حكم تداول كتب الزندقة والسحر والشعوذة وبيعها
لا يخفى على مسلم مطَّلع على الشرع عالمٍ بمقاصده أن الشريعة قاصدة لحفظ العقول وصيانتها عن كلِّ ما يؤثر عليها ويبعدها عن التفكير السليم، ومن ثمَّ وضَّح القرآن مسائل المعتقد، وأمر الوحيُ بالبعد عن الشهوات والشبهات وكلِّ ما يعيق الفكر السليم، وبيَّن سبحانه أنَّ اتباع ما يمكن أن يُفهم فهمًا غير صحيح من الوحي ضلال وفتنة، فكيف بغيره؟! قال سبحانه: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَاب} [آل عمران: 7].
فاتباع المتشابه من الوحي ضلالٌ حذَّر الله منه، وبيَّن خطره وأنه علامَة زيغ، فكيف بالضلال المحض الذي ليس وحيًا بل هو مضاد للوحي؟! ومن هنا ناقش العلماء قضية اقتناء كتب السحر والزندقة والشعوذة وحكم بيعها، ولكي يتضح أمر هذه المسائل لا بد من تبيين بعض الأمور المهمة التي تعين على التصوّر السليم للحكم الفقهي لهذه المسائل:
فأوَّلًا: من القواعد الشرعية المهمَّة: أن ما حرّم تحريمًا ذاتيًّا يحرم ثمنه والانتفاع به، ولم يخصّ من ذلك إلا أبواب محدودة تذكر في كتب الفقه([1]).
ثانيًا: أن الشريعة قد تحرّم الشيء وتحرّم الانتفاع به، وهنا تتعدّد جهة التحريم وتتأكّد، فلا يمكن الخروج عن قاعدة التحريم، وهذا ما ينطبق على قضيتنا محل البحث، فهي محرمة لذاتها، وحرم الانتفاع بها.
ثالثًا: أن ما حرَّمه الشرع قد يكون تحريمه لذاته ولضرر فيه لا يمكن معه بقاؤه، فتحرِّم الشريعة تداوله والانتفاع به، وتطلب إزالته طبقًا للقاعدة الشرعية: “الضرر يزال”([2]).
رابعًا: نصَّ الفقهاء على عدم صحة البيع أو الإجارة على محرمات دون هذه المحرمات التي ذكرنا، فقد قال الخرشي عند قول خليل: “ولا تعليم غناء، أو دخول حائض لمسجد، أو دار لتتَّخذ كنيسة، كبيعها لذلك، وتصدق بالكراء وبفضلة الثمن على الأرجح”. علق الخرشي شارحًا مقصود خليل بقوله: “يعني أن الإجارة على تعليم الغناء لا تجوز، ومثله آلات الطرب كالعود والمزمار؛ لأن ثبوت الملك على العوض فرع ثبوته على المعوَّض، ولخبر: «إن الله إذا حرم شيئًا حرَّم ثمنه»([3])، وكذلك لا تجوز إجارة الحائض على أن تخدم المسجد. نعم إن كانت الإجارة متعلّقة بذمتها فيجوز لها أن تقيم من يخدم المسجد عنها نيابة للضرورة، وكذلك لا يجوز للمسلم أن يكري داره مثلًا لمن يتَّخذها كنيسة أو خمارة، وكذلك بيعها لذلك، ويرد العقد إن وقع، فإن فات باستيفاء المنفعة أو بعضها فالمشهور أنه يتصدَّق بجميع الكراء للفقراء وجوبًا في الإجارة، وبفاضل الثَّمن عن ثمن المثل في البيع؛ بأن يقال: ما يساوي ثمن هذه الدار أو هذه الأرض لمن يتَّخذها كنيسة أو خمارة مثلا فيقال: خمسة عشر، ثم يقال: وما تساوي لو بيعت لمن لا يتَّخذها كنيسة ولا خمارة فيقال: عشرة، فيتصدَّق بالخمسة الزائدة، على ما رجحه ابن يونس”([4]).
وهذا تدليل على أن الأعلى من باب أحرى؛ لأن المنصوصات في قول خليل -آنف الذكر- أخف من السحر والشعبذة، وقد أجمع العلماء قاطبة على حرمة اقتناء كتب السحر والشعوذة والزندقة؛ لأنها محرَّمة لا ينتفع بها في دين ولا في دنيا، وقد نوَّعوا القول في تحريم اقتنائها وبيعها، من ذلك: تصريحهم بحرمة البيع والانتفاع، قال ابن القيم رحمه الله: “وأما تحريم بيع الأصنام فيستفاد منه تحريم بيع كل آلة متخذة للشرك على أي وجه كانت، ومن أي نوع كانت صنمًا أو وثنًا أو صليبًا، وكذلك الكتب المشتملة على الشرك وعبادة غير الله، فهذه كلّها يجب إزالتها وإعدامها، وبيعها ذريعة إلى اقتنائها واتخاذها، فهو أولى بتحريم البيع من كل ما عداها، فإن مفسدة بيعها بحسب مفسدتها في نفسها”([5])، وقال رحمه الله: “إن هذه الكتب المشتملة على الكذب والبدعة يجب إتلافها وإعدامها، وهي أولى بذلك من إتلاف آلات اللهو والمعازف، وإتلاف آنية الخمر، فإن ضررها أعظم من ضرر هذه، ولا ضمان فيها، كما لا ضمان في كسر أواني الخمر وشق زقاقها”([6]).
وإشادة علماء المسلمين بحرق كتب الزنادقة وإتلافها أمر معلوم على مر العصور كما ذكر ذلك ابن الجوزي([7]) وابن كثير([8]) رحمهما الله.
كما نص أهل المذاهب على حرمة تداولها وبيعها، قال النووي رحمه الله: “ولا يجوز بيع كتب الكفر؛ لأنه ليس فيها منفعة مباحة، بل يجب إتلافها… وهكذا كتب التنجيم، والشعبذة، والفلسفة، وغيرها من العلوم الباطلة المحرمة، فبيعها باطل؛ لأنه ليس فيها منفعة مباحة”([9]). وقال الغمراوي: “وَلَا يَصح بيع كتب الْكفْر كالإنجيل، وَكَذَا كتب السحر والتنجيم، بل يجب إتلافها”([10]).
كما نصوا على عدم الضمان فيها؛ لأن المنفعة فيها غير حاصلة، فمن أتلفها أو أحرقها ولو بدون إذن أصحابها فلا ضمان عليه، بل هذا حكمها، قال ابن القيم: “لا ضمان في تحريق الكتب المضلة وإتلافها. قال المروذي: قلت لأحمد: استعرت كتابًا فيه أشياء رديئة، ترى أن أخرقه أو أحرقه؟ قال: نعم، فأحرقه. وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم بيد عمر كتابًا اكتتبه من التوراة وأعجبه موافقته للقرآن، فتمعَّر وجه النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذهب به عمر إلى التنور فألقاه فيه. فكيف لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما صنف بعده من الكتب التي يعارض بها ما في القرآن والسنة؟!”([11]).
والإمام مالك يرى كذلك وجوب إتلافها وعدم صحة الإجارة بها، فقد ذكر ابنُ عبد البَرِّ بسنده إلى ابن خويز منداد قال في كتاب الإجارات من كتابه في الخلاف: “قال مالكٌ: لا تجوزُ الإجاراتُ في شيءٍ من كتب الأهواء والبدع والتنجيم”([12]).
فحاصل الأمر حرمة بيع كتب الزندقة والسحر والشعوذة، ومنع تداولها؛ وذلك للنهي الوارد فيها والضرر الحاصل منها، ثم لإجماع المسلمين على مرّ العصور على إتلافها وحرقها كما هو منهج السلف وسائر الفقهاء، ومما يؤكد هذا المعنى أيضًا أنه لا منفعة فيها مع الضرر المتيقن والنهي الحاصل فيها، فلا نتيجة تنتج عنها، ولا خير يذكر فيها، وفيما أنزل الله من العلم النافع وشرع من العمل الصالح غنية عن الضلال والزندقة، والله ولي التوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: التمهيد (9/ 46)، جامع العلوم والحكم (2/ 157).
([2]) ينظر: الأشباه والنظائر للسيوطي (ص: 84).
([3]) أخرجه ابن حبان (4938)، والدارقطني (2815)، من حديث ابن عباس.
([8]) البداية والنهاية (12/ 76).
([9]) المجموع شرح المهذب (9/ 253).
([10]) السراج الوهاج (ص: 174).