تناقضات الملحدين وتيه البُعد عن الوحي
لم تشهد البشرية في المعتقدات تناقضًا مع الذات كتناقض من ينكر وجودَ الخالق سبحانه؛ إذ في إنكاره مكابرة للعقل ودفع للحس المشاهد، هذا مع ما يؤدي إليه هذا القول من صراع مع جميع الكائنات التي تشهد بخلاف ما تقول بلسان حالها ومقالها. ومن العجب أن القرآن لم يناقش قضية الإلحاد؛ وذلك لأنها لا تستند إلى حجة تستحقّ الرد، وقد اكتفى رسل الله بالتشكيك في التشكيك في وحدانية الله سبحانه وتعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَـمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِين} [إبراهيم: 10].
ولأن البشرية شهدت في بعض عصورها انحطاطًا كبيرًا على جميع المستويات؛ فقد كان من بين مظاهر هذا الانحطاط الأخلاقي والسلوكي والعقلي ظاهرة الإلحاد المقيتة، والتي تبنتها أجيال سئمت الحياة، وفارقت الفطرة بعد مولدها، واستمرأت الخروج على ما تقتضيه خلقة الإنسان وضعفه، فكانوا رمزًا للشذوذ النفسيِّ والتردّي العقلي، فرفعوا عقيرتهم بإنكار الخالق، ولم يتبيَّنوا خلل دعواهم، بل ألجأهم الحماس للفكرة وأعماهم العداء للحق عن التفكير مثنى وفرادى في حقيقة ما يقولون، فوقعوا في شقاء وتناقض.
وأول ذلك: الصراع مع الفطرة السليمة، فالفطرة تقول بوجود خالقٍ للكون، والإلحاد يقول بعدم وجوده! وهنا يقع الملحد في تناقض مع النفس؛ وذلك أن الإنسان بطبيعته مفكّر، ويعتمد التسلسل للأحداث، فجميع المنتجات والمستجدات في حياة الإنسان يؤمن بأنها لم تكن وليدة صدفة ولا نشأت من عدم، فكيف يقبل أن يكون كائن بحجم الكون وسماواته وأرضه ونباته وساكنيه جاء من عدم ونشأ بصدفة؟! وكيف جاءت هذه الصدفة المخالفة للعقل والمنطق؟!
إن الكون بما فيه أعقد وأكثر إحكاما من الهواتف والطائرات، فكيف قَبِل أن يكون على هذا النحو من الفوضى؟!
فهذا أوّل تناقضٍ بينه وبين فطرته، فالأخيرة عندها قاعدة الخلق كدليل على وجود الخالق مسلَّمة تبدأ من هذا الأصل إلى غاية وصولها إلى تلك المخترعاتِ التي تشاهدها ويستعملها الإنسان في قضاء حاجاته اليوميّة.
ثم الفكرة تقول بوجود أولية لكل حادث ونهاية له، والوجود -بما فيه الإنسان- يشهد الفناء في كل يوم بالموت، كما يشهد الحدوث بالحياة، وهذه الثنائية تلزم الفكرة بحقيقة افتقار الإنسان لغيره، وأن ثمة مدبِّرًا وخالقًا لا يمكن تجاهله، “وقد حاول هوكينج أن ينقِذ الملاحدة فيدَّعي أن وجود الجاذبية يفسر وجود الكون، وهذا هراء بكل ما تعنيه كلمة هراء من معنى، فالجاذبية فرع عن وجود الزمان والمكان، فمن خلق الزمان والمكان؟!
وثانيًا: الجاذبية ليست شيئًا وجوديًّا، بل هي وصف لعلاقة الكائنات مع بعضها البعض، فهي فرع عن وجودهم، والقوانين تفسِّر ما يقع ولا تخلُق، فمثلًا قوانين الميكانيكا تشرح عمل السيارة ولكن لا تصنعها، قوانين الرياضيات تشرح كون رصيدي في البنك يزيد ولكن لا تجعل هذا الرصيد يزيد دون تصرف من فاعل حي.
وأما لجوءهم إلى ميكانيكا الكمّ وقولهم: إن في ميكانيكا الكمّ الشيء يأتي من اللاشيء، فاللاشيء الفيزيائي هو شيء في الحقيقة، ولكنه لا يحظى بالطاقة الكافية، فهو دون ثابت بلانك، فمن أين جاء هذا الشيء الفيزيائي الذي دون ثابت بلانك؟! لا زالت السببية قائمة بقوة”([1]).
ومن ناحية أخرى: يتناقض الملحد مع الفطرة في إنكاره لوجود الخير والشر واعتبارهما مفاهيم تواضع عليها البشر، ويمكن تعديلها، وهو ما يجعل الفكرة تعاني حيرة علمية وأخلاقية، كما تعاني ضبابية في التحسين والتقبيح، فالملحد لا يمكن أن يقنع الملحد بمراده؛ إذ لكل منهما فهم للخير والشر يختلف عن فهم الآخر.
ومن تناقضاتهم كذلك: اعتبار الأديان سبب الحروب؛ لأن أغلب الحروب في العالم سببها دوافع دينية على حد زعمهم، والسؤال المحوري: هل بمجرد غياب الدين عن حياة الناس وإنكارهم لوجود الخالق يصبح العالم في رخاء وأمن وتسوده العافية؟!
لا أظن عاقلا يمكن أن يجازف ويجيب على هذا السؤال بـ: نعم، فليس المتدينون هم من صنعوا القنابل المدمرة، ولا من جعلوا البشر حقول تجارب، ولا تعاملوا مع الإنسان على أساس أنه مثل الجهاز أو الفأر يمكن تحطيمه وإجراء تجارب عليه حيًّا كان أو ميّتا.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن من تناقضات الملحدين وعدم جديتهم خلطهم بين الأديان، فالأديان وإن اشتركت في الإيمان بالخالق، لكنها لا تقوم كلها على أساس الإيمان الصحيح الذي يثمر عبادًا صالحين قادرين على إدارة الحياة إدارة سليمة.
ومن تناقضهم: تفسيرُهم بالعامل الواحد، فالقبائل العربية كانت تتقاتَل قبل الإسلام، وكانت على شرِّ حال، ولم تكن على دين. وكثير من الحروب تقع بين أفراد من البشر لا يكون الدين مؤثرا فيها، ولا أحد عواملها، لكن يصرّ الملاحدة على إقحام الدين فيها وجعله سببًا من أسبابها([2]).
وبالجملة: فمعضلة الإلحاد تكمن في التناقض مع الذات، والربط الخاطئ بين الأشياء، مع المكابرة الصريحة للعقل والفطرة.
وقد كان الوحي مدركًا لخطر هذا التصور ودوافعه وكيفية تسربه لأصحابه، فأجاب عنه بكشف خفايا نفوس أهله، ولم يتكلَّف العناء في إبطال دعواهم؛ لظهورها، قال سبحانه: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُون} [المؤمنون: 91]، وقال سبحانه: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُون} [الطور: 35، 36].
ولعل في محاجة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- لمن أنكر الخالق الذي يحيي ويميت ونسب ذلك لنفسه أكبر دليل على تهافت الدعوى وبعدها من منطق العقل؛ إذ تنقض بأوضح دليل وأقربه مما لا يفوت على صاحب الدعوى نفسه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين} [البقرة: 258].
وخلاصة القصة: قال نمرود لإبراهيم: أنا أحيي وأميت، ودعا نمرود برجلين فقتل أحدهما واستحيا الآخر، فجعل القتل إماتة، وترك القتل إحياء، فانتقل إبراهيم إلى حجة أخرى ليعجزه، فإن حجته كانت لازمة لأنه أراد بالإحياء إحياء الميت، فكان له أن يقول: فأحيِ من أمتَّ إن كنت صادقا، فانتقل إلى حجة أخرى أوضح من الأولى، قال إبراهيم: {فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ}، أي: تحير ودهش وانقطعت حجته، فإن قيل: كيف بهت وكان يمكنه أن يعارض إبراهيم، فيقول له: سل أنت ربك حتى يأتي بها من المغرب؟! قيل: إنما لم يقله؛ لأنه خاف أن لو سأله ذلك دعا إبراهيم ربه فكان زيادة في فضيحته وانقطاعه، والصحيح أن الله صرفه عن تلك المعارضة إظهارًا للحجة عليه أو معجزة لإبراهيم عليه السلام، والله لا يهدي القوم الظالمين([3]).
فالملحد ضعيف الحجة، متناقض في الدعوى، لا يمكنه الثبات على قول؛ لأن مبنى مذهبه على الشك واتباع الظن والكفر بالخالق ومناقضة الفطرة السليمة بمحارات العقول وجهالات الفلسفة، والربط الخاطئ بين المحسوس والمغيب، ومدافعة الواقع الذي لا يمكن دفعه.
وقد عمدنا في هذا المقال إلى مناقشة حجج الملحدين من ناحية المنطق والعقل؛ بعيدا عن دعاواهم العلمية واعتمادهم المكذوب على الحقائق، على أمل أن نعيد بسط ذلك في مقال لاحق إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر في الرد على نظريات الإلحاد:
https://vb.tafsir.net/tafsir47592/#.W9C499MzbIU