الاثنين - 02 شوّال 1446 هـ - 31 مارس 2025 م

لماذا يُمنَع من دُعاء الأولياء في قُبورهم ولو بغير اعتقاد الربوبية فيهم؟

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

هناك شبهة مشهورة تثار في الدفاع عن اعتقاد القبورية المستغيثين بغير الله تعالى وتبرير ما هم عليه، مضمونها: أنه ليس ثمة مانعٌ من دعاء الأولياء في قبورهم بغير قصد العبادة، وحقيقة ما يريدونه هو: أن الممنوع في مسألة الاستغاثة بالأنبياء والأولياء في قبورهم إنما يكون محصورًا بالإتيان بأقصى غاية الخضوع؛ باعتقاد ربوبية المخضوع له، واستقلاله بالخلق والتأثير، فإن انتفى ذلك لم يكن ما أتى به من الخضوع الظاهري من العبادة شركًا في كثير ولا قليل بحسب ما يزعمون.

جواب الشبهة:

والجواب عن هذه الشبهة من وجوه([1]):

الوجه الأول: أن هذا مخالفٌ لما جاء في نصوص كثيرة من أن المشركين السابقين كانوا مقرّين بوحدانية الله تعالى في الخلق، وأن له ملك السموات والأرض، وأنه مدبّر الأمر وحده، وأن الأصنام التي كانوا يعبدونها لم تكن عندهم سوى شفعاء يشفعون لهم عند الله، ولم يكن لها من الملك والتدبير شيء.

وقد تنوّعت الدلالات في كتاب الله في تقرير هذا المعنى، ومن ذلك:

أولًا: الإخبار عن جواب المشركين الصريح حين يُسألون عن خالق السموات والأرض ومدبر الأمر ومالك السمع والأبصار بأنه الله تعالى وحده، مما يدل على أن اعتقادهم قائم على إفراد الله تعالى بهذه المعاني، ومع ذلك سمّى الله تعالى ما يصرفونه للأصنام والأوثان عبادة منهم لها.

ومن أدلة ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31].

وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84-89].

وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 61-63].

والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهي دالة على إقرار المشركين بتفرّد الله تعالى بالخلق والملك والتدبير، وأنهم لم يكونوا يعتقدون استقلال أصنامهم في التأثير، ومع ذلك سماهم الله تعالى مشركين.

ثانيًا: الإخبار بتصريح المشركين أن عبادتهم لما اتخذوه من دون الله أولياء إنما هو لطلب القربى والزلفى عند الله تعالى، وأنهم شفعاء لهم عند الله، وأنهم وسائط لهم في قضاء حوائجهم، مما يدلّ على أن عبادتهم لها لم يصاحبها اعتقاد استقلال بالتأثير والتدبير في تلك المعبودات.

ومن أدلَّة ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]، وقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف: 28].

فأيُّ فرق بين المشركين المتقدّمين الذين حكى الله عنهم ذلك وبين من وقع في الشرك أهل زماننا؟! فأولئك ما أثبتوا لهم الضر والنفع استقلالا، بل أثبتوه لهم بالتبع، ومع كل ذلك سماهم الله مشركين، والواقعون في الشرك من أهل زماننا يقولون: نحن نعلم أنهم لا يملكون ذلك لنا استقلالًا، بل تبعًا.

فإن قيل: إن أولئك ما شهدوا لمحمد بالرسالة، وإن شهدوا لله بالوحدانية، وأما أهل زماننا فهم يشهدون للرسول بالرسالة كما شهدوا لله بالوحدانية.

فالجواب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال: لا إله إلا الله مخلصًا من قلبه دخل الجنة»([2]).

وأهل زماننا من الواقعين في الشرك وإن قالوا: (لا إله إلا الله) لم يخلصوا فيها؛ لأن الإخلاص فيها هو أن تعتقد أنه لا يجلب الخير ولا يكشف الضر -لا بالاستقلال ولا بالتبع- إلا الله وحده([3]).

ومن تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان بكلّ ما أتى به، ومما أتى به: أن لا يُسأل الميت ما لا يقدر عليه إلا الله.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولهذا ‌لما ‌نُبِّهَ من نُبِّهَ من فُضَلَائِهِم على ذلك تنبَّهُوا، وعلِمُوا أنَّ ما كانوا عليه ليس من دين الإسلام، بل هو مشابهة لعباد الأصنام)([4]).

ثالثًا: الإخبار عن لجوء المشركين في الدعاء حال الضراء إلى الله تعالى وحده، ونبذهم كل ما كانوا يعبدون من دونه؛ مما يدل على ما تقرر في قلوبهم من تفرد الله تعالى وحده بالنفع والضر، وأن تلك الآلهة التي كانوا يعبدون ما كانت إلا وسائط جعلوها وسيلة لحصول مطلوبهم عند ربهم.

والأدلة على ذلك كثيرةٌ، منها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس: 22].

وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [الإسراء: 67-69].

وقوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].

وقوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 32].

الوجه الثاني: أن القول بأن مناط الشرك في مسألة الاستغاثة هو اعتقاد الربوبية في المستغاث به يلزم عليه لوازم فاسدة كثيرة، فمن تلك اللوازم:

أولًا: أن يكون قوم موسى لما اتخذوا العجل، وقالوا: هذا إلهكم وإله موسى، أنهم يعتقدون أن هذا العجل خالق رازق مستقل بالتدبير، وكذلك لما طلبوا إلها كما قص الله تعالى عنهم بقوله: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] أنهم يريدون من يعتقدون فيه الخلق والتدبير غير الله تعالى، وقد حاجهم الله تعالى بما يعلمونه يقينًا من حال العجل فقال تعالى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [طه: 89].

ثانيًا: أن ذلك يقتضي ألا يكون هناك أقوال ولا أعمال شركية مكفّرة، ولا يحكم على أحد بشرك إن اقترفه ما لم يظهر ما يضمره من اعتقاد استقلال الخلق والتدبير في مَن يصرف إليه أقواله وأعماله التي هي من أعمال المشركين وأقوالهم!

فدعاء غير الله تعالى والسجود له والركوع له والذبح والنذر له على هذا ليست من الشرك في شيء، ولا يكفر فاعلها!

وهذا اللازم يخالف ما في مدونات الفقهاء من التكفير بهذه الأفعال، ونذكر أقوال بعض فقهاء الشافعية نموذجًا على ذلك.

قال إمام الحرمين الجويني: (الأفعال إذا دلت على الكفر كانت كالأقوال، وذلك إذا رأينا من كنا نعرفه مسلمًا في بيت الأصنام، وهو يتواضع لها تواضعَ العبادة، فهذه عبادة كفر، وقد يُجري الأصوليون الأفعال المتضمنة استهانة عظيمة مجرى عبادة الأصنام، كطرح المصحف في الأماكن القذرة، وما في معناه، والقول في ذلك يطول، وهو من صناعة الأصول)([5]).

وقال الغزالي: (وأما نفس الردة فهو نطق بكلمة الكفر استهزاء أو اعتقادا أو عنادا، ومن الأفعال عبادة الصنم والسجود للشمس، وكذلك إلقاء المصحف في القاذورات، وكل فعل هو صريح في الاستهزاء بالدين، وكذلك الساحر يقتل إن كان ما سحر به كفرا، بأن كان فيه عبادة شمس، أو ما يضاهيه)([6]).

وقال: (الردة وهي: عبارة عن قطع الإسلام من مكلف، إما بفعل كالسجود للصنم، وعبادة الشمس، وإلقاء المصحف في القاذورات، وكل فعل صريح في الاستهزاء)([7]).

وقال النووي في كتاب الردة: (هي قطع الإسلام، ويحصل ذلك تارة بالقول الذي هو كفر، وتارة بالفعل، والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء بالدين صريح، كالسجود للصنم، أو للشمس، وإلقاء المصحف في القاذورات، والسحر الذي فيه عبادة الشمس ونحوها)([8]).

وقال: (والفعل المكفر ما تعمده استهزاء صريحا بالدين، أو جحودا له، كإلقاء مصحف بقاذورة، وسجود لصنم أو شمس)([9]).

وقال الشيخ زكريا الأنصاري: (الردة هي: قطع من يصح طلاقه الإسلام بكفر عزما، أو قولا، أو فعلا، استهزاء، أو عنادا، أو اعتقادا، كنفي الصانع (الخالق)، أو نبي، أو تكذيبه، أو جحد مجمعٍ عليه معلوم من الدين ضرورة بلا عذر، أو تردد في كفر، أو إلقاء مصحف بقاذورة، أو سجود لمخلوق)([10]).

وقال في شرح قوله: (أو سجود لمخلوق): (كصنم وشمس، فتعبيري بمخلوق أعم من قوله -أي: النووي في المنهاج-: لصنم، أو شمس)([11]).

وقال ابن المقري: (الردة: كفر مسلم مكلف بنية، أو فعل، أو قول، باعتقاد، أو عناد، أو استهزاء ظاهر، كطرح مصحف بقذر، وسجود لمخلوق)، قال ابن حجر في شرحه: (ولو نبِيًّا، وإن أنكر الاستحقاق، أو لم يطابق قلبه جوارحه؛ لأن ظاهر حاله يكذبه)([12]).

ونقل الرافعي في (الشرح الكبير) عن الحنفية كفر من (عظم الصنم بالسجود له، أو التقرب إليه بالذبح باسمه). وأقره النووي([13]).

ونقل النووي عن (الشفا) للقاضي عياض قوله: (وكذا نكفر من فعل فعلا أجمع المسلمون أنه لا يصدر إلا من كافر، وإن كان صاحبه مصرحا بالإسلام مع فعله، كالسجود للصليب أو النار)([14]).

وما سبق هي أمثلة لبعض الفقهاء ممن يعظمه مثيرو هذه الشبهة، ولها نظائر في كتب المذاهب الأخرى، ممن ذكروا الوقوع في الكفر بمجرد السجود للصنم دون اشتراط اعتقاد فاعله استقلال الصنم بالربوبية.

ويُوضِحُ ذلِك:

الوجه الثالث: وهو أن اعتقاد الربوبية في غير الله تعالى هو شرك في نفسه، سواء صاحَبَه قول أو عمل أم لا، فمن لم يقر لله تعالى بوحدانيته في ربوبيته فهو مشرك ضال، حتى لو لم يَصرِفْ شيئًا من العبادات لغير الله تعالى.

وعليه فحمل النصوص وكلام أهل العلم الدال على التكفير ببعض الأقوال والأفعال على ذلك الاعتقاد فيه تعطيل ما تعلق بتلك الأقوال والأفعال من حكم، وصار ذكرها وعدمه سواء؛ إذ لا أثر لها في الحكم، بل يكفي أن يُنَصَّ على التكفير باعتقاد الربوبية والاستقلال بالتأثير.

الوجه الرابع: أن كثيرًا منهم وإن زعموا أنهم لم يفعلوا ذلك إلا توسُّلًا وتشفُّعًا عند الله تعالى، دون أن يكون في بواطنهم اعتقاد التدبير والتصرُّف في الكون في هؤلاء الأموات وغيرهم، فلم يصدُقُوا في ذلك.

فمع ما تقدّم من بيان بطلان هذا القيد الذي جعلوه في تعريفهم للعبادة، فلا يسلم لهم الأمر على ما يريدون؛ فقد نطقت أحوال وأقوال كثير ممن يدعون الأموات، ويستغيثون بهم بما يكنونه في صدورهم من تقرير أن هؤلاء الأموات لهم تصرف في الكون وتدبير لأموره، بل لهم القدرة على الإحياء والإماتة والإفقار والإغناء، ونحو ذلك من الأمور التي هي من أفعال الله تعالى وحده، ومن معاني ربوبيته عز وجل، حتى صار منهم من يعتقد أن من الأولياء من يعطَى كلمة التصريف (كن فيكون)، وهذا يدُلُّ أن الإخلال في توحيد الألوهية يؤدي إلى الإخلال بتوحيد الربوبية.

ومن تأمل كتب المبتدعة وأمثالهم يجد هذا الأمر تنطق به ألسنتهم، وتحكيه أحوالهم، حتى جعلوا للأولياء مراتب يقتسمون فيها التأثير والتصرف في هذا الكون، كل بحسب رتبته([15]).

ومن نماذج ادعائهم ذلك لأنفسهم وإقرارهم من ادعاه ما ورد في ترجمة علوي بن الفقيه قال: «وحُكي أن الشيخ عبد الله باعباد سأل صاحب الترجمة عما ظهر له من المكاشفات بعد موت والده فقال: ظهر لي ثلاث: أحيي وأميت بإذن الله، وأقول للشيء: كن فيكون، وأعرف ما سيكون، فقال الشيخ عبد الله: نرجو فيك أكثر من هذا»([16]).

وقد اعتمد القوم هذه المنقبة له حتى قال صاحب “النور السافر”([17]) عنه: «يقول للشيء: كن فيكون بإذن الله».

قال صاحب “تذكير الناس”: «قال سيدي: وزرنا مرة تربة الفريط بتريم نحن والأخ حامد بن أحمد المحضار، ولما كنا عند الشيخ القرشي صاحب الذرية أخذ الأخ حامد حصاة كبيرة ووضعها عند قبر الشيخ وقال -والحاضرون يسمعون-: شف نحنا نبغي ولدًا لفاطمة عبوده بنت عبد الله بن عمر القعيطي، وكانت مسنة في ذلك الوقت ومستبعدٌ أن تحمل، فقدّر الله أنها حملت بولد وعاش».

وصاحب هذه الحكاية من كبار أقطاب القوم وعلمائهم، ومع ذلك يروي هذه الحكاية مقرًّا لها، وحامد المحضار من كبارهم أيضًا، وقد رفع صوته يطلب ذلك أمام العامة، وأقره من حضر من الأكابر، إذًا هي قضية مسلّمة يربّون عليها أتباعهم.

فإذا كان هذا نطق به من هم يعدّون أهل نظر وعلم فيهم، فكيف بعوامّهم الذين هم في عماية جهلهم غارقون؟! ولذلك تراهم كلما ازدادت بهم شدة وضاقت عليهم حال زاد توجههم إلى أولئك الأولياء، وما ذاك إلا بدافع ما يعتقدونه فيهم من جلب النفع ودفع الضر وكشف الكرب، بخلاف ما كان عليه أهل الجاهلية الأولى؛ إذ كانوا يعتقدون في آلهتهم مجرد الواسطة والشفاعة دون التصرف في الكون، وأن ذلك بيد الله تعالى وحده؛ فلذلك إذا أصابهم الضر لجؤوا إلى من يعتقدون أن بيده تصريف الأمور وتدبيرها وحده، وهو الله سبحانه وتعالى.

والخلاصة:

أن مناط الشرك أو الكفر للمستغيث بغير الله تعالى ليس اعتقاده ربوبية المستغاث به واستقلاله بالتأثير، بل هذا الاعتقاد كفر مستقل، ولو انحصر التكفير به لما كان لذكر الفقهاء للمكفرات القولية والعملية معنى.

وقبل ذلك فإنه قول مناقض للقرآن الكريم؛ لأن القرآن الكريم دل على كفر أقوام عبدوا غير الله تعالى مع عدم اعتقادهم ذلك الاعتقاد (الاستقلال بالتأثير) في من يعبدونه.

وعلى التسليم الجدلي بأن اعتقاد الربوبية هو مناط التكفير في المسألة؛ فإننا لا نسلم لصاحب الدعوى بأن القبورية -الذين غُيِّرَ المناطُ الشرعي في المسألة من أجل الدفاع عنهم وتبرئتهم من الكفر- لا نسلم له أنهم لا يعتقدون فيمن يستغيثون به التصرف في الكون وغير ذلك من معاني الربوبية.

وصلى الله على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) معظم ما ذكرناه في جواب هذه الشبهة مستفاد من كتاب: شبهات المبتدعة في توحيد العبادة، للدكتور عبد الله بن عبد الرحمن الهذيل.

([2]) أخرجه أحمد (22484)، والطبراني في الكبير (63)، وصححه ابن حبان (812)، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (5/ 470): (إسناد أحمد ثلاثي، وهو صحيح على شرط الشيخين).

([3]) انظر: الرد على الشيخ يوسف الدجوي، للشيخ محمد بن حسين بن سليمان الفقيه (ص: 74-75).

([4]) الاستغاثة (ص: 248).

([5]) نهاية المطلب (17/ 162).

([6]) الوسيط (6/ 425).

([7]) ينظر: العزيز في شرح الوجيز، للرافعي (11/ 97).

([8]) الروضة (10/ 64).

([9]) منهاج الطالبين (ص: 293).

([10]) منهج الطلاب (ص: 158).

([11]) فتح الوهاب (2/ 188).

([12]) فتح الجواد (3/ 353).

([13]) الروضة (10/ 65).

([14]) الروضة (10/ 71).

([15]) انظر: القبورية في اليمن لأحمد بن حسن المعلم، وتنبيه الساهي إلى ما في الخرافة من الدواعي لأحمد بن برعود.

([16]) المشرع (2/ 211).

([17]) (ص: 281)، وانظر: الغرر (ص: 372).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

التدرج في تطبيق الشريعة.. ضوابط وتطبيقات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس الناس بالقسط، قال تعالى: ﴿‌لَقَدۡ ‌أَرۡسَلۡنَا ‌رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِ﴾ [الحديد: 25] أي: “ليعمل الناس بينهم بالعدل”[1]. والكتاب هو النقل المُصَدَّق، والميزان هو: “العدل. قاله مجاهد وقتادة وغيرهما”[2]، أو “ما يعرف به العدل”[3]. وهذا […]

تأطير المسائل العقدية وبيان مراتبها وتعدّد أحكامها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إنَّ علمَ العقيدة يُعدُّ من أهم العلوم الإسلامية التي ينبغي أن تُعنى بالبحث والتحرير، وقد شهدت الساحة العلمية في العقود الأخيرة تزايدًا في الاهتمام بمسائل العقيدة، إلا أن هذا الاهتمام لم يكن دائمًا مصحوبًا بالتحقيق العلمي المنهجي، مما أدى إلى تداخل المفاهيم وغموض الأحكام؛ فاختلطت القضايا الجوهرية مع […]

توظيف التاريخ في تعزيز مسائل العقيدة والحاضر العقدي

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إنَّ دراسةَ التاريخ الإسلاميِّ ليست مجرَّدَ استعراضٍ للأحداث ومراحل التطور؛ بل هي رحلة فكرية وروحية تستكشف أعماقَ العقيدة وتجلّياتها في حياة الأمة، فإنَّ التاريخ الإسلاميَّ يحمل بين طياته دروسًا وعبرًا نادرة، تمثل نورًا يُضيء الدروب ويعزز الإيمان في قلوب المؤمنين. وقد اهتم القرآن الكريم بمسألة التاريخ اهتمامًا بالغًا […]

تصفيد الشياطين في رمضان (كشف المعنى، وبحثٌ في المعارضات)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  تمهيد يشكِّل النصُّ الشرعي في المنظومة الفكرية الإسلامية مرتكزًا أساسيًّا للتشريع وبناء التصورات العقدية، إلا أن بعض الاتجاهات الفكرية الحديثة -ولا سيما تلك المتبنِّية للنزعة العقلانية- سعت إلى إخضاع النصوص الشرعية لمنطق النقد العقلي المجرد، محاولةً بذلك التوفيق بين النصوص الدينية وما تصفه بالواقع المادي أو مقتضيات المنطق الحديث، […]

رمضان مدرسة الأخلاق والسلوك

المقدمة: من أهم ما يختصّ به الدين الإسلامي عن غيره من الأديان والملل والنحل أنه دين كامل بعقيدته وشريعته وما فرضه من أخلاق وأحكام، وإلى جانب هذا الكمال نجد أنه يمتاز أيضا بالشمول والتكامل والتضافر بين كلياته وجزئياته؛ فهو يشمل العقائد والشرائع والأخلاق؛ ويشمل حاجات الروح والنفس وحاجات الجسد والجوارح، وينظم علاقات الإنسان كلها، وهو […]

مَن هُم أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَة؟

الحمدُ للهِ وكفَى، والصَّلاةُ والسَّلامُ على النبيِّ المصطفَى، وعلى آلِه وأصحابِه ومَن لهَدْيِهم اقْتفَى. أمَّا بَعدُ، فإنَّ مِن المعلومِ أنَّ النَّجاةَ والسَّعادةَ في الدُّنيا والآخِرَةِ مَنوطةٌ باتِّباعِ الحَقِّ وسُلوكِ طَريقةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَة؛ ولَمَّا أصْبحَ كلٌّ يَدَّعي أنَّه مِن أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَة، وقام أناسٌ يُطالِبون باستِردادِ هذا اللَّقبِ الشَّريفِ، زاعِمين أنَّه اختُطِفَ منهم منذُ قرون؛ […]

أثر ابن تيمية في مخالفيه

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: شيخ الإسلام ابن تيمية هو البحرُ من أيِّ النواحِي جِئتَه والبدرُ من أيّ الضَّواحِي أتيتَه جَرَتْ آباؤُه لشأْو ما قَنِعَ به، ولا وقفَ عنده طليحًا مريحًا من تَعَبِه، طلبًا لا يَرضَى بِغاية، ولا يُقضَى له بِنهايَة. رَضَعَ ثَدْيَ العلمِ مُنذُ فُطِم، وطَلعَ وجهُ الصباحِ ليُحاكِيَهُ فَلُطِم، وقَطَعَ الليلَ […]

عرض وتعريف بكتاب (نقض كتاب: مفهوم شرك العبادة لحاتم بن عارف العوني)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدّمة: إنَّ أعظمَ قضية جاءت بها الرسل جميعًا هي توحيد الله سبحانه وتعالى في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، حيث أُرسلت الرسل برسالة الإخلاص والتوحيد، وقد أكَّد الله عز وجل ذلك في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. […]

عبادة السلف في رمضان وأين نحن منها؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: لا يخفى أن السلف الصالح -رضوان الله عليهم- كانوا يحرصون كل الحرص على كثرة التعبد لله سبحانه وتعالى بما ورد من فضائل الأعمال، وبما ثبت من الصالحات الباقيات التي تعبَّد بها النبي صلى الله عليه وسلم، بل إنهم كانوا يتهيؤون للمواسم – ومنها شهر رمضان – بالدعاء والتضرع […]

النصيرية.. نشأتهم – عقائدهم – خطرهم على الأمة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: لقد كانت الباطِنيَّةُ -وما زالت- مصدرَ خطَرٍ على الإسلامِ والمسلمين مذ وُجِدت، وقد أيقَن أعداءُ الإسلامِ أنَّ حَسْمَ المواجهة مع المسلمين وجهًا لوجهٍ لن يُجدِيَ شيئًا في تحقيق أهدافِهم والوصولِ لمآربهم؛ ولذلك كانت الحركاتُ الباطِنيَّةُ بعقائِدِها وفِتَنِها نتيجةً لاتجاهٍ جديدٍ للكيد للمسلمين عن طريق التدثُّرِ باسمِه والتستُّرِ بحبِّ […]

موقف الإمامية الاثني عشرية من خالد بن الوليد -قراءة نقدية-

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إن الله أعزّ الأمة، ووجّهها نحو الطريق المستقيم، وفتح لها أبواب الخير بدين الإسلام، هذا الدين العظيم اصطفى الله له محمدَ بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، واصطفى له من بين أهل الأرض رجالًا عظماء صحبوه فأحسنوا الصحبة، وسخروا كل طاقاتهم في نشر دين الله مع نبي […]

التلازم بين العقيدة والشريعة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: من تأمل وتتبَّع أسفار العهدين القديم والحديث يدرك أنهما لا يتَّسمان بالشمول والكمال الذي يتَّسم به الوحي الإسلامي؛ ذلك أن الدين الإسلامي جاء كاملا شاملا للفكر والسلوك، وشاملا للعقيدة والشريعة والأخلاق، وإن شئت فقل: لأعمال القلوب وأعمال الجوارح واللسان، كما جاء شاملا لقول القلب واللسان، وهذا بخلاف غيره […]

إنكار ابن مسعود للمعوذتين لا طعن فيه في القرآن ولا في الصحابة

يعمد كثير من الملاحدة إلى إثارة التشكيك في الإسلام ومصادره، ليس تقويةً لإلحاده، ولكن محاولة لتضعيف الإسلام نفسه، ولا شك أن مثل هذا التشكيك فيه الكثير من النقاش حول قبوله من الملاحدة، أعني: أن الملحد لا يؤمن أساسًا بالنص القرآني ولا بالسنة النبوية، ومع ذلك فإنه في سبيل زرع التشكيك بالإسلام يستخدم هذه النصوص ضد […]

دعاوى المناوئين لفتاوى ابن باز وابن عثيمين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: تُثار بين الحين والآخر نقاشات حول فتاوى علماء العصر الحديث، ومن أبرز هؤلاء العلماء الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز والشيخ محمد بن صالح العثيمين. ويطغى على هذه النقاشات اتهام المخالف لهما بالتشدد والتطرف بل والتكفير، لا سيما فيما يتعلق بمواقفهما من المخالفين لهما في العقيدة […]

شبهات العقلانيين حول حديث “الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم” ومناقشتها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة    مقدمة: لا يزال العقلانيون يحكِّمون كلامَ الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم إلى عقولهم القاصرة، فينكِرون بذلك السنةَ النبوية ويردُّونها، ومن جملة تشغيباتهم في ذلك شبهاتُهم المثارَة حول حديث: «الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم» الذي يعتبرونه مجردَ مجاز أو رمزية للإشارة إلى سُرعة وقوع الإنسان في […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017