شُبهة رجوع ابن خزيمة عن عقيدة أهل الحديث
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
من المعلوم أن من مصادر أهل السنة الرئيسة لتقرير الاعتقاد هو ما دونه أئمة أهل الحديث من كتبٍ ورسائل تقرر اعتقاد السلف الصالح، وكانت ولا تزال هذه الكتب حجر عثرة أمام المخالفين لاعتقاد أهل الحديث قديمًا وحديثًا، فقام الجهمية وغلاة الأشاعرة قديمًا باتهامهم بالتشبيه والتجسيم، وكثير منهم لم يطلعوا عليها لجهلهم بالآثار وما ورد عن أهل الحديث، وأما في العصر الحديث ومع انتشار هذه الكتب وسهولة الاطلاع عليها، فلهم مسلكان أمام هذه الكتب، أولهما الادعاء بأنها كُتبت على طريقة التفويض، والمسلك الثاني أن أصحابها قد رجعوا عن اعتقادهم.
ومن جملة هؤلاء الذين كانوا حجر عثرة أمام المتكلمين هو إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة (223هـ – 311 هـ)، ولاسيما ما ضمنه في كتاب (التوحيد وإثبات صفات الرب) من تقريرات جليلة تبيّن مذهب السلف الصالح، ولأجل ذلك كان من أساليب المخالفين الطعن عليه تارة، أو محاولة ادعاء توبته ورجوعه إلى مذهبهم تارة أخرى، والذي يعنينا في هذا المقام مناقشة دعوى رجوعه وتوبته.
وقبل أن نشرع في بيان تلك الشبهة ينبغي بيان قدر هذا العالم الجليل عند أئمة السلف الصالح، قال ابن حبان: ما رأيت على وجه الأرض من يحسن صناعة السنن ويحفظ ألفاظها الصحاح وزياداتها حتى كأنّ السنن كلها بين عينيه، إلا محمد بن إسحاق فقط ([1]).
وقال الدارقطني: كان ابن خزيمة ثبتًا معدوم النظير ([2]).
وقال ابن أبي حاتم وقد سئل عن ابن خزيمة: ويحكم، هو يُسأل عنّا ولا نُسأل عنه، وهو إمام يقتدى به ([3]).
وقال ابن سُريج: ابن خزيمة يخرج النكت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنقاش([4]).
قال محمد بن سهل الطوسي: سمعت الربيع بن سليمان –صاحب الشافعي- وقال لنا: هل تعرفون ابن خزيمة ؟ قلنا: نعم. قال: استفدنا منه أكثر ما استفاد منا (([5].
قال الإمام أبو بكر محمد بن علي الشاشي: حضرت ابن خزيمة، فقال له أبو بكر النقاش المقرئ: بلغني أنه لما وقع بين المزني –صاحب الشافعي- وابن عبد الحكم، قيل للمزني: إنه يرد على الشافعي. فقال المزني: لا يمكنه إلا بمحمد بن إسحاق النيسابوري [ابن خزيمة]. فقال أبو بكر: كذا كان.
قال محمد بن إسماعيل السكري: سمعت ابن خزيمة يقول: حضرت مجلس المزني، فسئل عن “شِبه العمد” فقال له السائل: إن الله وصف في كتابه القتل صنفين: عمدا وخطأ، فلم قلتم: إنه على ثلاثة أقسام؟، وتحتج بعلي بن زيد بن جدعان ؟ فسكت المزني، فقلت لمُناظره: قد روى الحديث أيضا أيوب وخالد الحذاء، فقال لي: فمن عقبة بن أوس ؟ قلت: شيخ بصري قد روى عنه ابن سيرين مع جلالته، فقال للمزني: أنت تناظر أو هذا ؟!! قال –أي المزني-: إذا جاء الحديث، فهو يناظر ; لأنه أعلم به مني، ثم أتكلم أنا (([6].
فإذا علمت قدر ابن خزيمة عند أئمة السلف، -بل وعند تلاميذ الشافعي- دلك هذا لماذا الحرص على إثبات توبته من بعض الأشاعرة المعاصرين!
شبهة رجوع ابن خزيمة عن معتقد السلف:
ما يتعلق به بعض المعاصرين من الأشاعرة وغيرهم هو ما ذكره البيهقي -رحمه الله- من رجوع ابن خزيمة وتوبته، فقال في كتابه (الأسماء والصفات) عند ذكره لقصته مع تلامذته: ” وقد رجع محمد بن إسحاق إلى طريقة السلف وتلهف على ما قال، والله أعلم ” ([7])
كذا قال، ففهم بعض المعاصرين أن البيهقي يقصد رجوعه عن كتابه التوحيد وعن التجسيم، والأمر ليس كما فهموا.
بدايةً نقول: ما نقله البيهقي من أن ابن خزيمة رجع عن معتقده، فإنما قصد مسألة مخصوصة وهي الفتنة بينه وبين الكلابية في قيام الأفعال الاختيارية في صفة الكلام. قال البيهقي: “حتى خرج عليهم وطالت خصومتهم، وتكلم بما يوهم القول بحدوث الكلام “ ([8]).
والقصد أن البيهقي لم يقصد أن ابن خزيمة رجع عن إثبات الصفات أو عن كتابه التوحيد- كما يوهم بعض المعاصرين -، بل قصد مسألة مخصوصة وهي مسألة الحوادث (الفعل الاختياري)، وهي أخصُّ من مجرد إثبات الصفات الخبرية والعلو الذاتي وغيرها من الصفات التي يوافقه عليها البيهقي وغيره.
وحتى هذه المسألة لم يرجع عنها ابن خزيمة، بل تلاميذه هم الذين أتوه تائبين متبرئين من قولهم، باكين بين يديه كما نقل الحاكم النيسابوري وسيأتي بيان ذلك.
هل رجع ابن خزيمة عن مسألة (الأفعال الاختيارية)؟!
بداية الفتنة بين ابن خزيمة والكلابية:
انقسم نفاة الأفعال فرقتين: فرقة أثرية تثبت الحرف والصوت وهم السالمية ومن تابعهم من الحنابلة، وفرقة تنكر الحرف والصوت وهم الكلابية ومن تبعهم من الأشعرية.
أما الفرقة الأولى: فقد راجت بدعتها على الحنابلة وأهل الحديث لاقترابها الشديد من مذهبهم، وحكاها غلام الخلال كقولٍ ثانٍ عند حنابلة زمانه، ومُلخص مذهبهم أن الله لا يتكلم بمشيئته، بل الحروف والأصوات قديمة في الأزل، والله يكشف الحُجب عن كلامه القديم لمن شاء من عباده، وشبهتهم في ذلك: أن الله لو جدد كلامه لكان الكلام الجديد حادثَا.
وكانت بوادر ظهور هذه البدعة في المحدِّثين مبكرًا في زمن ابن خزيمة لتشابه مذهبهم بمذهب الإمام أحمد -ظاهريًّا- فالتبس الأمر على بعض المُحدِّثين من تلامذته. وقالوا بِقدم الكلام المُعين، وبنوا عليه أن الله لا يُجدد كلامه ولا يكرره بعدما تكلم به في الأزل.
فانبرى لتلك البدعـة إمام الأئمة وخاتمة السلف: محمد بن إسحاق بن خزيمة، وتبرأ من قول تلامذته. حيث قال في أصناف المبتدعة في صفة الكلام: «أو يقول: إن الله لا يتكلم بعدما كان تكلم في الأزل.. فهو عندي جهمي يُستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه»([9]).
وقال الحاكم النيسابوري: سمعت أبا عبد الرحمن بن أحمد المقري يقول: سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: «زعم بعض جهلة هؤلاء الذين نبغوا في سنيننا هذه: أن الله لا يكرر الكلام، فهم لا يفهمون كتاب الله؛ إن الله قد أخبر في نص الكتاب في مواضع أنه خلق آدم، وأنه أمر الملائكة بالسجود له… ولم أتوهم أن مسلمًا يتوهم أن الله لا يتكلم بشيء مرتين»([10]).
قال أبو إسماعيل الأنصاري الهروي الحنبلي في كتابه «مناقب الإمام أحمد»: «ثم جاءت طائفة فقالت: لا يتكلم بعدما تكلم فيصير كلامه حادثًا!!، فطار لتلك الفتنة ذاك الإمام أبو بكر -يعني ابن خزيمة-؛ فلم يزل يصيح بتشويهها ويصنف في ردها؛ كأنه منذر جيش، حتى دون في الدفاتر وتمكن في السرائر، ولقن في الكتاتيب ونقش في المحاريب: أن الله متكلم، إن شاء تكلم وإن شاء سكت؛ فجزى الله ذاك الإمام وأولئك النفر الغر عن نصرة دينه وتوقير نبيه خيرًا»([11]).
سبب الخلاف:
سبب الخلاف: أن ابن خزيمة وغيره من أهل الحديث كان يخفى عليهم ألفاظ نفاة الأفعال -لتشابهها مع أهل الحديث ظاهريًّا- بينما كان بعض المعتزلة يفهمون قول الكلابية وأنهم يعنون بالقِدم عدم التجدد مرة أخرى، فذهبوا إلى ابن خزيمة وأوشوا بأربعة من تلاميذه، وأفهموه كُنه مذهبهم، وأن إثباتهم لصفة الكلام ليس على الوجه الذي يثبته هو ولا شيوخه.
ابن تيمية يحكي الخلاف:
يحكي ابن تَيميَّة سبب الخلاف قائلًا: «ولما كان الإثبات هو المعروف عند أهل السنة والحديث -كالبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم ومحمد بن يحيى الذهلي وغيرهم من العلماء الذين أدركهم الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة- كان المستقر عنده ما تلقاه عن أئمته: من أن الله تعالى لم يزل متكلمًا إذا شاء وأنه يتكلم بالكلام الواحد مرة بعد مرة، وكان له أصحاب كأبي علي الثقفي وغيره تلقوا طريقة ابن كلَّاب، فقام بعض المعتزلة وألقى إلى ابن خزيمة سرَّ قول هؤلاء، وهو أن الله لا يوصف بأنه يقدر على الكلام إذا شاء ولا يتعلق ذلك بمشيئته، فوقع بين ابن خزيمة وغيره وبينهم في ذلك نزاع حتى أظهروا موافقتهم له فيما لا نزاع فيه، وأمر ولاة الأمر بتأديبهم لمخالفتهم له، وصار الناس حزبين، فالجمهور من أهل السنة وأهل الحديث معه، ومن وافق طريقة ابن كلاب معه، حتى صار بعده علماء نيسابور وغيرهم حزبين، فالحاكم أبو عبد الله وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو عثمان النيسابوري وغيرهم معه، وكذلك يحيى بن عمار السجستاني وأبو عبد الله بن منده وأبو نصر السجزي وشيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري وأبو القاسم سعد بن علي الزنجاني وغيرهم معه، وأما أبو ذر الهروي وأبو بكر البيهقي وطائفة أخرى فهم مع ابن كلاب»([12]).
الحاكم النيسابوري يحكي الخلاف:
قال الحاكم: «حدثني أبو بكر أحمد بن يحيى المتكلم قال: اجتمعنا ليلة عند بعض أهل العلم وجرى ذكر كلام الله: أقديم لم يزل أو يثبت عند اختياره تعالى أن يتكلم به؟ فوقع بيننا في ذلك خوض، قال جماعة منا: إن كلام الباري قديم لم يزل، وقال جماعة: إن كلامه قديم غير أنه لا يثبت إلا باختياره لكلامه. فبكرت أنا إلى أبي علي الثقفي وأخبرته بما جرى فقال: من أنكر أنه لم يزل فقد اعتقد أنه مُحدث!، وانتشرت هذه المسألة في البلد، وذهب منصور الطوسي (المعتزلي) في جماعة معه إلى أبي بكر محمد بن إسحاق وأخبروه بذلك، حتى قال منصور: ألم أقل للشيخ: إن هؤلاء يعتقدون مذهب الكلابية، وهذا مذهبهم، فجمع أبو بكر أصحابه وقال: ألم أنهكم غير مرة عن الخوض في الكلام، ولم يزدهم على هذا في ذلك اليوم، وذكر أنه بعد ذلك خرج على أصحابه وأنه صنف في الرد عليهم وأنهم ناقضوه ونسبوه إلى القول بقول جهم في أن القرآن محدث وجعلهم هو كلابية»([13]).
قلتُ: فنسبهم ابن خزيمة إلى الكلابية، بينما هم نسبوا ابن خزيمة إلى قول جهم؛ لظنهم أن الكلام بالمشيئة يلزم منه حدوث القرآن، فوقعوا في نفس أغلوطة المصطلحات -التي يقع فيها بعض المعاصرين-، حيث ينسبون ابن تَيميَّة إلى القول بحدوث القرآن.
البيهقي يحكي الخلاف:
قال البيهقي: ” أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن العباس الضبي يقول: سمعت أبا الفضل البطاييني، ونحن بالري يقول-وكان أبو الفضل يحجب بين يدي أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة إذا ركب- قال: خرج أبو بكر محمد بن إسحاق يومًا قرب العصر من منزله فتبعته وأنا لا أدري مقصده، إلى أن بلغ باب معمر، فدخل دار أبي عبد الرحمن ثم خرج وهو منقسم القلب، فلما بلغ المربعة الصغيرة وقرب من خان مكي وقف، وقال لمنصور الصيدلاني: تعال، فعدا إليه منصور، فلما وقف بين يديه قال له: ما صنعتك؟ قال: أنا عطار قال: تحسن صنعة الأساكفة ؟ قال: لا، قال: تحسن صنعة النجارين؟ قال لا، فقال لنا إذا كان العطار لا يحسن غير ما هو فيه، فما تنكرون على فقيه راوي حديث أنه لا يحسن الكلام، وقد قال لي مؤدبي –يعني المزني- غير مرة: كان الشافعي رضي الله عنه ينهانا عن الكلام. قلت: أبو عبد الرحمن هذا كان معتزليًا ألقى في سمع الشيخ شيئًا من بدعته وصور له أصحابه، يريد أبا علي محمد بن عبد الوهاب الثقفي، وأبا بكر بن إسحاق الصبغي، وأبا محمد بن يحيى بن منصور القاضي، وأبا بكر بن أبي عثمان الحيري رحمهم الله أجمعين، أنهم يزعمون أن الله تعالى لا يتكلم بعدما تكلم في الأزل، حتى خرج عليهم وطالت خصومتهم، وتكلم بما يوهم القول بحدوث الكلام، مع اعتقاده قدمه ([14])
مناقشة ما ذكره البيهقي:
وجه الشبهة يتعلق بأمرين:
أولاً: ما ذكره البيهقي من رجوع ابن خزيمة وتوبته منها.
ثانياً: ما روي عنه من موافقته على الورقة التي كتبها تلامذته.
أولاً: ما ذكره البيهقي من رجوع ابن خزيمة إلى منهج السلف:
قال الحافظ البيهقي رحمه الله في ختام باب الفرق بين التلاوة والمتلو من كتاب الأسماء والصفات ص259 : “أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: سمعت أبا الحسن علي بن أحمد الزاهد البوشنجي يقول: دخلت على عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي بالري فأخبرته بما جرى بنيسابور بين أبي بكر بن خزيمة وبين أصحابه، فقال: ما لأبي بكر والكلام ؟ إنما الأولى بنا وبه أن لا نتكلم فيما لم نتعلمه. فخرجت من عنده حتى دخلت على أبي العباس القلانسي فقال: كان بعض القدرية من المتكلمين وقع إلى محمد بن إسحاق فوقع لكلامه عنده قبول. ثم خرجت إلى بغداد فلم أدع بها فقيها ولا متكلما إلا عرضت عليه تلك المسائل، فما منهم أحد إلا وهو يتابع أبا العباس القلانسي على مقالته، ويغتم لأبي بكر محمد بن إسحاق فيما أظهره. قلت (أي البيهقي): القصة فيه طويلة، وقد رجع محمد بن إسحاق إلى طريقة السلف وتلهف على ما قال، والله أعلم ” ([15]).
قلت: كلام البيهقي -رحمه الله- رأي شخصي لا ينبغي جعله حجة في الباب، وذلك لأن البيهقي رحمه الله كان على طريقة الأشعرية المتقدمين (الكُلابية)، وينتصر لابن كلاب، فهو يوافق تلامذة ابن خزيمة في نفي الأفعال الاختيارية، فكلامه ليس حجة في الباب ؛ وذلك لأنه مع الطرف المقابل لابن خزيمة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “حتى صار بعده علماء نيسابور وغيرهم حزبين؛ فالحاكم أبو عبد الله وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو عثمان النيسابوري وغيرهم معه [ يعني مع ابن خزيمة في تجدد الفعل الاختياري]، وكذلك يحيى بن عمار السجستاني وأبو عبد الله بن منده وأبو نصر السجزي وشيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري وأبو القاسم سعد بن علي الزنجاني وغيرهم معه، وأما أبو ذر الهروي وأبو بكر البيهقي وطائفة أخرى: فهم مع ابن كلاب” ([16]).
فالبيهقي طرف في النزاع في المسألة.
أما ما ذكره عن ابن أبي حاتم الرازي –إن صح- من عدم مجادلة أهل البدع والخوض معهم في الكلام، فهذا ما صنعه ابن خزيمة في بادئ الأمر، قال الحاكم النيسابوري: “فجمع أبو بكر –ابن خزيمة- أصحابه وقال: ألم أنهكم غير مرة عن الخوض في الكلام!، ولم يزدهم على هذا في ذلك اليوم ” ([17]).
ثانياً: ما روي عنه من موافقته على الورقة التي كتبها تلامذته:
قد وهم البيهقي وظن أن ابن خزيمة رجع عن الأفعال الاختيارية بسبب ظنه أنه وافق على اعتقاد تلامذته، وذلك لما رواه الحاكم قال: سمعت أبا بكر أحمد بن إسحاق يقول: لما وقع من أمرنا ما وقع، وجد أبو عبد الرحمن ومنصور الطوسي الفرصة في تقرير مذهبهم، واغتنم أبو القاسم، وأبو بكر بن علي، والبردعي السعي في فساد الحال، انتصب أبو عمرو الحيري للتوسط فيما بين الجماعة، وقرر لأبي بكر بن خزيمة اعترافنا له بالتقدم، وبين له غرض المخالفين في فساد الحال، إلى أن وافقه على أن نجتمع عنده، فدخلت أنا، وأبو علي، وأبو بكر بن أبي عثمان، فقال له أبو علي الثقفي: ما الذي أنكرت أيها الأستاذ من مذاهبنا حتى نرجع عنه؟ قال: ميلكم إلى مذهب الكلابية، فقد كان أحمد بن حنبل من أشد الناس على عبد الله بن سعيد بن كلاب، وعلى أصحابه مثل الحارث وغيره. حتى طال الخطاب بينه وبين أبي علي في هذا الباب، فقلت: قد جمعت أنا أصول مذاهبنا في طبق، فأخرجت إليه الطبق، فأخذه وما زال يتأمله وينظر فيه، ثم قال: لست أرى هاهنا شيئا لا أقول به. فسألته أن يكتب عليه خطه أن ذلك مذهبه، فكتب آخر تلك الأحرف، فقلت لأبي عمرو الحيري: احتفظ أنت بهذا الخط حتى ينقطع الكلام، ولا يتهم واحد منا بالزيادة فيه. ثم تفرقنا، فما كان بأسرع من أن قصده أبو فلان وفلان وقالا: إن الأستاذ لم يتأمل ما كتب في ذلك الخط، وقد غدروا بك وغيروا صورة الحال. فقبل منهم، فبعث إلى أبي عمرو الحيري لاسترجاع خطه منه، فامتنع عليه أبو عمرو، ولم يرده حتى مات ابن خزيمة، وقد أوصيت أن يدفن معي، فأحاجه بين يدي الله تعالى فيه وهو: القرآن كلام الله تعالى، وصفة من صفات ذاته، ليس شئ من كلامه مخلوق، ولا مفعول، ولا محدث، فمن زعم أن شيئا منه مخلوق أو محدث، أو زعم أن الكلام من صفة الفعل، فهو جهمي ضال مبتدع، وأقول: لم يزل الله متكلما، والكلام له صفة ذات، ومن زعم أن الله لم يتكلم إلا مرة، ولم يتكلم إلا ما تكلم به، ثم انقضى كلامه، كفر بالله، وأنه ينزل تعالى إلى سماء الدنيا فيقول: ” هل من داع فأجيبه “. فمن زعم أن علمه تنزل أوامره، ضل، ويكلم عباده بلا كيف (الرحمن على العرش استوى) [طه: 5] لا كما قالت الجهمية: إنه على الملك احتوى، ولا استولى. وإن الله يخاطب عباده عودا وبدءا، ويعيد عليهم قصصه وأمره ونهيه، ومن زعم غير ذلك، فهو ضال مبتدع. وساق سائر الاعتقاد([18]).
ووجه الاستدلال في النص السابق أنه ورد فيه إنكار أن يكون الكلام صفة فعل، وابن خزيمة كتب بخطه أنه موافق على معتقد تلامذته، حيث جاء في الورقة: «القرآن كلام الله تعالى، وصفة من صفات ذاته، ليس شيء من كلامه مخلوقًا، ولا مفعولًا، ولا محدَثًا، فمن زعم أن شيئًا منه مخلوق أو محدث، أو زعم أن الكلام من صفة الفعل، فهو جهمي ضال مبتدع، وأقول: لم يزل الله متكلمًا، والكلام له صفة ذات، ومن زعم أن الله لم يتكلم إلا مرة، ولم يتكلم إلا ما تكلم به، ثم انقضى كلامه – كفر بالله»([19]).
والجواب على هذا من وجوه:
الوجه الأول:
أن تلامذته ما كتبوا هذه الورقة-أساسًا- إلا ليوافقوه، لا ليوافقهم هو، فقد أوضحت الرواية أنهم أتوه تائبين مظهرين موافقته، لكي يرضى عنهم ويُسامحهم؛ فكيف ينقلبُ التائب إلى صاحب حق، وصاحب الحق إلى تائب؟! فلا يصح أن يقال أن ابن خزيمة رجع وتاب، بل العكس هو الذي حصل.
الوجه الثاني:
دعوى موافقته لا يصح قبولها من البيهقي؛ لأن ابن خزيمة صرَّح أنهم كذبوا عليه بعدما كتبوا الورقة، فقد قال الحاكم النيسابوري: سمعت أبا سعد عبد الرحمن بن أحمد المقرئ، سمعت ابن خزيمة يقول: القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله غير مخلوق، ومن قال: شيء منه مخلوق. أو يقول: إن القرآن محدث، فهو جهمي، ومن نظر في كتبي، بان له أن الكلابية -لعنهم الله- كذبة فيما يحكون عني بما هو خلاف أصلي وديانتي، قد عرف أهل الشرق والغرب أنه لم يصنف أحد في التوحيد والقدر وأصول العلم مثل تصنيفي، وقد صح عندي أن هؤلاء -الثقفي، والصبغي، ويحيى بن منصور- كذبة، قد كذبوا علي في حياتي، فمحرم على كل مقتبس علم أن يقبل منهم شيئًا يحكونه عني، وابن أبي عثمان أكذبهم عندي، وأقْوَلُهم عليَّ ما لم أقله»([20]).
ويقول الذهبي مُعلقًا بعد ذكره لهذا الكلام: “ما هؤلاء بكذبة، بل أئمة أثبات، وإنما الشيخ تكلم على حسب ما نقل له عنهم فقبح الله من ينقل البهتان، ومن يمشي بالنميمة” ( ([21]
والشاهد أن ابن خزيمة كذَّبهم فيما نقلوه عنه، فحتى لو كانوا من الثقات -كما قال الذهبي- فلا يصح نسبة ما نقلوه إليه؛ وذلك لأن ابن خزيمة هو صاحب الحق الوحيد في تحديد من ينقل عنه، وقد يحصل للعدل الثقة سوء فهمٍ لكلام شيخه، وهو أمر وارد بسبب تشابه المصطلحات في تلك الأزمنة.
الوجه الثالث: بحسب روايتهم، فإن ابن خزيمة طالبهم بإرجاع الورقة مرة أخرى، فرفضوا !!
قال الصبغي: «فما كان بأسرع من أن قصده أبو فلان وفلان وقالا: إن الأستاذ لم يتأمل ما كتب في ذلك الخط، وقد غدروا بك وغيروا صورة الحال. فبعث -يعني ابن خزيمة- إلى أبي عمرو الحيري لاسترجاع خطه منه، فامتنع عليه أبو عمرو، ولم يرده حتى مات ابن خزيمة، وقد أوصيت أن يدفن معي، فأحاجه بين يدي الله تعالى». ([22]).
فقول التلميذ عن أستاذه: «فأحاجه بها عند الله» = يضع علامة استفهام كبيرة، وعدم إرجاع الورقة مرة أخرى إليه غير مُبرر ولا مفهوم، حتى ولو وقَّع عليها بخطه، وذلك لأن العالم قد يعرض عليه خاطر أن يتأمل الكلام مرة أخرى فيحتاج إلى أن يراجع الورقة؛ ليضع قيدًا ونحو ذلك.
الوجه الرابع: لو فرضنا أن ابن خزيمة وافق على هذا الكلام –وهو لم يوافق باعتراف تلامذته-، فإن لفظة (صفات الفعل) أول ما ظهرت كاصطلاح كلامي كان عند المتكلمين وتعني المخلوق المنفصل، ثم استخدمها المعتزلة في كتبهم، ومن هذه الجهة صرح بعض أئمة الحديث أن صفات الفعل ذاتية كما قال الدارمي وغيره، ويعنون أنها غير منفصلة مخلوقة([23]).
والدليل على ذلك هو قول الصبغي: «أو زعم أن الكلام من صفة الفعل، فهو جهمي ضال»، ولو أراد أنه يتكلم بمشيئته، لكان الأليق أن يقول: «فهو مُشبه». فتأمل !
الوجه الخامس: أن تلامذته اتهموه أنه قائل بحدوث القرآن كقول جهم، ولو لم يقل بالفعل الاختياري في صفة الكلام، لَما كان لهذا الاتهام معنى.
والخلاصة:
- ما ذكره البيهقي من رجوع ابن خزيمة، فإنما كان في مسألة الحوادث لا عن مطلق إثبات الصفات كما يوهم الأشاعرة المعاصرون.
- قد وهم البيهقي وظن أن ابن خزيمة هو الذي رجع، والصواب، أن تلامذته هم الذين أظهروا موافقته وتابوا من قولهم القديم
- وأئمة أهل الحديث وافقوا ابن خزيمة كالحاكم النيسابوري والإمام الهروي والسجزي وابن منده و يحيى بن عمار وغيرهم انتصروا لابن خزيمة، فكلام البيهقي –وهو على مذهب مخالف- ليس بأولى من قولهم.
وصلى اللهم على محمد وآله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
(([1] طبقات الشافعية (3/118)؛ تذكرة الحفاظ (723)
([2]) طبقات الشافعية (3/118)؛ تذكرة الحفاظ (728)
([5]( سير أعلام النبلاء (9/554)
([6]( سير أعلام النبلاء (9/554)
([7]( الأسماء والصفات (ص: 269)
([8]( الأسماء والصفات (ص: 341)
([9]) «تذكرة الحفاظ» للذهبي (1/211)، «درء تعارض العقل والنقل» (1/276).
([10]) «تذكرة الحفاظ» للذهبي (1/211).
([11]) نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية، في: «درء التعارض»، و«مجموع الفتاوى» (6/179).
([12]) «درء تعارض العقل والنقل» (1/244-245).
([13]) «درء تعارض العقل والنقل» (1/276). نقلا عن تاريخ نيسابور للحاكم وهو مفقود حتى الآن.
([14]) الأسماء والصفات (ص: 341)
([15]( الأسماء والصفات (ص: 269)
([17]) «درء تعارض العقل والنقل» (1/276).
([18]) «سير أعلام النبلاء» (14/381)، «تذكرة الحفاظ» (1/211).
([19]) «سير أعلام النبلاء» (14/381)، «تذكرة الحفاظ» (1/211).
([20]) «سير أعلام النبلاء» للذهبي (14/380)، وعلق الذهبي قائلًا: «ما هؤلاء بكذبة؛ بل أئمة أثبات، وإنما الشيخ تكلم على حسب ما نقل له عنهم. فقبح الله من ينقل البهتان، ومن يمشي بالنميمة» اهـ.
([21]( سير أعلام النبلاء) 14/ 380 (
([22]) «سير أعلام النبلاء» (14/381)، «تذكرة الحفاظ» (1/211).
([23]) وقد تكلمنا عن هذه المسألة في المصطلحات. وهو منشور في موقع مركز سلف.