مبدأ العدل بين الرجل والمرأة (18)
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن اهتدى بهداه، وبعد..
فإن من حِكم الله تعالى أن خلق البشر مختلفين – ذكرًا وأنثى – وجعل لكل منهما مهمة؛ لتحقيق المصالح الدنيوية والأخروية وتكثيرها، ودفع المفاسد والمضار وتقليلها، كما شرع سبحانه ما ينظم العلاقة بين الجنسين، على أساس من التكامل وليس التناحر والنِّدِّيَّة، لذا حثت الشريعة على إقامة العدل بين الرجل والمرأة.
ومع انتشار الدعوات وارتفاع الصيحات التي تنادي بالمساواة بين الرجل والمرأة في عصر العولمة الذي نعيش فيه؛ إذا ببعض المفكرين والكُتَّاب تستهويهم تلك الدعوات ويحسبون أنهم على شيء، علمًا بأن المساواة بين المختلفَين هي عين الظلم، وكيف تتحقق المساواة بينهما وقد جاء صريحًا في القرآن الكريم التفرقة بين الجنسَين، كما في قوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 36]، هذا مع ما في كلمة “المساواة” من الاشتراك والإجمال، بالإضافة إلى عدم دلالتها على المقصود بدقة، خاصة إذا استحضرنا أن تلك الدعوات المنادية بالمساواة في أصلها تروِّج إلى فكرة المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة في كل شيء، وهو شيء تخالفه الفِطر السليمة، وتمجُّه العقول المستقيمة، فضلًا عن الشريعة السمحاء.
وحتى لا يُفهم الكلام على غير محمله، ويؤخذ إلى غير طريقه، لا بدَّ من التأكيد على أن الإسلام يدعو إلى العدل بين الرجل والمرأة، ويحث على قيام كل واحد منهما بوظيفته المناسبة لخَلقِه وبنيته؛ يقول الله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]. وفرق كبير بين العدل والمساواة.
تشريف الإسلام للمرأة:
مما لا شك فيه أن دين الإسلام تحرى العناية بإصلاح شأن المرأة، كيف لا وهي نصف النوع الإنساني! فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما النساء شقائق الرجال»([1]). وشقائق جمع شقيقة، والشقيق: المثل والنظير، كأنه شُقَّ هو ونظيره من شيء واحد، فهذا شِقّ وهذا شِقّ، ومنه قيل للأخ شقيق([2]). والمعنى: أن الخِلقة فيهم واحدة، والحكم فيهم بالشريعة سواء([3]) .
وللمرأة مكانة رفيعة في المجتمع الإسلامي، ينظر إليها على أنها المربية للمجتمع بأسره؛ وكما يقول الشاعر:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
فهي الأم والأخت والبنت والزوجة؛ لذا كانت مكانتها راجعة إلى ما يلقى عليها من أعباء وواجبات، قد تفوق في بعض الأحيان ما يتحمله الرجل، وقد دل القرآن الكريم على هذه المكانة إجمالا، وفصلتها السنة النبوية المطهرة.
منشأ شبهة المساواة بين الرجل والمرأة:
ظهرت فكرة المساواة بين الرجل والمرأة في أوروبا إبان الحرب العالمية؛ حيث لجأت الشركات والمصانع إلى توظيف النساء والصغار تعويضًا لقلة الرجال الذين فُقدوا بكثرة في الحرب العالمية، وكانت الأجور التي تُدفع للنساء زهيدة رخيصة مقارنة بما يُدفع للرجال العاملين في نفس الوظائف، مما أثار غضب النساء وارتفعت الأصوات مطالبة بالمساواة في الأجور والأعمال، وهذا السبب وإن كان مبررًا لما وقع في أوروبا؛ لكنه ليس مبررًا لنقله وتعميمه في بلاد المسلمين، خاصة ما تحمله هذه الدعوات من هدمٍ للقيم والمبادئ الإسلامية، ونزع لباس الحياء عن المرأة، وضياع لوظيفتها في بناء الأمة وحفاظها على أسرتها.
ولهذا حرص الغرب على نشر تلك الدعوات بين المسلمين، عن طريق عقد المؤتمرات العالمية، كالمؤتمر الدولي للسكان في القاهرة سنة 1415ه، ومؤتمر بكين واحد، ومؤتمر بكين اثنين، وفي الترويج لمفهوم “الجندر”= (Gender)، وهو كلمة إنجليزية تنحدر من أصل لاتيني، وهي تعني: المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، أي: إزالة الفروق النوعية بين الرجل والمرأة، على اعتبار أن الرجل يتمتع بقوة اجتماعية وسياسية ضمن ما يطلقون عليه المجتمع الذكوري، ويجب إعطاء المرأة قوة اجتماعية وسياسية واقتصادية تساوي ما للرجل في جميع المستويات، حتى داخل الأسرة.
وقد حذر العلماء من تلك الدعوات الهدَّامة وبينوا مخالفتها لشريعة الإسلام؛ يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: “لهذا فإنه يجب على ولاة أمر المسلمين، ومن بسط الله يده على أيٍّ من أمورهم أن يقاطعوا هذا المؤتمر، وأن يتخذوا التدابير اللازمة لمنع هذه الشرور عن المسلمين، وأن يقفوا صفًّا واحدًا في وجه هذا الغزو الفاجر، وعلى المسلمين أخذ الحيطة والحذر من كيد الكائدين، وحقد الحاقدين”([4]) .
ويقول الشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله-: “من ينكر الفوارق الشرعية بين الرجل والمرأة، وينادي بإلغائها، ويطالب بالمساواة، ويدعو إليها باسم ” المساواة بين الرجل والمرأة ” فهذه بلا شك نظرية إلحادية؛ لما فيها من منازعة لإرادة الله الكونية القدرية في الفوارق الخَلقية والمعنوية بينهما، ومنابذة للإسلام في نصوصه الشرعية القاطعة بالفرق بين الذكر والأنثى في أحكام كثيرة”([5]).
كلمة (المساواة) وعدم مناسبة استعمالها:
كلمة “المساواة” فيها إجمال وهي تحتاج إلى تفصيل وبيان، بخلاف كلمة “العدل”، فهي كلمة صريحة في الدلالة على المقصود، فهي تدل على وضع الأمور في مواضعها، وإعطاء كل ذي حق حقه، من غير وكس ولا شطط، ويظهر هذا من خلال الآتي:
- المساواة بين الجهات المتفقة غير المختلفة هي من العدل بطبيعة الحال؛ لذا جاءت الشريعة بالتسوية بين الزوجات في القَسْم، فيجب على الرجل أن يساوي بين زوجاته في القَسْم، يقول ابن قدامة: “لا نعلم بين أهل العلم في وجوب التسوية بين الزوجات في القَسْم خلافًا”([6]). وفي الحديث عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقّه ساقط»([7])، وفي لفظ: «يميل مع إحداهما على الأخرى»([8])، وفي لفظ: «فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقّه مائل»([9]).
- أما المساواة بين الجهات المختلفة والمتباينة فإنها لا تسمى عدلًا، بل هي محض الظلم لطرفٍ على حساب طرفٍ آخر، أو للطرفين معًا، وقد بيّن القرآن الكريم الفوارق بين الذكر والأنثى إجمالًا؛ يقول تعالى ذكره: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 36]. والمعنى كما قال الربيع: كانت امرأة عمران حرّرت لله ما في بطنها، وكانت على رجاء أن يهبَ لها غلامًا؛ لأن المرأة لا تستطيع ذلك – يعني: القيام على الكنيسة لا تبرحها، وتكنُسها – لما يصيبها من الأذى – يعني: الحيض والنفاس ونحوهما -([10]).
- التسوية لم تأت في غالب الآيات القرآنية إلا على جهة النفي؛ ومن الأمثلة على ذلك:
- قوله تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100].
- وقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَ} [الحديد: 10].
- وقوله عز وجل: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُون} [الحشر: 20].
- وقوله سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُون} [الزمر: 9]. وذلك لوضوح الفروق بين المتقابلات في الآيات الكريمات السابقة، ولا يخفى ما في هذا من التأكيد على اعتبار العدل ميزانًا ومعيارًا لضبط الأمور.
مظاهر تحقيق العدل بين الرجل والمرأة:
العدل في التشريع والإسلام بمثابة الروح التي تسري في جنبات الحياة؛ فما من تشريع في الإسلام إلا وهو قائم على العدل؛ لذا جاء الأمر به صريحًا في القرآن الكريم؛ يقول الله تقدست أسماؤه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} [النحل: 90]. {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَ} [الأنعام: 152]، وفيها يأمر الله تعالى بالعدل في الفعال والمقال، على القريب والبعيد، والله تعالى يأمر بالعدل لكل أحد، في كل وقتٍ وفي كل حال([11]). وقد تجلّت مظاهر العدل بين الرجل والمرأة في جوانب عدة، ومن أبرزها:
أولًا– جانب العبادات وحقوق الله تعالى:
لم يفرق الشارع الحكيم بين الذكر والأنثى في العبادات وحقوق الله تعالى، قال عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]. وفي مقام الجزاء الأخروي يقول تعالى: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195]. وجعل الأصل هو المساواة بين الرجل والأنثى إلا في حالات استثنائية بحسب طبيعة واستعداد كل منهما لأداء وظيفته؛ ومن الأمثلة على ذلك:
- أن المرأة تترك الصلاة والصيام إذا أصابها الحيض؛ روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أليس إذا حاضت لم تُصلِّ ولم تصم، فذلك نقصان دينها»([12]).
- أن الله تعالى فرض الجهاد على الرجل دون النساء؛ فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد فقال: «جهادكن الحج»([13]).
ثانيًا – جانب المعاملات وحقوق العباد:
المرأة كالرجل في باب المعاملات وحقوق العباد، فلها حق التصرفات المالية المطلق في مالها، سواء بالتبرع أو المعاوضة أو الهبة، ما لم يكن هناك مانع من التصرف: كالجنون أو السفه أو الحجر، وليس لزوجها أن يمنعها من التصرفات المالية الخاصة بها؛ وفي الحديث: أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أتجزئ الصدقة على الزوج، وعلى أيتام في حجرها؟ فأجابها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «لها أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة»([14]).
ثالثًا – العلاقات الأسرية:
الناظر إلى العلاقات الأسرية في التشريع الإسلامي يرى بوضوح أن من أهم سماتها ومميزاتها العدل بين الذكر والأنثى في الحقوق والواجبات؛ وفي هذا المعنى يقول الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوف} [البقرة: 228]، وتعد هذه الآية من أوائل ما نزل في الإسلام في بيان العلاقة بين الزوجين، والقائمة على إعطاء كل ذي حقٍّ حقه، بغض النظر عن جنسه، يؤكد الراغب الأصبهاني هذا المعنى بقوله: “يتبين أن لكل واحد على الآخر حقًّا كحق الآخر، فمما تشاركا فيه مراعاتهما للمعنى الذي شرع لأجله النكاح وهو طلب النسل، وتربية الولد، ومعاشرة كل واحد منهما للآخر بالمعروف، وحفظ المنزل، وتدبير ما فيه، وسياسة ما تحت أيديهما؛ حماية كل واحد على الآخر بقدر جهده وحده”([15]).
فكما أن على النساء واجبات تجاه أزواجهن، فإن الآية مصرحة بأن لهنَّ حقوقًا قبل أدائهن لهذه الواجبات، بهذا الميزان ضربت الآية أروع الأمثلة في التعاملات الأسرية بين الرجل والمرأة، فانكشف بذلك زيف الحضارة المادية الحديثة التي لم تجعل للمرأة حقوقًا أصلًا، وإنما عاملتها على أنها سلعة للاستمتاع، تباع وتشترى كما السلع الأخرى.
ومما يسترعي النظر في الآية الكريمة كلمة {مِثْلُ} وما تضمنته من التسوية بين الجنسين في الحقوق والواجبات، والمعنى: المساواة في جملة الحقوق والواجبات لا المساواة في جنسها، على تفصيل في ذلك بينته الشريعة؛ فقد يكون وجه المماثلة بينهما ظاهرًا لا يحتاج إلى بيان: كالمماثلة بينهما في تربية الأولاد وتنشئتهم على الإسلام، وقد يكون خفيًّا يحتاج إلى بيان وتفصيل، وبطبيعة الحال فإنه مما يعلم سلفًا الاختلاف والتباين بين الذكر والأنثى، سواء في التكوين الجسدي، أو في مقاصد خلق كل واحد منهما؛ إذ جعل الله تعالى لكل من الذكر والأنثى وظيفة تناسب قدراته وخِلقته والمقصد الذي خُلق له، يقول تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]. وفيما يأتي جملة من الأمثلة توضح المقصود:
ما يتوجب فيه عدم المماثلة بين الرجل والمرأة:
- دفع توهم المماثلة بينهما في وجوب النفقه؛ كأن يقال مثلًا: كما يجب على الزوج الإنفاق على زوجته، فكذلك يجب عليها الإنفاق على زوجها. بينما معيار الشرع في مثل ذلك هو العدل بينهما، ومقتضاه: أنه كما ينبغي عليها حفظ بيتها وتهيئته من الداخل، فإنه ينبغي على الرجل النفقة والكسوة ونحو ذلك؛ وهذا ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم صريحًا في خطبته في حجة الوداع بقوله: “ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف”([16]).
- جعل القرآن شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل، وذلك في حالات خاصة؛ قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]. والمعنى: إن شهادة النساء منفردات في الأموال ونحوها لا تقبل؛ لأن الله لم يقبلهن إلا مع الرجل، وقد يقال إن الله أقام المرأتين مقام رجل واحد للحكمة التي ذكرها، وهي موجودة سواء كنَّ مع رجل أو منفردات([17]).
- جعل الله تعالى الطلاق بيد الرجل، وكذا المراجعة في العدة، وليس في هذا تقليل من قيمة المرأة ودورها، وإنما هو تنظيم للحياة الأسرية بما يعود عليها بجلب المسرات، ودفع المضرات؛ ذلك أن الرجل هو المكلف بالنفقة والكسوة والمهر وغير ذلك، وهو الذي تولى عقدة النكاح بنفسه، فكان من مقتضى العدل والحكمة أن يكون الطلاق بيده، ومع ذلك فقد أعطت الشريعة الحق للمرأة في طلب الطلاق: كما في حالات الضرر المتحقق الواقع عليها من الزوج، وللقاضي حينئذٍ إيقاع الطلاق وإنفاذه من غير الرجوع إلى الزوج.
- عدم المماثلة في حضانة الولد؛ فكما أوجبت الشريعة على المرأة حضانة ولدها، فإنها كذلك أوجبت على الزوج كفايته وتعهده بالتربية والتعليم، وهذا هو مقتضى العدل والإنصاف.
- عدم المماثلة في تعدد الزواج، ولذا منعت الشريعة المرأة من الزواج طالما كانت في عصمة زوج؛ حفظًا للأنساب من الاختلاط والعبث، كما أنها لم تترك أمر تعدد الزوجات للزوج مطلقًا من غير قيد ولا شرط، بل أوجبت عليه العدل والقسم بين زوجاته.
ما يستوجب المماثلة فيه بين الرجل والمرأة:
يمكن القول إجمالًا: إنه حيثما تحققت المماثلة الكاملة بين الرجل والمرأة في شيء شُرعت؛ تحقيقًا للمصالح وتكثيرها، ودفعًا للمفاسد وتقليلها؛ نلحظ ذلك في قوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]. ومن الأمثلة على ذلك:
- حسن المعاشرة بين الزوجين؛ حيث رغب الشارع الرجال في ذلك بقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]. والمعنى: طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله([18]). كما أمر الله تعالى الزوجَ بوعظ زوجته إذا ظهر منها نشوز؛ فقال تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء: 34]. والمعنى: فعظوهن بكتاب الله، فذكروهن ما أوجب الله عليهن من حسن الصحبة وجميل العشرة للزوج، والاعتراف بالدرجة التي له عليها([19]).
- المماثلة في تحمل مسئولية الرعاية، ففي الحديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راعٍ وهو مسئول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسئولة عنهم، وعبد الرجل راعٍ على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته»([20]).
- المماثلة في درء الفتنة والتطلع إلى العورات؛ ومن ذلك تحريم الشارع الحكيم نظر الرجل إلى المرأة الأجنبية، وكذا تحريم نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي؛ قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30]. وفي الآية بعدها مباشرة قال سبحانه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} الآية [النور: 31].
- المماثلة في بعث الحكمين للسعي في حل المشكلات التي قد تقع بين الزوجين؛ قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35].
- التراضي بين الزوجين والتشاور في فطام الطفل الرضيع قبل الحولين؛ قال تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: 233]. والمعنى: فإن أراد الوالدان فطامًا للطفل قبل الحولين، ويكون ذلك عن اتفاق الوالدين ومشاورة أهل العلم به، حتى يخبروا أن الفطام في ذلك الوقت لا يضر بالولد، فلا حرج عليهما في الفطام قبل الحولين([21]).
ما اختص به أحدهما عن الآخر لحكمة:
اقتضت حكمة الله تعالى أن جعل لأحد الجنسَين – الذكر والأنثى – أحكامًا تخصه دون الآخر، فقد اختص الله تعالى الرجال ببعض الأحكام دون النساء، ومن ذلك ما جاء في آيتين كريمتين من كتاب الله تعالى:
الأولى: قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]، يقول ابن عباس – في بيان تلك الدرجة -: بما ساق إليها من المهر، وأنفق عليها من المال([22]). وبالطبع كانت هذه الدرجة تبعًا لما أودعه الله سبحانه في صنف الرجال من زيادة القوة العقلية والبدنية.
والثانية: قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34]. أي: يقومون بالنَّفقة عليهنَّ والذَّبِّ عنهنَّ([23]). وهي قاعدة تنظيمية تستلزمها هندسة المجتمع واستقرار الأوضاع في الحياة الدنيا، ولا تسلم الحياة في مجموعها إلا بالتزامها، فهي تشبه قوامة الرؤساء وأولي الأمر([24]).
كما اختص الله سبحانه النساء ببعض الأحكام التي تناسب طبيعتها وأنوثتها، وتتوافق مع مهمتها ووظيفتها: كالحمل، والولادة، والحضانة، ونحو ذلك.
شبهة تفضيل الرجل على المرأة في الميراث مطلقًا([25]) :
ومن الشبهات التي يكثر تكرارها وترويجها في وسائل الإعلام: ما يدَّعونه من تفضيل الرجل على المرأة مطلقًا في أحكام الإرث، وتعدُّ هذه المسألة من أكثر المسائل التي يشوش بها أصحاب دعوات المساواة بين الرجل والمرأة؛ فيقولون: إن الإسلام فضَّل الرجل على المرأة، فجعل ميراث المرأة على النصف من ميراث الرجل.
الرد على الشبهة:
إن تعميم الحكم بأن ميراث المرأة على النصف من ميراث الرجل، مغالطة كبيرة؛ فإن شريعة الإسلام جعلت أحكام الإرث تابعة لقواعد ثابتة وأسس محكمة: كمراعاة قرب الوريث من مورثه، وقوة تلك القرابة ونحو ذلك؛ لذا كان ميراث الرجل والمرأة تتنازعه القسمة العقلية:
- فقد ترث المرأة مثل الرجل تمامًا: كما في حالات ميراث الإخوة لأم؛ يقول تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12].
- وقد تأخذ المرأة أكثر من الرجل: كما في حال ميراث البنت مع الأخ، فإذا كان في المسألة: بنت وأم وأخ، فإن البنت تأخذ النصف، والأم السدس، والأخ يرث الباقي تعصيبًا، وهو أقل من النصف.
- وقد ترث المرأة ولا يرث الرجل أصلًا: كما إذا كان في الفريضة أب وأم وبنت وأخ، فللأم السدس، وللبنت النصف، والباقي للأب فرضًا وتعصيبًا، وليس للأخ شيء.
وبالجملة فإن المرأة قد تماثل الرجل في بعض الأمور، وقد تخالفه في بعضها، وضابط هذا هو معيار العدل الذي جعلته الشريعة حكمًا، فما جاء به الإسلام من التفريق بين الرجل والمرأة ينظر إليه المسلم على أنه رحمة من الله تعالى لعباده، ورفقًا بهم، وتحقيقًا لخلافة الإنسان في الأرض.
وأما غير المهتدين فينظرون إلى التفرقة بين الرجل والمرأة على أنها من الظلم، ولنسأل هؤلاء سؤالًا أين جوابهم عن كيفية تحقيق المساواة بينهما في الحمل والرضاع؟! وهل يطالب الرجل بترك الصلاة والصوم أيامًا كما تسقط عن الحائض؟! سبحانك هذا بهتان عظيم.
وليظلّ المسلم مطمئنًا بالإيمان مستسلمًا لأمر الله تعالى، مؤمنا بأن فعل الله تعالى لا يخلو عن حكمة، قد تظهر لبعض الناس وتخفى عن بعضهم؛ {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].
([1]) رواه أبو داود (236)، والترمذي (113)، وابن ماجه (612)، وحسنه الألباني.
([2]) ينظر: جامع الأصول لابن الأثير (7/ 274).
([3]) المسالك في شرح موطأ مالك (2/ 216).
([4]) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله جمع وترتيب د. محمد الشويعر (9/ 203).
([6]) المغني لابن قدامة (7/ 301).
([7]) رواه الترمذي (1141)، وصححه الألباني.
([10]) ينظر: تفسير الطبري (6/ 335).
([11]) تفسير ابن كثير (3/ 365).
([14]) رواه البخاري (1466)، ومسلم (1000)، من حديث زينب امرأة عبد الله بن مسعود.
([15]) تفسير الراغب الأصفهاني (1/ 469).
([17]) ينظر: تفسير السعدي (ص: 119).
([18]) ينظر: تفسير ابن كثير (2/ 242).
([19]) ينظر: تفسير القرطبي (5/ 171).
([20]) رواه البخاري (7138)، ومسلم (1829).
([21]) ينظر: تفسير البغوي (1/ 278- 279).
([22]) ينظر: زاد المسير (1/ 200).
([23]) تفسير القرطبي (5/ 168).
([24]) عودة الحجاب د. محمد إسماعيل (2/ 130).
([25]) ضمن منشورات المركز مقال بعنوان: “التشغيب على أحكام الإرث بالدعوة إلى المساواة”.
موقع رائع
نشكر لكم كلماتكم الجميلة