الأحد - 16 جمادى الآخر 1447 هـ - 07 ديسمبر 2025 م

من الهرطقة إلى الأصولية…قراءة في فكر جورج طرابيشي(3)

A A

­

للتحميل كملف pdf اضغط على الأيقونة

الفصل الثالث :

بين ظاهرية ابن حزم وحرفية طرابيشي

مما عابه طرابيشي على العلماء المسلمين ولا سيما أهل الحديث أنهم أتباع العقل النصي :

(  وهو العقل المميز لجميع الحضارات المتمركزة دائرياً على نفسها نظير الحضارة العربية الإسلامية، بأنه العقل الذي يقدم تعقل النصوص على تعقل الواقع ، أو يرهن الثاني بالأول[1])، ولذلك شن حملة شعواء عليهم حتى وصف ابن حزم ب(وثنية النص [2])، لكن طرابيشي يمارس ظاهرية في بعض الأحيان أشد من ظاهرية ابن حزم، وهذا واضح في محاولة نفيه لعالمية الإسلام – وهي القضية المركزية لكتابه – ، فيقول أن الآيات ( تنص متضافرة على أن لكل أمة رسولها، وعلى أن كل رسول لا يبعث إلا إلى قومه، وعلى أن الرسالة القرآنية التي بُعث بها الرسول محمد مشروطة لغوياً بعروبة حاملها وبعروبة الأمة المحمولة إليها، وجغرافياً ب ” أم القرى ومن حولها” من دون أن يكون أصلاً لهذه الرقعة من الأرض من حدٍ آخر سوى عروبة لسان قاطنيها. [3])، فالنص هو محور منطلق طرابيشي بعد محاولته إخفاء الآيات الكثيرة الدالة على عالمية الإسلام، فهو نصي لتحقيق مآربه ، ويخفي النص أيضاً لتحقيق مآربه، وهو حرفي لدرجة أن يجعل وصف القرآن العربي دلالة على نزوله للعرب خاصة، وأضيق حرفية عندما يجعل ” أم القرى ومن حولها ” مضيقة بالمعنى الجغرافي للكلمة، وهذا مناقض لما يدعيه من ( والحال أن القرآن يبقى خطاباً مفتوحاً[4])، ولكن طرابيشي يغلقه لتحقيق غرضه، رغم قوله : ( والخطاب المفتوح يُبقى بدوره باب التأويل مفتوحاً [5]) ، فمفتاح التأويل بيد طرابيشي يغلقه متى شاء ويفتحه متى شاء!!، وعندما فتح ابن حزم باب التأويل وخرج من حرفيته – كما يزعم طرابيشي – لم يقبل طرابيشي ذلك ، وأصر على حرفية النص، فعندما استدل ابن حزم – رحمه الله وقبله الإمام الشافعي -رحمه الله – بقوله تعالى في سورة النجم عن نبيه صلى الله عليه وسلم { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ }، يصر طرابيشي بظاهرية مقيتة على اعتبار حرفية الزمان والمكان والحدث ، ويرفض أن يبقى الخطاب مفتوحاً ويغلقه بقفل الجمود فيقول أن ابن حزم ( يتجاهل ، مثله مثل الشافعي ، كون سورة النجم سورة مكية ، وكون الآيتين نزلتا قبل أن يكون للحديث ولمفهوم الحديث بالمعنى النبوي وجود.[6]) ، فتأمل كيف  يجمد على اسم ” الحديث ” ، وهو الذي يصف ابن حزم بأنه صاحب المذهب الاسمي !!، ويمضي في حرفيته قائلاً : ( فالآيتان نزلتا في سياق المجادلة مع أهل مكة من مشركين وكتابيين ممن أبوا تصديق بعثة الرسول ، تنبيهاً لهم على أن الرسول حين ينطق بالقرآن فليس ينطق عن هوى، بل بما يؤتاه من وحي ربه، وليس صعباً أن ندرك أين يعاظل ابن حزم ، كما الشافعي، في التأويل : فهو يطلق فعل النطق ويفك الارتباط  بينه وبين المنطوق به، أي آي القرآن، ليصير يعني أن كل ما هو منطوق به من قِبل الرسول إنما هو وحي من عند الله.[7] )، ويوغل طرابيشي بظاهريته منكراً استدلال العلماء بقوله تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ  إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } الحشر 7، على اتباع السنة النبوية، فقال 🙁نزلت آية طالما احتج بها الفقهاء والأصوليون اللاحقون ليبرروا تحويلهم للرسول من مشرَّع له إلى شارع- فذكر الآية الكريمة- ، فههنا أيضاً يجمع أهل التأويل والمفسرون على أنها نزلت في قسمة غنائم غزوة بني النضير. [8])، ولكن طرابيشي الذي يلجأ للمفسرين لا يقبل تفسيرهم لبيان عموم الدعوة المحمدية لجميع البشرية، ويقيد النص بقيد السبب والحدث، وأما علماؤنا فيقولون:

( العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب )، فكل ما ماجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنا مأمورون باتباعه شرعاً إلا أن يدل الدليل على نسخه أو خصوصيته أو تقييده وغير ذلك مما بينه الأصوليون .

ويتفوق طرابيشي على ابن حزم في ظاهريته واسميته فلا يترك مساماً يتنفس منه النص، فيقول : ( فالسنة حصراً سنة الله، وفي الوقت الذي تتكرر فيه عبارة سنة الله في النص القرآني ثماني مرات ، فإن ست آيات تتوجه بالخطاب إلى الرسول مباشرة في ما يشبه الإنذار : { فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} فاطر 43، والغائب الأكبر في النص القرآني هو تعبير سنة الرسول الذي سيحضر بالمقابل في كتب السيرة والتفسير والفقه والحديث حضوراً طاغياً. [9])، فأي حرفية بعد هذه الحرفية!! وطرابيشي يدرك أن معنى سنة الله الواردة في الآيات الكريمة هي عادته في معاقبة المكذبين المعرضين بعد إنذارهم ، فسنة الله فيهم لا تتبدل ولا تتحول ،قال تعالى : {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ  فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا)(42) (اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ  وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ  فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا  وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا )(43)( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً  وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ  إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} سورة فاطر( 44)، وأما السنة النبوية المطلوب اتباعها فهو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، والتي أذن الله له بتبليغها بتوجيه منه، وهي وإن لم ترد في القرآن الكريم بحرفية الكلمة كما أراد طرابيشي، فالأمر باتباعها مقرون بطاعة الله بآيات متضافرة المعنى ، ومنها آية سورة الحشر التي سبق بيان جمود آلة التأويل الطرابيشية عندها، قال تعالى : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ  إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } الحشر 7، فطرابيشي الذي خرج عن نص القرآن الكريم إلى متاهات التأويل عند طعنه في مقام النبوة في قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم ، لا يقبل إلا أن ترد لفظة السنة النبوية بحرفيتها وتركيبها ، ثم تراه يخلط بين المصطلحين ” سنة الله ” و” السنة النبوية ” ، فهي حرفية محرِفة.

ويهاجم الإمام الشافعي الذي أعمل فكره في فهم القرآن عندما فسر كلمة ” الحكمة ” بالسنة، ونقل ذلك عمن سبقه من أهل العلم ، ويتهمه أنه أراد أن يفرض رأيه [10]، ويتهمه بما جنته يداه عندما أخفى الآيات الكثيرة الدالة على عموم الرسالة الإسلامية لكل البشرية- فكل يرى الناس بعين طبعه – فيقول عن الشافعي : ( بدلاً من أن يستقرئ الآيات الإحدى والثلاثين استقراءً تاماً ، أو حتى ناقصاً غيَّب عن وعي قارئه أربعاً وعشرين آية وأحضر له سبع آيات ليُلْبِسها من خلال ذلك التغييب وهذا الإحضار المعنى الذي أراد …[11])، والشافعي ليس بحاجة لدرس في أخلاقيات المعرفة على يد طرابيشي وخاصة أن طرابيشي هو الذي كان يخفي الآيات عن قارئه عند نفيه عموم الرسالة المحمدية ، وادعى أن المفسرين لم يفوزوا إلا بآية واحدة في الموضوع، والشافعي مبدع علم الأصول لا يحتاج لدرس في المنهجية العلمية وأنواع الإستقراء التام والناقص، والشافعي العربي الهاشمي القرشي ليس بحاجة لدرس في اللغة على يد طرابيشي وهو الذي أخذ اللغة من قلب صحراء العرب ومن أفواه أهلها، لكن الشافعي الأصولي المفكر أوسع فكره لمدلول الآية فرأى عطف الحكمة على الكتاب ، فتوصل لهذا التفسير ، و فكر طرابيشي الحداثوي تصلب فتعطل فاتهم الشافعي بإخفاء الآيات ،فيقول : ( فماذا فعل صاحب الرسالة حتى يفرض التأويل الذي يريد فرضه ؟ أو بتعبير أدق وأقسى : ماذا فعل حتى يمرر التأويل الذي يريد تمريره ؟ بدلاً من أن يستقرأ الآيات الإحدى والثلاثين استقراءً تاماً ، أو حتى ناقصاً، غيَّب عن وعي قارئه أربعاً وعشرين آية وأحضر له سبع آيات ليُلبسها من خلال ذلك التغييب ….[12]) ، فطرابيشي بحرفيته وجموده يطالب الشافعي باستدعاء كل آية وردت فيها كلمة الحكمة مع الكتاب من القرآن الكريم ، وهذا عين ” اللفظية ” و” الاسمية ” فيتساءل 🙁 فلماذا لم تسمَّ بالاسم الذي يطابق هذا المعنى أي ” السنة “؟ [13])، ويقول بكل ظاهرية : ( فليس في معجم العربية ما يمكن أن يستدل منه أن الحكمة تعني السنة ، ولا السنة تعني الحكمة . [14])، إلا أن مفكراً  واسع الأفق كالشافعي ، يذكر الآيات التي تخاطب المسلمين و النبي صلى الله عليه وسلم ، ليدلل على ما يريد ، فالقرآن يعطف الكتاب على الحكمة لبيان امتنان الله تعالى على المؤمنين ببعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، والعطف يقتضي المغايرة بين المتعاطفيْن ، فيكون معنى الكتاب القرآن الكريم ، ومعنى الحكمة السنة النبوية، كقوله تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } آل عمران (164)، ولكن طرابيشي يستغفل القارئ بحرفيته ويطلب من الشافعي استدعاء جميع الآيات التي ورد فيها ذكر الكتاب والحكمة ، ولو لم يكن الخطاب موجهاً مباشرة للمؤمنين ، فالله تعالى وصف عيسى عليه السلام بقوله : { وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ } آل عمران (48(، وكغيرها من الآيات التي ذكرها طرابيشي[15]، و بديهة أن المقصود بهذه الآيات ليس السنة النبوية، فلماذا سيذكرها الشافعي ؟!! فمن يستغفل من ؟!!

وتمضي ظاهرية طرابيشي – حسب هواه –  فينكر على الإمام الشافعي استدلاله بالآية الكريمة { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ } النحل 89 ، على بيان القرآن الكريم لأحكام النوازل،  فيقول : ( أن مدار الآية- يعني – { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ  وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ}- كما هو واضح من مساقها بتمامها ، هو على الحساب يوم الحساب. وهي بذلك تتمم الآية التي تسبقها مباشرة { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} النحل 88، فالتبيان الذي تتكلم عليه الآية ليس تبيان كل شيء من أمور الدنيا ، بل تبيان كل شيء من أمور الآخرة والمحاسبة يوم الآخرة.)[16]، ويقول : ( فهذه السورة كما هو معلوم من الآيات المكيات ، وفي الطور المكي لم يكن القرآن قد تضمن بعد أية أحكام بصدد نوازل الدنيا ، فمداره كله على الآخرة بنعيمها ، وعلى الأخص بجحيمها [17].)، فطرابيشي ضيّق معنى الآية بمكيتها وحصر معناها باليوم الآخر، والشافعي بسعة فكره أخرجها من دائرة الزمان والمكان إلى دائرة الفاعلية بالحياة فمن صاحب العقل النصي ؟!!.

ومن عجيب ظاهرية طرابيشي إنكاره على الإمام الشافعي استدلاله بقوه تعالى : { أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} القيامة (36) على نفي الاستحسان لأن الله لم يترك الإنسان بغير أمر أو نهي فلا يترك سدى، فيتهمه طرابيشي بممارسة انزياحية ب( توظيف آية قرآنية هي الآية 36 من سورة القيامة ، في المنحى الانزياحي نفسه الذي كان وظّف الآية 89 من سورة النحل ، ذلك أن الآية لا تمت بصلة من قريب أو بعيد إلى إشكالية مصادر الحكم والقياس في النوازل الفقهية،….وهي نزلت كما يدل اسمها في المشككين في يوم القيامة وفي ما ينتظر المكذبين بالله وبرسالة رسوله من عذاب يوم الحساب ….، وهي من مكيات القرآن التي كان مدارها الأول على الإيمان والكفر ، أو التصديق والتكذيب ببعثة الرسول ، يوم لم تكن جماعة المؤمنين قد تكونت بعد ليستدعي تكوُّنها نزول الأحكام في القرآن المدني [18])، فطرابيشي يسد فسحة فهم النص بإعمال العقل ، وتوسيع مدلول النص عن حرفيته إلى رحابة الاستنباط والتعقل ، فعلماء المسلمين إذا أخذوا بالنص نعتهم طرابيشي بوثنية النص، وإذا تأولوا النص وصفهم بالإنزياحية.!!

ونختم بمقارنة بين ظاهرية ابن حزم – رحمه الله- وظاهرية طرابيشي ليحكم القارئ أيهما أشد حرفية ، فقد استدل ابن حزم كما نقل طرابيشي عنه على بطلان القياس بقوله تعالى : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } الأنعام 38، وقوله تعالى : { تبياناً لكل شيء } النحل 89، فلا يحل القول بالقياس في الدين ولا بالرأي ، لأنه لا يختلف أهل القياس والرأي أنه لا يجوز استعمالهما ما دام يوجد نص، وقد شهد الله تعالى بأن النص لم يفرط فيه شيئاً، وأن الدين قد كمل ، فصح أن النص قد استوفى جميع الدين، فإن كان كذلك فلا حاجة بأحد إلى قياس، ولا رأيه ، ولا إلى رأي غيره.[19]

هكذا نرى الإمام ابن حزم – رحمه الله – لم يحبس نفسه في زمن نزول الآيتين المكيتيْن بل تجاوزهما لاستخراج مدلول أوسع من النص، فوسع دائرة فهم الآية ، ولكن طرابيشي حجّر واسعاً وضيّق بحرفيته فهم النص فرد على ابن حزم قائلاً 🙁 ولن ندخل في نقاش حول مضمون الآيتين …..إنما حسبنا أن نشير إلأى أن الآيتيْن كلتيهما مكيتان ولا صلة لهما بالتالي بالنوازل وأحكامها التي عليها حصراً مدار الآيات المدنية، كما أن السياق الذي وردتا فيه- والذي يضرب عنه ابن حزم صفحاً- هو سياق المحاسبة يوم الحساب ، وبالتالي سد الذرائع في وجه من قد يقول في ذلك اليوم إنه كان يجهل مع أن الكتاب نُزِّل ” تبياناً لكل شيء “)[20]، وأشد من ذلك فإن طرابيشي يوغل بالإسمية واللفظية فيقول : ( ثم أننا لسنا متيقنين أصلاً أن المعني ب “الكتاب” في الآية 38 من سورة الأنعام هو القرآن، وأغلب الظن أن المقصود هنا قدر الله وقضاؤه المكتوب منذ الأزل والساري على جميع مخلوقاته من بشر وحيوان ، وذلك هو المنطوق الذي تفصح عنه الآية متى أخذناها بتمامها في سياقها ولم نجتزئها كما اجتزأها ابن حزم ، ومن قبله الشافعي،{ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم  مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ  ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ }الأنعام 38)[21]، ولسنا بصدد الدخول بخلاف المفسرين حول معنى الكتاب الوارد في الآية الكريمة ، وما يهمنا كيف يعيب طرابيشي التأويلي الحداثوي على ابن حزم تأويله للنص ليوسع دائرة الاستدلال منه خروجاً عن ظاهريته المعهودة ، ويتصلب طرابيشي في منطوق النص ، ويجمد على واقعة الزمان والمكان مصراً على أن مكية السورة لا تقبل إعمالها في غير ذلك ، وابن حزم الظاهري يترفع عن مثل هذا الجمود الفكري، فأيهما أشد ظاهرية؟!!

وفي خيانة من طرابيشي لأيدليوجيته الحداثوية التأويلية يرفض طرابيشي تأويل ابن حزم – رحمه الله – لقوله تعالى : {  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ } النساء 59، فقال أن أولي الأمر هم أهل العلم[22]، فقال : ( ويكاد لا يحتاج لبيان أن ابن حزم يضرب هنا صفحاً عما انعقد عليه إجماع أهل التفسير وأسباب النزول من أن الآية نزلت على الأرجح في الحرب وقسمة غنائمها، وأن المعنيين بأولي الأمر…” أمراء السرايا “)[23] ، فحرفية طرابيشي لا تقبل إدخال أهل العلم في مسمى أولي الأمر  معتمداً على الإجماع في تفسير الآية وضرورة حصرها في سبب نزولها وإغلاق جميع منافذ الفكر فيها، مع أن ابن حزم لم ينفرد بذلك فجمع من العلماء يقولون هم : العلماء والأمراء، والإجماع الذي يتكأ عليه طرابيشي في نقده لابن حزم، هو ذاته الإجماع الذي ينقض كتاب طرابيشي من أساسه ، فالعلماء مجمعون على أن المقصود بطاعة الرسول الواردة في الآية اتباع السنة النبوية ، وهو الإجماع الذي يهدم ما ادعاه من التحول من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث ، ولو أتم طرابيشي الآية لاتضح له ذلك ، فالله تعالى يقول : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا }، فالله تعالى أمر عند التنازع بالرجوع لكتابه الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فالعلماء والأمراء عليهم الرجوع للكتاب والسنة عند الاختلاف.

وهكذا نرى الأستاذ جورج طرابيشي يكون ظاهرياً متى شاء !!، وأصولياً يأخذ بالإجماع متى شاء !!، و يدعي القرآنية متى شاء !!، و تراثياً يعتمد على الأحاديث متى شاء!! ، وهكذا هي الشخصية الانقلابية ،لا تنقلب على مبادئها فحسب ، بل تتقلب بحسب أهوائها ، لتحقيق مآربها الأصولية الأولى .

ــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

[1] من إسلام القرآن ص 111.

[2] من إسلام القرآن  ص 293 .

[3] من إسلام القرآن ص 100.

[4] من إسلام القرآن ص 619

[5] من إسلام القرآن ص 619.

[6] من إسلام القرآن ص 371.

[7] من إسلام القرآن ص 371.

[8]  من إسلام القرآن ص 73.

[9] من إسلام القرآن ص 85

[10]  انظر : من إسلام القرآن ص 177

[11] من إسلام القرآن ص 177

[12] من إسلام القرآن ص 177.

[13] من إسلام القرآن ص 181

[14] من إسلام القرآن ص 182.

[15]  انظر : من إسلام القرآن ص 179.

[16] من إسلام القرآن ص 247 – 248.

[17] من إسلام القرآن ص 248 .

[18] من إسلام القرآن ص 257.

[19]  انظر : من إسلام القرآن ص 332.

[20] من إسلام القرآن ص 332.

[21] من إسلام القرآن ص 332.

[22]  انظر : من إسلام القرآن ص 375

[23] من إسلام القرآن ص 374.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

إعادة قراءة النص الشرعي عند النسوية الإسلامية.. الأدوات والقضايا

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: تشكّل النسوية الإسلامية اتجاهًا فكريًّا معاصرًا يسعى إلى إعادة قراءة النصوص الدينية المتعلّقة بقضايا المرأة بهدف تقديم فهمٍ جديد يعزّز حقوقها التي يريدونها لا التي شرعها الله، والفكر النسوي الغربي حين استورده بعض المسلمين إلى بلاد الإسلام رأوا أنه لا يمكن أن يتلاءم بشكل تام مع الفكر الإسلامي، […]

اختلاف أهل الحديث في إطلاق الحدوث والقدم على القرآن الكريم -قراءة تحليلية-

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يُعَدّ مبحث الحدوث والقدم من القضايا المركزية في الخلاف العقدي، لما له من أثر مباشر في تقرير مسائل صفات الله تعالى، وبخاصة صفة الكلام. غير أنّ النظر في تراث الحنابلة يكشف عن تباينٍ ظاهر في عباراتهم ومواقفهم من هذه القضية، حيث منع جمهور السلف إطلاق لفظ المحدث على […]

وقفة تاريخية حول استدلال الأشاعرة بصلاح الدين ومحمد الفاتح وغيرهما

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يتكرر في الخطاب العقدي المعاصر استدعاء الأعلام التاريخيين والحركات الجهادية لتثبيت الانتماءات المذهبية، فيُستدلّ بانتماء بعض القادة والعلماء إلى الأشعرية أو التصوف لإثبات صحة هذه الاتجاهات العقدية، أو لترسيخ التصور القائل بأن غالب أهل العلم والجهاد عبر التاريخ كانوا على هذا المذهب أو ذاك. غير أن هذا النمط […]

الاستدلال بتساهل الفقهاء المتأخرين في بعض بدع القبور (الجزء الثاني)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة خامسًا: الاستدلال بإباحة التوسل وشدّ الرحل لقبور الصالحين: استدلّ المخالفون بما أجازه جمهور المتأخرين من التوسّل بالصالحين، أو إباحة تحرّي دعاء الله عند قبور الصالحين، ونحو ذلك، وهاتان المسألتان لا يعتبرهما السلفيون من الشّرك، وإنما يختارون أنها من البدع؛ لأنّ الداعي إنما يدعو الله تعالى متوسلًا بالصالح، أو عند […]

الاستدلال بتساهل الفقهاء المتأخرين في بعض بدع القبور (الجزء الأول)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من المعلوم أن مسائل التوحيد والشرك من أخطر القضايا التي يجب ضبطها وفقَ الأدلة الشرعية والفهم الصحيح للكتاب والسنة، إلا أنه قد درج بعض المنتسبين إلى العلم على الاستدلال بأقوال بعض الفقهاء المتأخرين لتبرير ممارساتهم، ظنًّا منهم أن تلك الأقوال تؤيد ما هم عليه تحت ستار “الخلاف الفقهي”، […]

ممن يقال: أساء المسلمون لهم في التاريخ

أحد عشر ممن يقال: أساء المسلمون لهم في التاريخ. مما يتكرر كثيراً ذكرُ المستشرقين والعلمانيين ومن شايعهم أساميَ عدد ممن عُذِّب أو اضطهد أو قتل في التاريخ الإسلامي بأسباب فكرية وينسبون هذا النكال أو القتل إلى الدين ،مشنعين على من اضطهدهم أو قتلهم ؛واصفين كل أهل التدين بالغلظة وعدم التسامح في أمورٍ يؤكد كما يزعمون […]

كيفَ نُثبِّتُ السُّنة النبويَّة ونحتَجُّ بها وَقَد تأخَّر تدوِينُها؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ إثارةَ الشكوك حول حجّيّة السنة النبوية المشرَّفة بسبب تأخُّر تدوينها من الشبهات الشهيرة المثارة ضدَّ السنة النبوية، وهي شبهة قديمة حديثة؛ فإننا نجدها في كلام الجهمي الذي ردّ عليه الإمامُ عثمانُ بن سعيد الدَّارِميُّ (ت 280هـ) رحمه الله -وهو من أئمَّة الحديث المتقدمين-، كما نجدها في كلام […]

نقد القراءة الدنيوية للبدع والانحرافات الفكرية

مقدمة: يناقش هذا المقال لونا جديدًا منَ الانحرافات المعاصرة في التعامل مع البدع بطريقةٍ مُحدثة يكون فيها تقييم البدعة على أساس دنيويّ سياسيّ، وليس على الأساس الدينيّ الفكري الذي عرفته الأمّة، وينتهي أصحاب هذا الرأي إلى التشويش على مبدأ محاربة البدع والتقليل من شأنه واتهام القائمين عليه، والأهم من ذلك إعادة ترتيب البدَع على أساسٍ […]

كشف الالتباس عما جاء في تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لقوله تعالى في حق الرسل عليهم السلام: (وظنوا أنهم قد كُذبوا)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إن ابن عباس رضي الله عنهما هو حبر الأمة وترجمان القرآن، ولا تخفى مكانة أقواله في التفسير عند جميع الأمة. وقد جاء عنه في قول الله تعالى: (وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُواْ) (يوسف: 110) ما يوهم مخالفة العصمة، واستدركت عليه عائشة رضي الله عنها لما بلغها تفسيره. والمفسرون منهم […]

تعريف بكتاب “نقض دعوى انتساب الأشاعرة لأهل السنة والجماعة بدلالة الكِتابِ والسُّنَّةِ والإِجْمَاعِ”

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقَـدّمَـــة: في المشهد العقدي المعاصر ارتفع صوت الطائفة الأشعرية حتى غلب في بعض الميادين، وتوسعت دائرة دعواها الانتساب إلى أهل السنة والجماعة. وتواترُ هذه الدعوى وتكرارها أدّى إلى اضطراب في تحديد مدلول هذا اللقب لقب أهل السنة؛ حتى كاد يفقد حدَّه الفاصل بين منهج السلف ومنهج المتكلمين الذي ظلّ […]

علم الكلام السلفي الأصول والآليات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: اختلف العلماء في الموقف من علم الكلام، فمنهم المادح الممارس، ومنهم الذامّ المحترس، ومنهم المتوسّط الذي يرى أن علم الكلام نوعان: نوع مذموم وآخر محمود، فما حقيقة علم الكلام؟ وما الذي يفصِل بين النوعين؟ وهل يمكن أن يكون هناك علم كلام سلفيّ؟ وللجواب عن هذه الأسئلة وغيرها رأى […]

بين المعجزة والتكامل المعرفي.. الإيمان بالمعجزة وأثره على تكامل المعرفة الإنسانية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لقد جاء القرآن الكريم شاهدًا على صدق نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، بل وعلى صدق الأنبياء كلهم من قبله؛ مصدقًا لما معهم من الكتب، وشاهدا لما جاؤوا به من الآيات البينات والمعجزات الباهرات. وهذا وجه من أوجه التكامل المعرفي الإسلامي؛ فالقرآن مادّة غزيرة للمصدر الخبري، وهو […]

قواعد علمية للتعامل مع قضية الإمام أبي حنيفة رحمه الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من القضايا التي عملت على إثراء التراث الفقهي الإسلامي: قضية الخلاف بين مدرسة أهل الرأي وأهل الحديث، وهذا وإن كان يُرى من جانبه الإيجابي، إلا أنه تمخَّض عن جوانب سلبية أيضًا، فاحتدام الصراع بين الفريقين مع ما كان يرجّحه أبو حنيفة من مذهب الإرجاء نتج عنه روايات كثيرة […]

كيف نُؤمِن بعذاب القبر مع عدم إدراكنا له بحواسِّنا؟

مقدمة: إن الإيمان بعذاب القبر من أصول أهل السنة والجماعة، وقد خالفهم في ذلك من خالفهم من الخوارج والقدرية، ومن ينكر الشرائع والمعاد من الفلاسفة والملاحدة. وجاءت في الدلالة على ذلك آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: {ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُواْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ} [غافر: 46]. وقد تواترت الأحاديث […]

موقف الحنابلةِ من الفكر الأشعريِّ من خلال “طبقات الحنابلة” و”ذيله”

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: تحتوي كتبُ التراجم العامّة والخاصّة على مضمَرَاتٍ ودفائنَ من العلم، فهي مظنَّةٌ لمسائلَ من فنون من المعرفة مختلفة، تتجاوز ما يتعلَّق بالمترجم له، خاصَّة ما تعلَّق بطبقات فقهاء مذهب ما، والتي تعدُّ جزءًا من مصادر تاريخ المذهب، يُذكر فيها ظهوره وتطوُّره، وأعلامه ومؤلفاته، وأفكاره ومواقفه، ومن المواقف التي […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017