السبت - 19 جمادى الآخر 1446 هـ - 21 ديسمبر 2024 م

لماذا يُمنَع من دُعاء الأولياء في قُبورهم ولو بغير اعتقاد الربوبية فيهم؟

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

هناك شبهة مشهورة تثار في الدفاع عن اعتقاد القبورية المستغيثين بغير الله تعالى وتبرير ما هم عليه، مضمونها: أنه ليس ثمة مانعٌ من دعاء الأولياء في قبورهم بغير قصد العبادة، وحقيقة ما يريدونه هو: أن الممنوع في مسألة الاستغاثة بالأنبياء والأولياء في قبورهم إنما يكون محصورًا بالإتيان بأقصى غاية الخضوع؛ باعتقاد ربوبية المخضوع له، واستقلاله بالخلق والتأثير، فإن انتفى ذلك لم يكن ما أتى به من الخضوع الظاهري من العبادة شركًا في كثير ولا قليل بحسب ما يزعمون.

جواب الشبهة:

والجواب عن هذه الشبهة من وجوه([1]):

الوجه الأول: أن هذا مخالفٌ لما جاء في نصوص كثيرة من أن المشركين السابقين كانوا مقرّين بوحدانية الله تعالى في الخلق، وأن له ملك السموات والأرض، وأنه مدبّر الأمر وحده، وأن الأصنام التي كانوا يعبدونها لم تكن عندهم سوى شفعاء يشفعون لهم عند الله، ولم يكن لها من الملك والتدبير شيء.

وقد تنوّعت الدلالات في كتاب الله في تقرير هذا المعنى، ومن ذلك:

أولًا: الإخبار عن جواب المشركين الصريح حين يُسألون عن خالق السموات والأرض ومدبر الأمر ومالك السمع والأبصار بأنه الله تعالى وحده، مما يدل على أن اعتقادهم قائم على إفراد الله تعالى بهذه المعاني، ومع ذلك سمّى الله تعالى ما يصرفونه للأصنام والأوثان عبادة منهم لها.

ومن أدلة ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31].

وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84-89].

وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 61-63].

والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهي دالة على إقرار المشركين بتفرّد الله تعالى بالخلق والملك والتدبير، وأنهم لم يكونوا يعتقدون استقلال أصنامهم في التأثير، ومع ذلك سماهم الله تعالى مشركين.

ثانيًا: الإخبار بتصريح المشركين أن عبادتهم لما اتخذوه من دون الله أولياء إنما هو لطلب القربى والزلفى عند الله تعالى، وأنهم شفعاء لهم عند الله، وأنهم وسائط لهم في قضاء حوائجهم، مما يدلّ على أن عبادتهم لها لم يصاحبها اعتقاد استقلال بالتأثير والتدبير في تلك المعبودات.

ومن أدلَّة ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]، وقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف: 28].

فأيُّ فرق بين المشركين المتقدّمين الذين حكى الله عنهم ذلك وبين من وقع في الشرك أهل زماننا؟! فأولئك ما أثبتوا لهم الضر والنفع استقلالا، بل أثبتوه لهم بالتبع، ومع كل ذلك سماهم الله مشركين، والواقعون في الشرك من أهل زماننا يقولون: نحن نعلم أنهم لا يملكون ذلك لنا استقلالًا، بل تبعًا.

فإن قيل: إن أولئك ما شهدوا لمحمد بالرسالة، وإن شهدوا لله بالوحدانية، وأما أهل زماننا فهم يشهدون للرسول بالرسالة كما شهدوا لله بالوحدانية.

فالجواب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال: لا إله إلا الله مخلصًا من قلبه دخل الجنة»([2]).

وأهل زماننا من الواقعين في الشرك وإن قالوا: (لا إله إلا الله) لم يخلصوا فيها؛ لأن الإخلاص فيها هو أن تعتقد أنه لا يجلب الخير ولا يكشف الضر -لا بالاستقلال ولا بالتبع- إلا الله وحده([3]).

ومن تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان بكلّ ما أتى به، ومما أتى به: أن لا يُسأل الميت ما لا يقدر عليه إلا الله.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولهذا ‌لما ‌نُبِّهَ من نُبِّهَ من فُضَلَائِهِم على ذلك تنبَّهُوا، وعلِمُوا أنَّ ما كانوا عليه ليس من دين الإسلام، بل هو مشابهة لعباد الأصنام)([4]).

ثالثًا: الإخبار عن لجوء المشركين في الدعاء حال الضراء إلى الله تعالى وحده، ونبذهم كل ما كانوا يعبدون من دونه؛ مما يدل على ما تقرر في قلوبهم من تفرد الله تعالى وحده بالنفع والضر، وأن تلك الآلهة التي كانوا يعبدون ما كانت إلا وسائط جعلوها وسيلة لحصول مطلوبهم عند ربهم.

والأدلة على ذلك كثيرةٌ، منها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس: 22].

وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [الإسراء: 67-69].

وقوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].

وقوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 32].

الوجه الثاني: أن القول بأن مناط الشرك في مسألة الاستغاثة هو اعتقاد الربوبية في المستغاث به يلزم عليه لوازم فاسدة كثيرة، فمن تلك اللوازم:

أولًا: أن يكون قوم موسى لما اتخذوا العجل، وقالوا: هذا إلهكم وإله موسى، أنهم يعتقدون أن هذا العجل خالق رازق مستقل بالتدبير، وكذلك لما طلبوا إلها كما قص الله تعالى عنهم بقوله: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] أنهم يريدون من يعتقدون فيه الخلق والتدبير غير الله تعالى، وقد حاجهم الله تعالى بما يعلمونه يقينًا من حال العجل فقال تعالى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [طه: 89].

ثانيًا: أن ذلك يقتضي ألا يكون هناك أقوال ولا أعمال شركية مكفّرة، ولا يحكم على أحد بشرك إن اقترفه ما لم يظهر ما يضمره من اعتقاد استقلال الخلق والتدبير في مَن يصرف إليه أقواله وأعماله التي هي من أعمال المشركين وأقوالهم!

فدعاء غير الله تعالى والسجود له والركوع له والذبح والنذر له على هذا ليست من الشرك في شيء، ولا يكفر فاعلها!

وهذا اللازم يخالف ما في مدونات الفقهاء من التكفير بهذه الأفعال، ونذكر أقوال بعض فقهاء الشافعية نموذجًا على ذلك.

قال إمام الحرمين الجويني: (الأفعال إذا دلت على الكفر كانت كالأقوال، وذلك إذا رأينا من كنا نعرفه مسلمًا في بيت الأصنام، وهو يتواضع لها تواضعَ العبادة، فهذه عبادة كفر، وقد يُجري الأصوليون الأفعال المتضمنة استهانة عظيمة مجرى عبادة الأصنام، كطرح المصحف في الأماكن القذرة، وما في معناه، والقول في ذلك يطول، وهو من صناعة الأصول)([5]).

وقال الغزالي: (وأما نفس الردة فهو نطق بكلمة الكفر استهزاء أو اعتقادا أو عنادا، ومن الأفعال عبادة الصنم والسجود للشمس، وكذلك إلقاء المصحف في القاذورات، وكل فعل هو صريح في الاستهزاء بالدين، وكذلك الساحر يقتل إن كان ما سحر به كفرا، بأن كان فيه عبادة شمس، أو ما يضاهيه)([6]).

وقال: (الردة وهي: عبارة عن قطع الإسلام من مكلف، إما بفعل كالسجود للصنم، وعبادة الشمس، وإلقاء المصحف في القاذورات، وكل فعل صريح في الاستهزاء)([7]).

وقال النووي في كتاب الردة: (هي قطع الإسلام، ويحصل ذلك تارة بالقول الذي هو كفر، وتارة بالفعل، والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء بالدين صريح، كالسجود للصنم، أو للشمس، وإلقاء المصحف في القاذورات، والسحر الذي فيه عبادة الشمس ونحوها)([8]).

وقال: (والفعل المكفر ما تعمده استهزاء صريحا بالدين، أو جحودا له، كإلقاء مصحف بقاذورة، وسجود لصنم أو شمس)([9]).

وقال الشيخ زكريا الأنصاري: (الردة هي: قطع من يصح طلاقه الإسلام بكفر عزما، أو قولا، أو فعلا، استهزاء، أو عنادا، أو اعتقادا، كنفي الصانع (الخالق)، أو نبي، أو تكذيبه، أو جحد مجمعٍ عليه معلوم من الدين ضرورة بلا عذر، أو تردد في كفر، أو إلقاء مصحف بقاذورة، أو سجود لمخلوق)([10]).

وقال في شرح قوله: (أو سجود لمخلوق): (كصنم وشمس، فتعبيري بمخلوق أعم من قوله -أي: النووي في المنهاج-: لصنم، أو شمس)([11]).

وقال ابن المقري: (الردة: كفر مسلم مكلف بنية، أو فعل، أو قول، باعتقاد، أو عناد، أو استهزاء ظاهر، كطرح مصحف بقذر، وسجود لمخلوق)، قال ابن حجر في شرحه: (ولو نبِيًّا، وإن أنكر الاستحقاق، أو لم يطابق قلبه جوارحه؛ لأن ظاهر حاله يكذبه)([12]).

ونقل الرافعي في (الشرح الكبير) عن الحنفية كفر من (عظم الصنم بالسجود له، أو التقرب إليه بالذبح باسمه). وأقره النووي([13]).

ونقل النووي عن (الشفا) للقاضي عياض قوله: (وكذا نكفر من فعل فعلا أجمع المسلمون أنه لا يصدر إلا من كافر، وإن كان صاحبه مصرحا بالإسلام مع فعله، كالسجود للصليب أو النار)([14]).

وما سبق هي أمثلة لبعض الفقهاء ممن يعظمه مثيرو هذه الشبهة، ولها نظائر في كتب المذاهب الأخرى، ممن ذكروا الوقوع في الكفر بمجرد السجود للصنم دون اشتراط اعتقاد فاعله استقلال الصنم بالربوبية.

ويُوضِحُ ذلِك:

الوجه الثالث: وهو أن اعتقاد الربوبية في غير الله تعالى هو شرك في نفسه، سواء صاحَبَه قول أو عمل أم لا، فمن لم يقر لله تعالى بوحدانيته في ربوبيته فهو مشرك ضال، حتى لو لم يَصرِفْ شيئًا من العبادات لغير الله تعالى.

وعليه فحمل النصوص وكلام أهل العلم الدال على التكفير ببعض الأقوال والأفعال على ذلك الاعتقاد فيه تعطيل ما تعلق بتلك الأقوال والأفعال من حكم، وصار ذكرها وعدمه سواء؛ إذ لا أثر لها في الحكم، بل يكفي أن يُنَصَّ على التكفير باعتقاد الربوبية والاستقلال بالتأثير.

الوجه الرابع: أن كثيرًا منهم وإن زعموا أنهم لم يفعلوا ذلك إلا توسُّلًا وتشفُّعًا عند الله تعالى، دون أن يكون في بواطنهم اعتقاد التدبير والتصرُّف في الكون في هؤلاء الأموات وغيرهم، فلم يصدُقُوا في ذلك.

فمع ما تقدّم من بيان بطلان هذا القيد الذي جعلوه في تعريفهم للعبادة، فلا يسلم لهم الأمر على ما يريدون؛ فقد نطقت أحوال وأقوال كثير ممن يدعون الأموات، ويستغيثون بهم بما يكنونه في صدورهم من تقرير أن هؤلاء الأموات لهم تصرف في الكون وتدبير لأموره، بل لهم القدرة على الإحياء والإماتة والإفقار والإغناء، ونحو ذلك من الأمور التي هي من أفعال الله تعالى وحده، ومن معاني ربوبيته عز وجل، حتى صار منهم من يعتقد أن من الأولياء من يعطَى كلمة التصريف (كن فيكون)، وهذا يدُلُّ أن الإخلال في توحيد الألوهية يؤدي إلى الإخلال بتوحيد الربوبية.

ومن تأمل كتب المبتدعة وأمثالهم يجد هذا الأمر تنطق به ألسنتهم، وتحكيه أحوالهم، حتى جعلوا للأولياء مراتب يقتسمون فيها التأثير والتصرف في هذا الكون، كل بحسب رتبته([15]).

ومن نماذج ادعائهم ذلك لأنفسهم وإقرارهم من ادعاه ما ورد في ترجمة علوي بن الفقيه قال: «وحُكي أن الشيخ عبد الله باعباد سأل صاحب الترجمة عما ظهر له من المكاشفات بعد موت والده فقال: ظهر لي ثلاث: أحيي وأميت بإذن الله، وأقول للشيء: كن فيكون، وأعرف ما سيكون، فقال الشيخ عبد الله: نرجو فيك أكثر من هذا»([16]).

وقد اعتمد القوم هذه المنقبة له حتى قال صاحب “النور السافر”([17]) عنه: «يقول للشيء: كن فيكون بإذن الله».

قال صاحب “تذكير الناس”: «قال سيدي: وزرنا مرة تربة الفريط بتريم نحن والأخ حامد بن أحمد المحضار، ولما كنا عند الشيخ القرشي صاحب الذرية أخذ الأخ حامد حصاة كبيرة ووضعها عند قبر الشيخ وقال -والحاضرون يسمعون-: شف نحنا نبغي ولدًا لفاطمة عبوده بنت عبد الله بن عمر القعيطي، وكانت مسنة في ذلك الوقت ومستبعدٌ أن تحمل، فقدّر الله أنها حملت بولد وعاش».

وصاحب هذه الحكاية من كبار أقطاب القوم وعلمائهم، ومع ذلك يروي هذه الحكاية مقرًّا لها، وحامد المحضار من كبارهم أيضًا، وقد رفع صوته يطلب ذلك أمام العامة، وأقره من حضر من الأكابر، إذًا هي قضية مسلّمة يربّون عليها أتباعهم.

فإذا كان هذا نطق به من هم يعدّون أهل نظر وعلم فيهم، فكيف بعوامّهم الذين هم في عماية جهلهم غارقون؟! ولذلك تراهم كلما ازدادت بهم شدة وضاقت عليهم حال زاد توجههم إلى أولئك الأولياء، وما ذاك إلا بدافع ما يعتقدونه فيهم من جلب النفع ودفع الضر وكشف الكرب، بخلاف ما كان عليه أهل الجاهلية الأولى؛ إذ كانوا يعتقدون في آلهتهم مجرد الواسطة والشفاعة دون التصرف في الكون، وأن ذلك بيد الله تعالى وحده؛ فلذلك إذا أصابهم الضر لجؤوا إلى من يعتقدون أن بيده تصريف الأمور وتدبيرها وحده، وهو الله سبحانه وتعالى.

والخلاصة:

أن مناط الشرك أو الكفر للمستغيث بغير الله تعالى ليس اعتقاده ربوبية المستغاث به واستقلاله بالتأثير، بل هذا الاعتقاد كفر مستقل، ولو انحصر التكفير به لما كان لذكر الفقهاء للمكفرات القولية والعملية معنى.

وقبل ذلك فإنه قول مناقض للقرآن الكريم؛ لأن القرآن الكريم دل على كفر أقوام عبدوا غير الله تعالى مع عدم اعتقادهم ذلك الاعتقاد (الاستقلال بالتأثير) في من يعبدونه.

وعلى التسليم الجدلي بأن اعتقاد الربوبية هو مناط التكفير في المسألة؛ فإننا لا نسلم لصاحب الدعوى بأن القبورية -الذين غُيِّرَ المناطُ الشرعي في المسألة من أجل الدفاع عنهم وتبرئتهم من الكفر- لا نسلم له أنهم لا يعتقدون فيمن يستغيثون به التصرف في الكون وغير ذلك من معاني الربوبية.

وصلى الله على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) معظم ما ذكرناه في جواب هذه الشبهة مستفاد من كتاب: شبهات المبتدعة في توحيد العبادة، للدكتور عبد الله بن عبد الرحمن الهذيل.

([2]) أخرجه أحمد (22484)، والطبراني في الكبير (63)، وصححه ابن حبان (812)، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (5/ 470): (إسناد أحمد ثلاثي، وهو صحيح على شرط الشيخين).

([3]) انظر: الرد على الشيخ يوسف الدجوي، للشيخ محمد بن حسين بن سليمان الفقيه (ص: 74-75).

([4]) الاستغاثة (ص: 248).

([5]) نهاية المطلب (17/ 162).

([6]) الوسيط (6/ 425).

([7]) ينظر: العزيز في شرح الوجيز، للرافعي (11/ 97).

([8]) الروضة (10/ 64).

([9]) منهاج الطالبين (ص: 293).

([10]) منهج الطلاب (ص: 158).

([11]) فتح الوهاب (2/ 188).

([12]) فتح الجواد (3/ 353).

([13]) الروضة (10/ 65).

([14]) الروضة (10/ 71).

([15]) انظر: القبورية في اليمن لأحمد بن حسن المعلم، وتنبيه الساهي إلى ما في الخرافة من الدواعي لأحمد بن برعود.

([16]) المشرع (2/ 211).

([17]) (ص: 281)، وانظر: الغرر (ص: 372).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

هل مُجرد الإقرار بالربوبية يُنجِي صاحبه من النار؟

مقدمة: كثيرٌ ممن يحبّون العاجلة ويذرون الآخرة يكتفون بالإقرار بالربوبية إقرارًا نظريًّا؛ تفاديًا منهم لسؤال البدهيات العقلية، وتجنُّبا للصّدام مع الضروريات الفطرية، لكنهم لا يستنتجون من ذلك استحقاق الخالق للعبودية، وإذا رجعوا إلى الشرع لم يقبَلوا منه التفصيلَ؛ حتى لا ينتقض غزلهم مِن بعدِ قوة، وقد كان هذا حالَ كثير من الأمم قبل الإسلام، وحين […]

هل كان شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني أشعريًّا؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: مِن مسالك أهل الباطل في الترويج لباطلهم نِسبةُ أهل الفضل والعلم ومن لهم لسان صدق في الآخرين إلى مذاهبهم وطرقهم. وقديمًا ادَّعى اليهود والنصارى والمشركون انتساب خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام إلى دينهم وملَّتهم، فقال تعالى ردًّا عليهم في ذلك: ﴿‌مَا ‌كَانَ ‌إِبۡرَٰهِيمُ يَهُودِيّا وَلَا نَصۡرَانِيّا وَلَٰكِن كَانَ […]

هل علاقة الوهابية بالصوفية المُتسنِّنة علاقة تصادم؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: تعتبر الصوفيةُ أحدَ المظاهر الفكرية في تاريخ التراث والفكر الإسلامي، وقد بدأت بالزهد والعبادة وغير ذلك من المعاني الطيِّبة التي يشتمل عليها الإسلام، ثم أصبحت فيما بعد عِلمًا مُستقلًّا يصنّف فيه المصنفات وتكتب فيه الكتب، وارتبطت بجهود عدد من العلماء الذين أسهموا في نشر مبادئها السلوكية وتعدَّدت مذاهبهم […]

مناقشة دعوى بِدعية تقسيم التوحيد

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة    مقدّمة: إن معرفة التوحيد الذي جاء به الأنبياء من أهم المهمّات التي يجب على المسلم معرفتها، ولقد جاءت آيات الكتاب العزيز بتوحيد الله سبحانه في ربوبيته وأنه الخالق الرازق المدبر، قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]، كما أمر الله تبارك وتعالى عباده […]

اتفاق علماء المسلمين على عدم شرط الربوبية في مفهوم العبادة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدّمة: كنّا قد ردَدنا في (مركز سلف) على أطروحة أحد المخالفين الذي راح يتحدّى فيها السلفيين في تحديد ضابط مستقيم للعبادة، وقد رد ردًّا مختصرًا وزعم أنا نوافقه على رأيه في اشتراط اعتقاد الربوبية؛ لما ذكرناه من تلازم الظاهر والباطن، وتلازم الألوهية والربوبية، وقد زعم أيضًا أن بعض العلماء […]

هل اختار السلفيون آراءً تخالف الإجماع؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: كثير من المزاعم المعاصرة حول السلفية لا تنبني على علمٍ منهجيٍّ صحيح، وإنما تُبنى على اجتزاءٍ للحقيقة دونما عرضٍ للحقيقة بصورة كاملة، ومن تلك المزاعم: الزعمُ بأنَّ السلفية المعاصرة لهم اختيارات فقهية تخالف الإجماع وتوافق الظاهرية أو آراء ابن تيمية، ثم افترض المخالف أنهم خالفوا الإجماع لأجل ذلك. […]

الألوهية والمقاصد ..إفراد العبادة لله مقصد مقاصد العقيدة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: مما يكاد يغيب عن أذهان بعض المسلمين اليوم أن العبودية التي هي أهمّ مقاصد الدين ليست مجرد شعائر وقتيّة يؤدّيها الإنسان؛ فكثير من المسلمين لسان حالهم يقول: أنا أعبدُ الله سبحانه وتعالى وقتَ العبادة ووقتَ الشعائر التعبُّدية كالصلاة والصيام وغيرها، أعبد الله بها في حينها كما أمر الله […]

تحقيق القول في زواج النبي ﷺ بأُمِّ المؤمنين زينب ومعنى (وتخفي في نفسك ما الله مبديه)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لهج المستشرقون والمنصّرون بالطعن في مقام النبي صلى الله عليه وسلم بسبب قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها، حتى قال الشيخ رشيد رضا رحمه الله: (دُعاة النصرانية يذكرون هذه الفرية في كل كتابٍ يلفِّقونه في الطعن على الإسلام، والنيل من […]

جُهود الشيخ صالح بن أحمد الْمُصَوَّعي في نشر الدعوة السلفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الشيخ صالح بن أحمد الْمُصَوَّعي من العلماء البارزين في القرن الرابع عشر الهجري، وقد برزت جهوده في خدمة الإسلام والمسلمين. وقد تأثر رحمه الله بالمنهج السلفي، وبذل جهودًا كبيرة في نشر هذا المنهج وتوعية الناس بأهميته، كما عمل على نبذ البدع وتصحيح المفاهيم الخاطئة التي قد تنشأ في […]

صيانة الشريعة لحق الحياة وحقوق القتلى، ودفع إشكال حول حديث قاتل المئة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: إنّ أهلَ الأهواء حين لا يجدون إشكالًا حقيقيًّا أو تناقضًا -كما قد يُتوهَّم- أقاموا سوق الأَشْكَلة، وافترضوا هم إشكالا هشًّا أو مُتخيَّلًا، ونحن نهتبل فرصة ورود هذا الإشكال لنقرر فيه ولنثبت ونبرز تلك الصفحة البيضاء لصون الدماء ورعاية حقّ الحياة وحقوق القتلى، سدًّا لأبواب الغواية والإضلال المشرَعَة، وإن […]

برهان الأخلاق ودلالته على وجود الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ قضيةَ الاستدلال على وجود الله تعالى، وأنه الربّ الذي لا ربّ سواه، وأنه المعبود الذي استحقَّ جميع أنواع العبادة قضية ضرورية في حياة البشر؛ ولذا فطر الله سبحانه وتعالى الخلق كلَّهم على معرفتها، وجعل معرفته سبحانه وتعالى أمرًا ضروريًّا فطريًّا شديدَ العمق في وجدان الإنسان وفي عقله. […]

التوظيف العلماني للقرائن.. المنهجية العلمية في مواجهة العبث الفكري الهدّام

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة     مقدمة: حاول أصحاب الفكر الحداثي ومراكزُهم توظيفَ بعض القضايا الأصولية في الترويج لقضاياهم العلمانية الهادفة لتقويض الشريعة، وترويج الفكر التاريخي في تفسير النصّ، ونسبية الحقيقة، وفتح النص على كلّ المعاني، وتحميل النص الشرعي شططَهم الفكري وزيفَهم المروَّج له، ومن ذلك محاولتُهم اجترار القواعد الأصولية التي يظنون فيها […]

بين عُذوبة الأعمال القلبية وعَذاب القسوة والمادية.. إطلالة على أهمية أعمال القلوب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: تعاظمت وطغت المادية اليوم على حياة المسلمين حتى إن قلب الإنسان لا يكاد يحس بطعم الحياة وطعم العبادة إلا وتأتيه القسوة من كل مكان، فكثيرا ما تصطفُّ الجوارح بين يدي الله للصلاة ولا يحضر القلب في ذلك الصف إلا قليلا. والقلب وإن كان بحاجة ماسة إلى تعاهُدٍ […]

الإسهامات العلمية لعلماء نجد في علم الحديث.. واقع يتجاوز الشائعات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا يخلو زمن من الأزمان من الاهتمام بالعلوم وطلبها وتعليمها، فتنشط الحركة التعليمية وتزدهر، وربما نشط علم معين على بقية العلوم نتيجة لاحتياج الناس إليه، أو خوفًا من اندثاره. وقد اهتم علماء منطقة نجد في حقبهم التاريخية المختلفة بعلوم الشريعة، يتعلمونها ويعلِّمونها ويرحلون لطلبها وينسخون كتبها، فكان أول […]

عرض وتعريف بكتاب: المسائل العقدية التي خالف فيها بعضُ الحنابلة اعتقاد السّلف.. أسبابُها، ومظاهرُها، والموقف منها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة تمهيد: من رحمة الله عز وجل بهذه الأمة أن جعلها أمةً معصومة؛ لا تجتمع على ضلالة، فهي معصومة بكلِّيّتها من الانحراف والوقوع في الزّلل والخطأ، أمّا أفراد العلماء فلم يضمن لهم العِصمة، وهذا من حكمته سبحانه ومن رحمته بالأُمّة وبالعالـِم كذلك، وزلّة العالـِم لا تنقص من قدره، فإنه ما […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017