”([14])، وهذا الكلام لا يوجد في هذا الأثر المنقول عن مجاهد ولا عن غيره، وإنما اللفظ الثابت عن مجاهد هو: “وحين بعث محمد صلى الله عليه وسلم”، ثم أكده مجاهد بقوله: “وبُعث على فترة من الرسل” كما جاء في الرواية المسندة([15]).
وفرقٌ كبير بين ولادته صلى الله عليه وسلم وبين بعثته وإرساله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة؛ وهذا التحريف وحدَه كافٍ في إسقاط ما زعمه هذا المتكلّم وما استدلّ به، فيقال له: من أين لك أن إبليس رنّ عند ولادته صلى الله عليه وسلم؟! وحيث لا جواب سقط ما زعموه زورًا.
أما أهل العلم فإنهم يذكرون الأثر على وجهه الصحيح، ويبينون بعض ما يستفاد منه: وهو شدة غيظ إبليس -لعنه الله- وحَنقه من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وظهور الحق على يديه وانتشار دعوته في العالمين؛ وفي هذا المعنى يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله: “ولم يعظُم على إبليس شيء أكبر من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وانشار دعوته في مشارق الأرض ومغاربها، فإنه أيِس أن تعود أمته كلّهم إلى الشرك الأكبر”([16]).
إذن لا علاقةَ لهذا الأثر -من قريب ولا من بعيد- بمسألة الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ إن مولد النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر في الأثر أصلًا، وإنما المذكور فيه هو بعثته صلى الله عليه وسلم، وهو الذي جعل إبليس يستشيط غيظًا.
وما أجمل ما كشف به الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله عن حقيقة أصحاب البدع، وأنه لا دليل لهم، بل الأدلّة تفضحُهم وتكشف عوار منهجِهم، وأن الخير والفلاح في التمسّك بما كان عليه سلف الأمة رضي الله عنهم، حيث قال: “اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها أو عبرة فيها، فإن السنةَ إنما سنَّها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلَّل والحمق والتعمّق، فارضَ لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفُّوا، وهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أولى…”([17]).
الحيل وقلب الاستدلال:
زعم صاحب الشبهة أن القائلين ببدعية الاحتفال بالمولد النبوي أخذوا ذلك من رنة إبليس عند مولده!
ومعلوم أن القائلين ببدعية الاحتفال بالمولد النبوي في هذا الزمان هم من يتّبعون منهج السلف الكرام رضي الله عنهم، إيمانًا وعملًا ودعوة للحق وصبرًا على ما يلاقونه في سبيل ذلك، ويجاب عن هذه المزاعم من وجوه:
الأول: أن هذا الكلام من أصحاب تلك الشبهات قلبٌ للحقائق ومصادرةٌ لقول مخالفيهم وتقوُّل عليهم بما لم يتفوّهوا به، بل لا أكون مغاليًا إذا قلت: لم يخطر على قلب واحد ممن يتبعون المنهج السلفي قبل ذلك، ولا أظنه يحدث بعدُ.
الثاني: كيف يعقل أنّ أناسًا عاشوا على متابعة سنة النبي صلى الله عليه وسلم قولًا وفعلًا، وسعوا في نشرها بكل وسيلة مشروعة، وصبروا على ما يلاقونه في سبيل ذلك، يقومون بعد هذا كلّه بالحزن لما حزن له إبليس والاستدلال به على أمر شرعي؟! سبحانك هذا بهتان عظيم.
الثالث: أتباع المنهج السلفي هم السائرون على منهج الصحابة ومن تبعهم بإحسان، فهل سيقول أصحاب تلك الشبهة: إن الصحابة وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم استدلّوا به أيضا على عدم الاحتفال بالمولد النبوي؟!
الرابع: لو كان الاحتفال بالمولد النبويّ خيرًا لسبقنا إليه الصحابة الكرام ومن تبعهم بإحسان رضي الله عنهم أجمعين، فما لم يثبتوه دينًا لا يكون اليوم دينًا، كما قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله، وقد تقدم.
وفي الختام أسأل الله تعالى أن يهدينا سواء السبيل، وأن يجلّي الغشاوة عن قلوبنا فنرى الحق حقًّا، ونتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم بلا إفراط ولا تفريط، ففي الصحيح عن ابن عباس سمع عمر رضي الله عنه يقول على المنبر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابنَ مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله»([18]).
ويقول الحسن البصري: “سنتكم -والله الذي لا إله إلا هو- بينهما: بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإنّ أهل السنة كانوا أقلّ الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي: الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذاكم -إن شاء الله- فكونوا”([19]).
والله سبحانه الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 58)، الاعتصام للشاطبي (2/ 383-384).
([2]) في مركز سلف مقال بعنوان: “حكم الاحتفال بالمولد النبوي وأدلة ذلك”، ودونك رابطه:
([3]) ينظر: كلام جابر بغدادي، وهذا الرابط:
https://www.youtube.com/watch?v=MDky0Awo2-s
([4]) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (1/ 15).
([5]) أخرجه أبو الشيخ في العظمة (5/ 1679)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (3/ 299).
([6]) ينظر: تفسير القرطبي (1/ 109)، والبداية والنهاية (9/ 251)، والدر المنثور (1/ 17).
([7]) ليست في الرواية المسندة.
([8]) بعدها في الرواية المسندة: “وبعث على فترة من الرسل”.
([10]) ينظر: الترغيب والترهيب لقوام السنة (3/ 238).
([11]) ينظر : الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (1/ 439).
([12]) ينظر: طبقات الحنابلة لأبي يعلى (3/ 628-629)، وبدائع الفوائد لابن القيم (4/ 63-64).
([14]) هكذا قاله جابر بغدادي في المقطع المشار إليه سابقًا.
([15]) كما في كتاب العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (5/ 1679).
([16]) تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 614).
([17]) ينظر: سنن أبي داود (4/ 203)، والبدع لابن وضاح (ص: 66).