من الهرطقة إلى الأصولية…قراءة في فكر جورج طرابيشي(4)
للتحميل كملف pdf اضغط على الأيقونة
الفصل الرابع: (الاستشراق الباطني)
القارئ لكتاب “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث” يظهر فيه طرابيشي للوهلة الأولى أنه قرآني، ولكنها قرآنية غائية اتخذها جسرًا للطعن بالإسلام قرآنًا وسنةً ومنهجًا وتراثًا، وطرابيشي الناقد الأدبي والفلسفي يتقن لعب الأدوار جميعها ولا سيما الأدوار المركبة المعقدة، وهذا يناسب إنتاج دراما بحجم مسلسل “نقد النقد” الذي كتب قصته وأنتجه وأخرجه جورج طرابيشي، فهو قرآني ولكنه غير مطالب أن يؤمن بالقرآن؛ لأن القرآن لم ينزل لأمثاله، وهو يتهم أشهر خصومه الراحل الجابري بأنه يقوم بدور المستشرق الداخلي (الذي يروج في الحقل التداولي للثقافة العربية لأخطر الدعاوى الإبستمولوجية للمركزية الأوروبية[1])، وعليه فإن الثقافة العربية المعاصرة باتت محاصرة بين نارين: نار الاستشراق الخارجي ونار الاستشراق الداخلي[2]، وطرابيشي يلعب دور الاستشراق: الداخلي والخارجي ولكن بطريقة خفية، بما يمكن أن يسمى “استشراق باطني” فأتقن دور المستشرق بثوب ناقد التراث، فالطعون التي أثارها حول السنة النبوية، وحول شخص النبي صلى الله عليه وسلم ابتلعها من فتات المستشرقين ونظرياتهم، فالقلم قلم طرابيشي والخطاب خطاب استشراقي، أخرجه بأسلوبه وسلاطة لسانه، وأما المنهجية فهي ذات المنهجية التشكيكية المضللة، مع تطوير للنظريات الاستشراقية، وتفصيل في تطبيقها، بل إن فكرة كتاب “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث”، فكرة استشراقية بدأها المستشرقون بإظهار “حزب موالاة” و “حزب معارضة”، بين أهل الحديث وأهل الرأي، ولكن خيال طرابيشي طورها بين حزب “أهل القرآن” و “أهل الحديث”، والمستشرقون كانوا أكثر ذكاءً من صاحبنا جورج طرابيشي، لوجود أهل الحديث وأهل الرأي من الناحية التاريخية، ولكنه لم يصل لحد الصراع والتنافس السياسي لتحويلهم لحزب معارضة وموالاة!! (لذلك ادعاء وجود حزب معارضة (Opposition Party)، كما يذكر لنا شاخت خيالي لا يمت إلى دنيا الواقع بشيء، والقول بمعاداة الفقهاء للسنة النبوية، وكون الأحاديث الفقهية كلها موضوعة، ونشوء الصراع بين المدارس الفقهية القديمة وأهل الحديث من نتاج تخيل عقلية غريبة عن فهم المجتمع الإسلامي)[3].
أما طرابيشي فأعلن إفلاسه ابتداءً حين اخترع ما سماه بـ “القرآنيين” من عالم المجهول، وأما إفلاسه الفكري فكان بترويج طعون المستشرقين، فإنكار تشريعية السنة التي بنى كتابه عليها ماركة مسجلة لدى المستشرقين أخرجها طرابيشي بصناعة مقلدة، يقول شاخت: (أصبح النبي صلى الله عليه وسلم نبيًّا مشرعًا، ولو أن سلطته لم تكن تشريعية، كانت للمؤمنين من الوجهة الدينية وللمنافقين من الوجهة السياسية)[4].
وأما مصطلحاته وعناوينه فهي ترجمة غير حرفية لمصطلحات المستشرقين لتمريرها على القارئ العربي، وطرابيشي مترجم قبل أن يكون ناقدًا، ولعل عمله الترجمي جعله يستبطن أقوال المستشرقين شعوريًّا أو بلا شعور، فقرأ بلغة القوم ما لم يقرأه غيره، فرضي طرابيشي لنفسه أن يكون مصنعًا لإعادة تدوير منتجات المستشرقين، فيظهر بما استبطنه من فكر الاستشراق بصفة الناقد المعرفي الذي يحفر بعمق في دراساته، وحقيقة الأمر أنه يحفر بعمق في الفكر الاستشراقي ليعيد تصديره لأبناء جلدته، وبلسان قومه، ثم يوقع تحتها بحرفيه ج. ط، فإذا رأى القارئ هذا التوقيع، انبهر بقدرات الناقد البارع، وبسلاسة فكره، وسيالة قلمه، وهذا ماكان يفتقده المستشرقون، فجاء طرابيشي ليكمل المهمة، ويسد الفراغ، ويتفوق على شيوخه، وكم من تلميذ بزّ شيخه، فلما استعمل المستشرقون عبارة (تحت ضغط أهل الحديث) حولها طرابيشي لأيدليوجيا المحدثين، ولما تحدث المستشرقون عن دور الإمام الشافعي في تاريخ السنة، عنون طرابيشي: (الشافعي: تكريس السنة)، ولما رأى حرص المستشرقين على دراسة الموطأ وتعميم أحكامهم على تاريخ السنة من خلاله، قام طرابيشي بدراسة تفصيلية عنه، ولما اختار المستشرقون كتب السيرة؛ كعينات لدراسة الحديث النبوي، سار على نهجهم مع توسع في مصادر السيرة معتمدًا على ما تأخر منها؛ كالسيرة الحلبية، وفي بعض الحالات يقبل طرابيشي أن يشاركه غيره في مصنع التدوير، فينقل عن شركائه مادحًا إياهم لترويج منتجات مصنعه، فيعنون: (ابن حنبل إمام السنة)، ليتحدث عن محنة الإمام أحمد في فتنة القول بخلق القرآن، فيدعي أنه قام بقراءة تفكيكية، والصواب أنها تجميعية مما قاءه المستشرقون في دراستهم للمحنة بغير علمية ومنهجية، ويثني على ما كتبه الأستاذ فهمي جدعان الذي نجح على الأقل في رسم بعض علامات الاستفهام حول الكيفية التي وظفت بها قصة المحنة لاجتثاث التيار المعتزلي[5]!! ولكن طرابيشي يزيل ورقة المصنع الأصلي والمنتِج الحصري ليضع مكانه ورقة مزورة باسم مصنع طرابيشي وشركاؤه، ليوهم القارئ بدراسته التفكيكية، وهي أشبه ما تكون بمصانع التجميع التي تبنيها شركات السيارات العملاقة في بلاد العالم الثالث لرخص الأيدي العاملة، ولكنها بكل حال تحتفظ باسم المصنع الأصلي لترويج السلعة، وأما التصنيع والتجميع الفكري فيكون بطريقة عكسية؛ لأن المصنع الأصلي يعلم أنه إذا بقي الاسم الأصلي لمصنع الاستشراق، فإن البضاعة كاسدة لا محالة، لاقتران اسم الاستشراق بالاستعمار والأصولية الغربية، فيسمح المصنع الأصلي بوضع ماركة مسجلة غير الماركة الأصلية كمثل ماركة (ج. ط)، فهذه الماركة التي تعجب القارئ العربي فهي من أبناء جلدته و بقلم عربي!! وهذا ما حققه الأستاذ إبراهيم السكران في كتابه “التأويل الحداثي للتراث – التقنيات والاستمداد“، فتحدث تحت عنوان (تهريب استشراقيات المحنة) مطولًا في تاريخ الدراسات الاستشراقية حول محنة الإمام أحمد، وتسييس المستشرقين لها، وتهوينهم من فظاعة ما جرى للإمام أحمد فيها، ولا سيما ما كتبه المستشرق الألماني (فان . إس)، ومن ذلك: ادعاء أن الحنابلة ضخموا البلاء الذي أصاب الإمام أحمد، وأن الروايات التاريخية السنية حول المحنة متضاربة، والتشكيك في عدد الجلدات التي جلدها الإمام أحمد، وأن الصراع ليس عقديًّا، وإنما لمحاولة المأمون كسر السلطة المتصاعدة لأهل الحديث[6]، وهذا ما قام بتجميعه طرابيشي ليظهر لنا بمظهر المهندس الصانع والمفكك الماهر، وهو لم يقم بدور مهرب الأفكار كما وصفهم الأستاذ السكران، فمرحلة التهريب انتهت على يد الآخرين، ولكن طرابيشي وصل لمرحلة التصنيع وإعادة الإنتاج، فكان آخر منتجاته المقلدة وبماركة عربية “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث”، فهذا المنتج بهذا العنوان سيجذب الزبائن، ضمن خطة تسويقية مبتكرة، فإن البضاعة المهرَّبة، لا يقبل عليها إلا خاصة الناس، ممن تهرَّب لهم البضائع، ويبقى المهرِّب والمهرَّب إليه في ريبة من أمره، ربما يُكْشَف أمره، فيدفع جمارك البضاعة المهرَّبة، ولكن في زمن التجارة العالمية في ظل الحداثة، لابد من توسيع الفئة المستهدفة المستهلكة من جمهور الناس لمنتجات الاستشراق، بصيغة جديدة وتغليف جميل، بإنشاء مصانع إعادة التجميع، فكم نحتاج لدراسات تفكيكية لبيان اتفاقيات وكالات مصانع التجميع، بدراسة الجذور الاستشراقية للحداثويين العرب، وهذا لا يعني رفض كل دراسة علمية جادة في ميدان البحث والتحقيق للتراث الإسلامي، ولكن متى خرجت من مصانع التجميع فإنها دراسة مشوبة بالتحريف والتزوير، فضلًا عن التقليد والاجترار، والعجب كل العجب أن الحداثوي يدعو للتجديد والإبداع وهو أبعد ما يكون عن ذلك، وإنه يصدع رؤسنا بليبراليته، وهو يبحث في عدد السياط التي ضرب بها الإمام أحمد!!
لقد حاول طرابيشي إخفاء المواد الأولية لمصنعه التجميعي ليظهر مصنع الفكر وكأنه منجز عربي على يديه؛ إلا أنه في بعض الأحيان أخرج لنا شهادة المنشأ لإعادة التصدير، وذلك ليبعد عن نفسه تهمة الاستشراق الباطني، ففكرة نفي عالمية الإسلام يعتمد عليها طرابيشي من فتات المستشرقين في تفسيرهم لكلمة الأميين، فهي: (مشتقة من “أُمَّتْ” أو “أُمَّيم” العبرية، أو ربما من “غوييم”، وهو النعت الذي يطلقه المأثور اليهودي على سائر أبناء الأمم الذين لم يؤتوا – بعكس بني إسرائيل – الكتاب، أي الوثنيين). وهذا ما نوّه به بعض المستشرقين[7]، وكذلك القرآن أنزل على الأميين العرب فهو خاص بهم دون غيرهم، و(الواقع أن دعوى “الأممية” بمعنى “العالمية” لن تغلب على اللاهوت الإسلامي، سواء في كتب التفسير أم في كتب الفقه، أم على الأخص في كتب الحديث، إلا في سياق التحول التاريخي والجغرافي الكبير من إسلام الرسالة إلى إسلام الفتوحات)[8]، وعليه فإن الحداثوي طرابيشي لا يبدع بل يجتر نظريات المستشرقين، ويهرطق من جديد بهرطقة عكسية اشتياقًا لأصوليته التي ارتد عنها.
- نظرية القذف الخلفي للأسانيد Projecting Back))
تعد هذه النظرية التي وضعها المستشرق البروفسور شاخت من أهم النظريات التي درس بها المستشرقون الحديث النبوي لإثبات “تاريخ الاختلاق” في الحديث ومعرفة العصر الذي وضع فيه الحديث، حتى وصفت بـ “الاكتشاف العلمي الخطير”، فهذه النظرية تبين تاريخ وضع الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعطي المدلول الدقيق لتلك الأسانيد، وهو أن الجزء السفلي من الأسانيد صحيح، بينما الجزء العلوي الموصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم خيالي وزائف[9].
ويفصل شاخت نظريته: (هذه النتائج المتعلقة بتطور الأسانيد تمكننا من أن نتصور القضية التي وضع فيها حديث ما للتداول من قبل محدث ما يمكن أن نسميه ن.ن. أو عن طريق شخص استعمل اسمه في وقت ما ثم يقتبس ذلك الحديث عادة من قبل رواة أو عدة رواة)[10]، والنتيجة التي توصل لها: ( إن أكبر جزء من أسانيد الأحاديث اعتباطي .. ومعلوم لدى الجميع أن الأسانيد بدأت بشكل بدائي، ووصلت إلى كمالها في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري… وكانت الأسانيد كثيرًا ما تلصق بأدنى اعتناء ..، وأي حزب يريد نسبة آرائه إلى المتقدمين كان يختار تلك الشخصيات ويضعها في الإسناد، وفي الأمثلة التالية نجد مظاهر الاعتباط في الأسانيد وانعدام الثقة فيها)[11].
ومن نتائجها: (بعد مضي قرن ونصف لوفاة النبي صلى الله عليه وسلم تقريبًا، ما بقيت في ذاكرة الجماعة إلا تصورات غامضة مبهمة عن نبيهم، بذلت الجهود لسد النواقص وأضيفت الرتوش والألوان ورتبت المواد ترتيبًا منهجيًّا وصيغت بشكل الأحاديث مع إضافة الأسانيد، وكان كل ذلك في القرن الثاني الهجري)[12].
وقريب من هذه النظرية ما قاله جولدتسيهر: (فإنه ليس من السهل تبيين الخطر المتجدد عن بعد الزمان والمكان من المنبع الأصلي؛ بأن يخترع أصحاب المذاهب النظرية والعملية أحاديث لا يرى عليها شائبة في ظاهرها، ويرجع بها إلى الرسول وأصحابه، فالحق أن كل فكرة، وكل حزب، وكل صاحب مذهب، يستطيع دعم رأيه بهذا الشكل، وأن المخالف له في الرأي يسلك أيضًا هذا الطريق)[13].
ولست بصدد بيان بطلان هذه النظرية، حيث كفانا البرفسور الأعظمي – رحمه الله – مؤونة ذلك، كما سيأتي بيانه، ولكن المقصود بيان تطبيق الأستاذ جورج طرابيشي للنظرية في كتابه “من إسلام القرآن“؛ لإظهار الاستشراق الباطني الذي مارسه، حيث طبق النظرية وتبناها بكل تسليم، وقام بتعميمها على جميع الأحاديث، ثم إنتاجها في مصنع التجميع الذي منح ترخيصه من المستشرقين، فيقول: (الإسناد آلية بعدية لا قبلية جرى اختراعها لسد ثغرات السلسلة وتوثيق الرواة والتمرير الأركيولوجي لـ “الآثار” على أنها آثار فعلًا، على أنها – وهي المصنعة في العصور المتأخرة “المذمومة”- من نتاج العصور المبكرة “المحمودة” وعائدة حصرًا إلى الزمن الأول الذي هو بامتياز، في حضارة النص المقدس الإسلامي، زمن النبوة والصحبة)[14].
ويقول: (أضف إلى ذلك أن الرواية، سواءً أكانت أحادية أم متواترة، خاضعة جبريًّا لقانون المسافة الزمنية، وبالرجوع إلى المدونة الحديثية في الإسلام، وهي الأضخم في نوعها من جميع مأثورات الديانات الأخرى، فإننا لا نملك حديثًا واحدًا نستطيع أن نقول: إنه قاله الرسول من دون فاصل زمني، بل جميع ما في متاحنا من الأحاديث، وهي تعد بعشرات الألوف……..فلنا أن نقول: إن مسافة زمنية لا تقل عن أربعة أجيال تفصل بين “قال الرسول” و”قال… قال الرسول”)[15].
فــ (الآلية الإسنادية التي تحكمت بالصناعة الجماعية للسنة المنسوبة إلى الرسول: هي ليست آلية صاعدة ومتقدمة إلى الأمام، بل نازلة ومتراجعة إلى الخلف، ليست آلية تبدأ من الرسول لتنتهي إلى “الثقة” فـ”الثقة”، بل آلية تبدأ من “الثقة” فـ “الثقة” لتنتهي إلى الرسول. ومن هنا كانت قابلية المدونة الحديثية للتضخم اللامتناهي: فكلما حدّث “ثقة” جديد عن “ثقة” قديم انضاف إلى المدونة الحديثية حديث جديد، أو في أدنى الأحوال تفصيل جديد إلى حديث قديم. وهكذا بقيت المدونة الحديثية مفتوحة للتراكم إلى ما بعد قرن “الصحاح” أي القرن الثالث الهجري، ولم يُعدم من يضيف إليها أو يعيد تجميعها امتدادًا إلى القرن الثامن الهجري)[16].
(فالسلسلة الإسنادية، كما تقدم البيان، يتحكم بها لا أول من رُوي عنه أنه روى، سواء أكان هو الصحابي أم التابعي أم تابع التابعي، بل آخر من روى من الحفاظ “الموثَّقين” و”المعدَّلين” الذين يحكمون قبضتهم على سلاسل إسنادهم)[17].
والمنهجية الاستشراقية البحثية طبقها طرابيشي ليس فقط في اجترار افتراءات المستشرقين حول السنة النبوية، بل حتى في اختيار عينات الدراسة، فبدلًا من دراسة الحديث الشريف من الكتب الحديثية البحتة، أي: الكتب التي ألفت بهدف جمع الحديث النبوي والتصنيف فيه؛ كالصحيحين والسنن، يعمد إلى كتب لم يهدف أصحابها لجمع الحديث النبوي وتدوينه، بل غايته الاستدلال الفقهي والمناظرات العلمية؛ كالموطأ للإمام مالك أو الأم للإمام الشافعي ومشكل الآثار للطحاوي وغيرها؛ ليبني عليها نظريته في وضع الحديث والتشكيك في السنة النبوية، ويحاول طرابيشي بسوء فهمه وقصده أن يحبس القارئ في تصور باطل عن رواية الحديث، وذلك أنه يفترض بحسب نظريته التي ظهرت في عنوان الكتاب “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث”، أنه لا وجود للسنة أصلًا، وإنما وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم تبليغ ما أنزل عليه (القرآن) فحسب، وعليه فهو يصف ما وصلنا من الحديث بالتضخم والتراكمية، فحتى عصر مالك – رحمه الله – تضخمت المدونة الحديثية – بزعمه -، ثم جاء الشافعي فزاد التضخم، حتى وصلت إلى أقصى تضخم في القرون التالية، وهكذا هم علماء الحديث؛ كآلة طباعة الأوراق النقدية، فكلما جاء أحدهم في عصر من العصور طبع أحاديث جديدة لم تكن في عصر من سبقه، وهو بهذه النظرية فاق نظريات المستشرقين، ولكن باسم القرآنية، فهي استشراقية باطنية، (فآخر مسند كان قيد التداول قبل تدخل الشافعي هو موطأ مالك، والحال أن أحاديث الموطأ كما كنا رأينا لا تتعدى في العداد الخمسمئة، أما بعد تدخل الشافعي، فقد تضاعف عدد الأحاديث في كل من صحيح البخاري وصحيح مسلم ثمانية عشر ضعفًا ليتعدى التسعة آلاف حديث، أما في مسند ابن حنبل، فقد ضرب تضخم الحديث رقمًا قياسيًّا بتضاعف في المعدل بلغ ثمانين ضعفًا، ليصل العدد إلى نحو أربعين ألف حديث)[18].
ويغلف طرابيشي نظريته ببعد بيولوجي فيقدم تشخيصًا لحالة التضخم الحديثية، (بأن الأصل في الذاكرة كونها محكومة بيلوجيًّا بقانون النسيان طردًا مع تقدم الزمن، ومتى استذكرت الذاكرة في الزمن الآخر ما لم يكن موجودًا فيها في الزمن الأول، فإن استذكارها هذا لا يمكن إلا أن يكون كاذبًا، أي: وضعًا)[19]، (فكلما ازداد عهد النبوة بعدًا تكاثر عدد الأحاديث المنسوبة إلى النبي، وبدلًا أن يكون الزمن عامل نسيان يصير عامل استذكار،….وهذا الانقلاب في القانون البيولوجي للذاكرة يقول وحده كل ما يمكن قوله عن واقعة الوضع، وما استتبعه من تضخم في الحديث)[20].
ولنقدم تلخيصًا للنظرية الطرابيشية في وضع الحديث الذي كان سببًا في التحول من “إسلام القرآن إلى إسلام الحديث“:
- النبي صلى الله عليه وسلم لم ينطق بحديث واحد؛ فوظيفته تبليغ القرآن للناس، فالسنة من حيث الأصل لا وجود لها؛ لأن وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم وظيفة إبلاغية حصرًا[21].
- كل ما ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث فهي مكذوبة قطعًا؛ لأنها تخالف الوظيفة البلاغية التي وكل بها.
- تاريخيًّا انقلب الأمر فتحول المسلمون “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث”، وذلك بظهور أحاديث بجانب القرآن، وهذا يخالف الوظيفة البلاغية الحصرية.
- وعليه بدأت الأحاديث قليلة، ولكن وفق قانون التراكم بدأت بالتضخم من عصر لآخر، وذلك أن الفقهاء والمحدثين كلما احتاجوا للاستدلال لمسألة ما اخترعوا أحاديث لم تكن موجودة أصلًا، وصنعوها بطريقة عكسية فبدل أن تصدر من أسفل إلى أعلى، فإنها تصدر من أعلى لأسفل؛ لأن (الإسناد آلية بعدية لا قبلية جرى اختراعها لسد ثغرات السلسلة وتوثيق الرواة و التمرير الأركيولوجي لـ “الآثار” على أنها آثار فعلًا، على أنها – وهي المصنعة في العصور المتأخرة “المذمومة”- من نتاج العصور المبكرة “المحمودة” وعائدة حصرًا إلى الزمن الأول الذي هو بامتياز، في حضارة النص المقدس الإسلامي، زمن النبوة والصحبة)[22]، فمثلًا: الشافعي – وحاشاه – يطرأ على باله حديث، فيتقوّل: حدثني مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وربما الذي اخترعه هو مالك- وحاشاه- وصدّر اختراعه للشافعي، ولا يبعد أن يكون نافعًا – وحاشاه – فعل ذلك، وهكذا جميع الأحاديث التي بين أيدينا هي أحاديث مصنوعة في معامل المحدثين والفقهاء بطريقة بعدية وليست قبلية، حتى وصلت المدونة الحديثية لحد التشبع، وهذا مخالف لبيلوجية النسيان التي تقول أن الإنسان عبر الزمن ينسى ولا يستذكر!!
- وبناءً عليه فإن الأحاديث التي جمعها المحدثون في كتبهم كلها مكذوبة ولا يمكن الوثوق بشيء منها، والمحدثون هم من وضع هذه الأحاديث.
إذًا ما الفرق بين طرابيشي والمستشرقين؟!
للإنصاف أن طرابيشي تفوق على المستشرقين، و لو قرأ جولدتسيهر وشاخت هذه النظرية لألغى كل منهما نظرياته حول السنة، ليس إعجابًا بها؛ بل لأنها تحقق غرضهما من الطعن في الإسلام ما لم يتصوره كبار المستشرقين، ولكن للإنصاف أيضًا أن نظريات المستشرقين مصبوغة نوعًا ما بالعلمية والمنهجية، أما نظرية طرابيشي فهي محض هذيان وخلط للأوراق، فعلماء الحديث هم أول من قاوم الوضع في الحديث، ووضعوا قوانين منهجية لكشف الكذب وفضح الوضاعين، وقواعد صارمة لقبول الحديث، وهل ألّف البخاري صحيحه لولا الوضع في الحديث؟!
لكن طرابيشي يروج نظريته بقرآنية مزعومة تم كشف خيوطها في الفصل الأول “طرابيشي السيرة الانقلابية“، فهل يعقل أن خاتم النبيين عندما بلّغ الناس كتاب ربهم، لم يبين لهم شيئًا واستعمل معهم لغة الإشارة؛ كأنما يخاطب من به صمم، وقال لهم: دونكم كتاب ربكم، وإذا كان الأمر كذلك: هل سلم له الناس وهم الذين كانوا في جاهلية جهلاء دون أن يستشكل عليهم شيء فيسألونه عن دينهم فيجيبهم، ألم يمارس هو ما جاء به القرآن عمليًّا، ألم يأمرهم القرآن أن يتخذوه أسوة حسنة، فلماذا يأمرهم بذلك، وهو لا وظيفة له إلا إيصال الرسالة، ولقد تساءلنا في الفصل الأول: كيف عبد الناس ربهم، كيف كانوا يصلون، كيف كانوا يصومون ويزكون ويحجون، وكل ذلك لم تذكر تفاصيلها في القرآن الكريم. ولماذا يصلي الناس اليوم بذات الطريقة التي صلى بها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أكثر من ألف وأربعمائة عام، ويتناقلون ذلك جيلًا بعد جيل، فالباحث المنصف يجد أن المسلمين في مختلف بقاع الأرض التي وصلوا إليها كانوا يتعبدون عبادة واحدة، ويتعاملون بأحكام واحدة، ولو كان الحديث أو القسم الأكبر منه نتيجة للتطور الديني في القرنين الأولين للزم حتمًا ألا تتحد عبادة المسلم في شمال إفريقيا مع عبادة المسلم في جنوب الصين، إذ إن البيئة في كل منهما مختلفة عن الأخرى تمام الاختلاف، فكيف اتحدا في العبادة والتشريع والآداب، وبينهما من البعد ما بينهما؟![23].
فبناءً على القانون البيلوجي كما ذكره جورج طرابيشي كان يلزم الناس أن تمسح ذاكرتهم فلا يتذكرون شيئًا، ولعل هذا ما يتمناه طرابيشي أن يمسح بحداثويته عقيدة الإسلام من قلوب المسلمين فقدم أمنيته بصيغة قانون بيلوجي.
فإذا تبين ذلك، فلا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم حدّث بأحاديث قولية، ووصف الصحابة أفعاله وتقريراته وصفاته، فهم من فرط حبهم له لم يتركوا شاردة من قول أو فعل إلا ونقلوها عنه، وهم عرب أقحاح يفهمون كلامه الفصيح، وهم أهل قريحة الحفظ يمتلكون قدرات في الاستذكار قل نظيرها بين الأمم، فالعربي لأميته كان يحفظ الأشعار والمعلقات وأيام العرب وأمثالهم وتاريخهم عن ظهر قلب، أيعجز عن حفظ كلام أفصح العرب، وهم بعد ذلك طبقوا أحاديثه بصورة عملية فرسخت في وجدانهم وعقولهم، وهم من دافع عنه وحماه وبذل المهج في سبيل الله تعالى أيستجيز بعد ذلك أن يكذب عليه ولو حرفًا واحدًا، وهم من رضي الله عنهم ورضوا عنه، وهب أن أحدهم كذب عليه – وحاشاهم – أكانوا يسكتون عنه، أم أن أعداءه من قريش وغيرهم سيسكتون عنه ولا يعيرونهم بذلك؟!! فهذه الأحاديث بالجملة صادرة عنه مباشرة أو من بما فهمه أصحابه عنه، وكلهم ينقل ما سمع أو شاهد، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، نقلوا ذلك لمن بعدهم من التابعين، والتابعون ينقلون ذلك لمن بعدهم، فمن عرف عنه الكذب في الحديث فضحوه وكشفوا أمره وحذروا من حديثه، ومن عرف عنه بسوء حفظ بينوا حاله، فلم يقبلوا إلا أحاديث الثقات المتثبتين باتصال السند من غير شذوذ ولا علة، وردوا أحاديث بعض الرواة لأدنى شبهة؛ احتياطًا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، أبعد ذلك يقال عنهم وضَّاعون؟!!
أما التراكمية التي يطعن بها طرابيشي على المحدثين فهذا قانون مطرد في نقل الأخبار، خاصة بعد الفتوحات ودخول الناس في دين الله أفواجًا، فلو قلنا: إن عدد الصحابة الذين نقلوا الحديث عددهم عشرة – على سبيل المثال -، وكل منهم له عشرة أحاديث، ويحدث بحديث لا يوجد عند صاحبه، وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم تفرق هؤلاء الصحابة في الأمصار، فسكن أحدهم في مكة وآخر في البصرة وثالث في الكوفة ورابع في الشام وخامس في مصر وهكذا، وكان لكل واحد منهم عشرة تلاميذ، فحدثهم بأحاديثه العشرة، وبعد وفاة الصحابي كان لهذا التابعي الذي سمع الحديث من الصحابي عشرة تلاميذ، وحدّثهم بما سمع وهكذا جيلًا بعد جيل، فلا شك أن طرق الرواية ستتفرع وتكثر، وسيكون عند البعض ما لم يحدث به الآخر، وسينقل أهل الأمصار حديثهم لبلد آخر، وبعض الصحابة كان يكتب الحديث كما صنع عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – في صحيفته الصادقة، ومع الاحتكاك الحضاري بالفرس والروم وغيرهم ممن أتقن صناعة التدوين والكتابة، بدأت تظهر نسخ حديثية يكتبها التابعون عن بعض الصحابة، ومثالًا على ذلك: درس البرفسور الأعظمي نسخة من النسخ الحديثية، وهي نسخة سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة – رضي الله عنه-، ودرس من شارك أبا هريرة من الصحابة في رواية بعض الأحاديث، ثم تتبع الرواة عن أبي هريرة، ثم الرواة عن أبي صالح، والرواة في الطبقة الثالثة عن سهيل، وبيَّن التطور الطبيعي للرواية وتفريعاتها برسوم بيانية توضيحية لتسلسل الرواية من أسفل لأعلى، حتى منتصف القرن الثاني تقريبًا، حتى وصلت الأسانيد بالمئات كنتيجة طبيعية لأي خبر من الأخبار، فهذا هو القانون الطبيعي لنقل الروايات، وليس كما حاول طرابيشي أن يأسر عقل القارئ بفكرة اختلاق المحدثين للروايات بتلاعبه بالألفاظ قبلًا وبعدًا، وتصوره المعكوس للرواية وأنها من اختلاق من جاء من بعد، فيلصقها بمن قبله وهكذا حتى تصل لزمن النبوة[24].
ثم جاء التدوين الرسمي للحديث بأمر من الخليفة عمر بن عبد العزيز – رحمه الله -، ومع دخول القرن الثاني شاع التصنيف في الحديث فظهرت الموطآت وغيرها من الكتب الحديثية، حتى إذا جاء علماء الحديث في القرن الثالث وجمعوا ما وصل إليهم مع اختلاف في غاية كل جامع منهم، فمنهم من يؤلف جامعًا كما صنع البخاري ومسلم، والجامع: كتاب حديثي يجمع جميع أبواب الدين من العقائد والعبادات والآداب والمغازي وغيرها، والآخر يجمع في السنن التي تغلب عليها المسائل الفقهية، وآخر يجمع على طريقة المسانيد بحسب أسماء الصحابة وهكذا، فانتقل الحديث شفهيًّا وتدوينًا من جيل للآخر، وهذا أمر طبيعي لكل علم يكون في مرحلة النشأة ثم يتطور شيئًا فشيئًا، وأنت ترى أن عالمًا من علماء العلم التجريبي، يتوصل لقانونٍ ما فيطلع عليه بعض تلاميذه، ثم ينقلونه لمن بعدهم فيشيع وينتشر بعدد أكبر، ثم يأتي من بعده فيفرع عليه ويطوره، وهكذا.
ولو طبقنا هذا القانون على الأستاذ جورج طرابيشي بنفسه، وقلنا على سبيل المثال: إنه قال عشرة أقوال، وسمعها منه من خاصة تلاميذه أومن أهل بيته خمسة أشخاص، ثم بعد وفاته نقل كل من الخمسة أقواله لمن بعدهم، فلو قلنا: إن أحد تلاميذه كان مدرسًا في جامعة ما، و يحضر له عشرون طالبًا، فنقل لهم قولًا واحدًا من أقوال الأستاذ طرابيشي، ونقل تلميذ آخر قولًا آخر لجمع من الناس، وهكذا، ماذا ستكون النتيجة، لا شك أن التراكم وزيادة الناقلين للخبر ستكون أمرًا طبيعيًّا، ثم كيف سينقل تلميذ طرابيشي الخبر عنه، لا شك أنه سيقول: سمعت أستاذي يقول، فإذا جاء تلميذ آخر بعد جيل، سيقول: عن أستاذي فلان عن الأستاذ طرابيشي أنه قال، لكن طرابيشي يريد من المحدثين أن لا يفعلوا ذلك، لأنهم لو فعلوا تكون الرواية صادرة من الأعلى للأسفل، وهذا برأيه دليل على الكذب، إذًا على المحدثين أن يقلبوا كل قوانين الطبيعة بمعجزة طرابيشية حتى يقبل طرابيشي منهم الحديث!!
لقد حاول الأستاذ طرابيشي أن يوهم القارئ أن أحد علماء الحديث وهو الإمام مالك – رحمه الله – كان قد جمع الحديث كله، ثم تراكمت الأحاديث من بعده، وهو يعلم أن كتاب مالك – رحمه الله –كتاب فقهي يستدل ببعض الأحاديث بما وافق مذهبه الفقهي، ولم يقصد مالك جمع الحديث، وكتابه للفقه أقرب منه للصناعة الحديثية البحتة، وطرابيشي يعلم أن هناك أحاديث في الموطأ لا توجد في المدونة – على سبيل المثال-، والعكس، وكلاهما من كتب السادة المالكية، وطرابيشي يعلم أن الإمام مالكًا لم يرحل للأمصار لجمع الحديث وإنما اكتفى برواية أهل المدينة أو من جاء من المحدثين إليها، فمن الطبيعي أن يتوافر عند غيره من الحديث ما لم يروه مالك، أو أن يروي مالك أحاديث ليست عند غيره، ونحوه يفعل طرابيشي بإقحام عدوه الأول الإمام الشافعي في كتابه الأم، ولكن اختيار طرابيشي لمثل هذين الكتابين لدراسة تاريخ الحديث وتطوره وتدوينه شنشنة استشراقية، فالمستشرقون يعمدون لكتب الفقه والسيرة والتفسير لدراسة الحديث؛ كمن يدرس الفيزياء من كتب الفلك أو يدرس الطب من كتب الصيدلة، يقول البروفسور الأعظمي في معرض رده على المستشرق شاخت: (يجب أن تدرس الأسانيد والأحاديث والمسائل المتعلقة بهما في كتب الأحاديث نفسها، لا في كتب السيرة، ولا في كتب الفقه، ولا في الكتب الفقهية الحديثية؛ كموطأ الإمام مالك مثلًا)[25].
إن الناقد المعرفي طرابيشي يختلق نظرية بعيدة كل البعد عن العلمية والمنهجية، باجتراره لنظريات شيوخه من المستشرقين وتطويرها وإعادة إنتاجها في مصنع التجميع، لكنه أخفى أسانيده إليهم، إلا أن الأسانيد الفكرية لا يمكن أن تخفى، والصناعة المقلدة سرعان ما تكشف، وأول من تنطبق عليه نظرية الرواية العكسية من أعلى لأسفل هو طرابيشي الذي تشبع من نظريات المستشرقين، فطبقها على نفسه، ونقلها عنهم من أعلى لأسفل، ولكنه أخفى أسانيده؛ ليظهر لنا كباحث مستقل بعيد عن تأثير الاستشراق الخارجي، ومن ناحية أخرى؛ ليظهر كناقد معرفي يسبق غيره في اكتشافاته المعرفية، ولكن لما بانت لنا جذور فكر طرابيشي الاستشراقية، تبين لنا أنه تسول رخصة مصنع التجميع من المصنع الأصلي.
فالجذور الاستشراقية لطرابيشي يصعب حصرها، رغم أنه سعى لإخفائها بشتى السبل، وأولها قلمه السيال، وأسلوبه الآسر الذي يفتقده المستشرقون، ثم باتهامه لخصمه اللدود الراحل الجابري بتهمة الاستشراق الداخلي، حتى يظن قارئ طرابيشي أنه أبعد ما يكون عن التأثر بالمستشرقين، ولكن إذا علمنا الجذور الأصولية للاستشراق الذي يمثل الوجه العلمي للأصولية الغربية، وظهرت لنا غاية طرابيشي من كتابه “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث“، وهي غاية أصولية لنفي عموم الرسالة المحمدية لجميع البشرية، ولنفي الصفة التشريعية للسنة النبوية والتشكيك في صحتها، فلا عجب أن تجتمع الأصوليتان ولو بشكل خفي وباطني.
وحتى نبين للقارئ الكريم بطلان نظريات المستشرقين وتلميذهم النجيب طرابيشي بخصوص اختلاق علماء الحديث للأسانيد والأحاديث، أذكر ملخصًا لرد البروفسور الأعظمي –رحمه الله – على شاخت وغيره:
- بدأ استعمال الإسناد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد استعمله بعض الصحابة لنقل الأحاديث النبوية في ذلك الوقت.
- لم ينتخب المستشرقون لدراسة ظاهرة الإسناد المجال المناسب، فكتابات المجتهدين والفقهاء ليست مكانًا صحيحًا لدراسة ظاهرة الإسناد، وكذلك كتب السيرة لا تفي بالغرض، فيجب أن تدرس الأحاديث والمسائل المتعلقة بها في كتب الأحاديث نفسها، لا في كتب السيرة، ولا في كتب الفقه، ولا الكتب الفقهية الحديثية؛ كموطأ مالك مثلًا.
- وجود الأعداد الكبيرة من الرواة – مع انتمائهم لعشرات المدن المترامية الأطراف – تجعل كلًّا من نظرية القذف الخلفي للأسانيد والاختراع الاصطناعي للأسانيد غير قابلة للالتفات، وعملية نادرة الوقوع.
- لم يكن هناك تطور أو تحسين في الأسانيد، وحتى ما كان من رفع للموقوف أو وصل للمرسل لم يخف على المحدثين، فقد كانوا متيقظين جدًّا، فنقدوه، وبينوا ما فيه، وأما القول: إنهم كانوا ينتقدون الحديث إذا كان في مصلحة المدرسة الفقهية المعارضة، فهو ادعاء كاذب لا يستند إلى دليل، بل يخالف الواقع.
- حسب نظرة المحدثين، لا يقبل الحديث ولو كان متنه صحيحًا، إذا كانت أسانيده موضوعة أو ضعيفة، ولذلك لابد لقبول الحديث من صحة الإسناد والمتن جميعًا.
- ليس هناك أي سبب وجيه لرفض سلسلة الإسناد، بل الدراسة تؤكد بأن هذا المنهج يحمل في طياته كل عناصر الأصالة والصحة، وتحتم قبولها بصفة عامة.
- قام المحدِّثون بنقد المتون والأسانيد بكل ما كان في وسعهم وبكل جرأة وإخلاص.
- كتب الحديث تهيء الفرصة لإجراء كافة البحوث والدراسات، وتتحمل كل أنواع النقد المبني على العلم والإنصاف لا على الجهل والحقد[26].
- تساءل البرفسور الأعظمي: إذا كانت الأسانيد مخترعة من أعلى لأسفل، لماذا يختار بعض الرواة أن يلصقوا أحاديثهم المخترعة برواة ضعفاء، ولم يلصقوها بشيوخ كانوا في أعلى درجات التوثيق[27].
- إن كثيرًا من الأحاديث مضمونها وموضوعها مشتركة بين مختلف الفرق الإسلامية؛ كالخوارج والمعتزلة والزيدية والإمامية بعد انشقاقهم عن أهل السنة، فإذا كانت الأحاديث مخترعة في القرن الثاني والثالث، كيف اتفق عليها المختلِفون؟!![28].
ومن باطنية الاستشراق الباطني مهاجمة طرابيشي لبعض آراء المستشرقين، ليوهم القارئ أنه ناقد لهم وفي ذات الوقت يطعن في علماء الحديث بما هو أشد مما قاله المستشرقون، فيرد على جولدزيهر الذي طعن في السنة؛ لأن تدوين الحديث إنما كان في القرن الثاني: (أن الفكرة نفسها وجدت بين المستشرقين نصيرًا متحمسًا لها في شخص جولدزيهر الذي حامى بقوة في الجزء الثاني من كتابه “دراسات إسلامية” عن نقلة النقلة الفجائية من طور الرواية الشفهية للحديث إلى الطور التدوين الكتابي في الفترة الحاسمة الممتدة ما بين منتصف القرن ومنتصف القرن الثالث للهجرة)[29]، فمن يقرأ ظاهر نص طرابيشي يظنه ضد آراء المستشرقين، ولكن طرابيشي يخالفهم ليزايد عليهم، فمصنع التجميع بدأ ينافس مصنع الأصل، فهو يرى أن تدوين الحديث بدأ مبكرًا، ولكن الذي حصل أنه تضخم بفضل عملية الاختراع والتدليس[30].
- الانفصام المعرفي: دراسة كتاب “الفلاحة النبطية” نموذجًا.
ضمن حلقات مسلسل (نقد النقد) لبطله جورج طرابيشي تطل علينا حلقة استثنائية بعنوان الموروث القديم “الفلاحة النبطية” نموذجًا[31]، ومن المعلوم للمشاهد العربي الذي تابع حلقات هذه الدراما الممتدة لربع قرن من الزمان، وبحلقاته التي فاقت أرقامها المسلسلات المكسيكية، أن سبب إنتاجها مماحكة طرابيشي للراحل الجابري، وهذه الحلقة الاستثنائية يصفها بطل المسلسل بقوله: (الجابري لم يكتب مثلًا، سوى نصف صفحة لا أكثر، لـ “يهرمس” كتاب الفلاحة النبطية لابن وحشية ولينسبه إلى علوم “العقل المستقيل”، وهأنذا أكتب نحوًا من تسعين صفحة لأعيد بناء هذا الأثر النادر من الموروث القديم في عقلانيته العلمية السابقة لأوانها تاريخيًّا)[32]، ومع التقدير المعرفي للجهد العلمي الذي بذله الأستاذ طرابيشي في دراسة الكتاب، وتتبع الدراسات العربية والاستشراقية حوله، وتحليله تاريخيًّا ومعرفيًّا، لكن من حق قارئ طرابيشي أن يتساءل: هل ناقد المعرفة مصاب بانفصام معرفي، فيرى في كتاب “الفلاحة النبطية” أثرًا نادرًا ويصفه بالعقلانية العلمية السابقة لتاريخها، بينما كتب علماء الحديث أصحاب الفكر المنهجي، والذين سبقوا أمم الدنيا كلها في علم الإسناد ودراسة الأحاديث لا علمية ولا عقلانية، بل ومزوّرة، وتروي الكذب بطريقة بعدية من أعلى لأسفل، وبينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم فاصل زمني واسع أدى للكذب والاختلاق، بينما لم ينتبه للفاصل الزمني بين المؤلف والمترجم في كتاب الفلاحة؟!!
و بحسب قانون الرواية الذي وضعه طرابيشي: إن الرواية حتى تقبل لا بد أن تكون من أسفل لأعلى، فهل طبّق قانونه على كتاب الفلاحة، وبحسب السبب البيلوجي لقانون النسيان الذي ترافع فيه طرابيشي ضد المحدثين، هل تعطل القانون عند دراسة كتاب الفلاحة، وهل المنهجية العلمية الموضوعية يمكن أن يكون صاحبها مصابًا بانفصام معرفي فيطبقها في مجال علمي دون غيره، وما سر إعجاب طرابيشي بكتاب الفلاحة وبمؤلفه وبمترجمه؟!
وحتى لا يعجل القارئ الكريم علينا بالإجابة عن هذه الإشكاليات، أعرض بعض ما ذكره الأستاذ طرابيشي تعريفًا بالكتاب، الذي ترُجم في سنة 291ه، و جاء في مقدمته: هذا كتاب الفلاحة النبطية، نقله من لسان الكسدانيين إلى العربية أبو بكر أحمد بن علي بن قيس الكسداني المعروف بابن وحشية، وأملاه على أبي طالب أحمد بن الحسين الزيات في سنة ثماني عشرة وثلاثمائة من تاريخ العرب من الهجرة[33]، وهو كتاب في الفلاحة وليس من كتب “السحر والطلمسات” كما يدعي الجابري، وكتب باللغة الأرامية الشرقية[34]، وأما مؤلف الكتاب فهو “قوثامي” الذي يذكر أنه ألف كتابه في بابل وهو في الستين من العمر، ورغم اعتراف طرابيشي أن المسافة المعلقة فوق التاريخ بسبب اختلاف الباحثين لتاريخ كتاب “الفلاحة النبطية” تمدد إلى ما يناهز الخمسة والعشرين قرنًا[35]، وبعد مساجلاته معهم، وصل لنتيجة قطعية أنه كتب في النصف الثاني من القرن الثاني للميلاد[36]، وترجمة الكتاب كانت ضمن مشروع المترجم ابن وحشية لإحياء تراث أجداده، فيقول: (إن قصدي الأول وغرضي إنما هو إيصال علوم هؤلاء القوم – أعني: النبط الكسدانيين منهم – إلى الناس وبثها فيهم ليعلموا مقدار عقولهم ونعم الله عندهم في إدراك العلوم النافعة الغامضة واستنباط ما عجز عنه غيرهم، … فلما رأيت ذلك اجتهدت في طلب كتبهم فوجدتها عند قوم هم بقايا الكسدانيين وعلى دينهم وسنتهم ولغتهم …. وكان الله عز وجل قد ترزقني قبل ذلك من المعرفة بلغتهم التي هي السريانية القديمة، ما لم أره مع كثير أحد، وذلك أنني منهم أعني من نسل بعضهم)[37].
وإذا عدنا لتباكي طرابيشي على المسافة الزمنية بين ما كتبه علماء الحديث في القرن الثاني والثالث للهجرة بقوله: (فإننا لا نملك حديثًا واحدًا نستطيع أن نقول: إنه قاله الرسول من دون فاصل زمني، بل جميع ما في متاحنا من الأحاديث، وهي تعد بعشرات الألوف……..فلنا أن نقول: إن مسافة زمنية لا تقل عن أربعة أجيال تفصل بين “قال الرسول” و”قال… قال الرسول”)[38]، فهنا يحسب المسافة الزمنية بأجزاء من الثانية؛ ليبطل جهود علماء الحديث في الحفاظ على السنة النبوية، أما عند دراسته لكتب الفلاحة النبطية، فيعطل كل أدوات حساب المسافة الزمنية، برحلة فضائية تخترق كل قوانين الزمن، فإذا حسبنا المسافة الزمنية -بحسب عداد طرابيشي- بين ابن وحشية الذي ترجم الكتاب سنة 291ه، وبين تاريخ تأليف “غوثامي” للكتاب في منتصف القرن الثاني ميلادي، ولو قلنا على سبيل المثال: سنة 150 م، فإن المسافة الزمنية تقارب ثمانية قرون ما بين المترجِم والمؤلف، ومع ذلك فإن الحس النقدي لطرابيشي يتخدر، ولغة الزمن والأرقام تتوقف، فالفارق الزمني بين علماء الحديث وروايتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تتجاوز 300 سنة بأعلى تقدير، وهي موثقة برواية المؤلف عن شيخه وهكذا بذكر أسماء الرواة حتى تصل للصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم رواة معروفون وسيرتهم الذاتية معلومة ومكشوفة للباحثين، وشروط قبول روايتهم وضعت في أعلى درجات المنهجية والانضباطية؛ من اتصال السند، ووثاقة الرواة، وخلوها من الشذوذ والعلل الخفية، ومع ذلك فإن طرابيشي يطعن بها ويشكك في صحتها، أما كتاب “الفلاحة” فلا يُعلم كيف وصل للمترجم بعد هذه القرون الطويلة، ولم يذكر لنا ابن وحشية اسم رجل واحد بينه وبين “قوثامي” ولو كان مجهولًا، وما هي النسخة المعتمدة التي اعتمدها ابن وحشية، وكيف عثر عليها من ركام تاريخ الأنباط الطويل، زد على ذلك إشكاليات الترجمة بعد هذه الفترة الطويلة – وطرابيشي المترجم أعلم الناس بها – ومع كل ذلك ينافح طرابيشي عن الكتاب ويقطع بنسبته لمؤلفه ولا يحرك ساكنًا في نقده، فإذا قوائم الأسانيد التي يرى أنها شكلية وبعدية عند نقده لكتب الحديث، لا تعني له شيئًا، ويغض الطرف عنها، ويسلم عقله للمجهول، وكل ذلك باسم المنهجية العلمية والنقد المعرفي، فالمنهجية العلمية التي يدعيها طرابيشي منهجية هلامية، تعمل متى يريد وتتعطل إذا أراد، وإذا بصاحبنا الناقد المعرفي يصاب بانفصام نقدي، وكأن طرابيشي ليس هو طرابيشي!!
ويبقى السؤال: لماذا أعجب طرابيشي بابن وحشية وبمشروعه التراثي؟
والجواب: لأنه (يمثل حالة نموذجية لمثقف ينتمي إلى شعوب البلدان المفتوحة التي انتهت إلى اعتناق ديانة الفاتحين بدون أن تقطع مع تاريخها ما قبل الفتح، وبدون أن تعتبر تراثها الثقافي لما قبل الإسلام “جاهلية” يتعين التنكر لها[39]).
وإذا عدنا للتحليل النفسي الذي علمنا إياه طرابيشي، نجد أن ابن وحشية يقوم بدور المترجم المثقف صاحب المشروع، وأنه متخصص في ترجمة كتب “قوثامي”، ويقابله جورج طرابيشي المثقف المترجم وصاحب المشروع والمتخصص في ترجمة كتب فرويد، فأسقط طرابيشي شخصية ابن وحشية على شخصيته، لتكتمل فصول دراما “نقد النقد” بمؤثر نفسي ليجذب عددًا أكبر من المشاهدين، ولينتصر بطل “نقد النقد” على خصمه اللدود الجابري، لقد كان يمكن للناقد المعرفي أن ينقد طروحات الجابري حول “الفلاحة النبطية” بسطور قليلة ليثبت رأيه العلمي في الكتاب، لكن فن المماحكة الذي أبدع طرابيشي بالقيام به، وبحيلة إسقاط “ابن وحشية” على شخصية طرابيشي، أو قُلْ: تقمص طرابيشي لشخصية “ابن وحشية” جعلته يعيش الدور الدرامي فينسى الدور النقدي الذي يدعيه، فيتغاضى عن فترة انقطاع قاربت ثمانية قرون، ويوسع دائرة البحث والنقد لحديث منقطع بين الإمام مالك وبين النبي صلى الله عليه وسلم، يقارب قرنًا من الزمن!!
لكن ابن وحشية كان وفيًّا لتراث قومه، معتزًّا بهم، ولا يتنكر لعلومهم، منسجمًا مع نفسه، أما صاحبنا يشطب تراث قومه، ويتنكر لهم، ذو شخصية أصابها انفصام معرفي.
ـــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
[1] نقد نقد العقل العربي، بيروت، دار الساقي، الطبعة الأولى، 2004م، ص 32.
[2] انظر: طرابيشي، جورج طرابيشي، نقد نقد العقل العربي، ص 52.
[3] الأعظمي، محمد مصطفى الأعظمي، دراسات في السنة النبوية، المكتب الإسلامي، بيروت، 1992 (2/ 447).
[4] نقله الأعظمي، دراسات في السنة النبوية (2/ 447).
[5] من إسلام القرآن ص 508، هامش رقم (73).
[6] انظر: السكران، إبراهيم عمر، “التأويل الحداثي للتراث – التقنيات والاستمداد”، الرياض، دار الحضارة، 1435 ه – 2014م، ص 231، حيث فند بطريقة علمية منهجية تفكيكية هذه الدعاوى، وأما ما ذكر من تهويلات حول المحنة فإن علماء المسلمين؛ كالإمام الذهبي نقدوها قبل المستشرقين، وقبل صاحب مصنع التجميع جورج طرابيشي.
[7] من إسلام القرآن ص 90.
[8] من إسلام القرآن ص 90 – 91.
[9] انظر: الأعظمي، محمد مصطفى الأعظمي، دراسات في الحديث النبوي (2/ 416).
[10] نقله: الأعظمي، محمد مصطفى الأعظمي، دراسات في الحديث النبوي ص 416.
[11] نقله: الأعظمي، محمد مصطفى الأعظمي، دراسات في الحديث النبوي ص 422.
[12] نقله: الأعظمي، محمد مصطفى الأعظمي، منهج النقد عند المحدثين – نشأته وتاريخه، مكتبة الكوثر، الرياض، الطبعة الثالثة،1990. ص 134.
[13] العقيدة والشريعة في الإسلام، جولد تسيهر، نقله للعربية وعلق عليه محمد يوسف موسى وآخرون، دار الكتب الحديثة بمصر، الطبعة الثانية، 1959م. ص 49 – 50.
[14] من إسلام القرآن ص 379.
[15] من إسلام القرآن ص 203.
[16] من إسلام القرآن ص 250.
[17] من إسلام القرآن ص 547.
[18] من إسلام القرآن ص 271.
[19] من إسلام القرآن ص 582.
[20] من إسلام القرآن ص 575.
[21] انظر: من إسلام القرآن ص 9.
[22] من إسلام القرآن ص 379.
[23] انظر: السباعي، مصطفى السباعي، السنة ومكانتها في التشريع، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، ص 221، في معرض رده على المستشرق جولدتسيهر الذي زعم أن الأحاديث كانت بسبب تطور المسلمين!!
[24] انظر: الأعظمي، دراسات في السنة ج2 من ص 471 إلى ص 601.
[25] دراسات في الحديث النبوي، (2/ ص 437).
[26] انظر: الأعظمي، دراسات في الحديث النبوي، (2/ ص 436 – 437).
[27] انظر: المصدر السابق ص 431.
[28] انظر: المصدر السابق ص 431.
[29] إشكاليات العقل العربي، دار الساقي، 1998م، ص 15.
[30] انظر: المصدر السابق ص 29 وما بعدها.
[31] كما عنون طرابيشي.
[32] نقد نقد العقل العربي، العقل المستقيل في الإسلام، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 2004 م، ص 9.
[33] انظر: طرابيشي، العقل المستقيل في الإسلام، ص 193.
[34] انظر: المصدر السابق ص 187.
[35] انظر: المصدر السابق، ص 203.
[36] انظر: المصدر السابق 209.
[37] المصدر السابق، ص 196.
[38] من إسلام القرآن ص 203.
[39] العقل المستقيل، ص 195.