الثلاثاء - 06 رمضان 1444 هـ - 28 مارس 2023 م

بين النص والمصلحة، أدلة الطوفي من السنة والرد عليها [الجزء الثالث]

A A

#مركز_سلف_للبحوث_والدراسات

أدلة الطوفي من السنة والرد عليها

ذكرنا في المقالين السابقين : العلاقة بين النص والمصلحة ، وحاصلها أن الشرع يراعي مصالح العباد قطعًا ، لكن إذا تُصوِّر تعارض بين النص والمصلحة : فالمقدم هو النص ، لأن أفهام الناس تختلف في اعتبار المصلحة من عدمها ، ودلَّلنا على ذلك ، وذكرنا أن مذهب الطوفي جواز تخصيص النص بالمصلحة ، بل وتقديمها على النص  ، وذكرنا أدلة الطوفي والرد عليها  ، وبقي لنا في هذا المقال ذكر الأدلة التي استدل بها الطوفي من السنة على مذهبه والجواب عنها ..

وذلك في الفقرات التالية :

(1)

قال الطوفي :

” قد ثبت في السنة معارضة النصوص بالمصالح ونحوها، في قضايا ، منها :معارضة ابن مسعود النص والإجماع بمصلحة الاحتياط للعبادة كما سبق ، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام حين فرغ من الأحزاب  : (لا يصلين أحدهم العصر إلا في بني قريظة) فصلى بعضهم قبلها ، وقالوا : لم يُرِد منا ذلك .. وهو شبيه بما ذكرنا .

ومنها قوله ﷺ لعائشة : (لولا أن قومك حديثو عهد بالإسلام لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم )وهو يدل على أن بناءها على قواعد إبراهيم هو الواجب في حكمها فتركه لمصلحة الناس .

ومنها: أنه عليه الصلاة والسلام ، لمَّا أمرهم بجعل الحج عمرة قالوا : كيف ؟ وقد سمَّينا الحج ، وتوقفوا ، وهو معارضة للنص بالعادة ، وهو شبيه بما نحن فيه .

وكذا يوم الحديبية لما أمرهم بالتحلل ، توقفوا تمسكاً بالعادة ، في أن أحداً لا يحل قبل قضاء المناسك ، حتى غضب ﷺ ، وقال : (ما لي آمر بالشيء فلا يُفعل ) .

ومنها :

ما روى أبو يعلى الموصلي في مسنده أن النبي ﷺ بعث أبا بكر ينادي: (من قال :لا إله إلا الله دخل الجنة )فوجده عمر ، فرده وقال “إذاً يتكلوا ” وكذلك رد عمر أبا هريرة عن مثل ذلك في حديث صحيح ، وهو معارضته نص الشرع بالمصلحة”

[ رسالة في رعاية المصلحة 35-36] .

هذه الأدلة الستة هي كل ما استدل به الطوفي من السنة ليدلل على ما ذهب إليه من رعاية المصلحة وتقديمها على النص عند التعارض ،

وليس فيها ولله الحمد  ما يدل على ماذهب إليه ، بل منها ما هو صريح في الرد عليه .

ولبيان هذا سنتناول هذه الأحاديث واحداً واحداً لنُبين دلالته ، ونُبين وجه استدلال الطوفي به ، ونجيب عليه بحول الله وقوته .

(2)

يشير الطوفي في الدليل الأول إلى ما رواه مسلم من حديث شقيقٍ، قال: كنت جالسًا مع عبد الله، وأبي موسى، فقال أبو موسى:”يا أبا عبد الرحمن :أرأيت لو أن رجلًا أجنب فلم يجد الماء شهرًا كيف يصنع بالصلاة “؟ فقال عبد الله: “لا يتيمم وإن لم يجد الماء شهرًا” فقال أبو موسى:”فكيف بهذه الآية في سورة المائدة {فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيدًا طيبًا} “[النساء: 43]فقال عبد الله: “لو رخص لهم في هذه الآية لأوشك إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا بالصعيد”، فقال أبو موسى لعبد الله: “ألم تسمع قول عمارٍ بعثني رسول الله ﷺ في حاجةٍ فأجنبت فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة ثم أتيت النبي ﷺ، فذكرت ذلك له فقال: (إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا ثم ضرب بيديه الأرض ضربةً واحدةً، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه، ووجهه )فقال عبد الله :”أو لم تر عمر لم يقنع بقول عمارٍ”؟

وتتمة الذي حصل بين عمار بن ياسر وأمير المؤمنين عمر رضي الله عنهما رواها مسلم من سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ، أن رجلًا أتى عمر ، فقال : “إني أجنبت فلم أجد ماءً” ، فقال: “لا تصل”. فقال عمارٌ: “أما تذكر يا أمير المؤمنين، إذ أنا وأنت في سريةٍ فأجنبنا فلم نجد ماءً، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت في التراب وصليت، فقال النبي ﷺ: (إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تنفخ، ثم تمسح بهما وجهك، وكفيك)فقال عمر: “اتق الله يا عمار” قال: “إن شئت لم أحدث به”فقال عمر:”نوليك ما توليت”

بتدبر قليل في السياق المذكور للحديثين السابقين يتضح لك مذهب ابن مسعود والذي فهمه الطوفي على وجه خاطئ ، وبيان ذلك : أن أبا موسى فسر الملامسة في الآية بالجماع ، أما ابن مسعود   ففسرها بمجرد اللمس ، أي :لمس المرأة ، وأنه ناقض للوضوء ، ولذا لم تكن الآية حجة في موطن النزاع لكونها تحتمل القولين جميعاً ،  واستدل ابن مسعود  لقوله ومذهبه بأنه يبعد تفسير الآية بأنها الجماع لأن ذلك مؤد إلى أن يكون الرجل على جنابة ويستثقل الغسل فيعدل إلى التيمم ،  فاستدل أبو موسى بحديث النبي ﷺ لعمار  ، والذي يدل على أن المراد الجنابة ، فاستدل عليه ابن مسعود بأن هذا الحديث لايثبت لأن عمر كان في الواقعة ولا يذكرها .

– إذن فابن مسعود  لا يرد الآية للمصلحة  .

– ثم إن أباموسى الأشعري لم يقر ابن مسعود  على كلامه .

– كذلك فإن فعل عمر رضي الله عنه الذي استدل به ابن مسعود   على رد قول عمار  : لم يكن تكذيبا له ، بل نسيان من أمير المؤمنين  ، وهو في الحقيقة لم يَرُد قولَ عمار ، بل استوثق منه ، فلما قال له عمار  : إن شئت لم أحدث به ، بَيَّن عمر  أنه لم يُرد تكذيبه ، وذلك بقوله ، بل نوليك ما توليت .

– إذن : ليس في مذهب ابن مسعود   رد ما تدل عليه الآية لمجرد مصلحة رآها ، بل هو يستدل لما رآه راجحاً في فهم الآية بأن ذلك موافق للمصلحة ، وهذه طريقة في الاستدلال يتبعها العلماء جميعا إذ بعدما يذكرون الحكم الشرعي : يذكرون المصالح والحِكم التي ظهرت لهم من هذا التشريع ، ولو سقط الدليل الأصلي الذي استدلوا به لسقط كل ما يتبعه من مصالح مستنبطة .

– ثم إن الطوفي قد ذكر في بيان مذهبه أن محله في المعاملات وليس العبادات ، َفهل ما ذكره هنا من قبيل المعاملات أم العبادات ؟! .

(3)

الدليل الثاني فيما ذكره الطوفي هو ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر قال : “نادى فينا رسول الله ﷺ يوم انصرف من الأحزاب : (لا يصلين أحد الظهر إلا في بني قريظة ) ، قال : فتخوف ناس فَوْت الوقت ، فصلوا دون بني قريظة ، وقال الآخرون : لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله ﷺ ، وإن فات الوقت ، قال : فما عنف واحدًا من الفريقين” أخرجه البخاري ٩٤٦

بلفظ : (العصر )بدل ( الظهر ) ، ومسلم ١٧٧٠.

فليس أداء بعض الصحابة الصلاة قبل وصولهم بني قريظة لخوف فوات الوقت : تقديماً للمصلحة على حديث النبي ﷺ ، وليس في الحديث ما يدل على ذلك ، بل ما حصل من الصحابة : أنهم انقسموا في فهم هذا النص من النبي ﷺ إلى فريقين :

الفريق الأول : رأى أن الأمر هنا بالصلاة في بني قريظة ينبغي أن يُفهم كلامُه بحيث لا يعارِض ما أمر به في أحاديث أُخَر بوجوب الصلاة في وقتها ، وعليه فيكون المراد من الحديث الأمر بالمبادرة بالإسراع في الذهاب إلى بني قريظة ، بدلالة أحاديث المواقيت ، فهم عَدَلُوا عن المعنى الظاهر إلى معنى  مؤول  ،بدلالة أحاديث أخرى وهي أحاديث المواقيت ، وفي هذا حمل للنص على معنى لا يخالف ما عليه الأحاديث الأخرى ، وهذا سبيل للأصوليين – في الجمع بين الأحاديث – معروف .

الفريق الثاني : رأى أن أحاديث المواقيت عامة ، وهذا حديث خاص ،وعليه فيقدم الخاص على العام ، ويُحْمَلُ العامُ عليه ، فكما أن أحاديث المواقيت خُصِّصَت بالسفر بالدليل الناصٍّ على جواز الجمع في السفر والمرض ، فكذلك خُصِّصَت في هذه الحالة بالدليل أيضاً .

إذاً فليس هنا تقديماً لمحض مصلحةٍ على النص .

وقد يقول قائلٌ : أليس هذا تخصيص لأحاديث المواقيت .

فنقول نعم : تخصيص بهذا النص من النبي ﷺ كما هو ظاهر ، وليس تخصيصاً بالمصلحة .

ثم إنه عندما يقع التعارض بين الأحاديث ، فإننا نقطع بأن هذا التعارض إنما هو في ذهن المجتهد ، إذ الشريعة خالية من التعارض ، وإنما يطلب الجمع بين الأحاديث دفعا لهذا التعارض الناشئ في ذهن المجتهد ، وعندما يجمع المجتهد بين هذه الأحاديث بوجه من وجوه الجمع المعروفة ، ويكون في وجه الجمع هذا مصلحة متحققة ، لا يصح أن يقال إنه ترجيح للمصلحة على النص ، حاشا وكلا ، بل هو جمع بين الأحاديث المتعارضة ، وهذا الجمع ظهر لنا وجه مصلحته ، وشتان ما بين القولين .

(4)

الدليل الثالث فيما ذكره الطوفي هو الحديث المتفق عليه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال لها : ( ألم تري أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم ؟) فقالت : “يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم ؟”قال : (لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت) البخاري ٢٥٥١وهذا لفظ ، مسلم ١٥٩٩بلفظ قريب  .

هذا الحديث يدل على أن النبي ﷺ ترك فعلاً مشروعاً لأجل مفسدة في ذلك الفعل ، وهذا الحديث يدل على القاعدة المعروفة عند العلماء “درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة “.

قال ابن تيمية :”فترك النبي ﷺ هذا الأمر الذي كان عنده أفضل الأمرين للمعارض الراجح ، وهو حِدثان عهد قريش بالإسلام ، لما في ذلك من التنفير لهم ،فكانت المفسدة راجحة على المصلحة ” الفتاوى الكبرى٢: ٣٥١.  أين في هذا الحديث ترك النص لمصلحة ؟

ولعلنا نزيد الأمر توضيحًا فنقول :كان يسع النبي ﷺ أن يقول :إنه لن يُغَيِّر بنيانَ الكعبة وسيتركه كما هو ،وسيكون هذا تشريعًا في حقنا ، لأنه ﷺ هو المشرع بقوله وبفعله وبتركه – كما في هذا الحديث – ، لكن النبي ﷺ بين العلة من هذا الترك ، وبيان هذه العلة مفيدٌ لنا في أن نعلم أن هذه العلةَ علةٌ معتبرة بنص الشارع ، فكيف يقال إن هذا دليل على تقديم المصلحة على النص ؟! ، وأين هذا النص السابق الذي قُدِّمَت المصلحة عليه ، ولو وُجِد لما كان ذَا دلالة لأن الذي قدَّم المصلحة هو المشرِّع ، فهو نص يدل على أن المصلحة في الترك ، لا أنه تقديم للمصلحة على النص .

ومثل هذا يقال في ترك النبي ﷺ قتل المنافق المستحق للقتل خشية أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه .

(5)

الدليل الرابع فيما ذكره الطوفي هو ما رواه جابر بن عبد الله قال: “أهللنا أصحابَ النبي ﷺ بالحج خالصاً ليس معه شيءٌ غيره، فقدمنا مكة صبحَ رابعةٍ مضت من ذي الحجة، فأمَرَنا النبي ﷺ أن نحل، قال: “أحلوا واجعلوها عمرةً”، فبلغه عنَّا أنا نقول: لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمساً أَمَرَنا أن نُحِل، نروح إلى منًى، ومذاكيرنا تقطر من المني!.

فقام النبي ﷺ خطيبًا، فقال: (قد بلغني الذي قلتم، وإني لأبَرُكم وأتقاكم، ولولا الهَدْي لحَلَلْتُ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت”  رواه أبو داود ١٥٦٩،

وللنسائي أيضاً من حديث جابرٍ، قال: “قدمنا مع رسول الله ﷺ لأربعٍ مضين من ذي الحجة، فقال رسول الله ﷺ(أحلوا واجعلوها عمرةً)، فضاقت بذلك صدورنا وكبر علينا، فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال: (يا أيها الناس، أحلوا فلولا الهدي الذي معي لفعلت مثل الذي تفعلون)فأحللنا حتى وطئنا النساء وفعلنا ما يفعل الحلال حتى إذا كان يوم التروية، وجعلنا مكة بظهرٍ لبينا بالحج ”  رواه النسائي ٢٩٩٤.

فأين في الحديث ما يساعد الطوفي على ما ذهب إليه ؟

إن الذي في الحديث :أن الصحابة أشكل عليهم عندما أمرهم النبي أن يحللوا من إحرامهم بالحج ، فتريثوا في امتثال الأمر ، وسبب هذا أمران :

الأول : أن النبي ﷺ لم يهل كما أمرهم .

الثاني : أنهم يعلمون أن من أهل بالحج لا يجوز له أن يحلل حتى يؤدي نسكه .

ولذا كان عظيماً عليهم هذا الفعل فترددوا فيه ، حتى بين لهم النبي ﷺ أنه لولا سوقه الهدي لفعل مثل ما فعلوا .

ثم ، هَبْ أن الصحابة عارضوا نص النبي ﷺ بالمصلحة في هذه الواقعة : أفأقرَّهم النبي ﷺ على هذا أم أنكر عليهم ؟

أَوَيسوغ لأحدٍ أن يستدل بفعل صحابي أنكره عليه النبي ﷺ ؟

هذا والله استدلال عجيب ! ، وأعجب منه أن يكون الطوفي هو المُسْتَدِلُ بهذا ! رحمه الله وغفر له .

وقد فعل الطوفي هذا أيضاً في الدليل الخامس الذي ذكره هو مختصرًا ، ولن أطيل ذِكْرَه بنصِّه ، بل تكفي عبارة الطوفي نفسه ، إذ إنها أبلغ ما يَردٌّ عليه ، فهو يقول : “وكذا يوم الحديبية لَمَّا أمرهم بالتحلل ، توقفوا تَمَسُّكاً بالعادة ، في أن أحداً لا يَحِل قبل قضاء المناسك ، حتى غضب ﷺ ، وقال : (ما لي آمر بالشيء فلا يفعل )

أيها القارئ : بالله عليك :

أهذا يصلح دليلاً على جواز معارضة النص بالعادة ؟

أم إنه دليلٌ واضحٌ على أنه لا يجوز أن يعارض النص بالعادة ؟

أما يكفي أن يغضب النبي ﷺ من الفعل ، ويقول هذا الذي قرأت ؟

هذا – والله – استدلالٌ عجيب !

(6)

الدليل الأخير _فيما ذكره الطوفي_ هو ما رواه أبو يعلى في مسنده ، وقد ضعفه بعض أهل الحديث ، وورد في مسند أبي يعلى أيضا ما يعارضه ، لكن القصة بسياق غير الذي يأتي ثابتة عند مسلم ، وقد أشار إليها الطوفي ، وقد رواها مسلم من حديث  أبي هريرة – رضي الله عنه -في حديث طويل وفيه : “فأعطاني رسول الله – ﷺ – نعليه ، وقال: (يا أبا هريرة ، اذهب بنعلي هاتين، فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه ، فبشره بالجنة ) ، فكان أول من لقيت عمر – رضي الله عنه – فقال : ما هاتان النعلان يا أبا هريرة؟ ، فقلت: هاتان نعلا رسول الله – ﷺ- بعثني بهما من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه ، بشرتُه بالجنة، فضرب عمر بيده بين ثديَيَّ، فخررت لاستي ، فقال: ارجع يا أبا هريرة ، فرجعت إلى رسول الله ﷺ فأجهشت  بكاءً، وركبني عمر  فإذا هو على أثري، فقال لي رسول الله ﷺ :(ما لك يا أبا هريرة؟ )، فقلت :”لقيت عمر ، فأخبرته بالذي بعثتني به، فضرب بين ثديي ضربةً خررت لاستي، وقال: ارجع” فقال له رسول الله ﷺ:(يا عمر، ما حملك على ما فعلت؟ )قال :”يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أبعثت أبا هريرة بنعليك ، من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه بَشِّره بالجنة؟”قال :(نعم )قال: “فلا تفعل، فإني أخشى أن يتَّكِل الناس عليها ، فخلهم يعملون “فقال رسول الله ﷺ :(فخلهم)  رواه مسلم 31 .

ففي هذا الحديث أن غاية ما فعله عمر :أنه ردَّه حتى يراجع النبي ﷺ لمصلحة رأها ، وكان الحكم ثابتاً في حقنا بإقرار النبي ﷺ له ، لا بمجرد اعتراض عمر ، إذ قد اعترض عمر في الحديبة أيضاً ، ولم يُقَر على ما فعل ، فليس في الحديث حجة على أنه ترد النصوص بالمصلحة ، وإنما في الحديث حجة على أن الصحابة يعلمون اعتبار الشرع للمصلحة ، وأنهم مأذون لهم أن يجتهدوا بحضرة النبي ﷺ فيعتَبِرَ اجتهادَهم أو يرده .

فغاية ما فعله عمر:أنه أمر أبا هريرة بالانتظار حتى يراجع النبي ﷺ لأجل هذه المصلحة ، وهذه المصلحة لن تعتبر حتى يأذن فيها رسول الله ﷺ .

إذاً فهذا الحديث دليل على أن أحكام الشرع تراعِي المصلحة ، لكن ليس دليلاً على أن عمر  رد النص الشرعي بالمصلحة .

قال النووي : “قال القاضي عياض وغيره من العلماء رحمهم الله: وليس فعل عمر رضي الله عنه ومراجعته النبي ﷺ اعتراضًاً عليه ، ورَدَّاً لأمره ، إذ ليس فيما بعث به أبا هريرة غير تطييب قلوب الأمة وبشراهم ، فرأى عمر رضي الله عنه أن كتم هذا أصلح لهم ، وأحرى أن لا يتكلوا، وأنه أعود عليهم بالخير من معجل هذه البشرى ، فلما عرضه على النبي – ﷺ – صوبه فيه ) شرح مسلم ١: ١٠٨.

ولا يعارض هذا : الحديث الذي ذكره الطوفي ، فإنه رغم ضعفه ليس فيه حجة أيضاً ، إذ إن الطوفي لم يذكره بتمامه ، والنص الذي أشار إليه هو ما رواه أبو يعلى في مسنده من حديث  سليم بن عامرٍ، قال: سمعت أبا بكرٍ، يقول: قال رسول الله ﷺ: «اخرج فناد في الناس من شهد أن لا إله إلا الله وجبت له الجنة» . قال : فخرجت فلقيني عمر بن الخطاب، فقال: ما لك أبا بكرٍ؟ فقلت: قال لي رسول الله ﷺ: «اخرج فناد في الناس من شهد أن لا إله إلا الله وجبت له الجنة» . قال عمر: ارجع إلى رسول الله ﷺ، فإني أخاف أن يتكلوا عليها، فرجعت إلى رسول الله ﷺ، فقال: «ما ردك؟» فأخبرته بقول عمر، فقال: «صدق»

فظاهر أن هذا الحديث لا يخرج عن الحديث الذي سبق ذكره .

(7)

أطلت عليك أيها القارئ الكريم ! ، ولعلك تعود باللائمة على الطوفي ! ، فهو الذي أحوجنا إلى هذه الإطالة ! ، وقد ذكرت لك نص ما كتبه هو ، ثم ذكرت لك الأحاديث بتمامها لأبين لك كيف أن اختصار الأحاديث يوقع في كثير من الخلل ، وربما لا تتبين وجه دلالتها ، بل قد يستدل بها على عكس ما تدل عليه !

وأيضاً : لأن كثيرا من المعاصرين ممن يتحللون من رقبة النصوص يستدلون بهذه الوقائع التي ذكرها الطوفي ، فكان لا بد من استيفائها بالذكر .

هذا على الرغم من أن غاية مذهب الطوفي – كما ذكر هو –  إنما في تعارض النص – في باب المعاملات – مع المصلحة من كل وجه ، وليس مذهبه رد النصوص بالكلية وتقديم العقل عليها ، أو البحث عن مسوغ في الشرع لإقرار ما عليه الناس من منكر وباطل بدعوى المصلحة أو التيسير ، فهذا انخلاع من الدين وتفريط في التمسك به ، وهو غير ما نحن بصدده من النقاش والرد ، والله أسأل أن يهدينا جميعا إلى سواء السبيل إنه ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين .

إعداد اللجنة العلمية بمركز سلف للبحوث والدراسات [تحت التأسيس]

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

العلامة الأمير صديق حسن خان ( 1248–1307هـ / 1832 – 1890م )

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة برغم شهرة العلامة صديق حسن خان إلا أن المجهول من سيرته لدى معظّميه أكثر مما هو معلوم عندهم! فبرغم شيوع مؤلفاته وكثرة الاستشهاد بها وبمقولاته إلا أنك من النادر أن تجد شخصا يعرف سيرة هذا العالم العلم والأمير المصلح، وأنه كان -مع سعة مؤلفاته- قد تولى الإمارة والحكم لمدة […]

عرض ونقد لكتاب (نسائِم المعالم – السيرة النبوية من خلال المآثر والأماكن)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة بماذا تعبَّدنا الله سبحانه وتعالى؟ هل تعبَّدنا الله سبحانه وتعالى بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما بيَّن من العقائد وشرع من الأحكام ودلَّ إليه من الأخلاق والفضائل، أم تعبَّدنا الله سبحانه وتعالى بتتبُّع كل ما وقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم ووطئت رجلاه الشريفتان ولامس شيئًا من […]

ما بين التقويم القمري والشمسي (هل تراكمت الأخطاء حتى صام المسلمون شهرًا خاطئًا؟)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة تمهيد: الصِّيام أحدُ أركان الإسلام، وهو من محكَمات الدّين، وجاء في فرضه وبيانِه نصوصٌ كثيرة محكمة، فمن أدلَّة وجوب صيام رمضان المحكمة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، ومن الأدلة قوله صلى الله عليه وسلم: «بُني […]

أولياء الصوفية بين الحقيقة والخرافة السيد البدوي أنموذجًا (596هــ-675هــ)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الولاية ضد العداوة، وأصلها المحبة والقرب، وأصل العداوة البغض والبعد. ولكي يفوز العبد بولاية الله لا بد أن يتحقق بالصفات التي وصف الله بها أولياءه، قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]، فآخر الآية يبين الصفتين في الولي اللتين هما ركيزتان فيه، […]

النقض على الملاحدة في استنادهم إلى التراث العربي في تبرير الشذوذ الجنسي

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   إن فعلَ قومِ لوطٍ من أعظمِ الكبائر، وقد أنزلَ الله بقوم لوط عذابًا أليمًا، وجعلَ عالي قريتهم سافِلَها، ولعنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فاعلها ثلاثًا، كما استحقَّ فاعلها عقوبة شديدة وعذابًا أليمًا. قال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ […]

تفصيل ابن تيمية في مصطلح (الجسم) ونحوه من المصطلحات الحادثة “والرد على من زعم أنه توقُّفٌ في تنزيه الله عز وجل”

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة يَعتبر كثيرٌ من الأشاعرة المعاصرين أن توقف ابن تيميَّة أو تفصيله في مصطلح «الجسم» الذي لم يرد في الكتاب والسنة يعني أنه متردّد أو شاكٌّ في تنزيه الله عز وجل. وهذا التصوُّر منهم غير صحيح لمذهبه رحمه الله، ذلك لأن ابن تيميَّة فصّل في المصطلح الكلامي، وأما الجسم المعروف […]

مكانة ابن تيمية عند السلفيين في منظار الخصوم

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لعلَّه من الطبيعيِّ أن يغتاظ خصوم المنهج السلفي من وجود ابن تيمية في طليعة المنافَحين عنهم؛ ذلك أنه عالم متّفق على علو منزلته في العلوم الدينية، فحينما تقف هذه القامة العلمية إلى جانب السلفيين تتصدّر جبهتهم، وتدافع بشراسة عن أصولهم وقواعدهم، فهذا يحقق مكسبًا كبيرًا للسلفيين في معركتهم مع […]

معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه – بين إنصاف أهل السنة وإجحاف أهل البدعة –

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: مِن أكبرِ الإشكاليات التي تعانيها الساحةُ الفكرية اليومَ إشكاليةُ التعامل مع أخطاء المسلمين؛ فبينما يُفْرِط بعض الناس في شخصٍ ويرفعونه إلى أعلى عليِّين بل إلى مرتبة النبوّة وإلى الإلهية أحيانًا، ويتعامَون تمامًا عن كلّ زلاته وكأنه لم يخطئ طولَ عمره، وكأنه ليس واحدًا من البشر يعتريه ما يعتري […]

الشيخ أحمد السوركتي 1292- 1362هـ/ 1875 – 1943م

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الشيخ أحمد السوركتي نموذج لوحدة أمة المسلمين على اختلاف بلادهم، فهو السوداني الذي رحل للحجاز لطلب العلم، ثم استقر في مكة للتدريس، ثم هاجر إلى إندونيسيا، وأقام بها -رحمه الله- دعوة إصلاحية سلفية مستمرة لليوم، ومع هذا لا يعرفه كثير من الخاصة فضلاً عن العامة. لمحة عامة: للأسف لا […]

العلامة الرحالة المجاهد بلسانه وقلمه محمد سلطان المعصومي 1297هـ/ 1880م – 1380هـ/ 1960م

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة العلامة المعصومي هو أحد الرموز الغائبة عن أذهان الناس، خاصة أن موطنه الأصلي من بلاد ما وراء النهر([1]). وتاريخ هذه البلاد الإسلامية لا يزال مجهولا لدى كثير من المسلمين، خاصة بعد الاحتلال الشيوعي الروسي لهذه البلاد الإسلامية بداية من سنة 1917، والذي شهد الكثير من الكوارث الدموية على يد […]

الجواب عن معضلة تعاقب الحروف وشبهة عدم وجود سلف لابن تيمية فيها والجواب عن نفي السجزي لتعاقب الحروف

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة     مسألة تعاقُب الحروف والكلمات هي من المسائل المُخرَّجة على «الفعل الاختياري»، وهذه المسألة ظهرت بعد القرن الرابع الهجري، ولم يتكلم فيها السلف ولا الأئمة، لكن بدأت هذه الشبهة في الظهور لما قالت الأشاعرة محتجين على أهل الحديث: «إن الحروف متعاقبة, يعقب بعضها بعضًا, وكذلك الأصوات، فلو كان […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017