أخلاق الإسلام في الحرب
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
المقدمة:
من أعظم ما تتميز به شريعة الإسلام أنها شريعة أخلاقية، تلتزم بالأخلاق والقيم وتسعى لتحقيقها وتكميلها في كل ظروفها وأحوالها، خاصة في أوقات الحروب التي تختبر فيها حقيقة هذه المبادئ، وتزول الأقنعة المزيفة التي تتجمل بها جميع الأمم في أوقات الرخاء والسلم.
وهذه من أهم جوانب التفوق الحضاري للإسلام على ما سواه من الشرائع والنظم الدينية والوضعية، فالأديان السماوية التي عبثت بها أيدي البشر تأمر في نصوصها صراحة بقتل الأبرياء ومن لا ذنب لهم والإفساد في الأرض.
جاء في سفر صموئيل الأول من أسفار العهد القديم: «هكَذَا يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ: إِنِّي قَدِ افْتَقَدْتُ مَا عَمِلَ عَمَالِيقُ بِإِسْرَائِيلَ حِينَ وَقَفَ لَهُ فِي الطَّرِيقِ عِنْدَ صُعُودِهِ مِنْ مِصْرَ. فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ، وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلًا وَامْرَأَةً، طِفْلًا وَرَضِيعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جَمَلًا وَحِمَارًا»([1]).
وفي سفر العدد: «وَسَبَى بَنُو إِسْرَائِيلَ نِسَاءَ مِدْيَانَ وَأَطْفَالَهُمْ، وَنَهَبُوا جَمِيعَ بَهَائِمِهِمْ، وَجَمِيعَ مَوَاشِيهِمْ وَكُلَّ أَمْلاَكِهِمْ. وَأَحْرَقُوا جَمِيعَ مُدُنِهِمْ بِمَسَاكِنِهِمْ، وَجَمِيعَ حُصُونِهِمْ بِالنَّارِ»([2]).
وجاء فيه أيضا: «فَالآنَ اقْتُلُوا كُلَّ ذَكَرٍ مِنَ الأَطْفَالِ»([3]).
ويمكن الرجوع لنصوص سفر (يشوع) من أسفار التوراة، وهي كذلك في العهد الجديد الذي يؤمن به النصارى؛ لترى نصوص ما يعرف حديثًا بالإبادة الجماعية للكنعانيين التي أُمِر بها يشوع.
وهذه النصوص هي التي يفتي بها اليوم حاخامات اليهود لقادة دولتهم، وهي المستند الديني الذي يعتمدون عليه في كل جرائمهم ضد الأطفال والنساء والأبرياء منذ نشأة دولتهم وإلى يومنا هذا.
وأما النظم الوضعية العلمانية فيكفي النظر في الحروب العالمية التي ثارت في عهد هذه النظم، والتي خلّفت قتلى بالملايين([4])، فضلا عن حرق المدن والتعذيب واغتصاب النساء والأطفال، وسياسة الأرض المحروقة التي تقوم على إبادة كل مظاهر الحياة في المدن؛ لتعرف غياب هذه الأخلاق تماما عن هذه الحروب.
وبعد انتهاء هذه الحرب حاول المنتصرون فيها وضع أسس أخلاقية؛ لمنع تكرار هذه المآسي والكوارث الناشئة عن هدم كل المعايير الأخلاقية أثناء الحرب، وتغنّى الكثيرون في العالم بشعارات هذه المواثيق، وأنها أرقى ما وصلت إليه البشرية في تاريخها كله.
ولكن لم تصمُد هذه الشعارات الجوفاء أمام اختبار الواقع والحقيقة، فثارت في ظل هذا النظام حروب كثيرة، انتُهكت فيها كل هذه المواثيق على يد من وضعوها وعظّموها، بل وفرضوا على العالم الضعيف احترامها، واستثنوا أنفسهم وحلفاءَهم من الالتزام بها.
ويرجع ذلك إلى أن المرجعية الأخلاقية التي يحتكم إليها ساسة هذه النظم هي المصلحة والمنفعة، فإذا حصل التعارض تنكروا للأخلاق.
ويرجع ذلك أيضا للكبر الذي أُشرِبه الغربيون عموما واليهود خصوصًا، فجعلهم ينظرون لغيرهم من البشر على أنهم (أغيار) ليسوا بشرًا كاملين في نفس درجة الإنسانية التي وصلوا إليها. وعزز هذه النظرة انتشار نظريات الإلحاد والداروينية، والتي جعلت العلاقة بين البشر قائمة على الصراع للبقاء، واعتبرت أن هناك جنسًا أرقى وجنسًا أدنى، وأن الصراع بينهم حتمي، والبقاء للأقوى.
ولذلك في الوقت الذي كان الغرب يتغنى بشعارات الحقوق والحريات كان يمارس الاستعمارُ -وحقيقته (الاستخراب)- أبشعَ أنواع المظالم، وينتهك جميع الحقوق للشعوب الضعيفة المقهورة.
كانت هذه مقدمة موجزة، لا أقصد بها المقارنة المستوعبة بين الإسلام وغيره في أخلاق الحرب، ولكن بيان جانب يظهر به مدى عظمة الإسلام فيما شرعه وسنَّه من أحكام ومبادئ تنظم أحكام الحرب والقتال في جميع مراحله، وتبين كذلك المبادئ العامة التي يتعامل من خلالها المسلمون في هذا الباب.
أولا: الأمر بالعدل مع جميع الخلق:
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلْإِحْسَٰنِ وَإِيتَايِٕ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنكَرِ وَٱلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90].
وهذه آية جامعة، قال فيها ابن مسعود رضي الله عنه: “أَجْمَعَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ”([5]). والأمر فيها بالعدل عام مع الجميع.
وقال تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَٔانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ﴾ [المائدة: 2].
قال ابن كثير رحمه الله: “أي: لا يحملنكم بُغض قوم قد كانوا صدّوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام -وذلك عام الحديبية- على أن تعتدوا حكم الله فيهم، فتقتصوا منهم ظلمًا وعدوانًا، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد”([6]).
وقال تعالى: ﴿يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِٱلْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ﴾ [المائدة: 8].
وهذه كالتي قبلها، فالعدل واجب على كل أحد، في كل أحد، في كل حال.
قال بعض السلف: “ما عاملتَ من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، والعدل به قامت السموات والأرض”([7]).
وهذا هو الأصل العام الذي يجب على المسلمين مراعاته في كل الأحوال، ومنها حالة الحرب، فمهما كان تصرف المشركين فإن هذا لا يجعلنا نحيد عن العدل واجتناب الظلم.
وقد استدلّ القرطبي بهذه الآية على تحريم التمثيل بجثث الكفار في الحروب، حتى وإن فعلوا هم ذلك، فقال: “ودلت الآية أيضًا على أنّ كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه، وأن يُقْتَصَر بهم على المُسْتَحَقّ من القتال والاسترقاق، وأنّ المُثْلَةَ([8]) بهم غيرُ جائزة وإنْ قتلوا نساءنا وأطفالنا وغمُّونا بذلك، فليس لنا أن نقتلهم بمثلة قصدًا لإيصال الغمّ والحزن إليهم”([9]).
وقد برزت قيمة العدل والإنصاف في الحروب في بواكير العمل العسكري بعد الإذن بالقتال، وهي سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه حينما تعقبوا قافلة لقريش، وقتلوا منها عمرو بن الحضرمي وأسروا اثنين، وفرَّ الرابع إلى قريش، فشنع المشركون عليهم بالقتل في الشهر الحرام، وشق ذلك على المسلمين، فنزل قوله تعالى: ﴿يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَال فِيهِ قُلْ قِتَال فِيهِ كَبِير وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرُ بِهِۦ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِۦ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ﴾ [البقرة: 217]([10]).
فأجابت الآية ببيان حكم ما وقع من المسلمين، وأنه إثم كبير، ولا يجوز، وردّت على المشركين تشنيعهم على المسلمين، وأن ما هم عليه أعظم بكثير مما وقع من المسلمين، وأن انتهاكهم للشهر الحرام والبلد الحرام أعظم، وأعظم من كل ذلك فتنتهم المسلمين عن دينهم، وإجبارهم على الشرك.
والشاهد أن القرآن لم يجعل القتال والحرب مسوّغًا لمخالفة الشريعة وانتهاك أحكامها، حتى ولو كان قد وقع من المشركين ذلك، وفي هذا أبلغ الدلالة على مدى التزام الإسلام بالأخلاق في حالة الحرب.
ثانيا: أهداف الحرب في الإسلام:
أهداف الحرب في الإسلام أهداف أخلاقية، فالجهاد في الإسلام بنوعيه -جهاد الدفع والطلب- له أهداف منها:
- الدفاع عن المستضعفين ورفع الظلم عنهم: قال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَاءِ وَٱلْوِلْدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهْلُهَا﴾ [النساء: 75]، وقال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْض لَّهُدِّمَتْ صَوَٰمِعُ وَبِيَع وَصَلَوَٰت وَمَسَٰجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ٱسْمُ ٱللَّهِ كَثِيرا وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 39، 40].
- منع الفتنة في الدين: قال تعالى: ﴿وَقَٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَة وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ ٱنتَهَوْاْ فَلَا عُدْوَٰنَ إِلَّا عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ﴾ [البقرة: 193]، والفتنة هنا بإجماع المفسرين: الشرك. وليس المقصود بذلك إفناء جميع الكفار؛ فإن هذا بالقطع ليس الغاية التي ينتهي عندها القتال، وهو غير مقدور وغير مأمور، ولم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا المسلمون في تاريخهم. وإنما المقصود: ألا يكون كفر ظاهر على بقعة، فيفتن المشركون المتسلطون المسلين عن دينهم، كما قال تعالى ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ﴾ [البروج: 10].
- حماية الدعوة إلى الله تعالى: فلم يشرع الجهاد لإكراه الناس على الدخول في الإسلام، فإن ذلك منفي في كتاب الله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ﴾ [البقرة: 256]. ومن المعلوم أن المسلمين لم يكرهوا أهل البلدان المفتوحة على ترك دينهم، بل أقروهم على ما هم عليه، ولكن كانت وظيفة الجهاد إزاحة أئمة الكفر الذين يفرضونه على الناس، ويحولون بينهم وبين نور الإسلام، كما قال ربعي بن عامر في مقولته الشهيرة لرستم: “الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله”([11]).
- الحفاظ على وحدة المسلمين وجماعتهم: ولذلك شرع الإسلام قتال البغاة والخوارج، وهذا النوع من القتال وإن كان بين المسلمين، إلا أنه أيضا شرع لمنع الفتنة ودرءًا لفساد أعظم.
ومع ذلك ضيّق الشرع فيه، فجعله آخر الدواء، بعد استنفاذ الطرق الأخرى لرد عدوانهم، كالنظر في مطالبهم المشروعة، وإزالة شبهاتهم، ومحاورتهم ومناظرتهم، وغير ذلك من الطرق السلمية، ثم عند الاضطرار لمحاربتهم يقتصر فقط على مقدار ما تندفع به الضرورة، فلا تنتهك جميع حرماتهم، فلا يتبع مدبرهم، ولا يجهز على جريحهم، وغير ذلك مما هو مذكور في أبواب قتال البغاة في كتب الفقه؛ لأن المقصود دفع العدوان ومنع الفتنة بالأسهل فالأسهل.
فهذه أهداف القتال في الإسلام، وكلها أهداف أخلاقية، ليس منها التسلط على رقاب الخلق، ولا إعلاء جنس معين، ولا تسخير الشعوب لخدمته، أو السيطرة على ثرواتهم وخيراتهم.
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في قيادة المسلمين وفتوحاتهم للبلدان: “إنهم لم يكونوا خَدَمَة جنس، ورسل شعب أو وطن، يسعون لرفاهيته ومصلحته وحده، ويؤمنون بفضله وشرفه على جميع الشعوب والأوطان، لم يخلقوا إلا ليكونوا حكامًا، ولم تخلق إلا لتكون محكومة لهم، ولم يخرجوا ليؤسّسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها، ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها، ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكم أنفسهم، إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعًا وإلى عبادة الله وحده… وفي ظل هؤلاء وتحت حكمهم استطاعت الأمم والشعوب -حتى المضطهدة منها في القديم- أن تنال نصيبها من الدين والعلم والتهذيب والحكومة… بل إن كثيرًا من أفرادها فاقوا العرب في بعض الفضائل، وكان منهم أئمة هم تيجان مفارق العرب وسادة المسلمين من الأئمة والفقهاء والمحدثين”([12]).
ثالثا: التزام العهود والمواثيق:
شدّد الإسلام في الوفاء بالعهود، وأغلظ الوعيد في نقضها، قال تعالى: ﴿يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]. وهذا شامل للعهود والمواثيق مع غير المسلمين.
وقال تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَٰهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُواْ ٱلْأَيْمَٰنَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ ٱللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٩١) وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثا تَتَّخِذُونَ أَيْمَٰنَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِۦۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [النحل: 91، 92].
قال ابن كثير رحمه الله: “هذا مما يأمر الله تعالى به، وهو الوفاء بالعهود والمواثيق والمحافظة على الأيمان المؤكدة… قال ابن عباس: {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ} أي: أكثر، وقال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز، فَنُهوا عن ذلك”([13]).
فانظر كيف أمرهم بالحفاظ على العهد، وإن كان مخالفًا للمصلحة في ظنهم.
ومن أعظم ما يبين أهمية الوفاء بالعهود قوله تعالى: ﴿وَإِنِ ٱسْتَنصَرُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيْكُمُ ٱلنَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَٰق﴾ [الأنفال: 72].
قال القرطبي رحمه الله: “يريد: إن دعوا هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا من أرض الحرب عونكم بنفير أو مال لاستنقاذهم فأعينوهم، فذلك فرض عليكم فلا تخذلوهم، إلا أن يستنصروكم على قوم كفار بينكم وبينهم ميثاق، فلا تنصروهم عليهم، ولا تنقضوا العهد حتى تتم مدته”([14]).
وهذا الأمر قد طبقه النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، وكان من بنودها ما طلبه سهيل بن عمرو: علَى أنَّه لا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وإنْ كانَ علَى دِينِكَ إلَّا رَدَدْتَهُ إلَيْنَا، قالَ المُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! كيفَ يُرَدُّ إلى المُشْرِكِينَ وقدْ جَاءَ مُسْلِمًا؟! فَبيْنَما هُمْ كَذلكَ إذْ دَخَلَ أبو جَنْدَلِ بنُ سُهَيْلِ بنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ في قُيُودِهِ، وقدْ خَرَجَ مِن أسْفَلِ مَكَّةَ حتَّى رَمَى بنَفْسِهِ بيْنَ أظْهُرِ المُسْلِمِينَ، فَقالَ سُهَيْلٌ: هذا -يا مُحَمَّدُ- أوَّلُ ما أُقَاضِيكَ عليه أنْ تَرُدَّهُ إلَيَّ، فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «إنَّا لَمْ نَقْضِ الكِتَابَ بَعْدُ»، قالَ: فَوَاللَّهِ إذًا لَمْ أُصَالِحْكَ علَى شَيءٍ أبَدًا، قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «فأَجِزْهُ لِي»، قالَ: ما أنَا بمُجِيزِهِ لَكَ، قالَ: «بَلَى فَافْعَلْ»، قالَ: ما أنَا بفَاعِلٍ، قالَ مِكْرَزٌ: بَلْ قدْ أجَزْنَاهُ لَكَ، قالَ أبو جَنْدَلٍ: أيْ مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، أُرَدُّ إلى المُشْرِكِينَ وقدْ جِئْتُ مُسْلِمًا! ألَا تَرَوْنَ ما قدْ لَقِيتُ؟! وكانَ قدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا في اللَّهِ([15]).
وفي رواية أبي داود: فَردَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ أبا جَندَلٍ بنِ سُهَيلٍ يَومَئذٍ إلى أبيهِ سُهَيلٍ بنِ عَمرٍو، ولَم يَأتِ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ أحَدٌ مِن الرِّجالِ، إلَّا ردَّهُ في تِلكَ المدَّةِ([16]).
فالتزم النبي صلى الله عليه وسلم بالعهد المبرم، والذي كان يحقق مصلحة المسلمين في الجملة وفي المآل، وإن حصل بسببه بعض الضرر لبعضهم في الحال.
وقال تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَة فَٱنبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْخَائِنِينَ﴾ [الأنفال: 58].
قال ابن كثير رحمه الله: “يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ﴾ قد عاهدتهم ﴿خِيَانَة﴾ أي: نقضا لما بينك وبينهم من المواثيق والعهود، ﴿فَٱنبِذْ إِلَيْهِمْ﴾ أي: عهدهم ﴿ عَلَىٰ سَوَاءٍ﴾ أي: أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم، حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم، وهم حرب لك، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء، أي: تستوي أنت وهم في ذلك… ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْخَائِنِينَ﴾ أي: حتى ولو في حق الكفار لا يحبها أيضا”([17]).
وهذه الأمور طبقها المسلمون في حروبهم وجهادهم، فعَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: كَانَ مُعَاوِيَةُ يَسِيرُ بِأَرْضِ الرُّومِ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ أَمَدٌ، فَأَرَادَ أَنْ يَدْنُوَ مِنْهُمْ، فَإِذَا انْقَضَى الْأَمَدُ غَزَاهُمْ، فَإِذَا شَيْخٌ عَلَى دَابَّةٍ يَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَحِلَّنَّ عُقْدَةً وَلَا يَشُدَّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهَا، أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ»، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَرَجَعَ، وَإِذَا الشَّيْخُ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ([18]).
قال الشوكاني رحمه الله: “وفي الحديث دليل على أنه لا يجوز المسير إلى العدو في آخر مدة الصلح بغتة، بل الواجب الانتظار حتى تنقضي المدة أو النبذ إليهم على سواء”([19]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ومعلوم أنه إنما نهى عن ذلك لئلا يكون فيه خديعة بالمعاهدين إن لم يكن في ذلك مخالفة لما اقتضاه لفظ العهد، فعلم أن مخالفة ما يدل عليه العقد لفظًا أو عرفًا خديعةٌ، وأنه حرام”([20]).
وأكدت السنة على هذا الأصل المهم:
فعن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ([21]) رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا»([22]).
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَلَا يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ عَامًا»([23]).
والمعاهد هنا يشمل كل أنواع المعاهدين، وهم:
- أصحاب العهد المؤبد: وهم أهل الذمة الذين يدفعون الجزية للمسلمين.
- أصحاب العهد المؤقت: الذين لهم عهد مؤقت بمدة، كما في صلح الحديبية.
- أصحاب العهد المطلق: الذين صالحناهم دون تحديد مدة معينة، كما عاهد النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر دون تحديد مدة، وكما عاهد النبي صلى الله عليه وسلم يهود المدينة في أول الهجرة دون تحديد مدة. وهذا ليس منسوخًا بمعنى أنه زال العمل به بالكلية، بل يعمل به عند الحاجة إليه. وبسط ذلك وبيان أحكام العهود بالتفصيل يخرج بنا عن المقصود.
رابعا: وجوب الدعوة قبل القتال:
فلا يجوز القتال قبل الدعوة للإسلام، وتخييرهم بين الإسلام أو الجزية.
فلما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب الراية يوم خيبر قال له علي: نُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا؟ فَقَالَ: «عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَوَاللهِ لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ»([24]).
فحثه على دعوتهم، وألا يستعجل الفتح والغنائم، وأن هداية واحد منهم فقط خير من كل الغنائم.
وفي حديث بريدة مرفوعا: «وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ –أَوْ: خِلَالٍ-، فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ…»([25]).
وهذا يبين أهمية الجانب الأخلاقي، وأن محبة هداية الخلق مع بقاء ملكهم على ما في أيديهم، وهدم الإسلام لما قبله، مقدّم على قتالهم وغنيمة أموالهم، أو الانتقام منهم على ما سلف منهم قبل إسلامهم.
وهذه الدعوة قبل القتال تكون واجبة إذا لم تبلغهم الدعوة، وأما إذا بلغتهم من قبل فيستحب تجديدها، كما في حديث علي يوم خيبر، ولكن لا يجب ذلك، لأن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ([26])، أي: وهم غافلون([27]).
قال النووي رحمه الله: “وفي هذا الحديث: جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم الدعوة من غير إنذار بالإغارة. وفي هذه المسألة ثلاثة مذاهب، حكاها المازري والقاضي:
أحدها: يجب الإنذار مطلقا. قاله مالك وغيره وهذا ضعيف.
والثاني: لا يجب مطلقا. وهذا أضعف منه أو باطل.
والثالث: يجب إن لم تبلغهم الدعوة ولا يجب إن بلغتهم لكن يستحب. وهذا هو الصحيح… وهو قول أكثر أهل العلم، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه”([28]).
ومن عجيب القصص في ذلك ما أورده الطبري في تاريخه: أن أهل سمرقند قد شكوا إلى عمر بن عبد العزيز ظلما أصابهم وتحاملا من قتيبة بن مسلم، فأمر عمر نائبه بتعيين قاض ينظر في أمرهم وقال له: “إذا أتاك كتابي فأجلس لهم القاضي، فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخرجهم إلى معسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن ظهر عليهم قتيبة”. فقضى القاضي بأن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم وينابذوهم على سواء، فيكون صلحا جديدا أو ظفرا عنوة، فقال أهل سمرقند: بل نرضى بما كان، ولا نجدد حربا، وتراضوا بذلك([29]).
خامسا: الالتزام بالأخلاق والأحكام الشرعية في أثناء القتال:
قال تعالى: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: 190]، أي: ولا تعتدوا في هذا القتال بفعل ما لا يجوز وقتل من لا يحل قتله.
قال ابن عباس في تفسير ﴿وَلَا تَعْتَدُواْ﴾: «لا تقتلوا النساء، ولا الصبيان، ولا الشيخ الكبير، ولا من ألقى إليكم السلم وكف يده، فإن فعلتم هذا فقد اعتديتم»([30]).
ومن هذه الأحكام:
- النهي عن قتل النساء والصبيان والشيوخ والزمنى والرهبان والعسيف الأجير:
ففي حديث بريدة: «وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا»([31]).
وفي رواية: «ولا تقتُلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلًا، ولا صغيرًا، ولا امرأةً»([32]).
وفي رواية: «ولَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، ولَا أصحاب الصوامع»([33]). وهذه الجملة الأخيرة في سندها ضعف، ولكن قال أبو جعفر الطحاوي رحمه الله: “وقد روي عن أبي بكر ما يوافق هذا المعنى… لما بعث الجنود نحو الشام: يزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة كان فيما وصاهم به: “أن لا يقتلوا الولدان، ولا الشيوخ، ولا النساء”، وقال: “ستجدون قوما حبسوا أنفسهم على الصوامع، فدعوهم وما حبسوا أنفسهم”([34]).
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى جنده: «لَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي الْفَلَّاحِينَ الَّذِينَ لَا يَنْصُبُونَ لَكُمُ الْحَرْبَ»([35]).
ومرّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه على امرأة مقتولة، فَوَقَفَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ»، فَقَالَ لِأَحَدِهِمْ: «الْحَقْ خَالِدًا فَقُلْ لَهُ: لَا تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً وَلَا عَسِيفًا»([36]).
قال الخطابي: “فيه دليل على أن المرأة إذا قاتلت قُتِلت؛ ألا ترى أنه جعل العلة في تحريم قتلها أنها لا تقاتِل، فإذا قاتلت دل على جواز قتلها. والعسيف: الأجير والتابع؛ واختلفوا في جواز قتله، فقال الثوري: لا يقتل العسيف وهو التابع. وقال الأوزاعي نحوًا منه، وقال: لا يقتل الحراث إذا علم أنه ليس من المقاتلة، قال: وكذلك لا يقتل صاحب الصومعة ولا شيخًا فانيًا ولا صغيرًا”([37]).
فلا يجوز تعمد قتل هذه الأصناف إذا انفردت عن المقاتلين؛ لأنهم ليسوا من أهل القتال غالبا، ولا يشاركون فيه بوجه من الوجوه، ولا مهيؤون لذلك.
- ومن هذه الأحكام أيضا: النهي عن التمثيل والتحريق بالنار: ففي حديث بريدة السابق: «ولا تمثلوا».
قال الخطابي: “المُثْلَةُ تعذيب المقتول بقطع أعضائه وتشويه خلقه قبل أن يقتل أو بعده، وذلك مثل أن يجدع أنفه أو أذنه، أو يفقأ عينه أو ما أشبه ذلك من أعضائه. قلتُ: وهذا إذا لم يكن الكافر فعل مثل ذلك بالمقتول المسلم، فإن مثَّل بالمقتول جاز أن يمثَّل به، ولذلك قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أيدي العرنيين وأرجلهم وسمر أعينهم، وكانوا فعلوا ذلك برعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم”([38]).
والنهي عن التحريق بالنار ثبت من حديث حَمْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَّرَهُ عَلَى سَرِيَّةٍ قَالَ: فَخَرَجْتُ فِيهَا، وَقَالَ: «إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا فَأَحْرِقُوهُ بِالنَّارِ». فَوَلَّيْتُ فَنَادَانِي فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: «إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا فَاقْتُلُوهُ وَلَا تُحْرِقُوهُ، فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ»([39]).
وأما فعل علي رضي الله عنه لذلك مع السبئية الذين ألَّهوه فقد أنكر عليه ابن عباس ذلك لما بلغه، وقال: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللهِ»، وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»([40]).
- ومن ذلك: النهي عن الغدر في أثناء القتال:
ففي حديث بريدة: «ولا تغدروا».
وكتب عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ إلى عَامَلِ جَيْشٍ كَانَ بَعَثَهُ: «إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ يَطْلُبُ الْعِلْجَ، حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ فِي الْجَبَلِ وَامْتَنَعَ قَالَ لَهُ الرَّجُلُ: مَتْرَسْ -يَقُولُ: لَا تَخَفْ- فَإِنْ أَدْرَكَهُ قَتَلَهُ، وَإِنِّي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَبْلُغَنِّي أَنَّ أَحَدًا فَعَلَ ذَلِكَ إِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ»([41]).
وقال البخاري في صحيحه: “وَقَالَ عُمَرُ: إِذَا قَالَ: مَتْرَسْ فَقَدْ آمَنَهُ، إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ الْأَلْسِنَةَ كُلَّهَا”([42]).
- ومن وصايا أبي بكر رضي الله عنه العظيمة لما بعث جيوشه إلى الشام: «وَإِنِّي مُوصِيكَ بِعَشْرٍ: لَا تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً، وَلَا صَبِيًّا، وَلَا كَبِيرًا هَرِمًا، وَلَا تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا، وَلَا تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا، وَلَا تَعْقِرَنَّ شَاةً، وَلَا بَعِيرًا، إِلَاّ لِمَأْكَلَةٍ، وَلَا تُغَرِّقَنَّ نَحْلًا، وَلَا تَحْرِقَنَّه، وَلَا تَغْلُلْ، وَلَا تَجْبُنْ»([43]).
سادسا: الأمر بالإحسان للأسرى:
قال تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسْكِينا وَيَتِيما وَأَسِيرًا﴾ [الإنسان: 8].
قال ابن كثير رحمه الله: “قال ابن عباس: كان أسراؤهم يومئذ مشركين. ويشهد لهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء”([44]).
يشير بذلك إلى ما أخرجه الطبري في تاريخه عن محمد بن إسحاق قال: حدثني نبيه بن وهب أخو بني عبد الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل بالأسارى فرقهم في أصحابه، وقال: «استوصوا بالأسارى خيرًا». قال: وكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه في الأسارى. قال: فقال أبو عزيز: مر بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني، فقال: شد يديك به فإن أمه ذات متاع؛ لعلها أن تفتديه منك. قال: وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز، وأكلوا التمر لوصيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة من الخبز إلا نفحني بها. قال: فأستحي، فأردها على أحدهم فيردها علي ما يمسها([45]).
والفقهاء يقسمون الأسرى لنوعين:
- قسم لا يجوز قتله بحال: وهم النساء والأطفال ومن ذكرنا في أصناف من لا يجوز قتالهم.
- الرجال البالغون الذين يقاتلون فعلا أو مهيؤون لذلك، وهؤلاء يخير الإمام فيهم بين: القتل، والاسترقاق، والفداء، والمنّ. وهذا التخيير تراعى فيه مصلحة المسلمين.
وهنا ثلاث ملاحظات:
الأولى: أنه على أي خيار اختاره الإمام، فإنه يجب الإحسان للأسرى، وعدم تعذيبهم، أو الإساءة إليهم.
ففي شرح السير الكبير: “وإن رأى الإمام قتل الأسارى فينبغي له أن لا يعذبهم بالعطش والجوع، ولكنه يقتلهم قتلا كريمًا”([46]).
فلا يجوز تجويعهم، أو التمثيل بهم، أو تعذيبهم ونحو ذلك، مما يناقض وصيته العامة: «استوصوا بالأسارى خيرًا».
الثانية: أن أكثر هديه صلى الله عليه وسلم في الأسرى كان المنّ أو الفداء أو الاسترقاق. والقتل وقع لقلة من عتاة المشركين وصناديدهم، أو الخونة كبني قريظة -كمجرمي الحرب في زماننا-، ومن سوى ذلك فكانت الخيارات الأخرى.
فأسارى بدر قبِلَ فيهم الفداء، وأسارى مكة منَّ عليهم بإطلاقهم، وأسرى بني المصطلق منّ عليهم المسلمون بإطلاقهم بلا مقابل لما تزوج النبيُّ صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث، ومنّ على أسرى هوازن لما جاءه وفد هوازن، ومنّ على ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة بإطلاق سراحه([47])، فأسلم من فوره بعدما رأى من حسن المعاملة وصلاح المسلمين.
وهذه الأخبار مشهورة معروفة في كتب السنن والسير.
والاسترقاق الذي هو أحد الخيارات في التعامل مع الأسرى هو من الخيارات التي تظهر فيها جوانب الأخلاق الإسلامية، فقد حث الإسلام على حسن معاملة ملك اليمين، والإحسان إليهم، وجعل فك رقابهم من أعظم القربات والطاعات، ونهى عن تكليفهم ما لا يطيقون، وأمر بمشاركتهم الطعام، ونهى عن لطمهم أو تعذيبهم أو ظلمهم. وكفل لهم الإسلام حرية البقاء على دينهم، وعدم إكراههم على تغيير دينهم.
وترتب على ذلك كله: أن شارك هؤلاء الأرقاء في المجتمع الإسلامي، وفي الحياة الإسلامية، واندمجوا فيها، وهو ما ساعد على انتشار الإسلام فيهم، بل وظهور الأئمة والعلماء الكبار منهم، بل ومشاركتهم بعد ذلك في الحياة السياسية وقيادة الأمة. وهو ما لا نظير له في الأمم التي ترى أن حبس الأسير مددًا طويلة هو أرقى مظاهر الإنسانية في التعامل مع الأسرى، مع أن الحبس الطويل من العقوبات الشنيعة التي تقارب القتل وتدمر حياة السجين، ولذلك لم يشرعها الإسلام غالبا، إلا مدة يسيرة، كإجراء احترازي، كأن يحبس الأسير حتى ينظر في ما يعمل معه ونحو ذلك.
الثالثة: أنه إذا عاهد المسلمون المشركين على عدم قتل الأسرى من الجانبين، فإن ذلك جائز، ويكون ذلك العهد ملزما للجانبين، ما لم ينقضوه.
ويدخل ذلك في الوفاء بالعقود والعهود التي أمر بها الإسلام، وليس ذلك من باب تحريم ما شرعه الله؛ لأنه لا يحرم ذلك، ولكن يلتزم بعدم فعل هذا الخيار إذا ما التزم به المشركون في أسراهم من المسلمين، فإذا رأى الإمام أن ذلك يحقق مصلحة المسلمين لم يكن عليه في التزام ذلك حرج.
خاتمة:
فهذه بعض جوانب أخلاق الحرب في الإسلام، قبل القتال، وأثناء القتال، وبعد القتال، وكلها تدل على أنه لا انفكاك بين العقيدة والشريعة والأخلاق، فكلها منظومة واحدة مترابطة مع بعضها البعض.
وهي تبين نظرة الإسلام المتزنة الوسط بين الواقعية المكيافيلية اللاأخلاقية، والنظرة المثالية الحالمة التي لا يمكن تطبيقها في الواقع.
النظرة التي تحقق التوازن بين المصلحة الشرعية المعتبرة والأخلاق الفاضلة المرضية، وهي المعادلة التي عجزت أكثر النظم البعيدة عن نور الوحي عن ضبطها فضلا عن تطبيقها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) سفر صموئيل الأول، الإصحاح (15/ 2-3).
([2]) سفر العدد، الإصحاح (31/ 9-10).
([3]) سفر العدد، الإصحاح (31/ 17).
([4]) يقدر عدد القتلى -فضلا عن المصابين والمشردين- في الحرب العالمية الأولى ما يزيد عن عشرة ملايين قتيل، وعدد قتلى الحرب العالمية الثانية أربعون مليون مدني وعشرون مليون عسكري.
([5]) أخرجه ابن جرير (14/ 337). وأخرجه بلفظ مقارب البخاري في الأدب المفرد (376) بسند صححه الحافظ ابن حجر في الفتح (10/ 479). وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد.
([6]) تفسير القرآن العظيم (3/ 9).
([7]) تفسير القرآن العظيم (3/ 10).
([8]) المُثْلة: أي التمثيل بالجثة وتقطيع أطرافها ونحو ذلك. انظر: النهاية (4/ 294).
([9]) الجامع لأحكام القرآن (6/ 110).
([10]) سيرة ابن هشام (2/ 178). وحسنه الألباني في تخريج أحاديث فقه السيرة لمحمد الغزالي (ص: 224).
([12]) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين (ص: 106-107).
([13]) تفسير القرآن العظيم (4/ 513-514).
([14]) الجامع لأحكام القرآن (8/ 57).
([15]) حديث الحديبية أخرجه بطوله البخاري (2731).
([17]) تفسير القرآن العظيم (4/ 70).
([18]) أخرجه أحمد (17015)، وأبو داود (2464)، وصححه الألباني.
([20]) إقامة الدليل على إبطال التحليل – المطبوع مع الفتاوى الكبرى- (6/ 21).
([21]) مِنْ رِحْتُ أَرَاح: إِذَا وَجَدَ الرِّيحَ. ينظر: شرح السنة للبغوي (10/ 152).
([24]) أخرجه البخاري (2942)، ومسلم (2406).
([26]) أخرجه البخاري (2541)، ومسلم (1730).
([28]) شرح صحيح مسلم (12/ 36).
([30]) تفسير الطبري (3/ 291). وعلى هذا فالآية محكمة وليست منسوخة، والوجه الثاني أن هذا نهي عن البدء بالقتال ونسخ هذا بآية السيف.
([32]) أخرجه أبو داود (2641)، وحسنه الأرناؤوط.
([33]) أخرجه البزار (4806)، وأبو يعلى (2549). وجملة أصحاب الصوامع فيها ضعف، ولم تأت من طريق صحيح؛ ولذلك قال محقق مسند أبي يعلى حسين أسد: إسناده ضعيف.
([34]) شرح مشكل الآثار (15/ 436).
([35]) أخرجه سعيد بن منصور (2625).
([36]) أخرجه أحمد (15992). وقال محققو المسند: صحيح لغيره.
([39]) أخرجه أبو داود (2673)، وصححه الألباني.
([41]) أخرجه البيهقي في معرفة السنن والآثار (18129) بسند فيه انقطاع.
([43]) أخرجه مالك في الموطأ (918).
([44]) تفسير القرآن العظيم (8/ 295).
([45]) تاريخ الطبري (2/ 461)، وسيرة ابن هشام (2/ 209)، والطبراني في المعجم الصغير وقال: “تفرد به محمد بن إسحاق”. وقال الهيثمي في المجمع: “إسناده حسن”.
([46]) شرح السير الكبير، للسرخسي (ص: 1029).
([47]) حديث إسلام ثمامة بن أثال أخرجه البخاري (462)، ومسلم (1764).