خِتامٌ حسَنٌ وعيدٌ مبارك
بالأمس كنا نترقب هلال شهر رمضان، وها نحن نقترب من وداعه، مرت أيام معدودات وكأنها ساعات، فهنيئا لمن ظفر فيها بالفوز والفلاح، وكان ممن قبل الله أعماله الصالحات.
ففي ختام هذا الشهر لا بد من وقفة محاسبة ومراجعة، حتى يستدرك من قصّر وفرّط في جنب الله تعالى، ويسارع في الخيرات من شمّر واجتهد، فيشكر الله الذي وفقه لبلوغ ما بلغ، فما هي إلا لحظات تمضي وتمر، فليكن شهر رمضان بداية لما بعده، لا نهاية لما قبله؛ لأن رب رمضان هو رب الشهور كلها، فيا فوز المقبول السعيد، ويا خيبة المردود الطريد. فقد صح عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: «… ورَغِمَ أنفُ رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له»([1]).
وإنه لمن أعظم الغبن أن يرجع العبد في موسم الغنائم خاسرًا، وأن يضيّع المكاسب التي حباه الله تعالى بها في هذا الشهر المبارك، فيرتد بعد الإقبال مدبرًا، وبعد المسارعة إلى الخيرات مفارقًا، وبعد عمران المساجد بالتلاوات والطاعات معرضًا وهاجرًا.
فالموفق مِن عباد الله مَن ينتقل مِن طاعة إلى طاعة، ومن خير إلى خير؛ لأن مواسم الخيرات كثيرة يجدد بها العبدُ نشاطَه في التقرّب إلى خالقه ومولاه، وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أن من علامات قبول الطاعة إتْباعُها بطاعة أخرى، وأن من جزاء الحسنة الحسنة بعدها، ومن عقوبة السيئة السيئةُ بعدها، والحسنات والسيئات قد تتلازم ويدعو بعضها إلى بعض([2])، فإذا قبل الله العبد فإنه يوفقه إلى الطاعة، ويصرفه عن المعصية، والعمل إن لم يكن في زيادة فهو في نقصان.
ولابن القيم كلام نفيس في هذا السياق، يقول رحمه الله: «فصل: توالد المعاصي: ومنها أن المعاصي تزرع أمثالها، وتولد بعضها بعضًا، حتى يعزَّ على العبد مفارقتها والخروج منها، كما قال بعض السلف: إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها، وإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، فالعبد إذا عمل حسنة قالت أخرى إلى جنبها: اعمَلْنِـي أيضًا، فإذا عملها، قالت الثالثة كذلك، وهلمَّ جرًّا، فتضاعف الربح، وتزايدت الحسنات. وكذلك كانت السيئات أيضًا، حتى تصير الطاعات والمعاصي هيئات راسخة، وصفات لازمة، ومَلَكات ثابتة، فلو عطل المحسن الطاعة لضاقت عليه نفسه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأحس من نفسه بأنه كالحوت إذا فارق الماء، حتى يعاودها، فتسكن نفسه، وتقرّ عينه» ([3]).
وقال ابن رجب رحمه الله: “وكما قيل: ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وقد دل على ذلك قوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76]، وقوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]([4]).
ولنتذكر ونحن نودع شهر رمضان استقبالنا له قبل أيام، ولنحرص على ما ينفعنا في الدارين، ومن ذلك:
- عدم العُجْب بما وُفّق له العبد من الأعمال الصالحات، بل شأن المؤمن الخوف من عدم قبول الأعمال: فقد كان السلف رضي الله عنهم يخافون من ردّ أعمالهم وعدم قبولها، متّهمين أنفسهم بالتقصير، أو الخشية من طروء ما يفسد العمل، وقد سألتْ أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها نبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم عن معنى هذه الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60]، فقالت: هم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: «لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا يُقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات»([5]).
- الحرص على لزوم التقوى قبل شهر رمضان وخلاله وبعده: فمن سعى إلى تحقيق التقوى، فقد سعى إلى أمر عظيم، وحقق المراد من صيامه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، ولا ريب أن قبول العمل يكون من المتقين كما قال جل وعلا:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].
- الاجتهاد في قيام الليل بعد رمضان: فهو دأب الصالحين، وشعار العباد الزاهدين، وخصيصة أهل الإحسان المخلصين، فلا تكن أيها المسلم ممن ذاق حلاوة هذه العبادة ثم تركها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: «لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل»([6]).
- الحرص على صيام النوافل: فلعلك أخي المسلم تفوز مع الفائزين بدخول باب الريان مع الصائمين، فنفسك قد تعودت الصيام في هذا الشهر المبارك، وكان الصيام لها وقاية وجُنّة من المعاصي والذنوب، فلا تحرمها المداومة على هذا العمل الذي قال عنه ربنا في الحديث القدسي: «كل عملِ ابنِ آدم له إلا الصيام فإنه لي»([7]).
- المداومة على تلاوة القرآن الكريم وتدبّره: فكما ختمت كتاب الله مرة أو مرات وعزفتَ عن الشواغل حتى لا تهجُره في شهره، فاجعل لك وردًا يوميًّا لا يشغلك عنه شاغل، وكيف تُقدِّم الشواغلَ عليه وهو كلامُ رب العالمين!؟
- الاستعداد ليوم عيد الفطر: فيوم العيد يوم فرح وسعة، منّ الله تعالى به على هذه الأمة تفضلا منه ورحمة، فعن أنس رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: «ما هذان اليومان؟» قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر»([8]) .
وللعيد أحكام وآداب يشرع مراعاتها، مع الحذر مما يقع فيه بعض الناس من مخالفات.
فمن أحكام العيد وآدابه:
- التكبير ليلة العيد ويوم العيد، ويبتدأ من ثبوت العيد وينتهي بصلاة العيد.
- إخراج زكاة الفطر التي جعلها الله عز وجل طُهرة للصائم من اللغو والرفث، وأحسن أوقاتها قبل صلاة العيد، ويجوز قبل العيد بيوم أو يومين.
- الاستعداد لصلاة العيد بالتطهّر والتطيّب ولبس أحسن الثياب.
- الأكل قبل الخروج من المنزل على تمرات أو غيرها قبل الذهاب لصلاة عيد الفطر.
- النهي عن صوم يومي العيد: الأضحى والفطر.
- الجهر بالتكبير للرجال في الذهاب إلى صلاة العيد.
- يستحب الذهاب إلى الصلاة من طريق والرجوع من طريق آخر.
- تُشرع صلاة العيد بعد طلوع الشمس وارتفاعها -بلا أذان ولا إقامة- وهي ركعتان؛ يكبر في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمس تكبيرات.
- اصطحاب النساء والأطفال والصبيان دون استثناء حتى الحُـيَّض والعواتق وذوات الخدور من النساء.
- لا بأس بالتهنئة بالعيد (المعايدة)، وأن يقول الناس: (تقبل الله منا ومنك) أو نحوها من العبارات.
- التوسعة على العيال وإظهار الفرح والسرور؛ ليجد الأهل غناءً به عن الأعياد المخترعة التي أصبحت تنافس أعيادنا الشرعية.
ومن المخالفات التي يقع فيها بعض الناس في العيد:
- يظن بعض الناس أن العيد ثلاثة أيام، وإنما العيد يوم واحد، وما بعده إنما توسّع الناسُ فيها لكونها تبَعٌ للعيد، ولكونها في الغالب توافق العطل الرسمية.
- الإسراف في المآكل والمطاعم والحلوى في أيام العيد، بحيث يرمى ما زاد منها في حاويات النفايات، وهذا من كفران النعم.
- سهر الناس ليلة العيد إلى الفجر، ومن ثم تفويت صلاة الفجر والعيد.
- اعتقاد مشروعية إحياء ليلة العيد ويتناقلون أحاديث لا تصح.
- قضاء أيام العيد بمشاهدة ما لا يحلّ مع تضييع الواجبات من الصلوات.
- التشبه بالكفار والغربيين في الملابس واستماع المعازف والعادات التي تختص بهم وغيرهما من المنكرات.
- تبرج النساء واختلاطهم بالرجال في الأماكن العامة والحدائق.
- التزين بحلق اللحية، وإنما الزينة إعفاؤها.
- إغفال صلة الأرحام في هذا اليوم المبارك.
وفي الختام نسأل الله أن يتقبل منا أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يتجاوز عنا فيما قصرنا فيه، ويختم لنا بالحسنى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
([1]) رواه الترمذي (3545)، وأحمد (7444)، وأبو يعلى (5922)، والبيهقي في الكبرى (8767). وصحح إسناده الشيخ شاكر في تحقيق مسند الإمام أحمد، وصححه الألباني كما في صحيح الترمذي 3/177.
([2]) انظر “الاستقامة” لابن تيمية 1/467.
([3]) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص 56).
([4]) جامع العلوم والحكم (ص342).
([5]) رواه الترمذي (3175)، وابن ماجه (4198)، وأحمد (25302)، وحسنه الألباني في تخريج أحاديث شرح العقيدة الطحاوية (ص 365).
([6]) متفق عليه. صحيح البخاري (1152)، صحيح مسلم (1159).
([7]) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. صحيح البخاري (1904)، صحيح مسلم (1151).
([8]) رواه أبو داود (1136)، والنسائي (1556)، وأحمد (12025) وغيرهم، وإسناده صحيح.انظر فتح الباري 2/442، وسلسلة الأحاديث الصحيحة 5/34.