تفاضل الصفات: مبحث في دلالة الألفاظ ورد التأويل
كلُّ موصوف بصفات لا بدّ أن تتفاوت في حقِّه بحسب الغرضِ منها، وما يدل عليه الوضع اللغويّ لها، وما تتحمله الكلمة في سياق معيَّن، ومبحث الصفات الإلهية من المباحث التي خفضت فيها الفرق الإسلامية ورفعت بين منكرٍ لها ومثبتٍ ومتأوِّل، ومن الأمور التي تنازع الناس فيها قديمًا قضية تفاضل الصفات بعضِها على بعض.
وقد نازع في هذا بعض المتكلمين، وحملوا كلام أئمة السّلف على المنع من تفضيل الصفات فيما بينها، وجعلوا التفاضل لا يقع إلا بين المخلوقات، وأن التفضيل يلزم منه التنقيص، والصفات بالنسبة للباري سبحانه وتعالى واحدة، وقد رام أصحاب هذا القول من خلاله تأويل الصفات، وبعضهم التزم بأصله في نفي الصفات، فرفض بناءً على ذلك تفاضلها، فالأشاعرة حين جعلوا الكلام معنًى قائمًا بالذات، وجعلوه قديمًا ليس فيه حادث، فإنَّه أشكل عليهم وجود بعض الآيات التي تدلّ على أنّ بعضه أفضل من بعض، فلزمَهم أن يحملوها على معنى معيَّن، وأنَّ هذا بالنسبة للأجر، أما الصفة ففي نفسها لا تتفاضل، وكون القرآن أفضل من التوراة وفيه ما ليس في التوراة مع أن الجميع كلام الله فهذا أيضا مشكل، والصحيح أن الصفات تتفاضل فيما بينها، والصفة المفضولة ليست صفة نقص بل هي صفة كمال، وقد دلَّ على ذلك الكتاب والسنة، قال عليه الصلاة والسلام: «لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي»([1])، قال ابن تيمية رحمه الله: “وصف رحمته بأنها تغلب وتسبق غضبه، وهذا يدل على فضل رحمته على غضبه من جهة سبقها وغلبتها”([2]).
وقوله عليه الصلاة والسلام: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»([3])، قال شيخ الإسلام: “وأما استعاذته به منه فلا بد أن يكون باعتبار جهتين: يستعيذ به باعتبار تلك الجهة، ومنه باعتبار تلك الجهة، ليتغاير المستعاذ به والمستعاذ منه؛ إذ إن المستعاذ منه مخوف مرهوب منه، والمستعاذ به مدعوٌّ مستجار به ملتجأ إليه، والجهة الواحدة لا تكون مطلوبة مرهوبا منها، لكن باعتبار جهتين تصح”([4])، “ومعلوم أنَّ المستعاذ به أفضل من المستعاذ منه”([5]).
والأشعري وإن كان مذهبه في الكلام عدم تفاضل الصفات؛ فإن هذا المذهب لم يطرده في جميع أقواله، بل يرى تفاضل الصفات فيما بينها، وقد حرر شيخ الإسلام ابن تيمية مذهب الأشعري في المسألة فقال: “النقل عن الأشعري في نفي تفاضل الصفات غير محرر، فإن الأشعري لم يقل: إن الصفات لا تتفاضل، بل هذا خطأ عليه، ولكن هو يقول: إن الكلام لا يدخله التفاضل كما لا يدخله التماثل؛ لأنه واحد عنده لا لما ذكر، وأما الصفات المتعددة فإنه قد صرح بأنها ليست متماثلة، ومذهبه أن الذات ليست مثل الصفات، ولا كل صفة مثل الأخرى، فهو لا يثبت تماثل المعاني القديمة عنده، فكيف يقال على أصله ما يوجب تماثلها، وإذا امتنع من إطلاق التفاضل فهو كامتناعه من إطلاق لفظ التماثل، وكامتناعه من إطلاق لفظ التغاير. وفي الجملة فمن نقل عنه أنه نفى التفاضل وأثبت التماثل فقد أخطأ؛ لكن قد لا يطلق لفظ التفاضل كما لا يطلق لفظ التماثل، لا لأن الصفات متماثلة عنده؛ بل هو ينفي التماثل لعدم التعدد، ولعدم إطلاق التغاير كما يقال: هل يقال: الصفات مختلفة أم لا؟ وهل هي متغايرة أم لا؟ وهل يقال في كل صفة: إنها الذات أو غيرها أو لا يجمع بين نفيهما وإنما يفرد كل نفي منهما أو لا يطلق شيء من ذلك؟ فهذه الأمور لا اختصاص لها بهذه المسألة مسألة التفضيل”([6]).
وقد جنح الغزالي -رحمه الله- وهو من أساطين الأشعرية إلى القول بتفاضل الصفات فيما بينها، بل وتفاضل الكلام، وجعل عدم العلم بذلك دليلا على طمس البصيرة، كما بين جهة التفضيل فقال رحمه الله: “لعلك تقول: قد توجه قصدك في هذه التنبيهات إلى تفضيل بعض القرآن على بعض، والكل قول الله تعالى، فكيف يفارق بعضها بعضًا؟! وكيف يكون بعضها أشرف من بعض؟! فاعلم أن نور البصيرة إن كان لا يرشدك إلى الفرق بين آية الكرسي وآية المداينات، وبين سورة الإخلاص وسورة تبت، وترتاع من اعتقاد الفرق نفسك الخوارة المستغرقة بالتقليد، فقلِّد صاحب الرسالة صلوات الله وسلامه عليه، فهو الذي أنزل عليه القرآن، وقد دلّت الأخبار على شرف بعض الآيات، وعلى تضعيف الأجر في بعض السور المنزلة”([7]).
والقاعدة في الباب: أن كلام الله يتفاضل بحسب المخبَر عنه، فإذا كان المخبر عنه هو رب العالمين فإن الكلام بهذا الاعتبار أفضل من غيره، وإذا كان المخبر عنه أهل الجنة وأهل النار فإنه يتفاضل من هذه الحيثية، وهذا أمر معروف مطروق عند أهل العلم([8]).
وقد قال الله عز وجل: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُون} [الزمر: 55]. فدلَّ على أن فيه حسنا وأحسن.و
القاعدة في هذا الباب أيضًا عدم التكلف، وإحسان الظن برب العالمين وبكتابه، والتَّبَيُّن من مراده سبحانه، كما أنه لا يمكن العدول عن ظاهر نصوص الوحي إلى ما تمليه محالات العقول ومحاراتها؛ بل الأصل المتمسك به هو الظاهر، ولازم الوحي الصحيح لازم؛ لأن الله بكل شيء عليم، ولا يعجزه شيء، فلو أراد معنى لم يعجزه التعبير عنه، فكل معاني القرآن مرادة، وما كان مشكلا بينه النبي صلى الله عليه وسلم، وما ليس كذلك فقد بقي على حاله، لكن من كان في قلبه أدنى شك وريب من الكتاب؛ فإنه يقع له من الانحراف عن الحق بقدر ما في قلبه، وأما المؤمنون فإن الوحي لا يزيدهم إلا إيمانا.
ــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) جواب أهل العلم والإيمان (ص: 90).
([4]) جواب أهل العلم والإيمان (ص: 90).
اشكر لكم جهودكم المبذولة في هذا الصدد ..
ولكني اتمنى ان تتطرق بحوثكم الشأن العام والداخلي الاسلامي الدارج في مثل الوقت ..
تغيير الهوية الإسلامية بطرق جديدة مغايرة لمنهج السلف الصالح ..
ودمتم بخير