قوانين العقل الباطن.. وأثرها في نشر الإلحاد في بلاد المسلمين
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
يقول الله عز وجل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120].
فلن يهدأ أعداء الإسلام، ولن تغمض عيونهم؛ حتى يروا الإسلام وقد ذهبت عنه هيبته، وانمحى أثره من النفوس؛ لذا نجدهم يتقلَّبون على جمر الغضى، ويشحذون عقولهم وفكرهم لاختراع الأساليب الماكرة التي في ظنَّهم ستحقق مآربهم.
ولكن هيهات هيهات، فهم كلَّما شقوا طريقًا للفساد، واعتقدوا أنَّهم وصلوا إلى النهاية، وشارفوا على حصد النتائج والثمار، يُفاجَؤون بأنَّ الطريق قد رُدم، وأُوصد دونهم، فيرتدُّون على أعقابهم خاسرين، {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا} [المائدة: 64].
فأخطر ما تفتَّقت عنه أذهانهم الخبيثة هو الدخول على أبناء الإسلام بخديعة التجديد والتطوّر، وتنمية القدرات والأداء البشري، وتطوير الذات، وإكسابها القوَّة والثقة([1]). فدخلو علينا بأسماء فخمة، وشعارات رنانة، مثل: “أيقظ قواك الخفيّة”، “قدراتك بلا حدود”، “قوة التفكير”، “اكتشاف الذات”، “أيقظ قدراتك واصنع مستقبلك”، وأخيرًا: “قوة العقل الباطن”.
وعن طريق هذا الأخير نشروا بين شباب المسلمين وثنيتهم في ثوب جديد، فجعلوا من هذا العقل الباطن إلهًا يُعبد من دون الله، فقدراته بلا حدود، قوة جبّارة في داخل الإنسان.
يقول أحدهم: “عقلك الباطن لديه الحلّ لجميع المشاكل”، “عقلك الباطن يستطيع أن يشفيك”، “لا تعتقد في أشياء تسبّب لك الضرر أو الأذى، اعتقِد في سلطة وقوة عقلك الباطن”([2]).
وهكذا بمثل هذه الشعارات الرنانة نشروا الشرك بين شباب المسلمين.
فما العقل الباطن، أو العقل اللاوعي؟ وما تطبيقاته؟ وما الانحرافات المترتبة على اعتقاد العقل الباطن؟
أولًا: تعريف العقل الباطن:
هو مفهوم نشأ أول ما نشأ في فروع الطبّ النفسي، يقترب كثيرا من معنى “النفس”، أو “القلب”، أو “الإرادة”، أو “الروع”، أو “الذاكرة”، ونحوها من المفاهيم التي نعرف من معانيها قاسما مشتركا متعلّقا بمخزن الأفكار والتصورات والمشاعر والأحاسيس في النفس الإنسانية.
وجاء في معجم اللغة العربية المعاصرة: “العقل الباطن هو: جزء من الدِّماغ يحتوي على عناصر التَّكوين العقليّ أو النَّفسيّ، التي لا تخضع لسيطرة أو إدراك الوعي، ولكنَّها غالبًا ما تؤثِّر في التّفكير أو التّصرّف الواعي، رغبات مكبوتة في اللّاشعور”([3]).
ويمكن أن نسميه: “اللّاشعور، أو اللّاوعي”([4]).
وجاء في “موسوعة ويكيبيديا” على الإنترنت تعريفهم للعقل الباطن بقولهم: “العقل الباطن -ويسمى أيضًا: العقل اللاواعي، واللاشعور- هو: مفهوم يشير إلى مجموعة من العناصر التي تتألف منها الشخصية، بعضها قد يعيه الفرد كجزء من تكوينه، والبعض الآخر يبقى بمنأى كلي عن الوعي.
وهناك اختلاف بين المدارس الفكرية بشأن تحديد هذا المفهوم على وجه الدقة والقطعية، إلا أن العقل الباطن على الإجمال هو: كناية عن مخزن للاختبارات المترسبة بفعل القمع النفسي، فهي لا تصل إلى الذاكرة.
ويحتوي العقل الباطن على المحركات والمحفزات الداخلية للسلوك، كما أنه مقر الطاقة الغريزية الجنسية والنفسية بالإضافة إلى الخبرات المكبوتة([5]).
الفرق بين المفهوم الفلسفي وغير الفلسفي للعقل الباطن:
جاء في “الموسوعة العربية العالمية” في مصطلح “اللاوعي” وهو العقل الباطن: “اللاوَعْي: مصطلح في علم النفس لوصف العمليات العقلية والأفكار والتصورات والمشاعر التي تدور في عقول الناس دون إدراك منهم”.
فمن أطلق “العقل الباطن” وأراد به هذه الأمور، فلا حرج عليه في ذلك، ولا يلحقه ذم ولا تثريب من هذا الوجه؛ بشرط أن تكون تطبيقاته العملية مقبولة: مما يشهد لها العقل والتجربة بالصحة والقبول، وتتوافق مع أصول الشرع، أو على أقل تقدير: لا تصادمها، ولا تخرج عن شيء من التصورات والأحكام الشرعية، وقد جرى استعمال هذا المصطلح على ألسنة كثير من الكتاب والمفكرين والمصنفين الإسلاميين.
أما استعمال “العقل الباطن” على سبيل “المفهوم الفلسفي الباطني”، بحيث يكون وسيلة للتواصل مع “الوعي الكوني”، يستقي منه معارف خاصة وعلوما غيبية، تمامًا كما هي نظرية ابن عربي الذي قرر مفهوم انعكاس العلوم الغيبية ومنها علوم اللوح المحفوظ على النفس الباطنة التي تجردت من عوارض البشرية عبر مجموعة من الخطوات والممارسات، فلا شك أن هذا باب من أبواب فساد الفكر والتصورات، وهي أساس العقائد الباطنية المنحرفة، وسبيل للغواية والضلالة([6]).
قوانين العقل الباطن:
قال هربرت ستيدج: “هناك 276 قانونًا للعقل الباطن، تقوم هذه القوانين بتحديد طريقة تعامل الشخص مع عقله، ومن ثم تطويعه لتحقيق أهدافه.
1- قانون نشاطات العقل اللاواعي:
والذي يعني أن أي شيء تفكر به سوف يتسع وترى منه الكثير، فبفرض أنك نظرت للبحر ورأيت سمكة، بعدها سوف تجد نفسك ترى عدة أسماك وهكذا.
وهذا يوصلك للقانون الثاني:
2- قانون التفكير المتساوي:
والذي يعني أن الأشياء التي تفكر بها والتي سترى منها الكثير ستجعلك ترى شبهها بالضبط، فلو كنت تفكر بالسعادة فستجد أشياء أخرى تذكرك بالسعادة وهكذا، وهذا الذي يوصلك للقانون الثالث:
3- قانون التجاذب:
والذي يعني أن أي شيء تفكر به سوف ينجذب إليك ومن نفس النوع، أي: أن العقل يعمل كالمغناطيس. فإن كنت مثلا تفكر بشيء إيجابي فسوف ينجذب إليك ومن نفس النوع، وكذلك الأمر إن كنت تفكر بشيء سلبي.
ويعد هذا القانون من أخطر القوانين، فالطاقة البشرية لا تعرف مسافات ولا تعرف أزمنة ولا أماكن، فأنت مثلًا لو فكرت في شخص ما ولو كان على بعد آلاف الأميال منك، فإن طاقتك سوف تصل إليه وترجع إليك ومن نفس النوع، كما لو كنت تذكر شخصًا ما، فتفاجأ بعد قليل برؤيته ومقابلته، وهذا كثيرا ما يحصل.
4- قانون المراسلات:
والذي يعني أن عالمك الداخلي هو الذي يؤثر على العالم الخارجي، فإذا تبرمج الإنسان بطريقة إيجابية يجد أن عالمه الخارجي يؤكد له ما يفكر به، وكذلك الأمر إن تبرمج بطريقة سلبية.
5- قانون الانعكاس:
والذي يعني أن العالم الخارجي عندما يرجع إليك سوف يؤثر على عالمك الداخلي، فعندما تُوجه لك كلمة طيبة سوف تؤثر في نفسك، وتكون ردة فعلك بنفس الأسلوب، فترد على هذا الشخص بكلمة طيبة أيضًا، وهذا يوصلنا للقانون السادس:
6- قانون التركيز: “ما تركز عليه تحصل عليه”:
والذي يعني أن أي شيء تركز عليه سوف يؤثر في حكمك على الأشياء، وبالتالي على شعورك وأحاسيسك.
فأنت الآن إن ركزت مثلا على التعاسة فسوف تشعر بمشاعر وأحاسيس سلبية، وسيكون حكمك على هذا الشيء سلبيّا. وبالمقابل فأنت إن ركزت على السعادة فسوف تشعر بمشاعر وأحاسيس إيجابية، أي: أن بإمكانك أن تركز على أي شيء سواء كان إيجابيا أو سلبيا.
7- قانون التوقّع:
والذي يقول: إن أي شيء تتوقعه وتضع معه شعورك وأحاسيسك سوف يحدث في عالمك الخارجي، وهو من أقوى القوانين؛ لأن أي شيء تتوقّعه وتضع معه شعورك وأحاسيسك سوف تعمل على إرسال ذبذبات تحتوي على طاقة، والتي ستعود إليك من جديد ومن نفس النوع.
فأنت إن توقعت أنك ستفشل في الامتحان ستجد نفسك غير قادر على التفكير، وأنك عاجز عن الإجابة على الأسئلة وهكذا؛ لذا عليك الانتباه جيدًا إلى ما تتوقعه؛ لأنه هناك احتمال كبير جدا أن يحصل في حياتك، فكثيرًا ما يتوقع الإنسان أنه الآن إذا ركب سيارته فلن تعمل، وبالفعل عندما يركبها ويحاول تشغيلها لا تعمل.
8- قانون الاعتقاد:
والذي يقول: إن أي شيء معتقد فيه بحصوله وتكرره أكثر من مرة وتضع معه شعورك وأحاسيسك سوف يتبرمج في مكان عميق جدًّا في العقل اللاواعي.
كمن لديه اعتقاد بأنه أتعس إنسان في العالم، فيجد أن هذا الاعتقاد أصبح يخرج منه ودون أن يشعر وبشكل أوتوماتيكي ليحكم بعد ذلك سلوكك وتصرفاتك. وهذا الاعتقاد لا يمكن أن يتغير إلا بتغيير التفكير الأساسي الذي أوصلك لهذا الاعتقاد.
وهنا طبعا لا نتحدث عن الاعتقادات الدينية، وإنما عن اعتقادات مثل: أني خجول، أو أني غير محظوظ، أو أني فاشل، أو غير ذلك، وهذه كلها اعتقادات سلبية طبعا.
9- قانون التراكم:
الذي يقول: إن أي شيء تفكر فيه أكثر من مرة وتعيد التفكير فيه بنفس الأسلوب وبنفس الطريقة سوف يتراكم في العقل اللاواعي، كمن يظن نفسه متعبًا نفسيّا، فيأخذ بالتفكير في هذا الأمر، ثم يرجع في اليوم التالي ويقول لنفسه: أنا متعبٌ نفسيا، وكذلك الأمر في اليوم التالي. فيتراكم هذا الشيء لديه يومًا بعد يوم، كذلك كمن يفكر بطريقة سلبية، فيبدأ يتراكم هذا التفكير لديه، وكل مرة يصبح أكثر سلبية من المرة السابقة، وهكذا.
10- قانون العادات:
إن ما نكرره باستمرار يتراكم يومًا بعد يوم كما قلنا سابقا، حتى يتحول إلى عادة دائمة.
حيث من السهل أن تكتسب عادة ما، ولكن من الصعب التخلص منها، ولكن العقل الذي تعلّم هذه العادة بإمكانه أن يتخلص منها وبنفس الأسلوب.
11- قانون الفعل ورد الفعل “قانون السببية”:
فأي سبب سوف يكون له نتيجة حتمية، وأنت عندما تكرر نفس السبب سوف تحصل بالتأكيد على نفس النتيجة، أي: أن النتيجة لا يمكن أن تتغير إلا إذا تغير السبب.
ونذكر هنا مقولة: “من الخطأ أن تحاول حل مشاكلك بنفس الطريقة التي أوجدت هذه المشكلة”.
فأنا مثلا ما دمت أفكر بطريقة سلبية سوف أبقى تعيسًا، ولن أصبح سعيدًا ما دمت أفكر بهذه الطريقة، فالنتيجة لا يمكن أن تتغير إلا إذا تغير السبب.
12- قانون الاستبدال:
فمن أجل أن أغير أي قانون من القوانين السابقة لا بد من استخدام هذا القانون، حيث بإمكانك أن تأخذ أي قانون من هذه القوانين وتستبدلها بطريقة أخرى من التفكير الإيجابي، فمثلًا لو كنت تتحدث مع صديق لك عن شخص ما، وتقولون عنه بأنه إنسان سلبي، هل تدري ما الذي فعلته؟ أنت بذلك أرسلت له ذبذبات وأرسلت له طاقة تجعله يتصرف بطريقة أنت تريد أن تراها.
وبالتالي عندما يتصرف هذا الشخص بطريقة سلبية تقول: أرأيت؟ ها هو يتصرف بطريقة سلبية، ولكنك أنت الذي جعلته يتصرف بهذه الطريقة([7]).
كشف حقيقة هذه القوانين:
عند النظر في هذه القوانين نجدها تهدف في كثير من تطبيقاتها وملحقاتها إلى تعظيم شأن الإنسان وقدراته بصورة مبالغ فيها، قد تصل إذا ضعُفت خبرة المدرّب بمقاصد الدين لتربية ما يسمى عند أصحاب مذهب القوة “مذهب نيتشه([8])” بالرجل السوبرمان، الذي لا يحتاج بعد كل هذه القدرات لفكرة اعتقاد إله، فهو وحده يملك أمر صحته ومرضه وسعادته وشقائه، وإن مسه خير قال: إنما أوتيته على علم عندي.
فهو يستطيع أن يرى ما يشاء في أي وقت شاء، فإن أراد أن يرى شخصًا الآن جاء به بقوة عقله الباطن، ويستطيع أن يجلب لنفسه السعادة بقوة عقله الباطن، ويستطيع أن يجذب إليه من يشاء بقوة عقله الباطن، يستطيع بقوة عقله الباطن أن يصنع عالمه الخارجي، فيستطيع أن يكون غنيًّا أو فقيرًا مريضًا أو صحيحًا، بل يستطيع أن يقول للشيء: كن فيكون.
فهذه القوانين تؤدي إلى تأليه الإنسان لنفسه، فهو لا يحتاج لإله يهديه، ويعتمد عليه، ويدعوه، ويخاف منه. وهكذا هم يريدون من الإنسان أن يخرج عن كل القوانين، وعن كل الأديان، وعن كل المعتقدات، حتى يصل إلى مرحلة: “النرفانا”، فهم يعتقدون أن الوصول لمرحلة “النرفانا” غاية الوجود، وهي الضمان للنجاة من جولان الروح أو الطريق للاتحاد بالعقل الكلي.
ويمكن وصف “النرفانا” بأنها مراحل تبدأ بالمرحلة التي يحدث فيها خروج عن سيطرة العقل الواعي، ويصل لها الشخص بالانهماك والتركيز في رياضاته الروحية التي تؤهله للمرحلة التالية، وتنتهي بالمرحلة التي يتصف فيها بصفات لا تكون إلا “للآلهة” إذ تتدفق فيه طاقة “الكلي” وتمنحه السمو والروحانية والحكمة والتنوّر.
ويعيش حالة من النشوة، وقد يُغشى عليه أو يفقد عقله، ويمتلكه شعور بوحدته مع الكلي، وأن الكون خال إلا من الكلي الواحد (وحدة الوجود).
والنرفانا هي غاية ما يريده البوذي والهندوسي من تأملاته “عباداته”، وهي غاية في جميع تطبيقات هذه المذاهب الفلسفية الروحية، وتسمى عند مفكري “الماكروبيوتيك” بمرحلة “السمو”. ويسميها ممارسو التنويم: مرحلة الغشية أو النشوة Trance وفيها يتم التعامل مع العقل اللاواعي. وهي عند ممارسي “التشي كونغ” مرحلة “الخلاء” Emptiness.
وهي على الغالب مرحلة “الفناء” أو “السكر” عند المتصوفة، التي ثبت على كثير منهم فيها شطحات أوصلت بعضهم للكفر والقول بوحدة الوجود([9]).
هذا ما تنبني عليه قوانين العقل الباطن، أو العقل اللاواعي، وهذا ما يريدون أن يتربى عليه شباب المسلمين.
وبمثل هذه الأفكار ينخدع شباب المسلمين، فكل واحد منهم يريد أن يكون هذا الرجل السوبر مان الذي يستطيع فعل أي شيء في أي وقت، والذي يقول للشيء: كن فيكون، والذي يحقق أحلامه وطموحاته وهو على فراش نومه.
الانحرافات المترتبة على اعتقاد العقل الباطن:
أولا: فلسفة العقل الباطن اللاواعي وقدراته المدعاة وتطبيقات التنفس ونحوها أمور وراءها معتقدات ملحدة خطيرة، ولا يمكن فصل التطبيق عن أصله.
وكثير ممن مارسوا تطبيقات البرمجة اللغوية العصبية أصابتهم لوثة الفلسفة فيما بعد، بينما هم منشغلون ببعض النتائج الإيجابية التي يجدونها لحماسهم وبذلهم قصارى جهودهم في بداية تطبيقهم، فلا ينتبهون أنهم ينحرفون بعيدًا عن منهج العبودية، متبعين خطوات الشيطان التي نهوا عن تتبعها.
ثانيًا: كل البرامج والفلسفات التي تدّعي معرفة حقيقة العقل وحقيقة نفس الإنسان بعيدًا عن هدى النبوات هي في جملتها ضلالات وإن تضمنت جوانب صحيحة.
وأسماء الدورات المروج لها وقناعات مقدميها عن العقل اللاواعي (الباطن) تدل على الوقوع في لوثة هذه الضلالات.
فالدين يأمرنا بحفظ العقل، ويحذر من التلاعب به، ويعطي منهجًا للمحافظة عليه وإعماله فيما خلق من أجله، وهؤلاء يدعون لتغييره أو تغييبه، ويفسرونه على غير المعروف عند العقلاء قديما وحديثا؛ حتى صرنا نسمع عن تسخير العقل الباطن لتحقيق كلّ مستحيل ولتحقيق كلّ الخوارق([10]).
ثالثًا: مصادر المعرفة عند أصحاب هذه المذاهب ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمذاهب الباطنية، بل إن شئت قلت: هي إحياء للقول بوحدة الوجود، والقول بالحلول والاتحاد.
تقول الدكتورة فوز الكردي عن ارتباط مصادر المعرفة في هذه المذاهب الروحية بالمصادر الباطنية: “يختلف القائلون بها في تحديد المصدر الذي تنبع منه، فأهل التصوف العقلي كالفارابي وابن سيناء يردون هذه المعرفة إلى ما يسمونه العقل الفعال، فيقولون: إن العقل البشري في طريق رقيه وتطوره يمر بمراحل متدرجة بعضها فوق بعض، فهو في أول أمره عقل بالقوة، فإذا أدرك قدرًا كبيرًا من المعلومات العامة والحقائق الكلية أصبح عقلًا بالفعل. وقد يتسع مدى نظره ويحيط بأغلب الكليات، فيرقى إلى أسمى درجة يصل إليها الإنسان، وهي درجة العقل المستفاد أو درجة الفيض والإلهام.
وهذه الرتبة عندهم هي السعادة التي لا تبلغها إلا النفوس الطاهرة المقدسة التي تستطيع أن تخرق حجب الغيب وتصعد إلى عالم النور والبهجة.
وقد يردون حصولها إلى النفس وما فيها من القوى، فيعتقدون بوجود ما يسمونه القوة القدسية التي يزعمون أنها طريق يُنال به العلم بلا تعلم، ويتبعها قوة تخيلية تخيل للإنسان ما يعقل في نفسه بحيث يرى أو يسمع في نفسه أصواتًا كما يراه النائم ويسمعه، ولا يكون لها وجود في الخارج.
والصوفيون المنتسبون للإسلام يرون أن مصدر هذه المعرفة هو الله عز وجل بناء على عقيدة الحلول والاتحاد أو عقيدة الوحدة.
أما الفلسفة الروحية الحديثة التي تخلط بين هذه الفلسفات بطريقة جديدة وتدور حول عقيدة وحدة الوجود فإن مصدر المعرفة فيها هو ما يسمى: العقل الباطن الذي تفيض معرفته على النفس، فإذا تحرر الإنسان من سيطرة العقل الباطن وهو الجزء الواعي من دماغه فيدخل في حالة اللاوعي، ومنه يتصل باللاواعي الجمعي، فينهل من العرفان بعيدًا عن سجن الجسد وسيطرة العقل الذي يكون قد غُيب بأحد طرقهم كما عند أسلافهم.
ويرى أصحاب هذه الفلسفات أن المتمرسين في رياضاتها الروحية يمكنهم الوصول إلى درجات أعلى من العرفان يكشف فيها الماضي والحاضر والمستقبل، بل ويعاش وكأنه اللحظة الآنية، ويمكن التغيير فيه والتحويل والتبديل، إذ لا حدود للزمان وللقدرة والعلم إذا اتصل الإنسان بذلك العالم الروحاني بزعمهم.
والقائلون بهذه المعرفة يعدونها سرية خفية وشخصية نسبية، تختلف من شخص إلى آخر بحسب ما يجد في نفسه. ومنهم من يرى أن الترقي في معارجها يعتمد على مطالعة التجارب المدونة في كتب الحكمة القديمة المحفوظة التي تمثل تراثًا سريًّا منقولًا للمعرفة الباطنية عمن وصلوا إلى قمتها ممن يسمونهم الحكماء العارفين أو الحكماء الأوائل”([11]).
وعلى هذا فيعتبر العقل الباطن عند هؤلاء وسيلة للتواصل مع «الوعي الكوني» -وهو «ذاكرة» تتضمن العلم كله ماضيه ومستقبله بزعمهم- وله تسميات عدة. ومن خلال هذا التواصل يُعتقد أنه بإمكان الإنسان تحصيل المعارف الخفية والعلوم الغيبية من مصدر العلم مباشرة.
وهذا باب واسع للانحراف، فمصدر العلوم المطلقة هو الرب، ودعوى الأخذ عنه مباشرة دعوى باطنية قديمة، تتناقض مع عقيدة ختم النبوة وأصول التلقي.
وهذا القول يتيح للإنسان علمًا غير محدود ومعرفة مطلقة، لا يقول بها من وحّد الله بربوبيته وبأسمائه وصفاته([12]).
رابعًا: الاعتقاد بأن العقل الباطن يخلق الواقع الخارجي، ويشكل الأحداث، وهو ما يقوله بعض أصحاب قانون الجذب.
فإن يقينيات العقل الباطن عندهم تتجلى بالمحسوس، حتى يكون هو مصدر تحقيق كل الرغبات بلا استثناء، وما على الإنسان سوى تزويده بالرسائل الإيجابية.
وهذا مفهوم متأصل في الفلسفة الشرقية التي تجعل «الوعي» هو الوجود المطلق، ومن ثم يكون الفكر هو حقيقة الوجود، وبتوجيهه يتغير الواقع.
فالثروة والصحة والسعادة والزواج والذرية والنجاح توجِدها قناعات العقل الباطن.
ومن النماذج التي تدل على ذلك قولهم في تدريباتهم:
“اتخذ قرارًا بأن تكون غنيًّا بأيسر الطرق، بالاستعانة بقوة عقلك الباطن التي تساندك دومًا”.
“إن سعيك لتجميع الثروة من خلال العرق والجهد هو الوسيلة الوحيدة لكي تصبح أغنى رجل في العالم، ولكن في العالم الآخر لست مضطرًّا للكدح والكفاح”.
“إن الثراء هو قناعة كامنة في العقل الباطن، اطبع في عقلك هذه الفكرة”([13]).
خامسًا: الدعاء عند بعضهم ليس إلا رسائل إيجابية للعقل الباطن الذي هو الواهب الحقيقي، ولذلك لا يهم من تدعو ما دمت متيقّنًا!
يقول صاحب كتاب (قوة عقلك الباطن): “ليس ما اعتقد فيه هو ذلك الشيء الذي يتحقق في نتيجة لتضرع الإنسان وصلاته، فالاستجابة للتضرع والصلاة تنتج عندما يستجيب العقل الباطن للصورة الذهنية، أو الفكر في العقل الواعي للإنسان.
وهذا الاعتقاد يتحقق في جميع الأديان في العالم، وهو السبب في أن كل الأديان صادقة، وحقيقة تتقبلها النفس، فالمسيحية والإسلام واليهودية تستجيب للصلوات، ليس من أجل عقيدة معينة، أو دين أو نسب أو طقوس أو شعائر أو أدعية أو قرابين، وإنما الاستجابة فقط سبب إيمان أو قبول العقل لما يصلون من أجله. فقانون الحياة هو قانون الاعتقاد، والاعتقاد يمكن إيجازه بأنه: الفكر الذي في عقل الإنسان”([14]).
سادسًا: هذه الدورات تضخم الأنا والذات، وتبالغ في الاعتماد على القدرات الفردية، فهي فكر فلسفي مادي، يدور حول تضخيم العقل، وإعطاء الإنسان قدرة حتمية على التغيير، بعيدًا عن قدرة الله عز وجل.
فهي تحمل في طياتها فكر المدرسة العقلانية، الذي يعد امتدادًا لمذهب القدرية القائل بأن الإنسان يستطيع أن يخلق فعل نفسه([15]).
وها هو أنتوني روبتر -أحد كبار زعماء هذه الفلسفة- يذكر في كتابه “قدرات غير محدودة” قصة تظهر قوة العقل الباطن في خلق الأفعال، إذ تقول القصة: “كنت أعيش في منزل أنيق، ولكني كنت أريد مكانًا أفضل، قررت أن أضع تصميمًا ليومي، ثم أعطي إشارة لعقلي الباطن؛ لأخلق لنفسي هذه الحياة المثالية عن طريق ممارستها في خيالي، لم يكن لدي أموال، ولكني قررت أنني أريد أن أكون مستقلًّا من الناحية المادية.
وبالفعل حصلت على كل شيء كما رسمته في مخيلتي، لقد هيأت لنفسي الجو الذي يغذي عقلي وقدرتي على الخلق والابتكار. لماذا حدث كل هذا؟
لقد حددت هدفًا لنفسي، وكل يوم كنت أعطي عقلي رسائل واضحة ودقيقة ومباشرة تقول: إن هذا هو واقعي الذي أعيش فيه؛ ولأنني لديّ الهدف الواضح المحدد، فإن عقلي الباطن قاد أفعالي وأفكاري إلى تحقيق الأهداف التي كنت أبغيها”([16]).
سابعًا: هذه الدورات التي تضخم من دور العقل الباطن تعلّم الإنسان أن كل شيء يمكن أن يكتسب بالجد والاجتهاد بعيدًا عن مشيئة الله تعالى، وهو ما يسمى عندهم: حتمية النجاح، متى ما عرف الإنسان وصفة النجاح.
ويضرب بعضهم مثلًا لذلك: أن رجلًا فقيرًا أصبح غنيًّا فجأة، وحين سُئل عن سر ذلك أجاب أن هناك شرطين لكل من أراد أن يصبح غنيًا:
الأول: أني قررت أن أصبح غنيًّا.
والثاني: أني شرعت في تنفيذ هذا القرار.
وقد علق المدرب المسلم على ذلك بقوله: “مو (ودِّي)، مو (يا ريت)، مو (إن شاء الله) أنا قررت”. فأين عقل هذا المدرب من قول الله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف: 23، 24]، وقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29]([17]).
ثامنًا: يدعو أصحاب هذه الدورات إلى الانطراح بين يدي العقل الباطن والتضرع إليه، فيصبح هو المسيِّر لأمورنا والمتحكّم فيها.
يقول جوزيف ميرفي في مقدمة كتابه “قوة العقل الباطن”: “تستطيع هذه القوة المعجزة الفاعلة للعقل الباطن أن تشفيك من المرض، وتعطيك الحيوية والقوة من جديد”.
ويعقد الدكتور ميرفي فصلًا في كتابه عن كيفية استخدام قوة العقل الباطن في تحقيق الثروة، ومن ذلك قوله: “عندما تذهب للنوم ليلًا كرر كلمة (غني) بهدوء وسهولة وإحساس بها، وسوف تدهشك النتائج، حيث ستجد الثروة تتدفق إليك، وهذا مثال آخر يدل على القوة العجيبة لعقلك الباطن”.
وهذا ما نسمعه ممن يدخلون هذه الدورات، فإذا أردوا شيئًا أخذوا يكررون: “أنا قوية، أنا قوية”. وهكذا يصبح العقل الباطن هو القوي، وهو القادر، وهو الرازق.
هذا هو الفكر المادي الذي يهيمن على الهندسة النفسية، وتكمن خطورته في أنه يسوق المسلم مع الوقت إلى التعلق بالأسباب المادية، وتعطيل التوكل على الله.
ولا شك أن هذا باب خطير من أبواب الشرك التي يجب أن يحذرها المسلم الذي يخاف على دينه وعقيدته([18]).
تاسعًا: من خطورة هذا الفكر الوافد على بلادنا أنهم ينشرون بين الناس أن التواصل مع العقل الباطن يُمكّن المرء من قدرات فوق بشرية وإمكانات بلا حد، وهذه المزاعم الخرافية من نواتج الاعتقاد بأن الوعي هو الوجود المطلق، وأن الفكر متحكم بالحقائق الخارجية، كما هو متقرر في الفلسفة الشرقية. والوعي الذي قد يُطلق عليه العقل الباطن هو كالإله في تلك الفلسفة، ولذلك فإن التواصل والانسجام معه أو الاتحاد به يورث قدرات خارقة([19]).
فمنها مثلًا:
– إمكانية التخاطر “قراءة الأفكار”، والتنبؤ، وتحريك الأشياء عن بعد:
يقول هربرت ستيدج: “يمكن أن تتجلى القدرات العقلية الخارقة بالمظاهر التالية: التخاطر وتوارد الأفكار، وهي عملية انتقال الأفكار من شخص لآخر على مستوى اللاوعي أو التحكم عن بعد”([20]).
– القدرة على رؤية ما لا يراه غيرك، وسماع ما لا يسمعه غيرك:
يقول هربرت ستيدج: “ومن القدرات الخارقة للعقل الباطن: الاستبصار، وهو القدرة على رؤية أحداث أو أشخاص أو أشياء، ليس بواسطة العين، وإنما بحاسة داخلية يشار إليها: بالعين الثالثة.
ومن هذه القدرات: الجلاء السمعي، وهو: القدرة على الحصول على معلومات عن أحداث أو أشخاص من خلال حاسة سمعية داخلية ليس لها علاقة بحاسة السمع التقليدية”([21]).
– القدرة على إدراك عوالم أخرى وهي: القدرة على رؤية كائنات غريبة، خارجة عن منظومتنا الحياتية:
وهذه الكائنات قد تشمل أشخاصًا فارقوا الحياة، وأرواحًا مرشدة، وملائكة، وجنًّا، وكائنات أخرى([22]).
ونحن نقول: هم قد يرون كائنات، ولكنها ليست ملائكة، وإنما يرون الشياطين التي توحي إليهم، وهذا ضرب من السحر والشعوذة والكهانة، كما قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء: 221-223]، وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121].
قال ابن القيم: “الكهنة رسل الشيطان؛ لأن المشركين يهرعون إليهم، ويفزعون إليهم فى أمورهم العظام، ويصدقونهم، ويتحاكمون إليهم، ويرضون بحكمهم، كما يفعل أتباع الرسل بالرسل، فإنهم يعتقدون أنهم يعلمون الغيب، ويخبرون عن المغيبات التي لا يعرفها غيرهم، فهم عند المشركين بهم بمنزلة الرسل.
فالكهنة رسل الشيطان حقيقة، أرسلهم إلى حزبه من المشركين وشبههم بالرسل الصادقين حتى استجاب لهم حزبه، ومثل رسل الله بهم لينفر عنهم، ويجعل رسله هم الصادقين العالمين بالغيب.
ولما كان بين النوعين أعظم التضاد قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد»([23])“([24]).
– تجاوز حاجز الزمن:
يقول هربرت ستيدج: “هذه القدرات ليست محدودة ضمن حاجز مكاني أو زماني محدد، أي: أنه ليس لها مسافة محدودة كما رأينا، لكن بنفس الوقت فهي تجتاز الحاجز الزمني أيضًا، حيث يستطيع الشخص النظر إلى الأمام والوراء في الزمن بنفس الوقت”([25]).
– معرفة الغيب:
يقول هربرت ستيدج: “تتجلى القدرات العقلية الخارقة في معرفة أحداث ماضية أو غيبية، وقد أصبح هناك الآن العشرات من الجمعيات والمختبرات العلمية والأكاديمية في مختلف أنحاء العالم تهتمّ بدراسة مختلف الظواهر الباراسيكلوجية، وقد توصلت هذه المختبرات إلى اكتشاف حقائق كثيرة لها أهمية بالغة في خدمة الإنسان.
لكن للأسف الشديد، معظم هذه الحقائق الجديدة لا زالت سرية؛ لأسباب كثيرة إستراتيجية، أو عسكرية، أو حتى دينية أو أيديولوجية، أو غيرها من أسباب سخيفة لا ترتفع إلى مستويات إنسانية وأخلاقية حقيقية”([26]).
وهكذا يزعم هؤلاء أن العقل الباطن هو وسيلة لمعرفة باطن الإنسان الغيبي وتفعيل القوى الخارقة الخفية بداخله انطلاقًا من قولهم: “إن الإنسان سيد نفسه ومصيره”.
إنه منهج بديل عن الدين الحق، يعطي تفسيرات للغيب بكل صوره، ويعطي صفة الألوهية للإنسان، والله عز وجل يقول: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65]، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188].
– الارتفاع في الهواء:
وذلك دون الاعتماد على أي وسيلة فيزيائية معروفة([27]).
وهذا كله إحياء للمذاهب الصوفية في الأمة من جديد، بعدما كادت تندثر، فهي وثنية حديثة ولكنها في ثوب جديد.
ونحن الأصل عندنا أن كل ما خالف ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم نرده ولا نقبله، ولا نقبل من أحدٍ وإن طار في الهواء أو مشى على الماء حتى نعرضه على الكتاب والسنة، يقول شيخ الإسلام: “وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ شَيْئًا مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مُقَلِّدًا فِي ذَلِكَ لِمَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ وَلِيُّ اللهِ فَإِنَّهُ بَنَى أَمْرَهُ عَلَى أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ؛ وَأَنَّ وَلِيَّ اللَّهِ لَا يُخَالِفُ فِي شَيْءٍ. وَلَوْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ أَكْبَرِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ -كَأَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ- لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ مَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؟!
وَتَجِدُ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ عُمْدَتُهُمْ فِي اعْتِقَادِ كَوْنِهِ وَلِيًّا لِلَّهِ أَنَّهُ قَدْ صَدَرَ عَنْهُ مُكَاشَفَةٌ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ أَوْ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ، مِثْل أَنْ يُشِيرَ إلَى شَخْصٍ فَيَمُوتَ؛ أَوْ يَطِيرَ فِي الْهَوَاءِ إلَى مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا، أَوْ يَمْشِيَ عَلَى الْمَاءِ أَحْيَانًا، أَوْ يَمْلَأَ إبْرِيقًا مِنْ الْهَوَاءِ، أَوْ يُنْفِقَ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ مِنْ الْغَيْبِ، أَوْ أَنْ يَخْتَفِيَ أَحْيَانًا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، أَوْ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ اسْتَغَاثَ بِهِ وَهُوَ غَائِبٌ أَوْ مَيِّتٌ فَرَآهُ قَدْ جَاءَهُ فَقَضَى حَاجَتَهُ، أَوْ يُخْبِرَ النَّاسَ بِمَا سُرِقَ لَهُمْ؛ أَوْ بِحَالِ غَائِبٍ لَهُمْ أَوْ مَرِيضٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهَا وَلِيٌّ لِلَّهِ، بَلْ قَدْ اتَّفَقَ أَوْلِيَاءُ اللهِ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ أَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ لَمْ يُغْتَرَّ بِهِ حَتَّى يَنْظُرَ مُتَابَعَتَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُوَافَقَتَهُ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ”([28]).
وقَالَ أَبُو يَزِيدَ: “لَوْ نَظَرْتُمْ إِلَى رَجُلٍ أُعْطِيَ مِنَ الْكَرَامَاتِ حَتَّى تَرَبَّعَ فِي الْهَوَاءِ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ حَتَّى تَنْظُرُوا كَيْفَ تَجِدُوهُ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَحِفْظِ الْحُدُودِ، وَأَدَاءِ الشَّرِيعَةِ”([29]).
وقال الحافظ ابن حجر: “خرق العادة قد يقع للزنديق بطريق الإملاء والإغواء، كما يقع للصديق بطريق الكرامة والإكرام، وإنما تحصل التفرقة بينهما باتباع الكتاب والسنة”([30]).
فأين المخدوعون من شباب الإسلام من كلام هؤلاء الأئمة الأعلام؟!
واسمع إلى هذه القصة العجيبة التي ذكرها ابن الجوزي في كتابه “تلبيس إبليس”، فإنها لو عرضت على هؤلاء اليوم لقالوا لصاحبها: إنما هي من قوة عقلك الباطن.
يقول ابن الجوزي: “وكم اغتر قوم بما يشبه الكرامات، فقد روينا بإسناد عَنْ حسن عَنْ أبي عمران قَالَ: قَالَ لي فرقد: يا أبا عمران، قد أصبحت الْيَوْم وأنا مهتمّ بضريبتي وهي ستة دراهم، وَقَدْ أهل الهلال وليست عندي، فدعوت، فبينما أنا أمشي عَلَى شط الفرات إذا أنا بستة دراهم، فأخذتها فوزنتها فَإِذَا هي ستة لا تزيد ولا تنقص. فَقَالَ: تصدق بِهَا فإنها ليست لك.
قلت: أَبُو عمران هو إبراهيم النخعي، فقيه أهل الكوفة. فانظروا إِلَى كلام الفقهاء وبُعدِ الاغترار عنهم، وَكَيْفَ أخبره أنها لُقطة ولم يلتفت إِلَى مَا يشبه الكرامة، وإنما لم يأمره بتعريفها؛ لأن مذهب الكوفيين أنه لا يجب التعريف لما دون الدينار، وكأنه إنما أمره بالتصدق بِهَا؛ لئلا يظن أنه قد أكرم بأخذها وإنفاقها.
وبإسناد عَنْ إبراهيم الخراساني أنه قَالَ: احتجت يوما إِلَى الوضوء، فَإِذَا أنا بكوز من جوهر، وسواك من فضة، رأسه ألين من الخز، فاستكت بالسواك، وتوضأت بالماء، وتركتهما وانصرفت.
قلت: فِي هذه الحكاية من لا يوثق بروايته، فَإِن صحت دلت عَلَى قلة علم هَذَا الرَّجُل؛ إذ لو كان يفهم الفقه علم أن استعمال السواك الفضة لا يجوز، ولكن قلَّ علمه فاستعمله وإن ظنّ أنه كرامة، وَالله تعالى لا يكرم بما يمنع من استعماله شرعًا؛ إلا إن أظهر لَهُ ذلك عَلَى سبيل الامتحان”([31]).
فأين كلام ابن الجوزي رحمه الله مما يقوله هؤلاء، وما يعطونه للعقل الباطن من قدرات، وما لبسه الشيطان عليهم، حتى أوقعهم في الشرك والكفر بالله؟!
نعوذ بالله من الضلال والخذلان.
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) الوثنية في ثوبها الجديد، نجاح الظهار ص7.
([2]) قوة عقلك الباطن، هربرت ستيدج ص5.
([3]) معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار (2/ 1207).
([4]) معجم اللغة العربية المعاصرة (2/ 1531).
([5])http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B9%D9%82%D9%84_%D8%A8%D8%A7%D8%B7%D9%86
([6]) http://www.saaid.net/Minute/632.htm
([8]) نيتشه (1900م)، فيلسوف ألماني شهير، هو مؤسس الإلحاد النتشوي أو ما يسمى: التصريح بموت الإله، مر بمراحل فكرية متعددة، وفلسفته تتعلق بالأخلاق والآداب، أنكر كل أشكال الثبات في الوجود، وكل القيم والكليات والمبادئ العقلية والمنطقية، وحكم عليها بالفناء، والخيط الناظم الذي يستوعب مكونات فكره هو المادية الهدمية العدمية. ألف كتاب “أفول الأصنام” لهدم هذه القيم، وكتاب “هكذا تكلم زرادشت” لنقد الأديان. والبديل عنده عن الإله هو الإنسان الكامل “السوبرمان”. انظر: نتشيه، لعبد الرحمن بدوي ص 9-13، ونيتشه، لفؤاد زكريا ص43، وتاريخ الفلسفة الغربية (3/ 393).
([9]) المذاهب الفلسفية الإلحادية الروحية وتطبيقاتها المعاصرة، فوز بنت عبد اللطيف الكردي ص19.
([10]) http://forum.islamacademy.net/showthread.php?t=72919
([11]) أصول الإيمان بالغيب ص174.
([12]) www.saaid.net/Minute/632.htm
([13]) www.saaid.net/Minute/632.htm
([14]) www.saaid.net/Minute/632.htm
([15]) الوثنية في ثوبها الجديد، نجاح الظهار ص53.
([16]) الوثنية في ثوبها الجديد، نجاح الظهار ص54.
([17]) الوثنية في ثوبها الجديد، نجاح الظهار ص53.
([18]) الوثنية في ثوبها الجديد، نجاح الظهار ص54.
([19]) http://www.saaid.net/Minute/632.htm
([22]) قوة عقلك الباطن، هربرت ستيدج ص84.
([23]) أخرجه أحمد (9536)، وأبو داود (3904)، وابن ماجه (639)، وصححه الألباني في الصحيحة (3387).
([24]) إغاثة اللهفان (1/ 253).
([27]) قوة عقلك الباطن، هربرت ستيدج ص86.
([28]) مجموع الفتاوى (11/ 214).