الأربعاء - 15 شوّال 1445 هـ - 24 ابريل 2024 م

السلفية ليست رديفا للظاهرية

A A

السّلفية تعني اتِّباع الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، وهي بهذا المعنى تمثّل الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وتَمَثَّلَهُ الصحابة -رضون الله عليهم- في تصرفاتهم وواقع حياتهم. ومن نافلة القول أن يؤكَّد على أسبقيتها للمذاهب الفقهية أيًّا كانت، فقد كان الأئمة -رضوان الله عليهم- على منهج الصحابة في الفقه والتفقُّه، لم يخرجوا عنهم في شيء من ذلك، بل كانوا يعدُّون الخروج عن منهج الصحابة من الضلال.

 وقد ساعد اطِّلاع الأئمة على مذاهب الصحابة وفتاواهم على تشكيل رؤية علمية متكاملة عندهم عرفت فيما بعد بالمذهب الذي هو عبارة عن طريق الاستنباط التي يتبعها الإمام في فتواه واستدلالاته؛ ولهذا عظّم الناس الأئمة واتّبعوهم، فلم يكن أحد من العلماء -سواء من المعتنين بالفقه أو الحديث- يرى في التمذهب بمذهب إمام من الأئمة منقصةً أو مخالفةً، فاتبعوا مذاهبهم واستدلّوا لها ونصروها؛ فهذا الإمام ابن عبد البر -وهو إمام من أئمة الحديث، ومن أكثر من تكلم عن التقليد ونبذه في كتابه “جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في رواية وحمله”- قد ألف كتابا في نصرة مذهب الإمام مالك وقال عنه: “فإن بعض إخواننا من أهل الطلب والعناية والرغبة في الزيادة من التعلم سألني أن أجمع له كتابًا مختصرًا في الفقه يجمع المسائل التي هي أصول وأمّهات لما يبنى عليها من الفروع والبينات في فوائد الأحكام، ومعرفة الحلال والحرام يكون جامعًا مهذَّبا، وكافيًا مقرَّبًا، ومختصرا مبوَّبًا، يستذكر به عند الاشتغال، وما يدرك الإنسان من الملال، ويكفي عن المؤلفات الطوال، ويقوم مقام المذاكرة عند عدم المدارسة، فرأيت أن أجيبه إلى ذلك؛ لما رجوت فيه من عون العالم المقتصر ونفع الطالب المسترشد؛ التماسا لثواب الله عز وجل في تقريبه على من أراده، واعتمدت فيه على علم أهل المدينة، وسلكت فيه مسلك مذهب الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس رحمه الله”([1]).

وكذا ابن تيمية رحمه الله، فقد كان حنبليًّا لا يجد غضاضة في الانتساب للمذهب وتسمية أهله بالأصحاب([2]). وإمام المحدثين الحافظ ابن رجب الحنبلي كان منتسبًا لمذهب الإمام أحمد، والحافظ الذهبي من أئمة الشافعية، وقد نص على اتباع المذاهب وتبنِّيها، وبيَّن المصلحة في ذلك فقال: “ولم يبقَ اليومَ إلا هذه المذاهب الأربعة، وقلَّ من ينهض بمعرفتها كما ينبغي، فضلا عن أن يكون مجتهدًا، وانقطع أتباع أبي ثور بعد الثلاث مئة، وأصحاب داود إلا القليل، وبقي مذهب ابن جرير إلى ما بعد الأربع مئة”([3]).

فلم تكن السلفيّة في أيّ مرحلة من مراحها تشكِّل بديلًا عن المذاهب ولا عداءً لها، ولا كانت قسيمًا للمذاهب الفقهية الأربعة، فقد امتاز المنهج السلفي بجعل التمذهب نوعًا من الترقّي الواعي في إدراك النصوص الشرعية والطريق إلى الاجتهاد، كما اعتبر التمذهب أداةً لحصر الأقوال المعتبرة في الشريعة مع المحافظة على الأصل في ترتيب الأدلة، وهو أن الأصل المتبع هو الكتاب والسنة والإجماع والقياس ثم ما شهدت به قواعد الشرع والأصول المعتبرة، وتتمّ محاكمة الإمام إلى قواعده وأصوله التي عُهِدَ منه تبنّيها في الاستدلال، فلا يمكن جعل قوله حاكمًا على أصله وقاعدته، وهذا عين ما يفعله أتباع المذاهب من غير السلفيين، فليست كل أقوال الإمام متَّبعة عندهم ولا معتمدة، لكن الفرق بينهم وبين السلفيّين أن السلفيين يتركون قول الإمام عن وعيٍ واجتهاد، بينما غيرهم قد يتركه إلى قول آخَر دونه أو أنزل منه.

كما أنَّ التمذهب كوسيلة علميّة يتبنّاها العالم وطالب العلم ليس رديفًا للتقليد الذي هو حالةٌ تخصُّ العاميَّ ومنقصة في حقّ المشتغلين بالعلم، وهذه ميزة أخرى تميَّز بها أتباع المنهج السلفي حين جعلوا التمذهب طريقًا للترقّي الواعي في مراتب الاجتهاد، وليس أثقالًا توضَع على كاهل الشخص لتُقعِده عند مرحلة التقليد فلا يرتفع إلى سماء بعدها، وأكبر دليل على ذلك واقع علماء السلفية قديمًا وحديثًا، فكلّهم كانوا متمذهبين، وكلُّهم كانوا رافضين للتقليد، فهذا ملمح ينبغي التنبه له، والمعاصرون من السلفية دعَوا لنبذ التقليد، ولم يدْعُوا للخروج عن المذاهب، وأكبر شاهد على ذلك مؤلّفاتهم، فهذا مفتي شنقيط وعلامة قطره الإمام بداه بن البصيري الشنقيطي ألَّف في نبذ التقليد، ولكنه لم يدعُ إلى ترك المذهب، وهو علامة سلفيٌّ شهير، ويمكن لكلّ محب للاطلاع أن يراجع كتابه الموسوم بـ: “أسنى المسالك في أن من علم بالراجح ما خرج عن مذهب الإمام مالك”([4])، وقبله العلامة السلفي باب ولد الشيخ سيديا صاحب كتاب “إرشاد المقلّدين عند اختلاف المجتهدين”، وكذلك العلامة ابن عثيمين فهو عالم سلفيٌّ معاصر كان مهتمًّا بكتب المذهب الحنبلي وشرحها، واستنبط منها، ولم يكن يعاديها.

لكن المشكلة نشأت عند بعض خصوم السلفية من جهة أنهم جعلوا تمظهرات الظاهرية عند بعض المعاصرين هي ميزة السلفية، وبدؤوا يحطّون عليها كلَّ ما يمكن أن يحطّ على الظاهرية، والحقيقة أن الظاهرية وإن كانت لا تناقض السلفية من كل الوجوه إلا أنها ليست رديفة لها، وقد عجبت من بعضهم حين يصم السلفية ويقول: إنها تصدم ببعض الآراء الفقهية لأئمة المذاهب وذلك لحصرها طريقةَ التفقه في كتب السيد السابق وجماعته، مع العلم أن كتاب “فقه السنة” على جلالته لم يحظ بكل هذا الاعتناء من السلفيين، بل المدرسة التي يشير إليها المؤلف قام رمزها محدِّث العصر محمد ناصر الدين الألباني بتخريج أحاديث الكتاب؛ مما أغاظ حتى مؤلِّفَه، وهذا دليل على أنهم لم يأخذوا كلَّ ما فيه بعين الرضا، وعجبي لا ينقضي أن يصم هذا الرجل السلفية بقلّة الاطلاع وهمُ الذين حقَّقوا كتب الفقه وكتبَ الحديث ممَّا لم يكن للمقلِّدة بها علم ولا لآبائهم، فكيف يصدمون وهم من انفتحوا على تراث السلف وطالبوا بالجمع بين علم المتقدمين والمتاخرين؟!

وخلاصة الأمر: أن الحكم على حراك علميٍّ واسع وممتدّ عبر التاريخ بمظاهر جانبية عند بعض منتسبيه لا يخلو من كسل معرفيّ وفجور في الخصومة، ليس له من مبرر إلا التحمس للنقد ونشوة الانتصار للمذهبية المتوهَّم، فلا توجد معركة حقيقيّة بين السلفية والمذهبية، وإنما توجد هزيمة نفسية عند بعض خصوم السلفية، وسلوك خاطئ عند بعض أتباع السلفية.

ــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) الكافي في فقه أهل المدينة (1/ 137).

([2]) ينظر: مجموع الفتاوى (20/ 202).

([3]) سير أعلام النبلاء (7/ 177).

([4]) ينظر: أسنى المسالك (ص: 120).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

الإباضــــية.. نشأتهم – صفاتهم – أبرز عقائدهم

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من الأصول المقرَّرة في مذهب السلف التحذيرُ من أهل البدع، وذلك ببيان بدعتهم والرد عليهم بالحجة والبرهان. ومن هذه الفرق الخوارج؛ الذين خرجوا على الأمة بالسيف وكفَّروا عموم المسلمين؛ فالفتنة بهم أشدّ، لما عندهم من الزهد والعبادة، وزعمهم رفع راية الجهاد، وفوق ذلك هم ليسوا مجرد فرقة كلامية، […]

دعوى أن الخلاف بين الأشاعرة وأهل الحديث لفظي وقريب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يعتمِد بعض الأشاعرة المعاصرين بشكلٍ رئيس على التصريحات الدعائية التي يجذبون بها طلاب العلم إلى مذهبهم، كأن يقال: مذهب الأشاعرة هو مذهب جمهور العلماء من شراح كتب الحديث وأئمة المذاهب وعلماء اللغة والتفسير، ثم يبدؤون بعدِّ أسماء غير المتكلِّمين -كالنووي وابن حجر والقرطبي وابن دقيق العيد والسيوطي وغيرهم- […]

التداخل العقدي بين الفرق المنحرفة (الأثر النصراني على الصوفية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: بدأ التصوُّف الإسلامي حركة زهدية، ولجأ إليه جماعة من المسلمين تاركين ملذات الدنيا؛ سعيًا للفوز بالجنة، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم تطور وأصبح نظامًا له اتجاهاتٌ عقائدية وعقلية ونفسية وسلوكية. ومن مظاهر الزهد الإكثار من الصوم والتقشّف في المأكل والملبس، ونبذ ملذات الحياة، إلا أن الزهد […]

فقه النبوءات والتبشير عند الملِمّات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: منَ الملاحَظ أنه عند نزول المصائب الكبرى بالمسلمين يفزع كثير من الناس للحديث عن أشراط الساعة، والتنبّؤ بأحداث المستقبَل، ومحاولة تنزيل ما جاء في النصوص عن أحداث نهاية العالم وملاحم آخر الزمان وظهور المسلمين على عدوّهم من اليهود والنصارى على وقائع بعينها معاصرة أو متوقَّعة في القريب، وربما […]

كيف أحبَّ المغاربةُ السلفيةَ؟ وشيء من أثرها في استقلال المغرب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدّمة المعلِّق في كتابِ (الحركات الاستقلاليَّة في المغرب) الذي ألَّفه الشيخ علَّال الفاسي رحمه الله كان هذا المقال الذي يُطلِعنا فيه علَّالٌ على شيءٍ من الصراع الذي جرى في العمل على استقلال بلاد المغرب عنِ الاسِتعمارَين الفرنسيِّ والإسبانيِّ، ولا شكَّ أن القصةَ في هذا المقال غيرُ كاملة، ولكنها […]

التوازن بين الأسباب والتوكّل “سرّ تحقيق النجاح وتعزيز الإيمان”

توطئة: إن الحياةَ مليئة بالتحدِّيات والصعوبات التي تتطلَّب منا اتخاذَ القرارات والعمل بجدّ لتحقيق النجاح في مختلِف مجالات الحياة. وفي هذا السياق يأتي دورُ التوازن بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله كمفتاح رئيس لتحقيق النجاح وتعزيز الإيمان. إن الأخذ بالأسباب يعني اتخاذ الخطوات اللازمة والعمل بجدية واجتهاد لتحقيق الأهداف والأمنيات. فالشخص الناجح هو من يعمل […]

الانتقادات الموجَّهة للخطاب السلفي المناهض للقبورية (مناقشة نقدية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: ينعمُ كثير من المسلمين في زماننا بفكرٍ دينيٍّ متحرِّر من أغلال القبورية والخرافة، وما ذاك إلا من ثمار دعوة الإصلاح السلفيّ التي تهتمُّ بالدرجة الأولى بالتأكيد على أهمية التوحيد وخطورة الشرك وبيان مداخِله إلى عقائد المسلمين. وبدلًا من تأييد الدعوة الإصلاحية في نضالها ضدّ الشرك والخرافة سلك بعض […]

كما كتب على الذين من قبلكم (الصوم قبل الإسلام)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: مما هو متَّفق عليه بين المسلمين أن التشريع حقٌّ خالص محض لله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، فالتشريع والتحليل والتحريم بيد الله سبحانه وتعالى الذي إليه الأمر كله؛ فهو الذي شرَّع الصيام في هذا الشهر خاصَّة وفضَّله على غيره من الشهور، وهو الذي حرَّم […]

مفهوم العبادة في النّصوص الشرعيّة.. والردّ على تشغيبات دعاة القبور

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لا يَخفَى على مسلم أنَّ العبادة مقصَد عظيم من مقاصد الشريعة، ولأجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وكانت فيصلًا بين الشّرك والتوحيد، وكل دلائل الدّين غايتها أن يَعبد الإنسان ربه طوعًا، وما عادت الرسل قومها على شيء مثل ما عادتهم على الإشراك بالله في عبادتِه، بل غالب كفر البشرية […]

تحديد ضابط العبادة والشرك والجواب عن بعض الإشكالات المعاصرة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لقد أمر اللهُ تبارك وتعالى عبادَه أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ومدار العبادة في اللغة والشرع على التذلُّل والخضوع والانقياد. يقال: طريق معبَّد، وبعير معبَّد، أي: مذلَّل. يقول الراغب الأصفهاني مقررًا المعنى: “العبودية: إظهار التذلّل، والعبادة أبلغُ منها؛ […]

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة.. بين أهل السنة والصوفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الناظر المدقّق في الفكر الصوفي يجد أن من أخطر ما قامت عليه العقيدة الصوفية إهدار مصادر الاستدلال والتلقي، فقد أخذوا من كل ملة ونحلة، ولم يلتزموا الكتاب والسنة، حتى قال فيهم الشيخ عبد الرحمن الوكيل وهو الخبير بهم: “إن التصوف … قناع المجوسي يتراءى بأنه رباني، بل قناع […]

دعوى أن الحنابلة بعد القاضي أبي يعلى وقبل ابن تيمية كانوا مفوضة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة إن عهدَ القاضي أبي يعلى رحمه الله -ومن تبِع طريقته كابن الزاغوني وابن عقيل وغيرهما- كان بداية ولوج الحنابلة إلى الطريقة الكلامية، فقد تأثَّر القاضي أبو يعلى بأبي بكر الباقلاني الأشعريّ آخذًا آراءه من أبي محمد الأصبهاني المعروف بابن اللبان، وهو تلميذ الباقلاني، فحاول أبو يعلى التوفيق بين مذهب […]

درء الإشكال عن حديث «لولا حواء لم تخن أنثى»

  تمهيد: معارضة القرآن، معارضة العقل، التنقّص من النبي صلى الله عليه وسلم، التنقص من النساء، عبارات تجدها كثيرا في الكتب التي تهاجم السنة النبوية وتنكر على المسلمين تمسُّكَهم بأقوال نبيهم وأفعاله وتقريراته صلى الله عليه وسلم، فتجدهم عند ردِّ السنة وبيان عدم حجّيَّتها أو حتى إنكار صحّة المرويات التي دوَّنها الصحابة ومن بعدهم يتكئون […]

(وقالوا نحن ابناء الله ) الأصول والعوامل المكوّنة للأخلاق اليهودية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: لا يكاد يخفى أثر العقيدة على الأخلاق وأثر الفكر على السلوك إلا على من أغمض عينيه دون وهج الشمس منكرًا ضوءه، فهل ثمّة أصول انطلقت منها الأخلاق اليهودية التي يستشنعها البشر أجمع ويستغرب منها ذوو الفطر السليمة؟! كان هذا هو السؤال المتبادر إلى الذهن عند عرض الأخلاق اليهودية […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017