خالُ المؤمنين وكاتبُ الوحي معاويةُ بن أبي سفيان رضيَ الله عنهما بين إنصافِ الصَّحابة وإِحَنِ المشنِّعين
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
المقدمة:
الجدلُ الفِكريُّ حول معاوية بن أبي سفيان رضيَ اللهُ عنه لم يتوقَّف على مرِّ التاريخ الفكريِّ الإسلامي، فإنَّهُ يُعدُّ من أكثَر الصَّحابة الذينَ أُثيرَ حولهُم جدلٌ كبير، بل قد وَصَل الأمرُ إلى خلقِ تحزُّباتٍ مؤيِّدة ومعارِضة، ويكفيكَ في معرِفةِ قدرِ الجَدل الذي أُثيرَ حوله رضي الله عنه أَن تقرَأَ توصيفَ ابن الجوزي في كتابه الموضوعات إذ يقول: “قد تعَصَّب قومٌ ممَّن يدَّعي السنة فوضعوا في فضله -أي: معاوية- أحاديثَ ليُغضبوا الرَّافضة، وتعصَّب قومٌ من الرَّافضة فوضعوا في ذَمِّه أحاديث، وكلا الفَريقين على الخطأ القبيح”([1]).
فانظر إلى أيّ درجةٍ وصلت موجَةُ التَّزييف حتى وضعَ كلُّ طرفٍ أحاديثَ فيه، ومن المعلوم أَنَّه لا تكادُ تتَّفِقُ كُتُبُ التَّاريخ على ذِكر ما يتعلَّق به، فتقرَأ الحادِثةَ ونقيضَهَا والموقِفَ وعكسه؛ ولذلك تمسَّك قومٌ بمرويَّاتٍ تاريخية تبَجِّله، وتمسَّك آخرُونَ بمرويَّاتٍ تحطُّ من قدرِهِ أو تَتَّهِمُه! فهو بلا شكٍّ محلُّ جدلٍ ونقاشات، بل ومعارك فكريَّة طاحنة، والمسلمُ المتَّبعُ للكتاب والسُّنة يجب أن يكونَ موقفُه من هذه الموضوعات الجدلية موقفًا سليمًا مبنيًّا على فهمٍ صحيحٍ ونظرٍ ثاقب، ويكون رأيُه متَّسقًا معَ الأصولِ الشَّرعيَّة والعقليَّة والمنهجيَّة، ويجبُ على المسلم أن يحتاطَ بالغَ الاحتياط عند نسبَةِ قولٍ أو فعل إلى أحَد، وأن يتأكَّد من ذلك ويمحِّص حتَّى لا يتَّهم أحدًا بما ليس فيه، أو يتقوَّل على أحدٍ بما لم يقُله.
والموقفُ من معاوية رضِيَ الله عنه وإن كانَ مُتبايِنًا، إلَّا أنَّ موقف أهل السنة والجماعة منهُ موقفٌ واضحٌ وبيِّن، فإنَّهم ينطلقون في بناء موقفهم من معاوية رضي الله عنه من أصولهم في الصحابة، وأهمها أصلان:
الأصل الأول: أنَّ الصحابة قد عدَّلهُم الله ورضيَ عنهم، فهم عدولٌ صادقون، لا يجوزُ لنا سبُّهم، أو الحطُّ من قدرهم، أو انتقاصهم، وهو ما أثبتتهُ الأدلَّة الشرعيَّة الكثيرة، والثَّناءات العطرة التي وردت في الكِتابِ والسنة.
الأصل الثاني: أن حسناتِهم وخصائصَهم أعظم من أخطائهِم، ولو لم يكُن من حسناتِهِم إلا سبقُهم إلى الإسلام لكفاهم، فكيفَ وهُمُ الذين انتصروا للإسلام، ورفعُوا كلمةَ التَّوحيد، وجاهدوا مِن أجلها، ووقفُوا يُدافِعونَ عن الإسلام في أحلَكِ المواقف؟! وكيفَ وقد عاشوا تنزيل القرآن، وعاينوا أسبابَ نُزوله، وتلقَّوهُ مباشرةً من مُبلِّغه؟! وكيفَ وقد صَحِبوا خيرَ البشر محمَّد صلى الله عليه وسلم، وجالسُوه، ونهلُوا من معينِه؟!
فكلُّ هذه المعطيات تجعلُ طبيعةَ جيل الصَّحابة مختلفةً تمامًا عن طبيعة أيِّ جيلٍ أتى بعدَهم، وهذه القضية تُصدِّقها الأدلَّة الشرعيَّة والعقليَّة والتاريخيَّة. وقد أبعَدَ النَّجعةَ من حاولَ أن يُصوِّر ذلك الجيلَ على أنَّه جيلٌ مثلَ أيِّ جيلٍ أتى بعدَهُم، بل هو جيلٌ منفردٌ يمتلكُ خصائصَ لم يمتلكهَا ولن يمتلكها أيُّ جيلٍ جاءَ بعدَهُم، ومن أجلِ ذلك كُلِّه اتَّخذَ أهلُ السُّنَّة والجماعة موقفًا واضحًا من الصَّحابة، وتمثَّلَ في سلامةِ صُدورِهم تجاهَهم، وتوقيرهم، وتبجيلهم، وإنزَالهم منزِلَتَهم.
ثمَّ إنَّ طبيعةَ ذلك الجيل كانت من أهمِّ المُرتكزاتِ التي بنى عليها أهلُ السُّنة موقفَهم ممَّا شجرَ بينَ الصَّحابة، حيثُ يرى أهل السنة الكفَّ عن الخوضِ في تلكَ الخلافات التي وقعت، مع حفظِ مقامِ الصَّحابة، وعدمِ التَّنقُّص من أحدٍ منهم، ولا يعني ذلك أنَّنا لا ندرسُ ما حصَل، ولا أنَّنا لا نبني آراءَنا حولَ الأقرب إلى الحقِّ، ولا أن نُخفي الحَقَائقَ عن طلبة العلم، وإنَّما يعني ذلكَ عدمَ ذكر ما حصلَ بينهم على سبيلِ التَّنقُّص أو الابتذال، أو لرميِ أحدٍ من الصحابة بالفسق أو الكفر، أو لمجردِ الخوضِ فيه دونَ أن تنبنيَ عليه فائدة شرعيَّة، فموقفُ أهل السُّنَّة والجماعة مُنسجِمٌ مع الدَّلالاتِ الشَّرعيَّة والعقليَّة والتَّاريخية كما أشرنَا إلى ذلك، وليسَ هذا مقامَ بيانِ مذهب أهل السنَّة تجاهَ الصَّحابة، فإن لذلك مقامًا آخر([2]).
تمهيد:
قد تعارَفَ النَّاسُ على أنَّهُم إنْ أرادُوا أن يَبحثُوا عن حالِ شخصٍ معيَّن لزواجٍ أو تعيينٍ في وظيفة أو منصب أو ما شابهَ ذلك أنَّهم لا يسألونَه مباشرةً، فإنَّه إن ادَّعى صلاحَهُ وأهليتَه وأفضليَّته فإنَّ شهادتهُ لنفسِهِ لا تُقبَل، بل يكون متَّهمًا فيها؛ لذلكَ كانَ من أفضَلِ الطُّرق لدراسَةِ شخصٍ معيَّن ومعرفةِ حالِه من صلاحٍ وخلُقٍ وديانَة هو: دراسةُ مواقفِ أصحابِه منه، وأقوالِهِم فيه، وطريقة تعاملِهِم معه وتعاملهِ معهُم، فإنَّ أصحابَهُ هم أعرَفُ النَّاس بحالِه، وقد التقوا بِهِ، وتحدَّثُوا معه، وجالسوه في مجالسِه، وعرفوا أسرارَه وخباياه، بل وربَّما حصلت بينهم نزاعات، فَهذِهِ المُدَّة الطَّويلة من الحالة التعايُشيَّة تستلزِمُ صدورَ مواقف عديدة منهم تجاههُ ومنهُ تجاهَهُم، ومن خلالِ تلكَ المواقف نعرفُ حال هذا الشَّخص، وطريقةَ تعامُله، وحسن سيرته أو سوءَها، ولا شكَّ أنَّ هذا يعظم قدرُه إن كان هؤلاء الأصحاب هُم أطهرُ النَّاس، وأنقاهُم قلوبًا، وأبرُّهم عملًا، وأصدقهم قولًا، وأعظمُهم منزلةً عند الله، وأشجعُهم في بيانِ الحقِّ والكشفِ عن الباطلِ، وهم الصحابة الكرام، فمواقِفُهم من الأشخاصِ ستكونُ بالضرورةِ هي الأعدَل والأصحّ والأكمل.
فمتى ما أردنَا أن نبْنِيَ موقفًا من صحابيٍّ معيَّن فإنَّ أكثر ما يُعيننا على ذلك هو مواقفُ أصحابِ النَّبي صلى الله عليه وسلم منه، ومن هذا المنطلَق -ولما تقدَّم من بيان عظمِ الجدل الفكري حول الصحابي الجليل معاوية بن أبي سُفيان رضي الله عنه- سندرُس في هذهِ الورقة مواقفَ الصحابة منه، ونستطِيعُ من خلالِ هذِه المواقف أن نعرِفَ قدرَه ومكانتَه ومنزلتَه، وهل كانَ رضيَ اللهُ عنه -كمَا تدَّعي الشِّيعةُ ومن قال بقولهم- كافرًا فاسقًا ظالمًا، أم كانَ فاضلًا خيِّرًا مقبولًا بينَ الصَّحابة الكرام؟
وقبلَ أن ندخُلَ في تفاصيل مواقف الصَّحابةِ من معاوية رضيَ اللهُ عنهُ نُشيرُ إلى أنَّ النُّصوصَ الواردة في فضلِهِ كثيرة متعدِّدَة، منها قولُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم «اللَّهم اجعلْهُ هاديًا مهديًّا واهدِ به»([3])، وقولُ النَّبي صلى الله عليه وسلم في حديث أمِّ حرام: «أولُ جيشٍ من أمتي يغزون البَحر قد أوجبوا»([4])، قال ابن حجر رحمه الله: “قال المهلَّب: في هذا الحديث منقبة لمعاوية؛ لأنَّه أوَّل من غَزا البَحر”([5]). كما أنَّ من مناقِبِهِ أنَّه كانَ كاتبًا للوَحي([6])، وليس هذا مجالَ بيانِ الآثار الواردة في فضله ومناقبِه([7])؛ لكنَّنا أشرنا إشاراتٍ حتَّى نعرف أن مواقفَ الصَّحابةِ كانت منسجِمَةً مع هذه النُّصوص التي تُبيِّن فضلَه، وسنتناولُ هذه المواقف عبر المحاور التالية:
المحور الأول: توقيرُ الصَّحابة له من أجلِ صُحبتِه:
فقد روى البخاريُّ في صحيحه عن أبي مليكة قال: أوترَ مُعاويةُ بعد العشاءِ بركعة، وعندَهُ مولى لابنِ عبَّاس، فأتى ابن عباس فقال له: دعهُ فإنَّه قد صَحِبَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلَّم([8]).
فابنُ عبَّاس رضيَ الله عنهما هُنا يدافِع عن معاوية رضي الله عنه بعد أن تكلَّم فيه مولى ابن عباس، وبيَّن أنه صحِبَ النَّبي صلى الله عليه وسلم، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ الصُّحبة فضيلة بمطلقها، وعلى فضيلة الصُّحبة تنبني الفَضَائِلُ الأُخرى.
المحور الثاني: بيانُ علمِه وتوقيرُه لذلك:
روى البخاريُّ في صحيحه عن ابن أبي مليكة قال: قِيل لابن عباس: هل لك في أميرِ المؤمنين معاوية، فإنَّه ما أوتَرَ إلَّا بواحدَة؟ قال: أصاب؛ إنَّه فقيه([9]).
بل قد جاءَ الأثرُ بنصٍّ أصرحَ وأوكَد في بيان علمِ معاوية رضي الله عنه وموقف ابن عباس منه، وذلِك حين جاءَ كريبٌ -مولى ابن عباس- فأخبرَ ابن عبَّاس رضيَ اللهُ عنهما أنَّه رأى مُعاويَة صلَّى العشاء ثم أوتر بركعةٍ واحدةٍ ولم يزد عليهَا، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: أصاب، أي بُني ليس أحدٌ منَّا أعلم من مُعاوية، هي واحدةٌ أو خمسٌ أو سبعٌ إلى أكثر من ذلك، الوترُ ما شاء([10]).
فهذه شهادة من رجل من آلِ بيتِ النبي صلى الله عليه وسلم، ومن صحابيٍّ قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم فقِّههُ في الدين»([11])، فإن كان ابن عباس يقول: إنه لا أحدَ أعلم من معاوية، فإنَّه وإن قال قائل: إنَّ هذا القول مبالغةٌ من ابن عباس، فإنَّ أقلَّ ما تُفهمه العبارةُ أنَّ معاوية رضي الله عنهُ كان من أعلم النَّاس؛ لذلك كان يعظِّمه ابن عباس رضي الله عنهما، فإن كان كذلك فإنَّ العلم منقبةٌ وفضيلةٌ قد اجتمعت له، مع فضيلةِ الصُّحبة، وهذا مما يزيده شرفًا وعظمة في الإسلام.
المحور الثالث: موقفُهُم من أخلاقه:
ممَّا يُبيِّنُ فضلَ الرَّجل ومكانتِه: حسنُ أخلاقه، ولا أحدَ يصدق في حِكايَةِ حُسنِ الخُلق أكثر من الأصحابِ الملازمين لَه، والذين عاشوا معه، وجالسُوه، وتعاملوا معَه، فانظر كيفَ كانَ الصَّحابة الكرام يرونَ أخلاقَ مُعاويَة رضيَ اللهُ عنهم أجمعين.
قالَ ابنُ عمر رضيَ الله عنهما: ما رأيتُ أحدًا بعدَ النَّبي صلى الله عليه وسلم كانَ أسودَ من مُعاويَة. قالَ الإمامُ أحمد بن حنبل رحمهُ الله في بيان معنى (أسوَدَ منه): “أسخى منه”، قالَ أبو بكر الخلال: “وقد رَوَى هذا التَّفسير عن أحمد بن حنبل غيرُ واحدٍ ثقة”([12]). وروى اللَّالكائي نفس الأثر وزاد: فقال له رجل: ولا عمر؟ فقالَ: عمر كانَ خيرًا منه، وكان هو أسودَ منه([13]).
وممَّا يعضد ذلك أنَّ قبيصة بن جابر قال: صحبتُ معاوية بن أبي سفيان، فما رأيتُ رجلًا أثقَل حلمًا ولا أبطأ جهلًا ولا أبعد أناةً منه([14]).
المحور الرابع: موقفُهُم من عقلِهِ ودهائِه:
اعترفَ كبارُ الصَّحابة بدهاءِ معاوية وعقله، ومن ذلك قولُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “تعجبونَ من دهاءِ هرقل وكسرى وتدعون معاوية؟!”([15]).
ومن يقين الصحابة بعقله وعقله أنَّ عثمان بن عفان رضيَ الله عنه قد بعثَهُ حكمًا بين مُتخاصمين، وما ذاك إلا إيمانًا منه بعقلهِ وعلمهِ بل وبعَدلهِ، فقد روى ابن جريج عن ابن أبي مليكة أنَّه قال: تزوَّج عقيل بن أبي طالب فاطمةَ بنت عتبة، فقالت له: اصبر لي وأنفق عَلَيك، وكانَ إذا دخلَ عليها تقولُ لهُ: أينَ عتبةُ وشَيبة؟ فسَكت عَنها، فدخل يومًا برِمًا، فقالت: أين عتبة بن ربيعة؟ وأين شيبة بن ربيعة؟ فقَال: على يسارِكِ في النَّار إذا دخلت، فشدَّت عليها ثيابَها، فجاءَت عثمان بن عفان رضيَ اللهُ عنه فذكَرت لهُ ذلك، فأرسَلَ ابنَ عباس ومعاوية، فقالَ ابن عباس: لأفرِّقنَّ بينهُما، وقال معاوية: ما كنتُ لأفرق بين شيخينِ من بني عبد مناف، قالَ: فأتياهُما فوجداهُما قد شدَّا عليهما أثوابهُما، فأصلحا أمرَهُما([16]).
وهذان الموقفان صدرا من ثاني وثالث رجل في الأمة، وفيها بيانٌ لعلمه وعقله، ولا يمكن للصحابة الأجلاء أن يمتدحوا عقل رجلٍ قد بدَّل أو فسق أو كفر.
المحور الخامس: موقفُهُم من ديانتِه وعدالتِه:
لطالَما اتَّهم المشنِّعون معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بالظُّلم والفسق بل والكُفر! وممَّا يُبيِّن بطلانَ ذلكَ أنَّ الصَّحابة الكرام قد شهِدوا له بالدِّيانة والعَدالَة، فقد قالَ أبو الدَّرداء رضي الله عنه: “ما رأيتُ أحدًا بعدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاةً برسولِ الله صلى الله عليه وسلم من أميرِكُم هذا” يعني معاوية([17])، وقالَ سعيد بن أبي وقاص رضي الله عنه: “ما رأيتٌ أحدًا بعد عثمان أقضى بحقٍّ من صاحبِ هذا الباب” يعني معاوية([18]).
ومن آكَدِ ما يُبيِّن لك ديانَةَ معاوية رضي الله وعدالته وأنَّه غير متَّهم في شيءٍ من ذلك: أنَّ الصحابة الكرام قد رووا عنهُ الأحاديث، وما كانوا ليستجيزُوا روايَةَ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم عمن يعتقدونَهُ فاسقًا أو كافرًا، وقد ذكر أبو نعيم أسماء بعض الصَّحابة الذين قد رووا عنه، فقال: “حدَّثَ عنهُ من الصَّحابة: عبد الله بن عبَّاس، وأبو سعيد الخدري، وأبو الدَّرداء، وجرير، والنُّعمان بن بشير، وعبدُ الله بن عمرو بن العاص، ووائلُ بن حجر، وعبدُ الله بن الزُّبير رضي الله عنه”([19]).
وهذا يُبيِّنُ أن الصَّحابة ما كانوا يتَّهمونه في دينِه وعدالته، وهو ما صرَّح به ابن عباس رضي الله عنه حينَ أخبره معاوية أنَّه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قصَّر من شعره بمِشقَص، فقالوا لابن عباس: ما بلغنا هذا إلَّا عن معاوية! فقال رضيَ الله عنهما: مَا كانَ معاوية على رسول الله صلى الله عليه وسلم متَّهمًا([20]). وبيَّن ابن سيرين أن الصَّحابة ما كانوا يتَّهمون معاويةَ في الحديث فقال: “فكانَ مُعاوية لا يُتَّهم في الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم”([21]).
وممَّا يؤكِّد عدالته أنَّه رغم وقوعِ الحرب والقتال بينه وبينَ بعضِ الصَّحابة إلا أنَّهم مع ذلك لم يقدحوا في عدالته، ولا في ديانته، يقول ابن تيمية رحمه الله موضِّحًا هذه الحقيقة: “وقد عُلم أن معاوية وعمرو بن العاص وغيرهما كان بينهُم من الفتنِ ما كان، ولم يتَّهمهم أحدٌ من أوليائهم لا محاربُوهم ولا غيرُ محاربيهم بالكذب على النَّبي صلى الله عليه وسلم، بل جميع علماءِ الصَّحابة والتَّابعين بعدَهُم متَّفقُونَ على أنَّ هؤلاء صادقُون على رسولِ الله، مأمونُون عليهِ في الرِّواية عنه”([22]).
وممَّا يدلُّ على ديانتِهِ رضيَ الله عنه ما رواه علقمة بن أبي علقَمَة، عن أمِّه قالت: قدم معاوية المدينةَ، فأرسَلَ إلى عائشة رضيَ الله عنها وقال: أرسلي إليَّ بأنبجانيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشَعره، فأرسَلَت بذلك معي أحمِلُه، فأَخَذَ الأنبجانية، فلبسَهَا، وغَسَلَ الشَّعر بماء، فشرِبَ منه، وأفاضَ على جِلدِه([23]).
فهل كانت أمُّ المؤمنين عائشة رضيَ اللهُ عنها تُرسل له بأنبجانية النَّبي صلى الله عليه وسلم وشعره وهو فاسقٌ أو كافرٌ أو تتَّهمه في دينه؟! لا شكَّ أن الإجابة هي النَّفي، خاصَّة وأن هذا الموقفَ صادرٌ من عائشة رضي الله عنها، وهي المعروفة بالقيام بالحقِّ وعدم الخوف في ذلك.
المحور السادس: إجماعُ الصَّحابة على خيريَّته:
بعد أن ذكرنَا جُملةً من مواقفِ الصَّحابة منه رضيَ الله عنه قد يقولُ قائل: ربَّما يكون ما ذكرتَه موقفَ عددٍ قليلٍ من الصَّحابة الكرام، وهذا وإن كان يتنافى مَعَ بعضِ المواقف كرواية الأحاديثِ عنه، ورِضا الصحابة بوِلايتِهِ، إلَّا أن إجماعَهم على خيريَّته قد تجلَّى بوضوح حينَ ولاهُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الشَّام، ثم جاءه معاويةُ زائرًا، فدَخلَ على عُمر وعليه حلَّة خضرَاء، فَنَظر إليها الصَّحابة، فلمَّا رأَى ذلك عمرُ بن الخطَّاب وثَبَ إليه بالدرَّة فجَعَلَ يضربه بها، وجعَلَ معاويةُ يقول: يا أميرَ المؤمنين، الله الله فيَّ، فرجع عمر إلى مجلسه، فقالَ لهُ القوم: لِمَ ضربته يا أميرَ المؤمنين وما في قومكَ مثله؟! فقال: والله، ما رأيتُ إلا خيرًا، وما بلغني إلَّا خير، ولو بلغني غير ذلكَ لكان منِّي إليه غير ما رأيتم، ولكن رأيتُه -وأشار بيده- فأحبَبتُ أن أضع منه ما شمخ([24]).
فانظر كيفَ أنَّ مجلس الخليفةِ الراشد عمرَ بن الخطَّاب وفيه كبارُ جلسائه من الصَّحابة قد أقرُّوا بأنه من أفضل الناس، وأقرَّهم على قولهم عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يكن الصحابة ليقولوا ذلكَ إن كانوا يعتقدونَ فِسقَهُ أو كفره، أو حتى نقص ديانتِه؛ فإنَّهم لا تأخذهم في الله لومة لائم، وما كانَ معاوية حاكمًا على المسلمين كلِّهم في ذلك الوقت، والمجلسُ مجلسُ خليفة، فلو أرادوا الطَّعن فيه ما منعَهُم خوفٌ أو جبن، لكنَّهم شهدوا بما عرفوه وخبروه.
المحور السابع: موقفهم من ولايتِه:
من آكدِ ما يدلُّ على فضل معاوية رضيَ الله عنه وخيريتِه وأنَّه لم يكن متَّهمًا في دينه: أنَّ الخُلَفاء الرَّاشدين وهم أعظَمُ الأمَّة وأفضلُها قد استعملوا معاوية وولَّوه الولايات، وكانَ ذلك برضا الصحابة وموافَقَتِهم، ولم يكن كبارُ الصحابة -بل أفضل هذه الأمَّة- ليولُّوا معاوية رضي الله عنه لو لم يعرِفوا متانَةَ دينِه وعلمِه وعدلِه وحنكتِه وذكائِه.
ومن ذلكَ أنَّه في العام الثاني عشر من الهجرَة النَّبوية أرسلَ أبو بكر الصديق رضيَ الله عنه جُيوشه إلى الشَّام، ومنها جيش يزيد بن أبي سفيان، ثم بَدَا له أن يُلحق آخرين بجيشِه، فجعل عليهِم معاويةَ بن أبي سفيان وأمرَهُ باللِّحاق بهم([25]). فقد كَان إذن قائدَ جيشٍ في خلافَةِ أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وحسبُكَ برضاهُ عنه، وتوليته هذا المنصبَ المهمّ.
ثمَّ جاءَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاستَعملَهُ واستعانَ بِهِ على القِتال، ثمَّ ولَّاه، ففي السَّنة الخامسة عشرة من الهجرة النَّبوية كان المسلمون يُحاربون أهلَ حائط قيسارية فلسطين، فكتَبَ عمر بن الخطاب إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بتولية قتالِ أهلها، وولَّاه عليها، وقالَ له: “أمَّا بعد، فإنِّي قد ولَّيتك قيسارية، فسِر إليها واستنصرِ الله عليهِم، وأكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، الله ربُّنا وثقتُنا ورجاؤُنا ومولانا، نعم المولى ونعم النَّصير”([26]). فتوجَّه إليها معاوية بن أبي سفيان، وأبلى بلاءً حسنا([27])، ثم جعله عمر بن الخطاب على جند دمشق وخراجها([28])، ثم زادَهُ فولَّاه دمشقَ وبعلبكَّ والبلقاء([29])، ولَمَّا توفِّي يزيد بن أبي سفيان -وقد كانَ على الشَّام- ولَّى عمر بن الخطاب مكانَهُ معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم.
روى سعيد الأمويُّ عن جدِّه أن أبا سفيان دخلَ على عمر بن الخطاب، فعزَّاه عمر بابنه يزيد فقال: آجركَ الله في ابنك يا أبا سُفيان، فقال: أيُّ بنيَّ يا أمير المؤمنين؟ قال: يزيد، قال: فمن بعثتَ على عمله؟ قال: معاوية أخاه، قال عمر: ابنان مصلِحان، وإنَّه لا يحلُّ لنا أن ننزع مصلحًا”([30]).
وقد ولي الشَّام أربعين سنَةً، منها عشرون سنة واليًا عليها، وعشرونَ أخرى خليفةً للمسلمين([31]).
وقبل أن نُبيِّن موقفَ غيره لنَا وقفة مع توليَةِ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، فإنَّ عمر بن الخطاب قد جَمَعَ خصائصَ لم تجتمع لغيره، فهو مُلهَم محدَّث، ومعروفٌ عنهُ الشَّجاعة البالغَة، وكان من أخبَرِ النَّاس بالرِّجال، ثم اختارَ عمر رضي الله عنه على هذا البلد العظيم من بلاد المسلمين معاويةَ رضي الله عنه، فكيفَ يُمكن لمثل عمرَ أن يولِّي معاوية على المسلمين إن كان معاوية فاسقًا أو كافرًا، أو لم يكن عدلا ولا مرضيًّا في ديانته؟! فهذا دليلٌ ظاهر على إيمانِ معاوية رضي الله عنه وعدالته.
ويؤكِّد هذا أنَّ عمر بن الخطاب قد بيَّن منزلةَ أمرائِهِ على الأمصار، فقال: “اللهم إني أُشهِدك على أمراءِ الأمصار، وإنِّي إنما بعثتهُم عليهم ليعدِلوا عليهم، وليعلِّموا الناس دينَهم وسنَّة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويقسموا فيهم فيئَهم، ويرفعوا إليَّ ما أشكل عليهم من أمرهم”([32])، فإن كان الأمراء بهذا القدر عنده رضيَ الله عنه فإنَّ توليتَه لهم دليلٌ على أنَّهم من أفضلِ الناس عنده وأخيرهم وأعدلهم، ويُجلِّي هذا المعنى ابنُ تيميَة رحمه الله فيقول: “وأما معاوية بن أبي سفيان وأمثاله من الطُّلقاء الذين أسلموا بعد فتح مكة… حسُنَ إسلامهم باتِّفاق المسلمين، ولم يُتَّهم أحد منهم بعد ذلك بنفاق… ثم لَمَّا مات يزيد بن أبي سفيان في خلافة عمَر استعمل أخاهُ معاوية، وكان عمر بن الخطَّاب من أعظمِ النَّاس فراسة، وأخبرهم بالرِّجال، وأقومهم بالحقِّ، وأعلمهم بِه، حتَّى قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كنَّا نتحدَّث أن السَّكينة تنطق على لسانِ عمر، وقالَ النَّبي صلى الله عليه وسلم «إنَّ الله ضرب الحقَّ على لسانِ عمر وقلبِه»([33])، وقال: «لو لم أُبعث فيكُم لبُعثَ فيكم عمر»([34])، وقال ابنُ عمر: “ما سمعتُ عمر يقول في الشَّيء: إني لأراهُ كذا وكذا، إلا كانَ كما رآه”، وقد قالَ له النبي صلى الله عليه وسلَّم: «ما رآك الشيطان سالكًا فجًّا إلا سلك فجًّا غير فجِّك»([35])، ولا استعمل عمر قط -بل ولا أبو بكر- على المسلمين منافقًا، ولا استعملا من أقارِبِهِما، ولا كان تأخذُهما في الله لومة لائم… فلو كان عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان وأمثالهما ممَّن يُتخوَّف منهما النِّفاق لم يُولَّوا على المسلمين”([36]).
ثمَّ بعدَ عمرَ بن الخطاب رضيَ الله عنه تولَّى عثمان بن عفان أمرَ المسلمين، فأقرَّ معاوية على الشَّام، وبقيَ اثنتي عشرَة سنة -طوال مدّة خلافة عثمان- واليًا عليها ما نزَعهَا عنه([37]). وفي دلالة هذا الأمر على عدله وحنكته وسيادتِه يقول الذَّهبي: “حسبُك بمن يؤمِّره عمر، ثم عثمان على إقليم -وهو ثغر- فيضبطُه، ويقومُ به أتمَّ قيام، ويرضي الناس بسخائِه وحلمه، وإن كان بعضُهم تألَّم مرَّة منه، وكذلكَ فلْيكن الملك، وإن كان غيرُه من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلم خيرًا منه بكثير وأفضَل وأصلَح، فهذا الرَّجُل سادَ وساسَ العالم بكمالِ عقله، وفرطِ حلمه، وسعةِ نفسه، وقوَّة دهائِه ورأيه، وله هنَّات وأمور، والله الموعد، وكانَ محبَّبًا إلى رعيَّته، عمل نيابة الشَّام عشرين سنة، والخلافة عشرين سنة، ولم يهجُه أحدٌ في دولتِه، بل دانت له الأُمَم، وحكَم على العرب والعَجم، وكان ملكه على الحَرمين، ومصر، والشَّام، والعراق، وخراسان، وفارس، والجزيرة، واليَمن، والمغرب، وغير ذلك”([38]).
المحور الثامن: موقفُ الصحابة من اقتتاله معَ عليِّ بن أبي طالب رضيَ الله عنه:
حينَ نعرض مواقفَ الصَّحابة من معاوية رضي الله عنه لا يصحُّ لنا أن نغضَّ الطَّرف عن موقف الصحابة من مقاتلتِهِ لعليِّ بن أبي طالب رضيَ الله عنه، فإنَّ ذلك القتال الذي انتهى لا زالَت جذوةُ نيرانهِ الفكرية مشتعلَةً حتَّى اليوم، بل من أجل الانتصار لعليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه وضع بعضهُم أحاديثَ على معاوية، وفسَّقه بعضهُم وكفَّره آخرون، فتلك قضيَّة محوريَّة كان لها الأثر الكبير في الأحداث التي تلَتْها والتي مرَّت بها أمَّة الإسلام.
فكيفَ كان موقف الصَّحَابة تجاه معاوية رضيَ الله عنه وهو يُقاتل خليفةَ المسلمين عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه؟ هل رَأوا تفسيقَه أو تكفيرَه كما يزعم ذلك بعضهم، أم أنَّهم كانوا يرونَ أنَّ معاوية لا يستحقُّ من الأمر شيئًا، أم أنَّ الأمرَ كلَّه كان اختلافَ وجهاتِ نظرٍ حول المطالبة بدمِ عثمان رضي الله عنه، فتقَاتلا مع حفظ كل واحد منها للآخر حقَّه ومكانتَه؟
سنترك الإجابَة للمواقف التي اتَّخذها الصحابة من معاوية رضي الله عنه في هذهِ الحادثة، فإنَّ تلك المواقف هي أصدقُ ما يُمكنُ أن تُعبِّر عما في نفوس الصحابة رضي لله عنهم، وعمَّا يرونه في معاوية رضي الله عنه، ويُمكن أن نُرجع تلك المواقِف إلى الآتي:
1- الاعتراف بأنَّ إمارة معاوية خيرٌ وأنَّ فقدَه عظيم، فقد روى الحارث قال: لَمَّا رجع عليٌّ من صِفِّين علِم أنَّه لا يملك أبدًا، فتكلَّم بأشياء كان لا يتكلَّم بها، وحدَّث بأحاديث كان لا يتحدَّثُ بها، فقال فيما يقول: “أيُّها النَّاس، لا تكرهوا إمارَة معاوية، واللهِ لو قد فقدتُموه لقد رأيتُم الرُّؤوسَ تندر من كواهلِها كالحنظل”([39]).
وكانَ هذا القول من قائِد جيشِ الصَّحابة المقابل لمعاوية، ومن الخليفة الشرعي للمسلمين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فلا شكَّ أنه موقفٌ عظيم صَلب تُجاه معاوية، ينبئك بمدى مكانتِهِ وفضلِه وخيريَّته، ولم يكن يصدُرُ مثل هذا من علي بن أبي طالب رضيَ الله عنه إن كان يرى تفسيقَه أو تكفيره، ولم يكن الصحابةُ يرضون بذلك، ثم كانَ مِن الأحسن لعلي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه -إن كان يرى كفره أو فسقه- أن يُظهر ذلك أثناء قتالِه، ويبيِّن ذلك للنَّاس ليستنهِضَ همَمَهم، ويستَنفر منِ اعتزلَ منَ الصَّحابة، فإنه لو كان كافرًا لم يعتَزلوا؛ ولكن لم يحصُل شيءٌ من ذلك، بل قد صرَّح علي بن أبي طالب رضي الله عنه بإيمان جيشِ الشَّام.
2- عدمُ تكفيرِ جيشِ الشَّام، ولا شكَّ أنَّ على رأسهم معاويةَ رضي الله عنه، فقد روى المروزيُّ بسنده عن مكحولٍ أنَّ أصحاب عليٍّ سألُوه عمَّن قُتِل من أصحاب معاوية ما هم؟ قال: “همُ المؤمنون”([40]). فإن كان من قتل من جيشه مؤمنين فمُعاوية من باب أولى. أعني بذلك أنَّ مَن قاتَل معه منهُم المقلِّدة الذين اتَّبعوا معاويةَ تقليدًا، فهل مثل هذا أولى بالعذر من المجتهد الذي أخطأَ في اجتهاده؟!
وممَّا يؤكِّد هذا الموقفُ الصَّريح الذي اتَّخذَه عمار بن ياسر رضي الله عنه، فقد كان في جيش علي بن أبي طالب وسمع أحدَهم يقول: كَفَرَ والله أهل الشَّام! فقال عمَّار: “لا تقل ذلك، قبلتُنا واحدةٌ، ونبيُّنا واحد، ولكنهم قومٌ مفتونون، فحقٌّ علينا قتالُهم حتى يرجِعوا إلى الحقِّ”([41])، وبمثل هذا يرى عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه وسائرُ الصَّحابة.
3- الأمرُ بقول الخير عن جيشِ الشام، قال ابن تيمية رحمه الله: “عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: سمع عليٌّ يومَ الجمل أو يوم صفين رجلًا يغلو في القول، فقال: لا تقُولوا إلا خيرًا، إنَّما هم قومٌ زعموا إنَّا بَغينا عليهم، وزعَمنا أنَّهم بغَوا علينا، فقاتلناهم”([42]).
فظهَر لنا من خلالِ هذه المواقِف أنَّ الصحابةَ رغم الاقتتالِ الذي حصَلَ بين معاويةَ رضي الله عنه ومن معه وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن معه فإنه لم يكفِّر أحدُهما الآخرَ، ولم يفسِّقه، ولم يرَ أحدٌ منهم أنَّ ذلك كان سببًا في سقوطِ عدالةِ أحدٍ منهم.
المحوَر التاسع: موقفهم من خلافتِه:
مِن أعظمِ المواقفِ التي تقف عقبةً أمام المشَنِّعين والمثلِّبين: مواقفُ الصحابة من خلافتِه، فإنَّهم لا يستطيعون صرفَ هذه المواقِف عن مدلولها الواضِح مهما فعلُوا، وذلكَ لأنَّه معروفٌ عن الصَّحابة شجاعتُهم وعدم خوفِهم، فلا يمكن لهم أن يولُّوا عليهم من يرون فِسقَه أو كفرَه، ولا يمكن أن يسكُتوا على ذلك، كما لا يمكن أن ينضَووا تحت لوائه والجهاد معه مدَّة عشرين سنة!
ومعرفةُ المواقف التي حصلت من خلافته من أكثر ما يدعمُ موقفَ أهلِ السنة والجماعة من معاوية رضي الله عنه، ويمكن تلخيص تلكَ المواقف في الآتي:
1- القولُ بأنَّه كان جديرًا بالحكم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “ما رأيتُ رجلًا كان أخلقَ للملك من معاويةَ، كان الناس يردون بيته على أرجاء وادٍ، ليس بالضَّيِّق الحَصِر العُصعُص المتعصِّب”([43]). فترجمانُ القرآن وحبر الأمّة يشهد بأنَّ معاوية رضي الله عنه كان أخلق للملك.
2- تنازُل الحسن بن علي بن أبي طالب له، فبعد أن استشهد عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه أرادَ أهلُ العراق أن يُبايِعوا الحسنَ بن عليّ بن أبي طالب، واجتمعوا حولَه، فاشترط عليهم بأنَّهم يُسالمون من سالم ويحاربون من حَارب، فارتابوا منه، لكنَّهم بقوا معه برهةً من الزمن حتى نكَصوا على أعقابهِم، حتى وصلَ الأمر إلى أنَّ بعضهم قد نازعه بساطه، فلمَّا رأى ذلك الحسن، ورأى أنَّ دماء المسلمين لن تتوقَّف لو استمر في القتال؛ أحبَّ الصُّلح ووافق عليه، وبايعَ معاوية رضي الله عنهم أجمعين، وذلك حقنًا لدماءِ المسلمين، وكان ذلك سنةَ واحدٍ وأربعين من الهجرة([44])، وبذلك تجلَّى أحدُ دلائل النُّبوة حين تحقَّقَ قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ ابني هذا سيِّد، ولعلَّ الله أن يصلحَ به بين فئتينِ عظيمتين من المسلمين»([45]). ولم يكُن تنازُل الحسن رضي الله عنه من تلقاءِ نفسه، بل لِمَا ثبتَ عنده من نهي أبيه علي بن أبي طالب عن كره إمرة معاوية. قالَ أبو عامر الشَّعبي: “قلت للحارث بن حجر: ما حَمَل الحسن بن علي أن يُبايِعَ لمعاوية ويسلِّم له الأمر؟ قال: إنَّه سمع من يقول: لا تكرهوا إمرة معاوية”([46]).
ولنا في هذا التَّنازل عدة وقفَات:
أولًا: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السَّابق سمَّى الطائفتين مؤمنتين، وفيه أعظم ردٍّ على من كفَّر معاوية أو فسَّقه، فإنَّ الرادَّ عليه هو رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ويكفي هذا في إسقاط هذا القول وبيانِ وهنه.
ثانيًا: أنَّ في الحديث منقبة عظيمة لمعاوية كما فيه منقبة للحسن رضي الله عنهم، فإنَّ مَدْحَ النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الصُّلح يقتضي الرِّضا عنهما، ولو لم يكن معاوية خليقًا بالملك لما مَدَحَ الني صلى الله عليه وسلم هذا التَّنازُلَ له.
ثالثًا: تنازل الحسن فيه دليلٌ آخر على فضل معاوية وعدم فسقه أو كُفره، فإنَّه لم يكن الحسن يتنازل لأحدٍ من الفسَّاق أو الكفار.
رابعًا: في قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما يؤكِّد المعنى نفسه، فإنَّه لا يمكن أن يقول: “لا تكرهوا إمرة فاسق أو كافر”! وهذا كلُّه ممَّا يبيِّن فضل معاوية، وأنَّه يستحقُّ الخلافة، وقد تنازلَ له سيِّد شبابِ أهل الجنة، ومدَح النَّبي صلى الله عليهِ وسلم هذا التنازل.
3- اتفاقُ معظمِ الصَّحابة على خلافتِه، ولا يمكنُ لأحدٍ أن يقول بأنَّ هذا تصرفٌ فرديٌّ من الحسن، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد مدَح هذا التنازلَ، كما أنَّ الصَّحابة بعده قد أجمَعوا على خلافة معاوية رضيَ الله عنه إلا نفرٌ قليل، فبايعَه الصَّحابة وانضَووا تحت لوائه، ونقَل ابن حزم هذا الإجماع فقال: “ثمَّ مات عليٌّ رضي الله عنه، فبُويع الحسن، ثم سلَّم الأمرَ إلى معاوية، وفي بقايا الصَّحابة من هو أفضل منهما -بلا خلاف- ممن أنفق قبل الفتح وقاتل، فكلُّهم أولهم عن آخرهم بايَعَ معاويةَ ورأى إمامتَه”([47]). فكانَ من الصحابة من بقيَ ممَّن أنفق قبل الفتح وقاتل، وكذلك ممَّن أسلم بعد الفتح، فكلُّهم أوَلهم عن آخرهم قد بايعوا معاويةَ رضيَ الله عنه، ويروي أبو عبد الله الهمذاني عن الأوزاعي بعضَ أسماء الصَّحابة الذين كانوا في ذلكَ الوقت وبايعوا معاويةَ رضي الله عنه فقال: “قال الأوزاعي: أدركَتْ خلافة معاوية جماعة من أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم، منهم: سعد، وأسامة، وجابر، وابن عمر، وزيد بن ثابت، ومسلمة بن مخلد، وأبو سعيد، ورافع بن خديج، وأبو أمامة، وأنس بن مالك، في رجال أكثر ممن سمَّيت بأضعاف مضاعَفة، كانُوا مصابيحَ الهُدى، وأوعيةَ العلم، ومنَ التَّابعين لهم بإحسان إن شاء الله تعالى، منهم: المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعبد الله بن محيريز في أشباه لهم، لم ينزعوا يدًا من طاعة جامعة في أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم… فصارَ ذلك إجماعًا صحيحًا من غير تأويلٍ، ولا مقال”، وقالَ أيضا: “فحكم له بالخلافة، وبويع عليهَا يومئذٍ بإجماع”([48]).
وهذا الاتِّفاقُ على مُبايعتِه لم ينقُضه الصَّحابة، بل بقي ذلك في عنقهِم حتى وفاة معاوية رضي الله عنه، وقد امتدَّت خلافته عشرين سنةً كما تقدَّم، لم تخرج فيها ولاية عنه بعد أن بايَعته، بل استتبَّ الأمر، وخُمدَتِ الفتن، وقوِيت الدولةُ الإسلامية، يقول الذهبي: “قال كعب الأحبار: لن يملك أحدٌ هذه الأمة ما ملك معاوية. قلت [القائل: الذهبي]: توفِّي كعب قبل أن يُستخلف معاوية، وصدَق كعبٌ فيما نقَلَه، فإنَّ معاوية بقي خليفة عشرين سنة، لا يُنازعُه أحدٌ الأمرَ في الأرض، بخلاف خلافة عبد الملك بن مروان، وأبي جعفر المنصور، وهارون الرشيد، وغيرهم، فإنَّهم كان لهم مُخالف، وخرَجَ عن أمرهم بعضُ الْمَمَالك”([49]).
فبالله كيف ينقضُ المشنِّعون هذا الاتفاق، أم كيف يدَّعون أنَّ الصحابة كلهم وكبار التابعين قد رضوا أن يولُّوا عليهم كافرًا أو فاسقًا، أو يولُّوا عليهم ظالمًا؟! وأينَ شجاعة الصَّحابة وإقدامهم حين يتولاهم فاسقٌ أو كافر ثم لا ينكرون ذلك، بل الأعجب من ذلك كله أنهم يمدَحُون سيرته في خلافته، ويقبلونَ عطاياه، ويثنون عليه خيرًا؟!
4- الثَّناء على سيرته أثناءَ توليهِ الخلافة، فقد سبَق القول بأنَّ الصحابة معظمهم قد اتفقوا على خِلافتِه ومبايعتِه، وأنَّ معاوية رضي الله عنه قد حَكَم المسلمين عشرين سنة، وفي هذه العشرين كانَ الصَّحابةُ رضوان الله عليهم يُثنون على سيرته، فلم يبدِّل رضي الله عنه ولم يغير، يقولُ ابن عباس رضي الله عنهما: “لله درُّ ابن هند، ولِيَنَا عشرين سنة، فما آذانا على ظهر منبرٍ ولا بساط، صيانة منه لعرضه وأعراضنا، ولقد كانَ يُحسن صلتنا ويقضي حوائِجَنا”([50]).
وكان معاوية يقضي حوائج أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقد سألها فقال: كيفَ أنا في الذي بيني وبينك، وفي حوائجِك؟ قالت: صالح([51]). وبعثَ إليها مرةً بقلادة قُوِّمت بمائة ألف، فقبِلتْها وقسمتها بين أمهات المؤمنين([52])، كما روى الآجري أنَّ معاوية رضيَ الله عنه كان إذا لقيَ الحسين بن علي رضي الله عنهُما قال: مرحبًا بابن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأهلًا، وأمرَ له بثلاثمائة ألف، ويلقى ابن الزبير رضي الله عنه فيقول: مرحبا بابن عمَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حواريِّه وأمر له بمائة ألف([53]). وكان الحسن والحسين يقبَلانِ ذلك كما قبلت عائشةُ رضيَ الله عنهم أجمَعين([54]).
وهذه منقبةٌ لمعاوية رضي الله عنه، فإنَّه ما تغيَّر بعد تولِّيه الخلافةَ ولا بدَّل، وكان الصَّحابة -وعلى رأسهم أهل البيت كابن عباس والحسن وابن الزبير، وكذلك زوجات النبي صلى الله عليه وسلم- يحفظونَ له ذلك ويعرفُونَه.
المحور العاشر: موقفهم منهُ بعد موته:
توفيَ معاويةُ رضيَ الله عنه سنَة ستين من الهجرة، وقد صلَّى عليه الضحاك بن قيس الفهري وعزَّى فيه الناس([55])، ولَمَّا وصل نبأ وفاتِه للحسين رضيَ الله عنه ولم يكن مبايعًا له استرجع وقالَ لِمَن نعاه: “رحِم اللهُ معاويةَ، وعظَّم لك الأجر”([56]).
أمَّا عبد الله بن الزُّبير رضيَ الله عنهما فإنَّ الفاكهي قد روى عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: صلَّى بنا ابن الزُّبير رضيَ الله عنهما فوَجم وجومًا طويلًا بعد الصلاة، ثم التفت إلينا -قال: وقَد كانَ أتاه نعي معاوية رضي الله عنه- فقال: لله درُّ ابن هند، إن كان لنفرِّقه فيتفارق لنا، وما اللَّيثُ الحَرِب بأَجرَأ منه، وإن كنَّا لنخوِّفه فيخاف، وما ابن ليله بأدهى منه، كان والله كما قالَ بطحاء العذري:
ركُــــــوب المنــــــابــــــر وثــــــابهـــــــا معن بخطبتــــــه مجــــــهــــــر
يثوبُ إليه فصوص الكلام إذا نثر الخطب المهمر
كان والله كما قالت أميمة بنت رقيقة:
ألا أبكيه ألا أبكيه ألا كلُّ الفتى فيه
كانَ والله لا يتَخوَّن له عقل، ولا ينقص له قوَّة، والله لوددتُ أنه بقيَ ما بقيَ أبو قبيس”([57]).
فهذان صحابيَّان جليلان كانا قد امتنعا عن مبايعتِه؛ ولكن لم يكن ذلك الامتناع لفِسقه أو كفره أو تبديلِه للدِّين؛ لذلك ترحَّموا عليه عند موته وأثنوا عليه خيرًا، فماذا بقي للمشنِّعين إن كان المعارضون له يثنون عليه خيرًا؟! ولكن تلك نفوس الصحابة قد علت وسَمَت، ولم يخالطها حقدٌ كحقدِ هؤلاء على الصحابة الكرام عمومًا وعلى معاوية خصوصًا، فكانت منهم تلك المواقف الْمُشرفة في حقِّ صحابةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المحور الحادي عشر: موقفهم من أخطائِه:
ذكرُنا لفضائل معاوية رضي الله عنه وإقرارُنا بخيريته وفضلهِ لا يعني أنَّه معصوم عنِ الخَطأ، فكثيرٌ من الصَّحابة كانوا يرونَ الحقَّ مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه في القتال الذي حصل بينهُما، ويرون معاويةَ مخطئًا؛ لكن وقوعه في الخطأ وتعامل الصحابة معه حيالَ خطئه دليلٌ آخر على فضله وخيريَّته، وبيانُ ذلك فيما يلي:
1- أنَّ الصحابة الكرام لم يكفِّروه أو يفسِّقوه بأخطائه، ويتَّضح هذا جليًّا في حديث المسور حين قدِمَ على معاوية فقال له: ما فعل طعنُك على الأئمَّة يا مسور؟ قال: قلت: ارفضنا من هذا، أو أحسن فيما قدمنا له، قال: لتكلّمن بذاتِ نفسك، قال: فلم أدَع شيئًا أعيبه به إلا أخبرتُه به، قال: لا أبرأُ من الذُّنوب فهل لك ذنوبٌ تخاف أن تهلك إن لم يغفرها الله لك؟ قال: قلت: نعم، قال: فما يجعلُك أحقَّ بأن ترجو المغفرة منِّي؟ فوالله لَمَا أَلِي من الإصلاح بين الناس، وإقامة الحدود، والجهاد في سبيل الله، والأمور العظام التي تحصيها أكثَر ممَّا تَلي، وإنِّي لعلى دينٍ يَقبَل الله فيه الحَسَنات، ويعفو فيه عن السَّيئَات، والله مع ذلك ما كنت لأخيَّر بينَ الله وغيره إلَّا اخترت الله على ما سواه. قال: ففكَّرت حينَ قال لي ما قال، فوجدتُه قد خصمني. فكانَ إذا ذكره بعد ذلك دعا له بخير. قال عروة: فلم أسمع المسور ذكر معاويةَ إلا صلَّى عليه([58]).
فانظر كيف أنَّ الصحابة كانوا يقرّون بأنَّ معاويةَ قد أخطأ، ويحاجِجونه في ذلك؛ لكنَّهم لم يفسِّقوه أو يكفِّروه بناءً على ذلك كما يفعل كثير من المتأخرين.
2- أنَّ الصحابة لو كانوا فسَّقوه أو كفَّروه أو فسَّقه بعضهم على الأقل لأذاعوا ذلك وما خافوا في الله لومةَ لائم، ولم يمنعهم عن ذلك جبنٌ أو خوف، وكيف يكون ذلك وقد عارضَ بعضُ الصحابة معاويةَ رضي الله عنه حين أراد أخذَ العهد لابنه يزيد من بعده؟! وممَّن عارضه ابن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم أجمعين، فإن كانوا يرون فِسقَه أو كفره لتكلَّموا بذلك وأعلَمُوا به، وفي القول بأن الصَّحابة لم يكفِّروه خوفًا أو جبنًا قدحٌ للصحابة كلِّهم، وليس في معاوية وحدَه رضي الله عنه.
فهَذا الموقفُ الَّذي اتَّخذهُ الصحابةُ مِن أخطاء معاويةَ، يسير على نهجهِ المريدُ للحقِّ والمتابع للسَّلف، فإنه لا يقول أحدٌ من أهل السنة بعصمة معاوية؛ ولكن أيضًا لا يقولون بفسقه أو كفره، بل يحفظون له صحبتَه، ويرونَ أفضليَّته على من بَعده، ويناقشون أخطاءَه التي هو فيها مجتهدٌ مأجور إن شاء الله.
المحور الثاني عشر: عقيدةُ أهلِ السُّنَّة فيه:
من عقيدةِ أهلِ السُّنة والجماعةِ الثَّابتة: الترضِّي عن الصَّحابة كلِّهم، والإقرار بِعدالتهم، فلا يجوزُ التنقُّص منهم ولا سبُّهم وشتمُهُم ولا التَّعرُّض لهم، وقد خصَّ المؤلفون في العقائد ذكرَ معاوية رضي الله عنه لما حصل من بعضِ الناس من التَّعرض لجنابه والطعن في صحبته بل وفي ديانته. قال ابن بطَّة: “وتترحَّم على أبي عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان، أخي أم حبيبة زوجة رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم، خال المؤمنين أجمعين، وكاتبُ الوحي، وتذكُرُ فضائلَهُ، وتروي ما رُوي فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم”([59])، وقالَ الجورقاني: “اعلم أنَّ معاويةَ خال المؤمنين، وكاتبُ الوحي المبين، المنزل من عند ربِّ العالمين، على رسولِه محمد الأمين صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين”([60])، وهذا الإمام العلَّامة الجهبذ إمامُ أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله يروي عنهُ الخلال أنَّ عبد الملك بن عبد الحميد الميموني قال له: أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل صهر ونسب ينقطع إلا صهري ونسبي»؟ قال: بلى، قال: قلت: وهذه لمعاوية؟ قال: نعم، له صهر ونسب. قال: وسمعت ابن حنبل يقول: ما لهم ولمعاوية؟! نسأل الله العافية”([61]). وقال الخلَّال: أخبرنا أبو بكر المروذي قال: سمعت هارون بن عبد الله يقول لأبِي عبدِ الله: جاءَني كتابٌ من الرِّقَّة أن قومًا قالوا: لا نقول: معاوية خال المؤمنين، فغضب وقال: ما اعتراضُهم في هذا الموضع؟! يُجفَون حتَّى يتوبوا([62]). وحينَ ذُكر لهُ -أي: أحمد بن حنبل- التفضيل بين عمر بن عبد العزيز ومعاويَة قال: معاويةُ أفضل، لسنا نقيسُ بأصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أحدًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خيرُ النَّاس قرني الذين بعثتُ فيهم»([63]). وقال الفضلُ بن زياد: سمِعتُ أبا عبد الله يسألُ عن رجلٍ تنقَّص معاوية وعمرو بن العاص أيُقالُ له: رافضي؟ فقال: إنه لم يجترئ عليهما إلا وله خبيئةُ سوء، ما انتقصَ أحدٌ أحدًا من الصحابة إلا وله داخلة سوء([64]).
وبمثل مقولة أحمد بن حنبل قال المعافى وهو إمامٌ ثقة صدوق، فإنَّه قد سُئِلَ: معاوية أفضل أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: كانَ معاوية أفضلَ من ستمائة مثل عُمر بن عبد العزيز([65]). وسُئلَ الإمام ابن المبارك: معاوية خيرٌ أو عمر بن عبد العزيز؟ قال: ترابٌ دخل في أنف معاوية رحمه الله مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم خيرٌ أو أفضل من عمر بن عبد العزيز([66]).
بل عمر بن عبد العزيز نفسُه -وهو الإمام العادل والذي سُئل الأئمة عن التفضيل بينَه وبين معاوية- روى اللالكائي عن إبراهيم بن ميسرة أنه قال: ما رأيتُ عمر بن عبد العزيز ضربَ إنسانًا قط، إلا إنسانًا شَتَم معاوية، فضربه أسواطًا([67]).
وأخيرًا، هذه جملةٌ من مواقِفِ الصَّحابة الكرام من معاوية رضي الله عنه، وتعاملهم معه ومع خلافته، وقبول عطاياه، وعدمِ الخُروج عليه، وعدمِ تفسيقه أو تكفيره، وكلها تُكَوِّن ترسانةً علميَّة تؤيِّد ما ورد في حقِّه من نصوصٍ نبويَّة، وتعزِّز يقينَ المؤمنين بأحدِ الصَّحابة الكرام، والذي قد تطاول عليه المتطاولون قديمًا وحديثًا، وتُعينُ طالبَ العلم والباحث عن الحق على الموازنة بين الرِّوايات التي تورَد في حقِّه، فليست كلّها صحيحةً، بل يجب أن توزَن وتؤطَّر بالإطار العام وهو: عدالةُ الصحابة عمومًا وعدالة معاوية خصوصًا، ولا شكَّ أنَّ هذه المواقفَ من الصَّحابة الكرام تُمثِّل عقبةً كبيرةً أمامَ المتطاولين على معاوية رضي الله عنه، ولا يصحُّ لهم علميًّا -إن كانوا يراعون آداب البحث العلمي- أن يقفزوا على كلِّ هذه المواقف دون أن يُقدِّموا إجابات عنها ثم يُقرِّرون نقيضَها، بل الواجب على طالبِ العلم والباحث عن الحق أن تكون لديه أُطرٌ عامة يرجع إليها حين تضارُب بعض الروايات، وهذه المواقف -التي لم نحرص على استيفائِها في هذه الورقة المختصرة- توضِّح وتجلِّي الموقف الحقيقي من معاوية رضي الله عنه، ومعرفتها تعطي طالب العلم منعة وحصانَةً وجرعة عاليةً من اليقين، ومقدرةً على الإقناع والحجاج ضدَّ الهجمة الشرسة التي تطال الصَّحابة الكرام عمومًا ومعاوية خصوصًا، فرضيَ الله عن معاوية وعن الصَّحابة أجمعين.
وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ـــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) الكتب التي تكلمت عن عقيدة أهل السنة في الصحابة كثيرة، بل لا تكاد تجد كتابًا عقديًّا -غير مختصّ بباب معين- إلا وقد تكلَّم عن موقف أهل السنة والجماعة من الصحابة، كالسنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل، والطحاوية، وشرح السنة للبربهاري، والواسطية وغيرها، ومن الكتب المعاصرة: عقيدة أهل السنة في الصحابة الكرام لناصر الشيخ، وعدالـة الصحابـة رضي الله عنهم في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية ودفع الشبهات للدكتور عماد السيد الشربيني، وصحابة رسول الله في الكتاب والسنة لعيادة أيوب الكبيسي، والصحبة والصحابة.. شبهات حول عدالة الصحابة وضبطهم عرض ونقد للدكتور عبد الله الهادي القحطاني، وغيرها كثير.
وقد بحث مركز سلف بعض الموضوعات التي تختص بالصحابة وموقف أهل السنة منهم، ومن ذلك على سبيل المثال: معيارية فهم الصحابة للنصوص الشرعية: https://salafcenter.org/278/
فهم الصحابة: المدلول والحجية: https://salafcenter.org/656/
السكوت عما شجر بين الصحابة: https://salafcenter.org/517/
([3]) أخرجه أحمد (17895)، والترمذي (3842)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 615-618) برقم (1969).
([6]) انظر: صحيح مسلم (2501)، ومسند أحمد (2651)، والشريعة للآجري (2451) وما بعدها، وسير أعلام النبلاء (18/ 434).
([7]) هناك كتب ألِّفت في الأحاديث التي وردت في فضائله، مثل بحث منشور بعنوان: الأحاديث النبوية في فضائل معاوية بن أبي سفيان. لمحمد الأمين الشنقيطي.
([10]) أخرجه الشافعي في مسنده (86)، وعبد الرزاق (4641)، والبيهقي في الكبرى (4794).
([12]) انظر: السنَّة لأبي بكر الخلال (2/ 441) رقم (678).
([13]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (8/ 1529) رقم (2781). وانظر: مكارم الأخلاق للخرائطي (179).
([14]) انظر: المعرفة والتاريخ للفسوي (1/ 458)، وتاريخ الإسلام للذهبي (4/ 315)، وبنحوه الخرائطي في مكارم الأخلاق (ص: 208)، وذكره ابن حجر في تهذيب التهذيب (8/ 345).
([15]) انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (59/ 115)، وسير أعلام النبلاء (3/ 134-135).
([16]) رواه الشافعي في مسنده (3/ 84) (1216)، وذكره ابن سعد في الطبقات الكبرى (8/ 189-190).
([17]) أخرجه الطبراني في مسند الشاميين (1/ 168) برقم (282)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 275)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 357) برقم (15920): “رجاله رجال الصحيح، غير قيس بن الحارث المذحجي، وهو ثقة”.
([18]) انظر: تاريخ الإسلام للذهبي (4/ 313)، والبداية والنهاية لابن كثير (8/ 142).
([19]) معرفة الصحابة لأبي نعيم (5/ 2497).
([20]) أخرجه الإمام أحمد (16863) وقال عنه محققوه: “حديث صحيح”، وأخرجه الخلال في السنة (2/ 439) برقم (674)، والطبراني في الكبير (19/ 309) برقم (697).
([21]) أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 203)، وأبو داود (4129)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، وأخرجه أحمد (16840) وقال المحقق: “إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين، غير أبي المعتمر يزيد بن طهمان فمن رجال أبي داود وابن ماجه، وهو ثقة”.
([22]) مجموع الفتاوى (35/ 66).
([23]) انظر: تاريخ الإسلام للذهبي (4/ 161)، والبداية والنهاية لابن كثير (8/ 140).
([24]) انظر: البداية والنهاية (8/ 134).
([25]) انظر: تاريخ الطبري (3/ 391).
([26]) انظر: تاريخ الطبري (3/ 604).
([27]) انظر: الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم (1/ 381).
([28]) انظر: البداية والنهاية (7/ 91).
([29]) انظر: تاريخ خليفة (ص: 155).
([30]) انظر: تاريخ المدينة لابن شبة (3/ 837)، والآحاد والمثاني لابن أبي عاصم (1/ 382)، وتاريخ أبي زرعة الدمشقي (ص: 218) والبداية والنهاية (8/ 126). وكنز العمال (13/ 606).
([31]) انظر: تاريخ المدينة لابن شبة (3/ 837).
([33]) أخرجه أحمد بلفظ: «جعل الحق» (5145) وقال عنه محققوه: “حديث صحيح وهذا إسناد جيد”، وأخرجه أبو داود (2961)، والترمذي (3682)، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح (6042).
([34]) أخرجه أحمد في فضائل الصحابة (676)، وأخرجه في المسند بلفظ: «لو كان من بعدي نبي» (17405).
([35]) أخرجه البخاري (3294، 3683، 6085)، ومسلم (2396)، من حديث سعد بن أبي وقاص.
([36]) مجموع الفتاوى (35/ 64-65).
([37]) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (7/ 406)، وتاريخ الطبري (4/ 62)، والاستيعاب في معرفة الأصحاب (3/ 1417)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (59/ 116)، وتاريخ الإسلام للذهبي (4/ 311)، والبداية والنهاية (7/ 63).
([38]) سير أعلام النبلاء (3/ 132-133).
([39]) أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 548). وانظر: البداية والنهاية (8/ 140).
([40]) ينظر: تعظيم قدر الصلاة (2/ 545).
([41]) ينظر: تعظيم قدر الصلاة (2/ 546).
([42]) منهاج السنة النبوية (5/ 245).
([43]) ينظر: جامع معمر بن راشد (11/ 453)، والأمالي في آثار الصحابة لعبد الرزاق (74/ 97)، والآحاد والمثاني لابن أبي عاصم (1/ 378)، والسنة لأبي بكر الخلال (2/ 440).
([44]) انظر: صحيح البخاري (2704)، وتاريخ الطبري (5/ 162-163)، والبداية والنهاية (8/ 18-21)، وتاريخ الإسلام للذهبي (4/ 6-7).
([45]) أخرجه البخاري (2704، 3629، 3746، 7109).
([46]) ينظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (8/ 1539) برقم (2800)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (59/ 151).
([47]) الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/ 127).
([48]) الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير (1/ 357-358). وانظر: البداية والنهاية (8/ 142)، تاريخ دمشق لابن عساكر (59/ 158).
([49]) تاريخ الإسلام -ت. بشار- (2/ 545).
([50]) ينظر: أنساب الأشراف للبلاذري (5/ 83).
([51]) أخرجه أحمد (16832) وقال عنه محققوه: “صحيح لغيره”، ورواه الطبراني في الكبير (723).
([52]) ينظر: مصنف ابن أبي شيبة (20333)، وحلية الأولياء (2/ 47).
([53]) ينظر: الشريعة للآجري (5/ 2468).
([54]) انظر: الشريعة للآجري (5/ 2469)، والبداية والنهاية (8/ 146).
([55]) انظر: تاريخ الطبري (5/ 327).
([56]) انظر: البداية والنهاية (8/ 157).
([57]) أخرجه الفاكهي في أخبار مكة (3/ 63). وانظر: البداية والنهاية (8/ 145).
([58]) انظر: جامع معمر بن راشد (11/ 345)، وتاريخ الإسلام (5/ 245-246)، والبداية والنهاية (8/ 142-143).
([59]) الإبانة الصغرى في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة (299-300).
([60]) الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير (1/ 356).
([63]) السنة (2/ 434). والحديث أخرجه أحمد (3594) بلفظ: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم»، وأخرجه البخاري (2652، 3651، 6429)، ومسلم (2533).
([64]) ينظر: البداية والنهاية (8/ 148).
([65]) انظر: السنة لأبي بكر الخلال (2/ 435).
([66]) انظر: الشريعة للآجري (5/ 2466).
([67]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (7/ 1341). وانظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (59/ 211)، والبداية والنهاية (8/ 148).