تعدُّد الزوجات.. حكمة التشريع وجهل الطاعنين
يسلِّم كلُّ مسلم بحسن حُكم الله تعالى وكمالِه وحكمةِ تشريعه، فلا يجد في نفسه حرجًا من شيء قضاه الله وقضاه رسوله صلى الله عليه وسلم، بل يسلِّم بكل ذلك ويرضى به، لكن أهل الشرك والنفاق بخلاف ذلك، فأحكام الله لا تزيدهم إلا شكًّا على شكِّهم، وضلالًا على ضلالهم، وهذا دليل صدق أخبار الله كما قال سبحانه: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُون وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُون} [التوبة: 125].
فهذه التشريعات التي يدرك المؤمن مصلحتها ويجد في حياته تأثيرها هي نفسها التي تُنَغِّصُ على غير المؤمن سعادته، ويجد بسببها الضيقَ والعنَت، ومن هذه التشريعات تعدُّد الزوجات الذي أباحته الشريعة، فانقسم المخالفون للشريعة حيالَه طرائق قِددًا، منهم من يراه غيرَ عادل في حقِّ المرأة، ومنهم من يراه تمثيلًا لتحكُّم الشهوة في عقول المسلمين، وخفضوا ورفعوا فيه حتى إن بعضهم عندما يتكلَّم عنه لا يزال يركِّز العدسة عليه، حتى يصوِّر للقارئ أنه لا تشريع في الإسلام غير الزواج، وهذا الاعتراض دافعُه الجهل بحِكمة الشريعة من وراء التشريعات، فالشريعة الإسلامية تراعي التشريعات كلَّها لأنها محكمة، ويصدق بعضها بعضًا، فلا يمكن لجزئية أن تكون سببًا في ردِّ كلية، أو في إغفالها، أو ردِّ جزئية أخرى، ويتبين ذلك بالتالي:
أولًا: من مقاصد الشريعة حفظ العرض والنسل، لبقاء النوع البشري بحيث لا ينقرض في مدة يسيرة، ولا تخرج البشرية عن نظام الزواج الذي يكون به بقاؤها وحفظ نوعها إلى نظام بهيمي لا تستقيم معه الحياة وتضيع به الحقوق([1]).
ثانيًا: الزواج حاجة بشرية لا يمكن التعالي عليها وتركها كما فعلت النصرانية، ولا يمكن التوسُّع فيها بحيث يقع الظلم على الزوجات ويجمع الرجل منهنَّ ما شاء دون ضابطٍ أو قيد كما كان شأن أهل الجاهلية، فجاءت الشريعة بالوسط، فلم تلغه كما فعلت النصرانية، ولم تجعله عشوائيًّا كما هو حال المشركين، فقد روى أبو داود عن الحارث بن قيس قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اختر منهنَّ أربعًا»([2]). وهكذا أفتى النبي صلى الله عليه وسلم نوفل بن معاوية الديلي حين قال: أسلمت وتحتي خمس نسوة، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «فارق واحدةً، وأمسِك أربعًا»([3]).
فلا فوضوية في الزواج، ولا تعالي على حاجة الإنسان، وحين نقول: إنه حاجةٌ بشريَّة فيعني ذلك النسبية في مستوى الحاجة، فمن الناس من تكفيه زوجةٌ واحدة، وهي التي يقدر عليها؛ فلذا لم توجب الشريعة التعدُّد على أحدٍ، ومن الناس من لا تكفيه واحدةٌ لكنه لا يمكن أن يخرج عن المعتاد وهو أربعة؛ إذ لا عبرة بالنادر، فأباحت له الشريعة التعدُّد، ولم توجب عليه الأربعةَ، وإنما أباحت له ما دونهن مما تحصل به الحاجة، وهذا ظاهر الحديث والقرآن([4]).
ثالثا: إباحة التعدُّد ليست على إطلاقها، بل لا بد فيها من العدل والالتزام بحقوق الزوجة من نفقة وسكنى ومبيت مما هو لائق بها، ويدل على ذلك سبب نزول الآية، فقد نزلت الآية في حقِّ يتامى النساء اللواتي لا وليَّ لهنَّ، ويريد من تولَّوا أمرهنَّ من قرابتهن أن يتزوَّجوهنَّ لجمالهن ورغبةً في مالهن، فنهت الآية عن ظلمهنَّ ونقصان حقوقهنَّ في المهر واستغلال ضعفهنَّ، ثم جعلته تشريعًا عامًّا، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا} [النساء: 3].
قالت عائشة رضي الله عنها: “هي اليتيمة في حجر وليِّها، فيرغب في جمالها ومالها، ويريد أن يتزوَّجها بأدنى من سُنَّة نسائها، فنهوا عن نكاحِهنَّ، إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق، وأمروا بنكاح من سواهن من النساء”، قالت عائشة: “ثم استفتى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد، فأنزل الله عز وجل: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} [النساء: 127]”، قالت: “فبيَّن الله في هذه الآية: أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها، ولم يلحقوها بسنَّتها بإكمال الصداق، فإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركوها والتمسوا غيرها من النساء”([5]).
وقال ابن عباس: “فكما خفتم أن لا تعدلوا في اليتامى فخافوا في النساء إذا اجتمعن عندكم ألا تعدلوا”([6]).
رابعًا: راعت الشريعة في التعدُّد حكمةً أخرى، وهي أنها شرعت للرجال ركوبَ الأخطار في السفر لطلب المعاش وغير ذلك، وأوجبت عليهم الجهادَ، فكانوا عرضةً للقتل والفناء، بخلاف النِّساء اللواتي أُمرن بالبقاء في البيوت، ووَجَبت نفقتهن على آبائهن أو أبنائهن أو أزواجهن. ولما كان الرجالُ عرضةً للفناء كان ذلك سببًا في قلتهم وكثرةِ النساء، فكان من المناسب أن يشرع التعدُّد حتى لا يضيع النساء؛ فإن في بقاء المرأة بدون زوج هلاكًا للمجتمع؛ لأن ذلك قد يؤدِّي إلى انحرافها، وانحرافها يعني اختلاط الانساب وضياع الحقوق ونجاسة الفراش وغير ذلك مما حرمته الشريعة.
خامسًا: الرجل والمرأة ليسا متماثلين حتى يسوَّى بينهما، بل هما مختلفين، فالعدل بينهما بتعيين الحقوق لا بالتسوية فيها، فالمرأة لها رحم واحد، وبإمكانها أن تلد، بخلاف الرجل، فإذا شرع التعدُّد فلأن الرجل بإمكانه أن يكون له عدة أولاد من عدة نساء، ويقوم بتربيتهم والنفقة عليهم، أما إذا شرع التعدُّد للمرأة فإن في هذا ظلمًا للرجال، فهي سوف تلد مرةً واحدةً، فلأي الرجال تَنسب ولدَها؟! وكيف يسوَّى بينهم في الحقوق؟!
سادسا: شرع التعدُّد لمقصد عظيم، وهو تكثير الأمة المحمدية، وفي تكثيرها تكثير للخير في الدنيا والآخرة؛ ولذا قال عليه الصلاة والسلام: «تزوَّجوا الودود الولودَ؛ فإني مكاثر بكم الأمم»([7])، وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالباءة، وينهانا عن التبتل نهيًا شديدًا، ويقول: «تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة»([8]).
ففي النكاح منافع عظيمة، منها: غض البصر، وكف النفس عن جريمة الزنا، والمحافظة على أنساب الناس، وصيانة لأعراضهم. ومنها: استبقاء النوع البشري على هذه الأرض بالتوالد والتناسل، فينتج جيل صالح نافع لبلاده وأمته. ومنها: تنظيم الأسرة وصيانتها، حيث جعل العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة صحيحة قائمة على نكاح شرعي موثق بشهادة الشهود، معلن عنه عند الناس، فكل منهما قد أصبح زوجًا للآخر، وارتبط به ارتباطًا شرعيًّا، يحفظ له حقوقه، ويصون سمعته وكرامته، ويثبت نسله منه، حتى تقوم الأسرة على أسس قوية متينة. ومن أغراض النكاح: المحافظة على صحة الزوجين جسميًّا ونفسيًّا([9]). وهذا بالتعدد حاصل أكثر من غيره.
سابعا: تقليل العنوسة وتوفير فرص في الحياة؛ إذ التعدد سبب في تقليل العنوسة خصوصًا في صورته الشرعية، والتي تعني الالتزام للمرأة بالنفقة والسكنى والسعي على مصالحها وعدم ظلمها أو إلحاق الضرر بها.
وهذا ليس حصرًا لِحكم التشريع، بل هو إشارة إليها وتنبيه للذكي وتوضيح للغبي ممن جهل حكمة الله عز وجل وحكمة رسوله صلى الله عليه وسلم في التشريع، فالاعتراض على حكم الله نابع من الجهل ونقصان العقل؛ ولذا وصف الله كل معترض على حكمه بالجهل وعدم العقل، قال سبحانه: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِين} [يونس: 39]، وقال سبحانه: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُون} [البقرة: 171]، وقال سبحانه: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُون} [يونس: 42].
فالعاقل مصدِّق بحكم الله، راض لا يعترض عليه؛ لأنه يعلم بأن الله أعلم بخلقه وأعدل في حكمه، والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: الموافقات للشاطبي (4/ 349).
([2]) سنن أبي داود (2241)، وحسنه الألباني في الإرواء (1885).
([3]) أخرجه الشافعي في مسنده (274)، وضعفه الألباني في الإرواء (1884).
([4]) ينظر: طرح التثريب (7/ 5).
([6]) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (14/ 319).
([7]) أخرجه أبو داود (2050) من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، وهو في صحيح الترغيب والترهيب (1921).
([8]) أخرجه أحمد (12613، 13569)، وحسن إسناده الهيثمي في المجمع (4/ 258).