الأربعاء - 27 ذو الحجة 1445 هـ - 03 يوليو 2024 م

لماذا حرَّم الإسلام التبني؟

A A

كان التبنِّي نِظامًا شائعًا معمولًا به في الجاهليَّة قبل الإسلام، حتى إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْل البعثةِ تبنَّى زيدَ بنَ حارثة، وكان يُطلَق عليه: زيد بن محمد، كما ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول: (إنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، مَا كُنَّا نَدْعُوهُ إِلَّا ‌زَيْدَ ‌بْنَ ‌مُحَمَّدٍ، حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ: ﴿‌ٱدْعُوهُمْ ‌لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ﴾ [الأحزاب: 5])([1]).

وقد كانوا يعاملون هؤلاء الأدعياءَ معاملةَ الأبناء من كلّ وجه، في الخلوة بالمحارم والميراث وغير ذلك؛ كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها أن سهلة بنتَ سُهيل امرأةَ أبي حذيفة -وكان أبو حذيفة قد تبنى سالما قبل تحريم التبنِّي- جَاءَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ سَالِمًا -لِسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ- مَعَنَا فِي بَيْتِنَا، وَقَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ، وَعَلِمَ مَا يَعْلَمُ الرِّجَالُ، وإنه يدخل علينا، وإني أَظُنُّ أَنَّ فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا… الحديث([2]).

ثم جاء الإسلام فحرَّم التبني، وشدَّد فيه، وأبطله إبطالًا كاملًا.

معنى التبني المحرَّم:

التبني الذي حرمته الشريعة يمكن تعريفه بأنه: “اتِّخاذ الشخصِ ولدَ غيره ابنًا له”([3]).

وذلك بأن يقوم شخصٌ باستلحاق ولدٍ معروف النسَب لغيره أو مجهولِ النسب كاللّقيط، ويصرّح أنه يتَّخذه ولدًا مع كونه ليس ولدًا له في الحقيقة. ويترتّب على ذلك أن يكون لهذا الولد جميعُ الحقوق، وعليه كلّ الواجبات التي تكون بين الأب والابن.

فهذا هو التبنّي المحرَّم، ولكن التبنّي يطلَق عند البعض ويريدون به معنى آخر، وهو أن يكفل شخصٌ يتيمًا أو فقيرًا، معلومَ النسب أو مجهولَ النسب، ويربّيه في أسرته، ويكفله كفالة تامّة، من غير أن يُلْحقه به في النّسب، ولا يجعله كأبنائه الحقيقيِّين في الأحكام المترتِّبة على البنوَّة، مع التزام الضوابط الشرعية عند كبر هذا المكفول ذكرًا كان أو أنثى.

وهذا النوع في الحقيقة ليس تبنِّيًا، ولكنه تعاوُن وتكافل، وهو غير ممنوع، بل هذا مما حثّت عليه الشريعة، ورغّبت فيه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «‌كَافِلُ ‌الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ»([4]).

قال ابن بطال رحمه الله: “حقٌّ على من سمع هذا الحديثَ أن يعمَلَ به؛ ليكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة”([5]).

والتقاط اللّقيط وكفالته والقيام به مادّيًّا ومعنويًّا، كل هذا من فروض الكفاية التي يأثم الجميع إذا لم يقم بها أحد، كما هو مقرر في كتب الفقهاء.

أما التبني بالمعنى الأول فلا يختلِف المسلمون في حُرمته، وهو ممّا يكاد أن يكون معلومًا من الدّين بالضرورة، ولم ينازع فيه عالم قطّ؛ وذلك لأن القرآن صريحٌ قطعيّ في تحريمه.

قال الله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَٰهِكُمْ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ * ‌ٱدْعُوهُمْ لِأبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ ءَابَاءَهُمْ فَإِخْوَٰنُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَٰلِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِۦ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [الأحزاب: 4، 5].

قال الطبري رحمه الله: “انسبُوا أدعياءَكم الذين ألحقتم أنسابهم بكُم لآبائهم”([6]).

وقال ابن كثير رحمه الله:” هذا أمر ناسِخ لما كان في ابتداءِ الإسلام من جواز ادِّعاء الأبناء الأجانب، وهم الأدعياء، فأمر الله تعالى بردِّ نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة، وأن هذا هو العدل والقسط… ولهذا لما نسخ هذا الحكم أباح تعالى زوجة الدَّعِيّ، وتزوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينبَ بنتِ جحش زوجةِ زيد بن حارثة”([7]).

ودلَّت الآية أيضا على تحريم التبنّي حتى لو كان الولد مجهولَ النسب، لا يعرف أبوه على الحقيقة، فهذا لا يبيح لأحد أن يدَّعيَه ويلحقَه به وهو يعلم أنه ليس ابنًا له، ولم يولد على فراشه الشرعي. بل في هذه الحالة يقال: فلان أخو فلان، أو مولى فلان، كما صار اسم سالم مولى أبي حذيفة، بدلا من سالم بن أبي حذيفة. وهذا يدلّ على تغليظ التبني والتشديد في تحريمه.

ومما يؤكد ذلك التشديد: أن الأمر لم يقتصر على التحريم النظري رغم صراحته وقطعِيَّته؛ فإنه لرسوخ هذه العادة بينهم كان لا بد من التطبيق العملي الذي يقتلع هذه العادة من جذورها، وتصل الرسالة قوية للجميع بأن الدّعيَّ الذي تدّعونه ابنًا ليس ابنًا في الحقيقة، ولا يترتب على دعواكم هذه أيّ شيء؛ لأنها مجرّد دعوى بالكلام، ﴿ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَٰهِكُمْ﴾ [الأحزاب: 4].

ولذلك زوَّج الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم زينبَ بنتَ جحش رضي الله عنها بعد أن طلَّقها زيدُ بن حارثة رضي الله عنه، وهو ما يؤكِّد أن زيدَ بنَ حارثة ليس زيدَ بنَ محمد، وأنَّ امرأته ليست محرمةً على النبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف حلائل الأبناء كما قال تعالى في ذكر المحرمات من النساء: ﴿‌وَحَلَٰئِلُ ‌أَبْنَائِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ﴾ [النساء: 23]، فقوله تعالى: ﴿مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ﴾ للتفريق بين الولد الصلبي والولد من التبني، فإن امرأته لا تحرم على من ادَّعاه.

ورغم أنَّ هذا الأمر كان شاقًّا على النبي صلى الله عليه وسلم وجعله عرضة لطعن الكفار والمنافقين، ولمزوه بأنه تزوج امرأة ابنه، إلا أن الله تعالى أمره ألا يخشى الناس في ذلك، ولا يباليَ بلوم اللائمين في تبليغ رسالة الله تعالى.

قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْد مِّنْهَا وَطَرا زَوَّجْنَٰكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَج فِي أَزْوَٰجِ ‌أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَرا وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولا * مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنْ حَرَج فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَرا مَّقْدُورًا * ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ ٱللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُۥ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبا * مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَد مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّـنَ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيما﴾ [الأحزاب: 37-40].

وقد جاءت السنة بتحريم التبني، وكذب الإنسان في نسبه، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلا كَفَرَ، وَمَنْ ادَّعَى قَوْمًا لَيْسَ لَهُ فِيهِمْ نَسَبٌ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ»([8]).

قال ابن حجر رحمه الله: “وفي الحديث: تحريم الانتفاء من النسب المعروف، والادعاء إلى غيره، وقيد في الحديث بالعلم، ولا بد منه في الحالتين إثباتًا ونفيًا؛ لأن الإثم إنما يترتب على العالم بالشيء المتعمد له”([9]).

وهذا كله يدلّ على تغليظ تحريم التبني، والتشديد في ذلك.

مفاسد التبنّي وأضراره:

لم يكن هذا التغليظُ والتأكيدُ القوليّ والفعليّ على إبطال التبنيّ إلا لمفاسدِه الكبيرة، وأضراره على الجميع، بمن فيهم الابن المُتَبَنّى.

وقد جمع ذلك كلَّه قوله تعالى: ﴿ٱدْعُوهُمْ لِأبَائِهِمْ هُوَ ‌أَقْسَطُ ‌عِندَ ‌ٱللَّهِ﴾ [الأحزاب: 5]، فتحريم التبني أعدل عند الله، وتجويزه بضدّ ذلك.

وبيان الظلم والمفاسد في التبنّي من وجوه عديدة، منها:

  • أنّ التبنّي يؤدّي لاختلاط الانساب، وما يترتب عليه من تحريم للحلال وتحليل للحرام، وتغيير للأحكام الشرعية: فإن البنوّة ليست مجرد قول باللسان، بل يترتب عليها كثير من الأحكام الشرعية، في أحكام النظر، والخلوة، والمحرمية، والميراث، والشهادة، والحدود في القتل والقذف والسرقة، والنكاح وغيرها من الأحكام.

وكل هذه مفاسد عظيمة جدًّا، وأمثلتها كثيرة لا يتَّسع المقام لذكرها، فمثلا:

إذا اعتبرنا أن الولد بالتبنَّى يصير ابنًا في الحقيقة صار يحلّ له أن ينظر لنساء البيت، ويخلو بهنّ، ويصير محرَمًا لهن في السفر، ووليًّا لهن في النكاح، والحقيقة أن كلّ هذا محرَّم عليه، فدعوى التبني هي في حقيقتها تحليل لما حرَّم الله. ثم هو بالتبنّي يحرم عليه نكاح من سمَّوها أخته، وهي ليست محرمة عليه في الحقيقة، فصار التبني تحريمًا لما أحلَّ الله تعالى.

ثم إن هذا الولد المُدَّعى يرث مالًا لا يحل له أن يرثه، ويحجب غيرَه ممن يستحقّ الميراث حجبَ حرمان أو حجب نقصان؛ فمن المعلوم في الميراث أن الولد الذكر يحجب الإخوة، وينقص ميراث الأم، ويعصّب أخواته البنات، ويحجب العصبات الأبعد، ولو كانت المتبناة بنتًا وحيدة فإنها سترث نصف التركة، وإذا لم تنفرد أنقصت نصيب من شاركها.

ثم هو لو مات فإنهم يرثونه، بلا وجه حقّ، ويأكلون بذلك حقّ غيرهم. فالتبني في حقيقته أكل لأموال الناس بالباطل.

وكذلك في الحدود: لا يقتل والد بولده قصاصًا، فلو أن هذا الأب قَتَل من تبنّاه قتلا يستوجِب القصاص، لكان التبنّي مانعًا من إقامة حكم الله؛ لأنه لا يقتل والد بولده، ولكن هذا في الابن الحقيقي، وليس في الأدعياء.

وهكذا في سائر الأبواب، يؤدّي التبني إلى تبديل الشرائع، وتحليل الحرام، وتحريم الحلال، والعبث بالأحكام الشرعية، وليس الأمر مقتصرًا على حكم واحد كما ظن البعض بأن الإشكالية في الميراث فقط، بل يتعدى لكثير من الأحكام.

  • والتبني كذلك من الكذب والزور في القول: والكذب من ذميم الأخلاق.

فلو فرضنا أن أحدًا قال: إنه سيجتنب كل هذه المفاسد، ولكنه سيسميه باسمه وينسبه إليه فقط لكان هذا كذبًا وزورًا؛ ولذلك ذكر الله تعالى قبل تحريم التبني تحريم الظهار كالتمهيد له، فإنهما يجتمعان في كونهما منكرًا من القول وزورًا، قال تعالى ﴿مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُل مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِه وَمَا جَعَلَ أَزْوَٰجَكُمُ ٱلَّٰـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَٰهِكُمْ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ﴾ [الأحزاب: 4].

فقول الرجل عن المتبنَّى: إنه فلان ابن فلان يتضَّمن كذبًا وتلبيسًا على الناس الذين يعاملونه في النكاح والبيع والشراء وغيرها من صور المعاملات، وفي ذلك من الظلم والفساد ما لا يخفى.

وقد سبق في الحديث بيان الوعيد الشديد لمن نسَب نفسه لغير أبيه وهو يعلَم، فمجرد الانتساب محرّم وهو من كبائر الذنوب؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمّاه كفرًا، وهو وإن لم يكن الكفر المخرج من الملة ما لم يستحلَّ ذلك فيكفر، إلا أنه دليل على أنه من الكبائر، فإن ذنبًا سماه النبي صلى الله عليه وسلم كفرًا أعظم مما لم يسمه كذلك.

  • والتبنِّي كذلك هَدم للفطرة ولنظام الأسرة التي فطر الله الناس عليها:

فإن الله تعالى أقام الخلقَ على سنن ونظام، قال تعالى ﴿يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْس وَٰحِدَة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا ‌رِجَالا ‌كَثِيرا وَنِسَاءً﴾ [النساء: 1]، وقال تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْس وَٰحِدَة وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ‌لِيَسْكُنَ ‌إِلَيْهَا﴾ [الأعراف: 189]. فالأسرة التي هي وحدة بناء المجتمع البشري تتكون من رجل يتزوج امرأة، والأبناء هم ثمرة هذه الأسرة، وفي كنفها وحضنها ينشؤون نشأة سوية مستقرة.

ولا سبيل لإشباع غريزة الأمومة أو الأبوة إلا من خلال هذا الطريق السويّ المستقيم، ومهما حدث عَبث بهذه المنظومة تهدمت معها الأسرة، ومن بعدها المجتمع.

والناظر في أحوال الغرب الآن يدرك ذلك جيّدًا، فقد تمّ العبث بكل المفاهيم الثابتة، حتى الثوابت التي أجمع عليها البشر عبر تاريخهم، مثل مفهوم: الزوج والزوجة والأسرة والذكورة والأنوثة والابن والابنة، كلها مفاهيم كانت ثابتة عبر التاريخ، تم إصدار تعريفات جديدة لها تتوافق مع الليبرالية الغربية والنسوية. بدءًا من مفهوم الذكر والأنثى الذي صار من أعقد الأمور عندهم، ففي ظل ثورة (الجندر)([10]) لم يعد تعريف الذكر والأنثى شيئًا ثابتًا، بل قابلا للتغيير، وهو خاضع للحرية الشخصية، فالذكر هو من يعرِّف نفسه في المجتمع بأنه ذكر ولو كانت طبيعته البيولوجية تنافي ذلك، والأنثى كذلك.

وتبعًا لذلك فإن مفهوم الأسرة سيتعرض للتغير هو كذلك، فلا يلزم أن تتكون من رجل وامرأة بعقد شرعي صحيح، ولذلك تم استبدال كلمة الشريك بكلمة الزوج، وظهرت الأسر (المثلية) المكونة من رجلين أو امرأتين، أو غير ذلك من أنواع الأسر التي يستحدثونها تحت فوضى الهويات (الجندرية).

والابن ليس من وُلِد لك من زواجٍ شرعيٍّ صحيح، وإنما من تقرِّر أنه ابنُك، ولا علاقة لذلك عندهم بكونه وُلِد لكَ أم لا، فمن حقك -عندهم- ألا تقبل بوجود هذا الابن الحقيقيّ، وأن تقتله تحت مسمى (الإجهاض)، وفي المقابل فيحقّ لك أن تدَّعي بالزور والكذب ولدًا لم تلده، وتنسبه لنفسك بالتبنّي.

وفي ظلّ هذا الانتكاس الفطريّ الخطير اعتبر التبني حلًّا لمسألة الأسر المثليّة التي ترغب في اتخاذ أبناء، ولنا أن نتصوّر الظلم العظيم الواقع على الأبناء الذين ينشؤون في مثل هذه الأسر الشاذّة المناقضة للفطرة، ومدى الصدمة والألم النفسي الذي يحصل لهؤلاء الأولاد حينما يقارنون بين أسرهم والأخرى.

وأيضا اعتبر التبني حلًّا لمشكلة أخرى بعد الفوضى الجنسية التي امتلأت بها بلاد الغرب، وهي مشكلة أولاد الزنا، فنِسبُ أولاد الزنا مرتفعة جدًّا، تصل في بعض الأحيان لأكثر من نصف المواليد([11])، وهي نسبة تبيِّن مدى الانهيار والتفسّخ المجتمعيّ، وقد يظنون أن التبني يمكن أن يكون حلًّا لهذه المشكلة.

والغرض المقصود بيان أن التبني جزء من منظومة الانتكاس عن الفطرة، وتغيير خلق الله، وهدم الأسرة، وتفكيك المجتمعات، والتزهيد في الطريق الشرعي لإشباع الغرائز، وكل ذلك من أمر الشيطان الذي تحدّى ربه قائلًا: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ ‌خَلْقَ ‌ٱللَّهِ﴾ [النساء: 119].

  • ومن مفاسد التبنِّي أن فيه ظلمًا للطفل المتبنَّى:

فيُحرم من إمكان الوصيّة له في حدود الثلث، فإنه لا وصيَّة لوارث، وكذلك نُحَرِّم عليه النكاح بنساء هنَّ حلال له في الأصل، ونرتّب عليه التزاماتٍ بمقتضى البنوّة لا تلزمه في شيء.

ومن ذلك الصدمة التي يشعر بها الطفل، حينما يكبَر ويكتشف الحقيقة، وربما لا يستطيع التكيُّف ولا التعايش بعد أن ظلَّ دهرًا طويلًا لا يفهم حقيقةَ الأمر.

تنبيهان:

التنبيه الأول: أن البعض قد يقول: إن التبني فيه مصلحة ورحمة بهذا الشخص والطفل، بدلا من التشرد والضياع.

والجواب: إن تحريم الشيء لا يعني خلوَّه من بعض المصالح والفوائد، ولكن يعني أن ما فيه من مفاسد أعظم من المصالح، كما قال تعالى في الخمر والميسر: ﴿‌وَإِثْمُهُمَا ‌أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ [البقرة: 219]، والمفاسد الموجودة في التبني أعظَم بكثير من هذه المصلحة، بل إن هذه المصلحة يمكن تحصيلها من غير التبني المحرم، فيمكن للإنسان أن يكفل يتيمًا أو مشردًا أو فقيرًا في بيته، وليس فقط في دار الأيتام، مع مراعاة الضوابط الشرعية في النظر والخلوة ونحوها، مع تجنب إلحاقه في النسب، ويمكن -كما سبق- الوصية له من التركة في حدود الثلث.

فما في التبني من مصلحة جاء بها الإسلام نقيّة من غير مفسدَة؛ بِحَثِّه على كفالة اليتيم، وإيجابه رعايةَ اللُّقطاء، وكفالتَهم، والقيامَ على شؤونهم، وجعل ذلك فرضًا من فروض الكفايات.

التنبيه الثاني: أن ذكر هذه المفاسد التي تبين الحكمة الشرعية من تحريم التبني لا يعني أنه لو تصوّرنا جدلا زوالها أو الاحتراز من بعضها صار التبنّي جائزًا، فإن الأحكام الشرعية لا تتغيّر، ولا تُربط الأحكام بالحِكَم المستنبطة الخفيّة، وإنما بالعِلل، وهي الأوصاف الظاهرة المنضبطة، وأما ذكر هذه الحِكَم فهي من باب طمأنينة القلب وتجلية عظمة الشريعة، وإلا فإنَّ موقف المسلم معلومٌ وهو وجوب الامتثال لحُكم الله تعالى، ولو لم يعرفِ الحكمةَ من وراء ذلك، وذلك لإيمانه بعلم الله تعالى وحكمته وأنه عز وجل كما قال: ﴿‌لَا ‌يُسْـَٔلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـَٔلُونَ﴾ [الأنبياء: 23].

والله المستعان، والحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) أخرجه البخاري (4782)، ومسلم (2425).

([2]) أخرجه البخاري (4000)، ومسلم (1453).

([3]) الموسوعة الفقهية الكويتية (10/ 120).

([4]) أخرجه البخاري (5304)، ومسلم (2983).

([5]) ينظر: فتح الباري (10/ 436).

([6]) تفسير الطبري (19/ 11).

([7]) تفسير ابن كثير (6/ 377).

([8]) أخرجه البخاري (3508)، ومسلم (61).

([9]) فتح الباري (6/ 451).

([10]) الجندر: هو النوع الاجتماعي، أي: الصفة التي يرغب الإنسان أن يعرف بها في المجتمع بغضّ النظر عن طبيعته البيولوجية. انظر: الموسوعة البريطانية (Encyclopedia Britannica)، عبر الموقع الإلكتروني:

https://www.britannica.com/topic/gender-identity

([11]) في أحد التقارير كشف مكتب الإحصاء الأوروبي أن 43% من المواليد في الاتحاد الأوروبي سنة 2016م ولدوا خارج إطار العلاقات الزوجية. انظر التقرير على هذا الرابط:

https://1-a1072.azureedge.net/misc/2018/8/9/43-%D9%85%D9%86-%D8%A3%D8%B7%D9%81%D8%A7%D9%84-%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D8%A7-%D9%88%D9%84%D8%AF%D9%88%D8%A7-%D8%AE%D8%A7%D8%B1%D8%AC-%D8%A5%D8%B7%D8%A7%D8%B1

التعليقات مغلقة.

جديد سلف

هل يُمكِن الاستغناءُ عن النُّبوات ببدائلَ أُخرى كالعقل والضمير؟

هذه شبهة من الشبهات المثارة على النبوّات، وهي مَبنيَّة على سوء فَهمٍ لطبيعة النُّبوة، ولوظيفتها الأساسية، وكشف هذه الشُّبهة يحتاج إلى تَجْلية أوجه الاحتياج إلى النُّبوة والوحي. وحاصل هذه الشبهة: أنَّ البَشَر ليسوا في حاجة إلى النُّبوة في إصلاح حالهم وعَلاقتهم مع الله، ويُمكِن تحقيقُ أعلى مراتب الصلاح والاستقامة من غير أنْ يَنزِل إليهم وحيٌ […]

هل يرى ابن تيمية أن مصر وموطن بني إسرائيل جنوب غرب الجزيرة العربية؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة (تَنتقِل مصر من أفريقيا إلى غرب جزيرة العرب وسط أوديتها وجبالها، فهي إما قرية “المصرمة” في مرتفعات عسير بين أبها وخميس مشيط، أو قرية “مصر” في وادي بيشة في عسير، أو “آل مصري” في منطقة الطائف). هذا ما تقوله كثيرٌ من الكتابات المعاصرة التي ترى أنها تسلُك منهجًا حديثًا […]

هل يُمكن أن يغفرَ الله تعالى لأبي لهب؟

من المعلوم أن أهل السنة لا يشهَدون لمعيَّن بجنة ولا نار إلا مَن شهد له الوحي بذلك؛ لأن هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، ولكننا نقطع بأن من مات على التوحيد والإيمان فهو من أهل الجنة، ومن مات على الكفر والشرك فهو مخلَّد في النار لا يخرج منها أبدًا، وأدلة ذلك مشهورة […]

مآخذ الفقهاء في استحباب صيام يوم عرفة إذا وافق يوم السبت

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فقد ثبت فضل صيام يوم عرفة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (‌صِيَامُ ‌يَوْمِ ‌عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ)([1]). وهذا لغير الحاج. أما إذا وافق يومُ عرفة يومَ السبت: فاستحبابُ صيامه ثابتٌ أيضًا، وتقرير […]

لماذا يُمنَع من دُعاء الأولياء في قُبورهم ولو بغير اعتقاد الربوبية فيهم؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة هناك شبهة مشهورة تثار في الدفاع عن اعتقاد القبورية المستغيثين بغير الله تعالى وتبرير ما هم عليه، مضمونها: أنه ليس ثمة مانعٌ من دعاء الأولياء في قبورهم بغير قصد العبادة، وحقيقة ما يريدونه هو: أن الممنوع في مسألة الاستغاثة بالأنبياء والأولياء في قبورهم إنما يكون محصورًا بالإتيان بأقصى غاية […]

الحج بدون تصريح ..رؤية شرعية

لا يشكّ مسلم في مكانة الحج في نفوس المسلمين، وفي قداسة الأرض التي اختارها الله مكانا لمهبط الوحي، وأداء هذا الركن، وإعلان هذه الشعيرة، وما من قوم بقيت عندهم بقية من شريعة إلا وكان فيها تعظيم هذه الشعيرة، وتقديس ذياك المكان، فلم تزل دعوة أبينا إبراهيم تلحق بكل مولود، وتفتح كل باب: {رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ […]

المعاهدة بين المسلمين وخصومهم وبعض آثارها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة باب السياسة الشرعية باب واسع، كثير المغاليق، قليل المفاتيح، لا يدخل منه إلا من فقُهت نفسه وشرفت وتسامت عن الانفعال وضيق الأفق، قوامه لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، والإنسان قد لا يخير فيه بين الخير والشر المحض، بل بين خير فيه دخن وشر فيه خير، والخير […]

إمعانُ النظر في مَزاعم مَن أنكَر انشقاقَ القَمر

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الحمد لله رب العالمين، وأصلى وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن آية انشقاق القمر من الآيات التي أيد الله بها نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فكانت من أعلام نبوّته، ودلائل صدقه، وقد دلّ عليها القرآن الكريم، والسنة النبوية دلالة قاطعة، وأجمعت عليها […]

هل يَعبُد المسلمون الكعبةَ والحجَرَ الأسودَ؟

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وهدنا صراطه المستقيم. وبعد، تثار شبهة في المدارس التنصيريّة المعادية للإسلام، ويحاول المعلِّمون فيها إقناعَ أبناء المسلمين من طلابهم بها، وقد تلتبس بسبب إثارتها حقيقةُ الإسلام لدى من دخل فيه حديثًا([1]). يقول أصحاب هذه الشبهة: إن المسلمين باتجاههم للكعبة في الصلاة وطوافهم بها يعبُدُون الحجارة، وكذلك فإنهم يقبِّلون الحجرَ […]

التحقيق في نسبةِ ورقةٍ ملحقةٍ بمسألة الكنائس لابن تيمية متضمِّنة للتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وبآله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ تحقيقَ المخطوطات من أهمّ مقاصد البحث العلميّ في العصر الحاضر، كما أنه من أدقِّ أبوابه وأخطرها؛ لما فيه من مسؤولية تجاه الحقيقة العلمية التي تحملها المخطوطة ذاتها، ومن حيث صحّة نسبتها إلى العالم الذي عُزيت إليه من جهة أخرى، ولذلك كانت مَهمة المحقّق متجهةً في الأساس إلى […]

دعوى مخالفة علم الأركيولوجيا للدين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: عِلم الأركيولوجيا أو علم الآثار هو: العلم الذي يبحث عن بقايا النشاط الإنساني القديم، ويُعنى بدراستها، أو هو: دراسة تاريخ البشرية من خلال دراسة البقايا المادية والثقافية والفنية للإنسان القديم، والتي تكوِّن بمجموعها صورةً كاملةً من الحياة اليومية التي عاشها ذلك الإنسان في زمانٍ ومكانٍ معيَّنين([1]). ولقد أمرنا […]

جوابٌ على سؤال تَحَدٍّ في إثبات معاني الصفات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة أثار المشرف العام على المدرسة الحنبلية العراقية -كما وصف بذلك نفسه- بعضَ التساؤلات في بيانٍ له تضمَّن مطالبته لشيوخ العلم وطلبته السلفيين ببيان معنى صفات الله تبارك وتعالى وفقَ شروطٍ معيَّنة قد وضعها، وهي كما يلي: 1- أن يكون معنى الصفة في اللغة العربية وفقَ اعتقاد السلفيين. 2- أن […]

معنى الاشتقاق في أسماء الله تعالى وصفاته

مما يشتبِه على بعض المشتغلين بالعلم الخلطُ بين قول بعض العلماء: إن أسماء الله تعالى مشتقّة، وقولهم: إن الأسماء لا تشتقّ من الصفات والأفعال. وهذا من باب الخلط بين الاشتقاق اللغوي الذي بحثه بتوسُّع علماء اللغة، وأفردوه في مصنفات كثيرة قديمًا وحديثًا([1]) والاشتقاق العقدي في باب الأسماء والصفات الذي تناوله العلماء ضمن مباحث الاعتقاد. ومن […]

محنة الإمام شهاب الدين ابن مري البعلبكي في مسألة الاستغاثة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن فصول نزاع شيخ الإسلام ابن تيمية مع خصومه طويلة، امتدت إلى سنوات كثيرة، وتنوَّعَت مجالاتها ما بين مسائل اعتقادية وفقهية وسلوكية، وتعددت أساليب خصومه في مواجهته، وسعى خصومه في حياته – سيما في آخرها […]

العناية ودلالتها على وحدانيّة الخالق

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ وجودَ الله تبارك وتعالى أعظمُ وجود، وربوبيّته أظهر مدلول، ودلائل ربوبيته متنوِّعة كثيرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن دلائل الربوبية وآياتها أعظم وأكثر من كلّ دليل على كل مدلول) ([1]). فلقد دلَّت الآيات على تفرد الله تعالى بالربوبية على خلقه أجمعين، وقد جعل الله لخلقه أمورًا […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017