وقد اشتهرت هذه القبيلة بالعلم والصلاح، ولزوم الجادة، وقد كان للبيئة الصالحة التي نشأ فيها دور كبير، في مساعدة الشيخ على التفوق العلمي على أقرانه، فقد حفظ الشيخ رحمه الله القرآن، وهو ابن سبع سنين، وأخذ فيه سندا، في قراءة الإمام نافع بروايتي قالون وورش، على الشيخ سيد الفال بن محمد، كما أخذ سندا في قراءة ابن كثير، واشتغل بتحصيل العلم على مشاهير علماء البلد، وأجازوه في كل العلوم التي يدرسها أهل شنقيط[1].
وقد مر الشيخ في حياته بتحولات أهمها:
التحول من التقليد إلى نصرة الدليل:
لما قرأ الشيخ العلامة بداه البوصيري الشنقيطي كل العلوم المتداولة في بلده، اتجه إلى التدريس والمطالعة والتأليف، وكان يميل رحمه الله إلى التقليد والجمود على أقوال الفقهاء، حتى عثر على كتاب سبل السلام، لمحمد بن إسماعيل الصنعاني، فأعجب بمنهجه في عرض آراء الفقهاء على الكتاب والسنة، واتباع الدليل الراجح، وأقبل على قراءة كتب التفسير، والحديث، وجمع مكتبة قيمة، واعتنى بمؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتأثر به، وكان يدافع عنه، ويقول في مدحه:
تقي الدين أحمد لا يبــــارى بميدان العلوم ولا يمارى
تقــيّ مــاجدٌ بـَــرّ كـريــــم يدور مع الأدلة حيث دارا
برئت إلى المهيمن من سماعي مـــقالات تقــال لــه جـــهارا[2]
يشير بالبيت الأخير إلى الرد على مبغضي شيخ الإسلام ابن تيمية، من الأشاعرة والصوفية والمقلدين.
وقد كان لهذا التحول سمات ومظاهر في حياة الشيخ العلمية، وقد ظهرت في كتبه، ومؤلفاته.
منهجه العقدي:
فقد كان الشيخ رحمه الله مناصرا لعقيدة السلف وجاهر بذلك في مؤلفاته، معلنا مخالفته لجُل ما كان عليه شيوخ بلده من الأشاعرة، وقد كان لردوده على الأشاعرة في مؤلفاته تأثير كبير في الأوساط العلمية، والنخب المؤثرة، وذلك راجع إلى مكانته العلمية، فهو المفتي الرسمي للبلد، وكذلك قوة أسلوبه، وتمكنه من جميع العلوم، وقد افتتح كتابه ”تنبيه الخلف الحاضر على أن تفويض السلف لا ينافي الإجراء على الظواهر“ بالرد على مقولة اشتهرت عند الأشاعرة، وهي قول المقري في “إضاءة الدجُنة في اعتقاد أهل السنة” مبينا منهج الأشاعرة في التعامل مع نصوص الصفات:
والنـــص إن أوهـــم غيــر اللائــق بــالله كالــتشبــــيه للخـــــــــــــلائق
فاصــــرفه عن ظاهــره إجـماعــا واقـطـع على المـمـتنـع الأطـمـاعـــــا[3]
فعلق الشيخ قائلا: “ليس هذا من الإجماع المتفق عليه، المعروف عند أئمة الإسلام أنه: اتفاق أئمة المجتهدين، بل ليس من المتفق عليه عند المتأخرين، إنما هو مسلك طائفة من المتأخرين معارَض بمسلك طائفة أخرى تنتمي للتحقيق والتدقيق في هذه المسألة”[4]
وهو يشير هنا إلى الخلاف بين المتكلمين أنفسهم من أشاعرة ومعتزلة في هذه القضية، وبعد أن انتهى من ذكر الخلاف بينهم قرر عقيدة السلف بأوضح عبارة وأنها خلاف ما كان عليه هؤلاء فقال: “إن السلامة في اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه أهل القرون الثلاثة المفضلة، وأن أصول التأويل كلها راجعة إلى الجهمية والمعتزلة، والخوارج، وأن ما يُلزم به المتكلمون أهل السنة والجماعة في صفات الاستواء، واليد، والنزول، وغيرها فإن أهل السنة يلزمونهم به في الصفات التي يثبتونها، لأن جميع صفات الباري عز وجل من باب واحد”[5]
وقد ناصر رحمه الله عقيدة السلف ونافح عنها ومن أهم مؤلفاته فيها:
_تنبيه الخلف الحاضر على أن تفويض السلف لا ينافي الإجراء على الظواهر.
وقد جاء فيه بنقولات قيمة عن كثير من أئمة السلف، وأئمة المذهب المالكي خصوصا، وهو المذهب الذي عليه غالب أهل شنقيط.
_كتاب الدر النضيد في علم الكلام وحقيقة التوحيد. وقد رد فيه على المتكلمين وخصوصا الأشاعرة، وهو سابق زمنيا لكتاب تنبيه الخلف الحاضر لأنه يحيل إليه في مقدمته.
_تنبيه الحيارى وتذكير المهرة، في الجمع بين أحاديث لا عدوى ولا طيرة.
_الكتائب الشرعية في صد هجوم القوانين الوضعية. وقد دعا في هذا الكتاب إلى تحكيم الشريعة الإسلامية ونبذ القوانين الوضعية، مبينا حكم ذلك في الكتاب والسنة.
موقفه من التقليد والتزام مذهب معين:
وهذا أحد أهم أركان دعوة الشيخ رحمه الله، فقد وقف ضد التعصب المذهبي، وكرس لذلك كثيرا من جهوده العلمية، وكان يبين أهمية اتباع الكتاب والسنة وتقديمهما على غيرهما، وألف كتابه “أسنى المسالك في أن من عمل بالراجح ما خرج عن مذهب الإمام مالك” نصرة لهذه القضية وقد حشد فيه كثيرا من النقولات التي تبين أهمية اتباع الراجح وبين مجانبة التعصب المذهبي للحق، وانتقد على بعض علماء المالكية؛ تعصبهم للمذهب وحصر الحق فيه حيث يقول:”وقد بلغ التعصب بالمتأخرين من فقهاء المالكية مبلغا لا حد له، فقالوا: إن قول مالك في المدونة مقدم على قول غيره فيها، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك ، حيث قالوا: إن مجرد وجود القول في المدونة مرجح له حتى ولو خالف الكتاب والسنة”[6].
وقد بين موقفه من أهم قضايا التقليد في كاتبه” الحجر الأساس لمن أراد شرعة خير الناس”. فيقول فيه مبينا أهمية اتباع الكتاب والسنة والتزام ما كان عليه السلف:
فـــدعوة لـــســنـــة وللـــــــــــــــكـــتــــاب ولقـــرون زُكيــت عـــيـــن الصـــــواب
عــــكــــس التــي تـــــدعــوا إلـــــــى آراء مـــحــدثــــة قــطــعا بلا امــــتـــــــــراء
إلى أن يقول في ذم اتباع غيرهما:
وكـــلـــهم دعـــا إلى ما صـــنـــفـــــا وعــن ســـوى طريق الــحق نــفـــا
والــدعوة التـــي دعـــاهــا جــفـــــلا عـمـت صــغــيرا وكبــيرا فـي الملا
لــكن مــن دعــا إلى ذي السنـــــــة لـم ينـه عن مـذهـب دار الـهـجــــرة
بـل قـال:” رأي عــارضـتــه السنــة يترك ” عن إمـــامـــنا ذا أثـبتــــــوا
وبين فيه موقفه من جواز التلفيق بين مذهبين ورد على القائلين بالتزام مذهب معين:
عــــليـــش والـــــدسوقــــــي والأميــــــر وغيرهـــم بالقول ذا شــهــيـــــر
جمـــاعـــة قــد جـــوزا تـــحــقــيقـــــــا عبــادة وغــيــرهـــا تلفــــيقــــــا
وقد عقد في هذا الكتاب فصلا للرد على حجج المقلدين حيث يقول:
أتــزجــرون الــناس عــــن كـــتـــــاب رب الـــورى وســـنـــة الــكتــاب
ثم احـــتجـــاجــــهــــم بمـــا تــقدمـــــا صــار عــليــهم حســرة ونــدمــــا
آيــة فـاسـألـوا وبــــــــــــعد أهـــــــــلا الـــذكر مرحــبا بـــها وأهــــــــــلا
إلى أن يقول:
والــذكــر قــــل كــتـابــنا والســنــــة لا ثــالـث قد دحـضت ذي الحُـجــة
ثــم حــديث الــعـي والــســـــــــــؤال فــصاحــب الــذكر بــذاك حـــــــال
جـــوابه أرشـــدهـــم إلـــى السؤال عــن ثــابــت الســنة لا رأي الرجـال [7]
إلى آخر ما قاله رحمه الله في تفنيد أقوال المقلدين، وقد أفرد لذلك مؤلفات، منها:
_أسنى المسالك في أن من عمل بالراجح ما خرج عن مذهب الإمام مالك.
_الحجر الأساس لمن أراد شِرعة خير الناس.
_القول المبيّن في الرد على من قال بالتزام مذهب معيّن.
_القول المفيد في ذم فادح الإتباع وفادح التقليد.
منهجه في التدريس:
استوت للشيخ رحمه الله كل الفنون التي تدرس في القطر الشنقيطي، من لغة وصرف وبيان ونحو وفقه وأصوله وجميع علوم الآلة، فدرّسها جميعا في جميع المستويات، إلا أنه لم يكتف بذلك بل درس الفقه المقارن وكتب فقه الحديث، وقد شرح لطلابه فتح الباري، وشرح صحيح مسلم للأبّي، ونيل الأوطار للشوكاني، ودرس في التفسير جامع البيان للطبري، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ودرس في العقيدة مقدمة رسالة ابن أبى زيد القيرواني، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبى العز الحنفي وغيرها.[8]
تأثيره العلمي:
قد مر معنا سابقا أن الشيخ هو المفتي الرسمي للبلد، وهو أول مفتى رسمي للبلد بعد الاستقلال، فمن الطبيعي أن يكون له تأثير في الأوساط العلمية، وذلك أن جل المشايخ المعتمدين في البلاد حاليا هم من طلابه والمتأثرين به، ومنهم وعلى رأسهم العلامة :أحمد المرابط المفتي الحالي للبلاد، وهو أحد كبار تلامذة الشيخ وزوج ابنته، وهو الذى ورث منصب الفتيا والخطابة مكان الشيخ [9]، وكذلك الشيخ محمد محمود ولد أحمد يورة وهو أحد كبار علماء البلد وقد تأثر بالشيخ وفتح مدرسة على منهجه كان مقرها الأصلي جامع الملك فيصل [10]، هذا بالإضافة إلى ما يعرف إعلاميا بالسلفية العلمية في موريتانيا ومنهم العلامة أحمد مزيد البوني الشنقيطي صاحب محظرة ظهور العيس وموقع شذرات شنقيطية، وهو أحد كبار الباحثين والمحققين المهتمين بالتراث، وقد نشر موقعه أول نسخة من كتاب حجر الأساس للعلامة بداه، وهو الآن يقدم للأمة جهودا علمية لا يستهان بها من أهمها: تحقيقه الفريد الذى أغنى عن الشروح لكتاب “مرتقى الوصول إلى علم الأصول” للإمام ابن عاصم الغرناطي، بالإضافة الى مشاركته في كثير من المراكز العلمية، وكذلك العلامة المحدث النووي نائب رئيس رابطة علماء المسلمين، والعلامة الدكتور محمد أحمد زاروق الملقب “الشاعر” صاحب كتاب “سد الذرائع في الفقه المالكي” وهو من المعروفين بجودة النظم، وله نظم فريد لنخبة الفكر يسمى “عقد الدرر ” لم يوجد مثله، وفيه إضافة قيمة، بالإضافة إلى ما عرف عنه من التمكن في مادتي أصول الفقه واللغة، وكان كثيرا ما يشيد بالعلامة بداه أثناء تقريره للعقيدة السلفية، ومن ذلك ما قال في نظمه المعروف بـ” الشهاب السني الطارد للمبتدع المارد” فقد أثنى على العلامة بداه في معرض رده على بعض التيجانيين الذين هاجموا شيخ الإسلام ابن تيمية وأشاد بدفاع العلامة بداه عنه:
أمـــا هـــجـــومـــكــم عــلــى الــتــقـــــي أحـــمــــد فــهـــو مــســـلــــك الـــشـــقـــي
فـــإنــــه يــــزيـــد كـــــم تـــبــــــــــارى حـــقــــا (تقـــي الــــديـــن لا يـــبـــــــــــارى)[11]
بـــــذاك فــــــاه حــــبـــرنــــــا “بــــداه” والـــحـــق رغـــم أنـــفـــكــــــم أبــــــــــداه [12]
وقد أشاد بتأليفه في العقيدة في نظمه “وابل السجيل على فلول التدجيل” فقال:
وانـــظــر لــمــــا عـــدود أوبُــــــــــــداه قــــد حـــبــــرا فـــي الـــعـقـد مـا أنـــــــــداه
غاصـــت دلاء عــــالـــمي هـذا البــــلد فــمن عـــلى نــزعــهــما لـــــه جـــلـــــــــــد
هيـــهـــــات فـــالــشـمس بعــيد مســها فــلـيبــق في بــنــات نــعـشٍ الـــســــهـــــــــــا[13]
وقد عرف الشيخ ” بَداه ” بنصرة المؤسسات السلفية والقائمين عليها، وعلى رأسها الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، لما اتهمها أهل بلاده بالبدع، فبين صحة ما تثبته من اعتقاد، وأثنى عليها شعراً، فقال:
في جامعة الإسلام في القلب موقع ** أليس بها نور المدينة يستطع
وقد رامها أبناء بجدتنا على ** قيادة ابن باز الرفيع المرفع
وقد أحكمت أحكامها و دروسها ** و هيئتها الحسنى هناك تلمع
إلى قول:
فبورك في أعضائها ودروسها ** وفي ملكها لهو الشجاع المقنع [14]
والشيخ كان له تأثير حتى على العقل الجمعي الشنقيطي، فقد مثل نقطة فارقة في زمنه، فهو الأب الروحي للصحوة الإسلامية عموما، ويحظى بتبجيل وتقدير في الأوساط العلمية الموريتانية لا يحظى به غيره، وقد عرف بالصدع بالحق، ونصرة المظلوم، والوقوف في وجه الظالم، فهو مع أنه كان مفتيا رسميا، فإن ذلك لم يمنعه من قول كلمة الحق للجهات الرسمية، وكان ينصحهم في الجمع والأعياد، وجميع المحافل التي يحضرها، وعلى مرأى ومسمع من الجميع.
توفي سنة 1430 رحمه الله رحمة واسعة وغفر لله وأسكنه فسيح جناته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ينظر كتاب السلفية وأعلامها فى موريتانيا ص 446_447
[2] تنبيه الخلف الحاضر ص 4
[3] نظم إضاءة الدجنة فى اعتقاد أهل السنة ص 10
[4] تنبيه الخلف الحاضر على أن تفويض السلف لاينافى الإجراء على الظواهر ص 6
[5] المصدر السابق ص 19
[6] أسنى المسالك ص 34
[7] الحجر الأساس الصفحات 2_5_8
[8] السلفية وأعلامها فى موريتانيا ص _455
[9] السلفية واعلامها فى موريتانيا ص _481
[10] المصدر السابق 491
[11] يشير إلى أبيات العلامة بداه التى مرت معنا فى أول المقال.
[12] الشهاب السني الطارد للمبتدع المارد ص 3
[13] وابل السجيل على فلول التدجيل ص 8
[14] السلفية وأعلامها فى موريتانيا ص 69
إعداد اللجنة العلمية بمركز سلف للبحوث والدراسات [تحت التأسيس]