نظَّارات الحداثة: من تقنيات الحداثيين في قراءة النصوص الشرعية والتراثية
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
المقدمة
المتابع للمنتَج الفكري الحداثي يستطيع بسهولةٍ ملاحظةَ المحاولات الدؤوبة التي يبذلها الحداثيون العرب؛ للولوج عبر الكتابات الفكرية بحمولة مصطلحية ومجموعة مفاهيم خاصّة لكل واحد منهم، والعمل على اصطحاب تلك المفاهيم وضخِّها في مصنفاتهم بشكلٍ استعراضي خاصّ، وبشكل ربما يخالف قواعد اللغة والمعاني الأساسية المعروفة من تلك الكلمات؛ لخَلْق نوع من الإبهار الهوليودي، أو إن شئتَ فقل: «حرب المصطلحات»؛ حتى ينقدح في ذهن المتلقِّي ضخامة تلك المعاني الغامضة، ومن أجل بثِّ روح الهزيمة الثقافية أمام تلك العبارات غير المطروقة في اللسان العربي.
ومن التقنيات -وإن شئتَ فقل: الحيل- التي يستخدمها الحداثيون لترويج منتجهم وتكريس أيديولوجياتهم تقنية تحميل النصّ ما لا يحتمله، وفي هذه الورقة نريد تسليط الضوء على هذه التقنية أو الحيلة؛ ضاربين بسهم في كل من التراث الاستشراقي والتراث البدعيِّ؛ إذ هم قدوة الحداثيين وسلفهم.
فاللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
تمهيد:
اتركوا الناس ودنياهم، يهنؤون بها، لا نريد سماع مواعظكم وتخويفكم بالآخرة!!
أنتم تحدّثوننا عن الموت والقبر والعذاب والويل والهلاك ونحن لا نريد هذا!!
الناس كرهت الإسلام بسببكم يا تجار الدين!! فمتى ما جعتم حلَّ ما تحرِّمون!!
الناس وصلوا إلى القمر وعلماؤكم مشغولون بالحيض والنفاس والبول والنجاسات!!
الغرب جرَّبوا واكتشفوا وأنتم في “قال الله وقال الرسول”!!
لا إخالك بمنأى عن هذه الجمل والتراكيب، والتي ذاعت للأسف وانتشرت بين المسلمين اليوم، ولكن العجب من أن أسلوب الطاعنين في أهل العلم والفضل لم يتغيَّر، بل وأفكارهم وانتقاداتهم -بل قد أقول: وألفاظهم- هي هي، وإن شئت فاقرأ هذه العبارات التاريخية في الطعن لتقف بأمِّ عينيك على المسألة.
قالت اليهود: “جبريل ينزل بالحرب والقتل والعذاب”([1])؛ “إنّه عدونا” أو “عدونا من الملائكة”([2]).
“ما لقُرَّائنا هؤلاء؛ أرغبُنا بطونًا، وأكذبُنا ألسنةً، وأجبُننا عند اللقاء!”([3]).
“اسمعوا؛ فما كلام الحسن وابن سيرين والنخعيِّ والشعبيِّ عندمَا تسمَعون إلَّا خِرَقُ حَيضٍ مَطروحة”([4]).
“إنَّ علم الشَّافعيِّ وأبي حنيفة جُملتُه لا يخرج من سراويل امرأةٍ”([5]).
إن حملة التشويه والطعن والازدراء بالعلماء لردِّ الحق والهدى سنةٌ يهودية ماضية، فهم من أوائل من حفظ لنا التاريخ استهجانهم للعلماء، ودونك قصة الطعنة الأولى من الطعنات التي أوردناها؛ حيث حضرت عصابة من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، حدِّثنا عن خلال نسألك عنهن، لا يعلمهن إلا نبي. فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بكل ثقةٍ أن سلُوا عمَّا شئتم، ولكنه -عليه الصلاة والسلام- كان حريصًا على هدايتهم وإسلامهم، فما كان منه إلا أن انتهز هذه الفرصة، واشترط عليهم إن هو صدق فيما أجابهم أن يصدِّقوه فيما يقول، وهو ما توجبه الفطرة والعقل الناضج.
فقال: «ولكن اجعلوا لي ذمة الله، وما أخذ يعقوب على بنيه، لئن أنا حدثتكم شيئا فعرفتموه، لتتابعُني على الإسلام». فانهالوا يلقون عليه الأسئلة من كل حَدب وصَوب؛ بغية الجواب تارة، وحسدًا وتعجيزًا تارات أخرى، فقالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهنّ: أخبرنا أي الطعام حرَّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ وأخبرنا كيف ماء المرأة وماء الرجل؟ وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبيّ الأمي في النوم ومن وليه من الملائكة؟ فكرر النبي صلى الله عليه وسلم عهده وميثاقه وأبدى وأعاد؛ ليذكرهم به، فقال: «عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعني؟»، فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق.
وهكذا بدأ النبي صلى الله عليه وسلم -بتأييد من المولى الكريم- يسرد لهم الأجوبة جوابًا جوابًا، حتى أقروا بجوابه على كلّ تلك المسائل، وعندها احتالوا بالكيد والمكر كعادتهم في الخيانة بما عاهدوا؛ لئلا يُلزمهم بالدخول في دين الإسلام والرجوع عن دينهم المحرف، فقالوا: أنت الآن تحدثنا من وليِّك من الملائكة، فعندها نتابعك أو نفارقك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإنّ وليِّي جبريل، ولم يبعث الله نبيًّا قط إلا وهو وليُّه». فقالوا بكل وقاحة: فعندها نفارقك، لو كان وليّك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك. قال: «فما يمنعكم أن تصدقوه؟!» فلم يكن عندهم جواب منطقي يردّون به إلا أن قالوا: إنه عدوُّنا!!([6]).
فأنزل الله عز وجل: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 97]. قال أبو جعفر: “أجمع أهل العلم بالتأويل جميعًا على أن هذه الآية نزلت جوابًا لليهود من بني إسرائيل؛ إذ زعموا أن جبريل عدوٌّ لهم، وأن ميكائيل وليٌّ لهم”([7]).
لن نطيل الحديث في قضيّة الازدراء بأهل العلم والفضل؛ إذ هي موضوع واسع، وليس مقصودَنا، ولمركز سلف فيه مقالات قيّمة([8])، ولكن استُخدمت هذه الوسيلة اليهودية من قِبَل مَّن نتحدَّث عنهم وهم الحداثيون، وبذات التقنية التي نتحدَّث عنها، فمطَّطوا النصوص ليؤدلجوها وفقَ أيديولوجياتهم، فقد تحمَّلوا عن المستشرقين مناهجهم وأساليبَهم، وكفوهم مؤونة الطعن والتشكيك في الإسلام وأصوله، وذهبوا يحمِّلون حمولاتهم تلك في نصوص الكتاب والسنة، حتى وإن كانت النصوص لا تحتمل تلك الحمولات، المهمّ أن يتوافق الأمر وأهواءهم وأيديولوجياتهم، حينئذ يكون لزامًا على النص أن يتحمَّله. ومع أن هذا الأمر يقدح في الباحث وأمانته ومنتوجه الفكري، بل وفي أحقيَّته بالبحث، إلا أن الحداثيّين لم يبالوا بذلك، بل كانت سمة من سماتهم وتقنية من تقنياتهم في التعامل مع التراث الإسلامي أو الفكر الإسلامي أو (العقل الإسلامي) كما يحلو لهم أن يسموه.
يبدو لنا هذا جليًّا حين نتأمَّل في صنيع أركون مثلًا، حين نقل عن أبي منصور الثعالبي قوله وهو يتحدَّث عن القاضي التنوخي أبي القاسم علي بن محمد بن داود: “ويحكَى أنه كان في جملة القضاة الذين يُنادمون الوزير المهلبي، ويجتمعون عنده في الأسبوع ليلتين على اطِّراح الحشمة والتبسّط في القصف والخلاعة، وهم ابن قريعة وابن معروف والقاضي التنوخي وغيرهم”([9]).
لقد انطلق أركون من هذا النص الذي أورده الثعالبي ليصوِّر لنا حال العلماء وأفاضل القوم في تلك الحقبة الزمنية، فاستنبط من هذا النص أن علماء ذلك الزمان كلّهم كانوا يقولون ما لا يفعلون، وأنهم في الباطن يختلفون عما هم عليه في حالهم الظاهر، وأنهم أهل مجون وخلاعة وخداع ومكر من الدرجة الأولى، فهم ما بين نفاق وتدليس ورقص ولهو ونساء وليالٍ حمراء!! كل هذه المعاني استنبطها أركون من النص السابق!!!
اقرأ إن شئت نص أركون، يقول: “كان مسكويه يريد التركيز على جانب القدوة والمثل لحياة كبار الشخصيات ولعملها السياسي؛ ولهذا السبب فقد أهمل في تاريخه تمامًا ذكر الحياة اللاهية، حياة العبث والمجون والفسق التي كانت سائدة في قصر هذا الوزير الفطن، والواقع أنه عندما ابتدأ يكتب (تجارب الأمم) كان قد ترك صحبة المهلبي، وأدار ظهره لهذا الماضي الماجن الذي يدينه بكلّ قوة نظرًا إلى أنه قد ساهم فيه واستنفد طاقات شبابه في متعه وملذاته، لكأنه كان يريد أن ينسى ماضيه الماجن البعيد عن الحكمة والرزانة، أو لكأنه كان يريد أن يهرب نفسيًّا من تلك الفترة ويقصّ علينا (تنويخ) بهذا الصدد نادرة مهمة تدلّ على حياة الفسق والمجون التي كانت تغطس فيها حتى الشخصيات الأكثر خطورة وأهمية، يقول:…”، وهنا أورد النص السابق.
ثم قال: “وكما كان عليه الحال أيام وزراء الخلفاء العباسيين، فإنه كان للوزير المهلبي قصر يدعَى دار البركة، وكانت الحفلات والاستقبالات الخاصَّة تتمُّ فيه أيضًا، وقد خلَّف لنا الثعالبي صفحاتٍ رائعةً عن تلك الحفلات والاستقبالات، هناك حيث النساء والموسيقى والشِّعر والخمر والديكور الداخلي والحدائق الغنَّاء والمنظر الجميل على الفرات، حيث كان كل ذلك يتضافر ويتناغم لكي يهيِّج شهوات الجسد، وينسي هذه الشخصيات العظيمة مطالب الروح والفكر. هناك كانوا ينسون كلَّ همومهم ومتاعبهم ويرمون بأنفسهم في عالم الملذات والمتع المادّية، ولكن ذلك لم يكن متاحًا لكلّ الناس، وإنما فقط للشخصيَّات المترفَة ذات الامتيازات والوجاهات (أي: لِعلية القوم)، وكان لهذه الشخصيات وجودان: وجود نهاري ووجود ليلي، وجود علني ووجود سري.
ففي النهار يبدون بمظهر الشخصيات الجادّة الوقورة المسؤولة عن حلِّ مشاكل الناس. وكانوا يحافظون على هذا المظهر الوقور أمام رعيَّتهم؛ لكيلا تزهد فيهم، أو تكفَّ عن احترامها لهم إذا ما عرفت حقيقة أمرهم وكيف يعيشون حياتهم الخاصَّة، ولكن ما إن يخيِّم الليل ويسدل أستاره حتى يصبح القصر معزولًا عن المدينة، وتدخل هذه الشخصيَّات الضخمة في حياة أخرى مختلفة تمامًا، يصبح القصر عندئذ ملكا لمن يستبيحون المتع أو لمن يقدِّمها لهم.
صحيح أن الفكر لم يكن مهجورًا تمامًا، فقد كان الوزراء يخصِّصون بعض الأمسيات للمناظرات العلمية أو السهرات الأدبية والفلسفية، ولكن سهرات اللهو كانت أكثر من سهرات الجدِّ، وكانت الأوقات المجانية تتغلَّب على الأوقات المفيدة، وكان التطرُّف في المتع يتغلب على التعقل والاعتدال.
وهذا التناقض الكامل بين حياتين يبدو غير محتمل، ولا يكاد يُصدَّق لمن ينظر إليه من الخارج، ولكن لا يبدو أنه كان يطرح أيَّ مشكلة بالنسبة لمن يعيشونه ويمارسونه، فقد كانوا منغمسين في هذه الحياة المزدوجة، ولا يشعرون بأي تناقض، فقد كان القاضي الوقور ذو اللحية البيضاء يقضي في المحكمة، ويؤمُّ الصلاة، ويعطي دروسه في الجامع نهارًا، ثم يتحوَّل في الليل دون أيِّ مشكلة إلى شخص ماجن، يغترف اللذات اغترافًا، وكان ذلك يشكِّل تناقضًا صارخًا لا يمكن لأيّ أخلاق صحيحة أن تقبلَه، ويشعر المرء بالحيرة أكثر عندما يعلم بأن أبا سليمان المنطقي -وهو الرجل الوقور والعالم الفذّ والأخلاقي النبيل والزاهد المترفع- كان يلتقي هو والتَّوحيدي بأشخاص من سجستان أقل ما يقال فيهم أنّهم كانوا ذوي أخلاق وضيعة ومنحطَّة! فكيف نفسِّر ذلك؟ ما سرُّ هذه([10]) التناقض الرهيب؟
لن نحاول هنا تفسير سبب هذه الظاهرة أو هذه العقلية التي كانت سائدة في كل الأدب العربي والكلاسيكي، وإنما الشيء المهمّ هو الإشارة إلى أهميتها والتركيز عليها كظاهرة؛ وذلك من أجل أن نفهم كيف أنّ مسكويه قد عاش مدَّة اثني عشر عامًا في مثل هذا الجو”([11]).
قبل كل شيء، ألم يكن عليه أن يتأنَّى وينظر بمعاول حَفره وأركيولوجيته التي يدَّعيها في مصدر هذا النص؟!
لو تريَّث قليلًا لوجد أن المصدر الذي استندَ إليه مع أنه مصدرٌ تاريخي، إلا أنه هو أيضًا ذكره بصيغة التمريض كما هو معروف عند علماء الإسلام؛ ما ينبهنا إلى إشكاليات فيه؟!
ولو تروَّى ونظر وبحث في متن هذا النصّ بعد النظر في السند وقارنه بغيره من المتون والنصوص والمرويات لوجد الحال غير الحال، ولوجد ما تخيَّله هو مجرد مشهَد هوليودي في فيلم متقَن السيناريو.
لن نحاول هنا تفسير اللامبالاة بسند القصة وصحّة مصدرها وتناسق متنها ما دام أنه وافق هوى أركون، فلا تهمُّه صحَّة المعلومة بقدر ما تهمُّه موافقتها لما يهواه؛ ولذا لن نطيل الوقوف عندها، ولكن قل لي بربك:
هل هذه الحالة المخزية التي يصوِّرها أركون للعلماء دلَّ عليها شيء من حروف النص الأصلي المنقول؟!
من أين له أن أهل العلم والفضل كانت لهم السهرات والحفلات والليالي الحمراء التي كانت تدار فيها كؤوس الخمر وتحضرها المومسات والراقصات؟! هل أفاد النص ذلك؟!
من أين له أن الموسيقى كانت حاضرة؟! هل أفاد النص ذلك؟!
من أين له أن الخمر كان يدار بينهم؟! أم كان يخفى عليه أن حِلَّ النبيذ كان سائدًا بين أهل العراق؟!
بل من أين استنبط أن جميع الشخصيات العظيمة كانت تقضِي لياليها في المتع الجسدية حيث تستحلّ ما تقرَّر تحريمه نهارًا على عامة الناس؟!
وهل أفاد النص أنهم كل ليل كانوا في تلك السهرات الخليعة إن كانت هناك سهرات؟! أم النص يدلّ على تبسّطهم في ليلة أو ليلتين؟!
وهل كان في النص أن الشخصيات الهامة من العلماء والقضاة والأئمة كانوا عبارة عن عصابة ماكرة على درجة عالية من الاحترافية في التمويه والخداع والمتاجرة بالدين، فكانوا يتظاهرون به نهارًا ليحقِّقوا مكاسبهم، وما إن يخيّم الليل حتى يظهروا على حقيقتهم ويقبلوا على المجون والفسق والعار، بل كانوا ينغمسون فيها انغماسًا ويغترفونها اغترافًا!!
وارجع البصر وانظر هل في النص أنهم كانوا يقيمون (الحفلات والاستقبالات) التي تضجّ بالموسيقى وتعجّ بالنساء والمومسات والفواحش كما يصوّر أركون!!
ثم ارجع البصر وانظر هل في النص ذكر لأئمة المساجد وأهل العلم والحديث الذين يروون الحديث ويعلمون العلم في المساجد؟! أم أنها من ولع أركون بالحشو وزيادة البهارات وتنزيل حمولاته الفكرية على النص؟!
ولم يذكر الثعالبي لهم شيئًا من ذلك، وإنما ذكر أنهم جميعًا أصحاب لحى بيضاء، فأين التلازم بين أن يكون المرء ذا لحية وبين أن يكون من أهل العلم والفضل؟! أهو جهل من أركون بواقع الناس في ذلك الزمان؟! أم تغافل منه عن أن إعفاء اللحية من عاداتهم التي يتعبَّدون الله بها؟!
وكيف استنبط أن لأهل الفضل والعلم شخصيتين: شخصية ليلية وشخصية نهارية؟! الأولى ماجنة إلى أفجر درجات الفجور، والثانية صالحة وقورة في أعلى مراتب الخيرية والصلاح.
ومن أين له أن الشخصيات الهامَّة أو العظيمة من أهل العلم والقضاة والوزراء كانوا يعانون انفصام الشخصية، والتنوخي عينه من تلك العينات الكثيرة؟! وكأنهم مجبرون على التظاهر بالتدين من أجل المال أو المناصب؟!
هل ذكر الثعالبي كل هذه التفاصيل ليستنبطها أركون ويجعلها الحالة الدائمة أو الظاهرة المستمرة للعلماء كلهم؟!
إننا وإن أقررنا بأن لهم جلسات يتسامرون فيها ويتبسَّطون فيها كما دلَّ عليه النص، إلا أننا لا نستطيع أن نستنبطَ من النصِّ تلك الحالة المزرية التي يصوِّرها أركون لأهل العلم، ناهيك عن أنها صورة واحدة من الصور وفي مؤلَّفٍ واحد فقط، فلم هذا الاختزال؟!
فلو ذهبنا ننقِّب المراجع ونفتّش الكتب الأخرى لوجدناها لم تزد على ما ذكره الثعالبي في كتابه، فمن أين له تلك الزيادات؟! أم أنه يرى أن تلك هي حال كثير من قساوسة النصارى ورهبانهم، وأسقط حكمهم على علماء الإسلام بجامع أن كلًّا منهم أهل دين؟!!
إنك لا تكاد تفرق بين حال هؤلاء العلماء الذين يتكلَّم عنهم وبين حال المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، والذين قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 3، 4]، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 142، 143].
ولا أدري كيف استنبط أركون هذا التعميم على كل العلماء؟!
وعلى فرض أن ما استنبطه العلماء في حال هذا الشخص صحيح، فكيف سوغ له عقله الفذّ أن يجعله حالة عامّةً لجميع علماء ذلك العصر؟!([12]).
يبدو هذا غريبًا كما يقول أركون، ولكنه في الحقيقة ليس بغريب على من كان مثله رضيعًا للمنظومة الاستشراقية، فهو يرنو إلى نزع القداسة والتي قعَّد أسلافه من المستشرقين قواعدَه، فهذا جولد زيهر يقول: “أخبار الروايات التي تبدو في قالب أبعد ما يكون عن الريبة حتى في سيرة الرسول ومغازيه وفي تاريخ الإسلام القديم، تواري في طياتها ميول الأحزاب والاتجاهات المختلفة، وآمال الطبقات المحلية المتنوعة في الأمة الإسلامية الناشئة”([13]).
وحول ذات المستنقع القذر يحوم المستشرقون، فليس هذا بآخرهم، وإن شئت فاقرأ ما يقوله آخر عن الإمام الشافعي الذي أصَّل أصول الفقه وقعَّد قواعد الاستنباط وأحكم أبواب الفهم، ثم يأتي (بروكلمان) ليقول: “مذهب الشافعي لم تكتب له الغلبة لا في الحجاز، وهو موطن أسرته؛ حيث كان لتلامذة مالك شأن كبير، ولا في العراق حيث كانت السيادة لتلامذة أبي حنيفة، ومن هنا حاول أن يضمن لنفسه منطقة نفوذ جديدة في مصر”([14]).
ولن نعدم الأمثلة على هذه التقنية إن بحثنا عنها في إنتاج المستشرقين، ولعلَّنا نتفكَّه قليلًا بما فعله (جولد زيهر) حيث يقول: “ولما رغب الخليفة الأموي عبد الملك في منع الحج إلى مكة؛ لأنه كان متضايقًا من منافسه عبد الله بن الزبير؛ لجأ إلى وسيلة لصرف الناس عن الحج إلى مكة، وذلك بفكرة الحج إلى بيت المقدس، وأن الطواف به يعدّ مثل الطواف بالكعبة، وأنيطت مهمة تبرير هذا الإصلاح الموجّه سياسيًّا للحياة الدينية بالزهري المحدث التقي؛ وذلك باختراع قول ينشر على أنه قول للنبي، وهو أن هنالك ثلاثة مساجد يشدّ الناس إليها الرحال، في مكة والمدينة وبيت المقدس”([15]).
فهذا إضافة إلى كونه زعم أن الحديث من وضع الزهري، فإن الحديث لا يتضمَّن شيئًا مما قاله على فرض أنه موضوع، فليس فيه تزهيد في المسجد الحرام، ولا تهوين من شأنه، بل ولا تفضيل لبيت المقدس ولا لزيارته أو شدّ الرحل إليه على شد الرحل إلى مكة والمدينة، فضلًا عن مشروعية الطواف فيه!! بل ذكر الكعبة فيه مقدَّم على ذكر بيت المقدس كما هو في نص الحديث، إضافة إلى أن الذي بنى قبة الصخرة هو الوليد بن عبد الملك، وكون العلماء لم يذكروا شيئًا عن ذلك الحجّ الذي اخترعه جولد زيهر، ولم يكن عمر الإمام الزهري حين وفاة ابن الزبير ليؤهِّله ليمثل الدَّور الذي اختاره له جولد زيهر، فضلًا عن أنه لم يكن يعرف عبد الملك بن مروان([16]).
وإن شئت فخذ مثالًا آخر من استخدام هذه التقنية من هذا المستشرق، فهو يزعم أن الإمام الزهري اعترف صراحة بأن الخلفاء أكرهوه على وضع الأحاديث والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه استسلم لذلك، ويستشهد بقول الزهري الذي رواه عنه معمر: «إِنَّ هَؤُلاَءِ الأُمَرَاءِ أَكْرَهُونَا عَلَى كِتَابَةِ أَحَادِيثَ».
مع أن نصَّ الإمام الزهري ليس فيه شيءٌ مما عناه جولد زيهر، فهو إنما يتكلَّم عن أنه كان يمتنع عن كتابة الأحاديث ليعتمد تلامذته على ذاكرتهم، فلمَّا أصرَّ هشام على كتابة الأحاديث لولده كتبها وقال مقولته: «يا أيها الناس، إنا كنا منعناكم أمرًا قد بذلناه الآن لهؤلاء، وإن هؤلاء الأمراء أكرهونا على كتابة (الأحاديث)، فتعالوا حتى أحدثكم بها»، فحدثهم بالأربعمائة الحديث([17]).
إذن هذا هو منطلق أركون أو (الأيديولوجية) التي يريد أن يحمِّل النصوص التراثية حمولاتها!!
إن تقنية تمطيط النصوص وتشقيق معاني مفرداتها وتراكيبها -بغيةَ تحميلها الأفكار والأهواء الشخصية أو إسدال أستار الوحي والشرعية على الأفكار والعقائد المسبقة- تقنيةٌ قديمة تجاوزها أهل الإسلام مذ عصور سحيقة، فقد استخدمتها كل طائفة من الطوائف المخالفة لتبرير عقيدتها وفكرها، فالخوارج ركَّزت على آيات الوعيد وأضافوا من أنفسهم معنى زائدًا، وهو خروج كل من ارتكب كبيرة من الإسلام ودخوله في أوحال الكفر، والمرجئة ركَّزوا على نصوص الوعد وأضافوا من أنفسهم أن من آمن فقد وعده الله بالجنة ولا يخرج المرء من دائرة الإيمان وإن فعل ما فعل؛ مبرِّرين بأن الله لا يخلف الميعاد.
وكذلك الحال في غيرهم من فرق الضلال، ويا للعجب! كيف يصرُّ الحداثيون على تكرار ذات الوسيلة لذات الأهداف، فهل كانوا يستقون هذه الأساليب من أهل البدع المتقدمين؟!
ولنأخذ مثالًا آخر من أمثلة الحداثيّين ليتبين لنا مركزية هذه التقنية في الفكر الحداثي، فقد أورد نصر حامد أبو زيد نص الإمام الشافعي في الرسالة حيث يقول: “كل ما سنَّ رسول الله مما ليس فيه كتاب، وفيما كتبنا في كتابنا هذا، من ذِكرِ ما مَنَّ الله به على العباد من تَعَلُّم الكتاب والحكمة: دليلٌ على أن الحكمة سنة رسول الله”([18]).
ويستنتج نصر حامد أبو زيد من هذا النص ما يلي: “وإذا كانت الحكمة هي السنة، فإن طاعة الرسول المقترنة دائمًا بطاعة الله في القرآن تعني اتباع السنة، ولا يمكن الاعتراض على الشافعي بأن المقصود بطاعة الرسول طاعته فيما يبلغه من الوحي الإلهي: القرآن؛ لأنه قد جعل السنة وحيًا من الله يتمتَّع بنفس القوة التشريعية والإلزام.
ولا يمكن الاعتراض أيضًا بأن الفرق بين سنة العادات والتقاليد فرق غير واضح، خاصَّةً مع اتساع مفهوم السنة ليشمل الأقوال والأفعال والموافقات؛ إذ يلجأ الشافعي إلى فكرة (العصمة) التي تمتَّع بها الأنبياء جميعًا ومحمد خاصة؛ ليزيل مثل هذا الاعتراض.
هكذا يكاد الشافعي يتجاهل (بشرية) الرسول تجاهلًا شبه تامٍّ، وتكاد تختفي من نسقه الفكري «أنتم أعلم بشئون دنياكم»([19])، حتى إنه يجعل من مواضعات النظام الاجتماعي السائد -والذي لم يقمه الإسلام- سنةً واجبةَ الاتباع، يجري عليها القياس”([20]).
ولو رجعنا إلى نص الشافعي هناك في الرسالة حين تكلم عن العصمة لا نجد فيه ما يثبت أنه يتجاهل بشرية الرسول عليه الصلاة والسلام كما يدعي نصر حامد أبو زيد، بل إن كلامه عن العصمة أولًا لم تكن فكرة اخترعها من كيسه كما يريد نصر حامد أبو زيد أن يصوِّر لنا، بل هي واردة في كلام الله سبحانه وتعالى، والشافعي ليس إلا مستدلًّا بما هو موجود في كتاب الله تعالى ومستشهدًا به، لا مخترعًا أفكارًا أو معتقدًا اعتقاداتٍ مسبقة ليحمِّلها النص الشرعي كما هو حال أهل الزيغ، ثم ما كلامه عن العصمة وتثبيتها إلا لأنه يعتقد بشرية النبي صلى الله عليه وسلم. أضف إلى ذلك أن الإمام الشافعي لم يقل بأن النبي صلى الله عليه معصومٌ في كل شؤونه الحياتية، وإنما العصمة التي يتحدَّث عنها هي العصمة في تبليغ ما كلِّف بتبليغه، وهداية الناس هدايةَ الدلالة والإرشاد، ويدلّ على هذا المعنى ذات الحديث الذي استدلَّ به نصر حامد أبو زيد على ضدِّه، وهو حديث تأبير النخل، فأقوى النصوص الواردة فيه -والذي قدَّمه الإمام مسلم على غيره من النصوص- هو ما رواه عن موسى بن طلحة، عن أبيه قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل، فقال: «ما يصنع هؤلاء؟» فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أظن يغني ذلك شيئا»، قال: فأخبروا بذلك فتركوه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل»([21]). فالنبي صلى الله عليه وسلم قرر أن الأمور الخاضعة للخبرة والتجربة البشرية يتفاوت الناس فيها، وقد يكون غير النبي صلى الله عليه وسلم أخبَرَ بها، ومن ذلك تدبير شؤون الحياة كتنظيم الأعمال وإدارة المنشآت وبناء المباني وتخطيطها، وهو ما يظهر في أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالشورى في كثير من الأحداث والمناسبات كحفر الخندق في غزوة الأحزاب.
ولكن هذا النص الدالّ على ما استنبطه الشافعي غالبًا ما يُغفَل في النقاشات الحداثية؛ إذ هو لا يخدم ما يرومونه من تهوين أمر النصوص والإطاحة بالسنة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وإنما يقتطعون الرواية الأخرى من الحديث في ذات الواقعة المعيّنة؛ لأنه يخدم مقاصدهم وأغراضهم؛ فهم يريدون أن يجعلوه نصًّا عامًّا وقاعدة مطَّردة في شئون الدين والدنيا!! ألا وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنتم أعلم بأمر دنياكم».
ومن هنا يتبيَّن لنا خلط نصر حامد أبو زيد وتناقضه، حيث قوَّل الإمام الشافعي ما لم يقله في قضية العصمة، ثم زعم إفكًا أن الإمام الشافعي متناقض حيث يقرّ بحجية السنة ثم هو لا يلقي بالًا لحديث «أنتم أعلم بأمر دنياكم»، فحكمه بالتناقض هو التناقض بعينه.
وإن شئت فلنستعرض كلام الإمام الشافعي عن العصمة، والذي عزا إليه نصر حامد أبو زيد استنتاجه، يقول الشافعي: “قال الله -جل ثناؤه- لنبيه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلَا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتِّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الأحزاب: 1، 2]، وقال: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 106]، وقال: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18].
فأعلم الله رسوله مَنَّهُ عليه بما سبق في علمه مِن عِصمته إياه من خلقه، فقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67].
وشهد له -جل ثناؤه- باستمساكه بما أمره به، والهدى في نفسه، وهداية من اتبعه، فقال: {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، وقال: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113].
فأبان الله أن قد فرض على نبيِّه اتباع أمره، وشهد له بالبلاغ عنه، وشهد به لنفسه، ونحن نشهد له به، تقرّبًا إلى الله بالإيمان به، وتوسُّلا إليه بتصديق كلماته”([22]).
ولنختم أمثلتنا بهذا المثال الثالث، يقول أركون وهو يتكلم عن أيديولوجية الدين: “أما الدين بتركيباته اللاهوتية الرسمية -أي: كمؤسسة متضامنة مع السلطة- فهو شيء آخر، إنه أيديولوجيا، إنه هو الذي يحرِّف الوظيفة الأساسية للدين كما قلنا -أي: الوظيفة الروحية-، وبالتالي فنحن نفرّق هنا بين معنيَين للدين: المعنى الروحي المنزّه والمتعالي، والمعنى القانوني الرسمي السلطويّ أو الذي يخلع المشروعية على السلطات السياسية.
هذا ما حصل على يد القدّيس توما الأكويني في المسيحية، أو على يد الأشعري في الإسلام (من جملة أمثلة أخرى بالطبع). فعندما يربط توما الأكويني بين القانون الطبيعي وبين نظرية الخلق الانعكاسي الصادر بكل دقّة عن الله، ويقول بأنه ليس إلا نتيجة من نتائج أوامره ووصاياه، فإنه لا يخلع المشروعية الإلهية على ما هو بشريّ، ويقيد ما هو بشري بما هو إلهي، بمعنى أنه يخلع المشروعية الإلهية على أعمال البشر وقوانينهم وأنظمتهم، وعندما يقول الأشعري بأن الله خلق كل شيء: العدل والظلم الخير والشر؛ مستدركًا بأن الظلم أو الشرَّ قد فعلا عبر شخص آخر غيره؛ فإن ذلك يعني تقييدًا للفعل الإنساني، يعني أن الإنسان غير مسؤول حتى عن أعماله. بمعنى أن كِلا هذين الموقفين اللاهوتيين يؤديان إلى هزيمة العقل البشري أو تراجعه عن حقه في التوصل إلى حرية الاختيار والإرادة، بمعنى أن الله هو الذي يفعل والإنسان ليس إلا منفّذا لا إراديًّا.
وهكذا يسجنان العقل ضمن نظرية الجبر والحتمية باسم إيمان مقطوع عن تارخيته (أي: الإيمان المجرد المقطوع عن لحظته التاريخية ومشروطيتها المادية والاجتماعية والاقتصادية)، ومع ذلك فهما يعتبران هذا الإيمان صالحًا لكل زمان ومكان، أي: لكل اللحظات والعصور، وليس فقط للحظة التاريخية التي انبثق فيها في زمن توما الأكويني أو في زمن الأشعري”([23]).
لو بحثنا عن المراجع ونظرنا فيها فإن أركون لا تهمّه المصادر ولا المراجع؛ ولذا لم يذكر في كل هذه الادعاءات أو الأفكار والعقائد التي نسبها إلى توما الأكويني أو إلى الأشعري ولا مرجعًا واحدًا، سوى أنه بيَّن أنه اقتبس في نصه عنوان مقال لـ(ميشال ميسلان) وهو مؤرِّخ أديان فرنسي متخصِّص في علم الأنثروبولوجيا، والذي كان عميدًا لقسم علوم الأديان في جامعة السوربون، والتي حصل أركون على الدكتوراه منها، فهل كان هذا المقال مرجعه الوحيد في هذا الذي كتبه واستنتجه؟!
لن نقف عند هذا طويلًا حيث إن أركون لا تهمّه المصادر والمراجع وصحّتها بقدر ما تهمه صحة الأفكار والمسلَّمات التي يتعامل معها، ولكن لو بحثنا نحن عن مصدر هذا النصّ لوجدنا أبا الحسن الأشعري يتحدث عن هذه القضية في كتابه (الإبانة في أصول الديانة) حيث يقول: “ونثبت أن لله قوّة، كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15].
ونقول: إن كلام الله غير مخلوق، وأنه سبحانه لم يخلق شيئًا إلا وقد قال له: كن، كما قال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [النحل: 40].
وأنه لا يكون في الأرض شيء من خير أو شر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله عز وجل، وأن أحدًا لا يستطيع أن يفعل شيئًا قبل أن يفعله، ولا يستغني عن الله، ولا يقدر على الخروج من علم الله عز وجل.
وأنه لا خالق إلا الله، وأن أعمال العباد مخلوقة لله مقدرة، كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئًا، وهم يخلَقون”([24]).
لسنا هنا نناقش صحَّة هذا القول أو عدمه، فليس هو مقصودنا، ولكننا نبحث في نص الإمام الأشعري، وهل فيه ما استنبطه أركون؟!
قبل ذلك لا ندري حقيقةً هل راجع أركون هذا النصَّ ودقَّق النظر فيه أم لا؟! ولكننا نجده يقوِّل الإمام الأشعري ما لم يقله؛ حيث إنه لم يصرِّح بالاعتقاد بأن الله عز وجل جعل العباد مجبرين على أفعالهم التي يفعلون، وأما تصريحه بأن الله سبحانه وتعالى خالق فعله وأنه العبد ليس بخالق فليس فيه تصريح بذلك.
أضف إلى ذلك أن سياق الحديث في الرد على المعتزلة القائلين بأن العبد خالق فعله، وبه بدأ مقدمة الكتاب.
أضف إلى ذلك أنه صرَّح بعده بصفحات باعتقاده بعدم إلزام الله لأطفال المشركين بشيء بل يخيَّرون، كما قال: “أطفال المشركين يؤجِّج الله تعالى لهم في الآخرة نارًا، ثم يقول لهم: اقتحموها، كما ورد في الرواية”([25]).
الخاتمة:
تبيَّن لنا كيف أن الحداثيين استخدموا كل حيلة ووسيلة؛ للولوج بحمولاتهم ومسلماتهم الفكرية التي آمنوا بها وسلَّموا لقائليها، واستنتجوا من كل نصٍّ تلك المسلمات والمفاهيم وإن كان النصّ في حقيقته لا يدلّ على ما يريدون، ولكن المهمّ هو أن يتوافق مع أهوائهم وأيديولوجياتهم.
وهذا ليس جديدًا على أهل الإسلام، ولكن {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال: 7، 8].
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ذكره ابن حجر في الفتح من رواية بكير بن شهاب (8/ 166).
([2]) تفسير الطبري (2/ 377)، وأصله عند البخاريِّ (3329) من قول عبد الله بن سلام ونصُّه: “ذاك عدوُّ اليهود من الملائكة”.
([3]) أخرجه الطبري في تفسيره (14/ 333)، وابن أبي حاتم في تفسيره (6/ 1829)، وصحح الشيخ أحمد شاكر إسناده.
([4]) من وصية عمرو بن عبيد يوصي أصحابَه بالاستماع لخَتَنِه واصل بن عطاء، ويسقط من شأن العلماء، ينظر: الضعفاء، للعقيليِّ (3/ 285).
([5]) قول أحد زعماء المبتدعة، يقول على سبيل الاستصغار والاحتقار. ينظر: الاعتصام، للشاطبيِّ (2/ 239).
([6]) ينظر: تفسير الطبري (2/ 377).
([8]) ينظر: مقال: “يصرخون: ذاك عدونا من الملائكة”: https://salafcenter.org/2796/
([9]) يتيمة الدهر (2/ 394). ونقله أركون في: نزعة الأنسنة في الفكر العربي (ص: 148).
([11]) نزعة الأنسنة في الفكر العربي (ص: 147-150).
([12]) ينظر: القرآن الكريم والقراءات الحداثية للحسن العباقي (ص: 88).
([13]) مذاهب التفسير الإسلامي لجولد زيهر، ترجمة: عبد الحليم النجار (ص: 81).
([14]) تاريخ الشعوب الإسلامية لبروكلمان، ترجمة: منير البعلبكي وزميله (ص: 204).
([15]) دراسات محمدية لجولد زيهر، ترجمة: الصديق بشير نصر (ص: 60).
([16]) ينظر: السنة ومكانتها للسباعي، ط. المكتب الإسلامي (1/ 217)
([17]) السنة ومكانتها للسباعي، ط. المكتب الإسلامي (1/ 221).
([19]) رواه مسلم (2363)، ونص الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بقوم يُلقحون فقال: «لو لم تفعلوا لصلح»، قال: فخرج شِيصًا، فمرَّ بهم فقال: «ما لنخلكم؟!» قالوا: قلتَ كذا وكذا، قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم».
([20]) الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجيا الوسطية في الإسلام (ص: 13).
([23]) قضايا في نقد العقل الديني (ص: 237).